- السر العظيم للفلاح والرقي كما بينه الله تعالى
- على كل مؤمن أن يتحلى بالأخلاق النبيلة التي تبرز جمال الانسانية
- أهل الله لا يخافون المحن والمصائب لأنها تزيد أخلاقهم جمالا
- فهم أهل مكة لسبب نزول سورة يوسف
- علم الأنبياء ينقسم إلى علم باطني وعلم مادي
شرح الكلمـات:
تَفتؤُاْ: ما فَتَأَ يفعل كذا وما فَتِئَ: أي ما زال ( الأقرب).
حَرَضاً: حَرَضَ حروضاً: كان مُضْنًى؛ مَرِضَ؛ وسَقِمَ. حرَض الرجل نفسه: أفسدها. حرَض حرَضاً: فسَد بدنه، لا يقدر على النهوض. وحرُض حَراضةً: طال همه. الحَرَض: الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل. والحَرَض: المشرف على الهلاك تسميةً بالمصدر للمبالغة. وحرَضٌ: مَن لا خير عنده؛ وقيل من لا يرجى خيره ولا يُخاف شره؛ من أذابه العشق أو الحزن؛ الساقطُ لا خير فيه؛ الرديءُ من الناس؛ المضنَى مرضًا وسقمًا، ومنه في القرآن: حتى تكون حرضًا أي مُدنَفاً (الأقرب).
التفسـير:
“لا تفتأ” تفيد النفي والاستمرار بمعنى: لا تزال، وتأتي مصحوبة بقسم وبدونه، وأحياناً يكون القَسَم متضمناً فيها. والمراد من الآية أنك لن تزال تبكي وتتحسر على فراق يوسف حتى لن تصلح لأي عمل أو ستُشرف على الهلاك.
أليس عجباً أن نجد هؤلاء يخوّفون أباهم من هذه الأخطار المتوقعة، ونجد المفسرين يقولون بأن يعقوب كان قد أُصيب بالعمى فعلاً لشدة البكاء وصار كالساقط الرديء من المتاع. والحق أن أنبياء الله الكرام يتمسكون بأهداب الصبر دائماً، ولا يبدون الفزع والقلق بهذا الشكل. لقد جربنا ذلك بأنفسنا، إذ رأينا بأم أعيننا نبياً من أنبياء الله عليهم السلام وشاهدنا بأنفسنا حالته في مثل هذه المواقف. (1)
لقد بيّن الله في الآية سرًّا عظيمًا وفريدًا للفلاح والرقي، ألا وهو أن اليأس وفقدان الهمة هو أصل كل فشل وهزيمة. فالذي يترك العمل فاقدًا الهمة دون أي دليل قطعي على كون الأمر مستحيلاً يبقى فاشلاً على الدوام في مقصده.
شرح الكلمـات:
بثّي: البثُّ: الحالُ؛ أشدُّ الحزن (الأقرب). أصل البث: التفريقُ وإثارة الشيء. وبثُّ النفس: ما انطوت عليه من الغم والسرّ. قوله إنما أشكو بثي وحزني أي غمي الذي يبثه عن كتمان، أو بمعنى غمي الذي بثَّ فكـري (المفردات).
التفسـير:
وهذا يعني أن سيدنا يعقوب كان يعلم -بناءً على الوحي الإلهي- أن يوسف لا يزال حيّاً يرزق.
شرح الكلمات:
تحسّسوا: تحسّس: استمع لحديث القوم وطَلَبَ خبرهم في الخير. وقيل: التحسّس شِبْهُ التسمع والتبصر، يقال: اخرجْ فتحسّسْ لنا. وقال أبو عُبيد: تحسست الخبر وتحسيت. وتحسَّس من الشيء: تخبّر خبره. وبكل ما ذُكر (أي ما ذكرناه من معانٍ) فسِّر قول القرآن يا بَنيَّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ( الأقرب).
لا تيأسوا: يئِس: قنط أو قطع الأمل، فهو يائس (الأقرب).
رَوح: الرَوح: راح إليهم رَوحًا: ذهب إليهم في الرواح. وراح اليوم روحاً: إذا كان ريِّحاً طيِّباً. الرَوْحُ بمعنى الراحة؛ نسيمُ الريح تقول: وجدت رَوح الشَّمال: أي نسيمها. والرَوح: النصرةُ؛ العدلُ الذي يريح المشتكي؛ الفرحُ والسرور؛ الرحمةُ (الأقرب). وهنا ينطبق المعنى الأخير.
التفسـير:
يتبين من هذه الآية بكل جلاء ووضوح أن الله تعالى كان قد أخبر سيدنا يعقوب بأن يوسف لا يزال حياً وأنه في مصر، إذ من المحال أن يأمر أبناءه بالعودة إلى مصر باحثين عن ابن كان يظنه ميتاً بيد ذئب أو بأي طريق آخر.
لقد بيّن الله في الآية سرًا عظيماً وفريداً للفلاح والرقي، ألا وهو أن اليأس وفقدان الهمة هو أصل كل فشل وهزيمة. فالذي يترك العمل فاقداً الهمة دون أي دليل قطعي على كون الأمر مستحيلاً يبقى فاشلاً على الدوام في مقصده. وهذه القاعدة تعم كل مجال من مجالات الحياة. وهذا هو الفارق حتى بين حدّاد ماهر وبين حدّاد عادي، فبينما تجدون هذا يقول دوماً عند مواجهة عملٍ صعب: إنه محال، سترون الآخر جاهداً في تذليل الصعاب حتى يخرج منها ناجحاً في آخر المطاف. كذلك المريض الذي يفقد الأمل في الشفاء يصعب عليه استرداد الصحة، والطالب الذي لا يرجو التوفيق في الدراسة تضعف ذاكرته وذكاؤه. وإن المبدأ نفسه جارٍ في المجال الروحاني أيضاً، فالشعوب التي لا تؤمن بأن الله قادرٌ على أن يغفر الذنوب فإنها لا تسعى بما يكفي للتخلص من ذنوبها، والأمم التي لا تؤمن بكون الفطرة الإنسانية طاهرة نقية من العيوب فإنها لا تهتم باستخدام ملكاتها الروحانية ولا بتطويرها حتى تصل بها إلى الذروة.
ولقد نبّهنا النبي إلى طرد اليأس والقنوط تنبيهاً خاصاً إذ قال: لكل داءٍ دواءٌ إلاّ الموت. وأيضاً قال: من قال هلك القوم فهو أهلكهم، لأنه يثبط همم القوم، وهكذا يدفعهم إلى الدمار.(2)
فيجب رفع معنوياتهم دائماً على كلا الصعيدين؛ الفردي والقومي، ولكن شريطةَ أن تكون هذه الآمال حقيقيةً تحفز على السعي والعمل، لا أن تكون أماني فارغة تؤدي إلى مزيد من الكسل والغفلة، كما هو حال المسلمين اليوم، فإنهم بدلاً من أن يصلحوا حالتهم بالسعي والكفاح يظنون أن المسيح الناصري سينزل من السماء، ويوزع عليهم نعم الدنيا وكنوزها. إن الأماني أي الآمال الفارغة التي لا تكون مصحوبةً بالكفاح والنضال عندما تستولي على القلب تصبح مدمرّة كاليأس تماماً.
شرح الكلمـات:
الضُرُّ: ضد النفع؛ سوءُ الحال والشدة. وفي الكليات: الضَرّ بالفتح شائع في كل ضرر، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهُزال (الأقرب).
مُزجاة: المزجَى: الشيءُ القليل، وبضاعةٌ مزجاة: أي قليلة؛ وقيل: رديَّةٌ لم يتم صلاحها فتُرد وتُدفعُ رغبةً عنها (الأقرب).
التفسـير:
إن كلمة (العزيز) عربية ومعناها: المعزَّز أو الناجح، ولكنها كانت تشير عندئذ إلى منصب خاص، وإن كانوا أخذوا فيما بعد يطلقون على الملك المصري “عزيز مصر”، ولكن لغةَ المصريين في زمن يوسف لم تكن عربية حتى نظن أنهم كانوا يطلقون هذه الكلمة على الوزراء. أرى أنها قد وردت هنا بمعنى سيد القوم وكبيرهم. وامرأة العزيز تـعني زوجة ذلـك الكبير أو الموظـف.
يصعب على المرء تفهُّم سلوك إخوة يوسف في هذا الموقف. فإما أن غشيانهم المتكرر للمعاصي تَسَبَّب في فساد أخلاقهم لدرجة أنهم أخذوا يسألون الطعام والغلال بدلاً من أن يبحثوا عن إخوتهم المفقودين. أو نقول إنهم أخفوا بهذا السؤال قصدهم الحقيقي خشية أن يعتبرهم القوم جواسيـس جاءوا للتـآمر علـيهم.
التفسـير:
يبدو أن سيدنا يوسف عندما رأى إخوته بهذه الحالة المخزية أخذته الغيرة عليهم، فلم يملك نفسه وكشف لهم الحقيقة كيلا يعرّضوا أنفسهم للمزيد من الخزي والهوان.
لاحِظوا البون الشاسع بين سلوك الإنسان المادي والإنسان الروحاني. فإن إخوته لم يظلموه ظلماً مادياً فحسب بل سعوا جاهدين ليشوّهوا سمعته ويمسّوا كرامته باتهامه بالسرقة، ولكن يوسف عندما يذكّرهم بجريمتهم يقول:(إذ أنتم جاهلون)، ذلك ليخفف من شناعتها، وكأنه قال: ما فعلتم بيوسف في صغره كان مجرد لهوٍ صبياني، وإلا فأنتم أناس طيبون. هذه هي الأخلاق النبيلة التي تقيم للإنسانية وزنها وتبرز جمالها، والتي يجب على كل مؤمن أن يتحلى بها.
التفسـير:
إن روعة ما أشار به يوسف إلى الأحداث الماضية، وتأكيدَ يعقوب على أبنائه من قبل للبحث عن إخوتهم في مصر، كل ذلك حدا بهؤلاء أن يستنتجوا على الفور بأن هذا هو يوسف. أُنظروا سمو أخلاقه ، فإنه لا يدَعهم يعانون أكثر من ذلك، بل يخرجهم من الشبهات والوساوس بكشف الحقيقة عليهم فوراً. ثم ينصحهم بكل حب ولطف أن يتمسّكوا بالصبر والتقوى، ويخبرهم أن مدّ اليدِ بالسؤال إلى الآخرين ليس هو الطريق السليم للتغلب على المشاكل، وإنما سبيله تقوى الله والصبر.. أي أن يتخذ الإنسان اللهَ ستراً، ويستمر في الكفاح دون اكتراث بالشدائد. يبدو من أسلوب الآية أن سيدنا يوسف أحضر أخاه بنيامين عندئذٍ ولذلك قال مخاطباً إخوته: “أنا يوسف وهذا أخي”.
شرح الكلمات:
آثَرَك: آثره إيثاراً: اختاره وأكرمه؛ فضّله (الأقرب).
التفسـير:
لقد تنبّهت الآن فطرتهم السليمة من غفوتها، فاعترفوا بصحة رؤياه في الصغر قائلين: لقد تحققت رؤياك أخيراً حيث فضّلك الله علينا رغم معارضتنا إياك، وكنا نحن المخطئين فيما فعلنا.
شرح الكلمـات:
لا تثريبَ: التثريب: التقريع والتقهير بالذنب ( المفردات). ثَرَبَهُ ثَرباً: لامه وعيّره بذنبه. وثربَ المريضَ: نزع عنه ثوبه. وفي “المصباح”: ثربَ عليه: عتب ولام. وثرّبه وثرّب عليه: قبّح عليه فعله، يقال: لا تثريب عليكم (الأقرب).
التفسـير:
لقد قدّم يوسف نموذجًَا مثاليًا للأخلاق الفاضلة، إذ لم يلبث أن أعلن العفو عنهم. كان إخوته في بلد غريب حيث لا ناصر لهم ولا معين، وكم من وساوس ومخاوف كانت تساورهم في تلك اللحظات، ولكنه نجّاهم دون تردد من معاناتهم الذهنيّة التي لا تقل وطأةً وإيلاماً من التعذيب البدني. فلم يغفر لهم فحسب، بل أمّلهم أيضاً في مغفرة الله تعالى. إن هذا العمل الوحيد من يوسف يبلغ من العظمة والروعة بحيث أنه يستحق به أن يُكتب اسمه بأحرف من نور ويُذكر دائماً بالخير.
لقد ذُكر هذا الحادث في القرآن والتوراة أيضاً، ولكن يتضح من دراسة المصدرين أن التوراة قصّته لتبيّن فقط كيف وصل أولاد إبراهيم إلى مصر، بينما تناول القرآن الكريم هذا الحادث لكي يبرز ما فيه من محاسن ودروس أخلاقية، ولا سيّما ليبين أن أهل الله تعالى لا يخافون المحن والمصائب لأنها تزيد أخلاقهم جلاءً وجمالاً، وأن العدوان عليهم لا يولّد في قلوبهم جحيماً من البغض والانتقام، بل يحوّلها إلى جنةٍ أشجـارها العفو وثمارها السكـينة.
المماثلة السابعة عشرة
وكما أن سيدنا يوسف ازداد بعد الهجرة عزاً وشرفاً، كذلك حقق الله للنبي الرقي والازدهار بعد هجرته إلى المدينة، حتى إن نفس البلد الذي خرج منه مهاجراً تحت ستار الليل وقع في يديه بعد أن دخله منتصرًا في وَضَحِ النهار، ومعه عشرة آلاف قُدُّوسي من صحابته الأطهار رضي الله عنهم. عندها قال النبي لأهل مكة: ما ترون إني فاعل بكم؟ وبما أنهم كانوا قد أدركوا مكانته الرفيعة، وانكشفت عليهم الغاية من نزول سورة يوسف، فلذلك أجابوه على الفور: ستفعل بنا ما فعله يوسف بإخوته. فقال: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء. (3)
يا لروعة المشهد المثير! يُعرَض عليه أعداؤه الذين صبّوا عليه وعلى أصحابه من المظالم والمصائب ما تنخلع من هوله القلوب، وذلك لعشرين سنة متتالية. من ذا الذي يغفر بهذه السهولة لمثل هؤلاء الأعداء؟ ولكن النبي غفر لهم جميعاً دون تردد كلَّ ما فعلوه من قبل.
اشتد المرض مرةً بسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود فلم يستطع الذهاب إلى المسجد، فكان يصلي المغرب والعشاء بالجماعة في بيته في معظم الأحيان، وكان يقرأ هذه الآيات في صلاة العشاء كل يوم تقريباً. ولا أزال أتذكر جيداً أنه عندما كان يقرأ قول الله تعالى: قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً… إلى قوله تعالى… وهو أرحم الراحمين ..كان يقرأها بنبرة ملؤها الرقة والألم حتى إنني ما كنت أستطيع مقاومتها وكنت أُصاب باضطراب شديد. ولا يزال صدى ذلك الصوت العذب يَرِنُّ في أُذُنَيَّ، وربما أستطيع إلى الآن محاكاته إلى حد كبير.
أما سبب تلاوته هذه الآياتِ فهو أن الذي كان يجري بينه وبين قومه كان مماثلاً لِمَا جرى بين يوسف وإخوته عليهما السلام.
إلاّ أنني أشك فيما إذا كان حضرته يقرأ الآية التالية أيضاً أم لا، وما إذا كان يقرأ هذه الآيات في ركعة واحدة أم في ركعتين.
ولكن يوسف عندما يذكّرهم بجريمتهم يقول: إذ أنتم جاهلون ، ذلك ليخفف من شناعتها، وكأنه قال: ما فعلتم بيوسف في صغره كان مجرد لهوٍ صبياني، وإلا فأنتم أناس طيبون. هذه هي الأخلاق النبيلة التي تقيم للإنسانية وزنها وتبرز جمالها، والتي يجب على كل مؤمن أن يتحلى بها.
شرح الكلمات:
بصيرًا: البصير: المقتدر على النظر خلاف الضرير. رجل بصير بكذا: عالم به خبير (الأقرب).
التفسـير:
لقد قال بعض المفسرين بأن قول يوسف هذا يمثّل لومه على إخوته. ولكني أرى أنه قد عبّر بذلك عن عفوه البالغ، إذ يخبرهم أنكم عندما ذهبتم إلى الوالد بقميصي أول مرة أثرتم سخطه، فخذوا الآن قميصي هذا لتبشّروه وتسرّوه، ولكي يدعوَ لكم ربه طالباً لكم المغفرة والرحمة. فقد أعلن يوسف عن عفوه عنهم من قبل بقوله: لا تثريب عليكم اليوم ، أما الآن فإنه يرسل قميصه إلى أبيه متوسلاً إليه أن يعفو ويدعو لإخوته.
أما قوله يأتِ بصيرا فهو كقولهم: “رجل بصير بكذا أي عالم بحقيقته وخبير بكنهه”، فالمعنى أن إيمان الوالد بحياتي مبنيٌّ فقط على ما أخبره الله بالوحي، فاذهبوا إليه بقميصي هذا ليتحول إيمانه إلى علم اليقين بواقع الأمر.
والآن يتقدم يوسف خطوة أخرى في الإحسان لإخوته، فيبشرهم بحسن معاملته لهم، ويدعوهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين ليتمتعوا معاً بما وهب الله له من نعم وبركات.
تناول القرآن الكريم هذا الحادث لكي يبرز ما فيه من محاسن ودروس أخلاقية، ولا سيّما ليبين أن أهل الله تعالى لا يخافون المحن والمصائب لأنها تزيد أخلاقهم جلاءً وجمالاً، وأن العدوان عليهم لا يولّد في قلوبهم جحيمًا من البغض والانتقام، بل يحوّلها إلى جنةٍ أشجارها العفو وثمارها السكينة.
شرح الكلمـات:
فَصَلَت: فصَلَ من البلد فصولاً: خرج منه (الأقرب). الفصل: إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجةٌ. وفَصَلَ القومُ عن مكان كذا: انفصلوا وفارقوه (المفردات).
تفنّدونِ: التفنيدُ: نسبة الإنسان إلى الفَنَد وهو ضَعف الرأي. قال الله تعالى لولا أن تفنّدونِ قيل: أن تلوموني (المفردات). فنِد الرجل فَنَداً: خرَفَ وأنكر عقله لهرَمٍ أو مرضٍ. فنِد في القول والرأي: أخطأ؛ كذَب. وفنَّده: كذَّبه؛ جهّله؛ عجّزه؛ لامه؛ خطّأ رأيه وضعّفه (الأقرب).
التفسـير:
المراد من ريح يوسف هنا “خَبَرُه”. فعندما يأمل المرء في تحقق أمر من الأمور في المستقبل القريب يقول: إنني أجد ريحه، وهذا ما يعنيه سيدنا يعقوب . وبهذا المعنى قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في بيت شعر له ما تعريبه: إنني لأجد الآن ريح يوسف، وإنني أنتظره وإن فنّدتموني (الخزائن الروحانية ج21، البراهين الأحمدية ج5 ص131).
وليس المراد من قوله لولا أن تفنّدونِ أن لا تسمّوني مجنوناً، وإنما هذا أسلوب للتأكيد، والمراد لو لم تعتبروني مجنوناً فإنني أخبركم أنه قد حان اللقاء بيوسف. وهذا الأمر أسمى من أن تحيطه مداركُكُم وإن كان حقاً وصدقًا
التفسـير:
كم هو شاسعٌ البونُ بين من يتلقى الوحي الإلهي وبين من هو محروم منه. فإن اليقين الذي يتمتع به الأول بسبب إيمانه بوحي الله تعالى، لا يمكن أن يتيسر لغيره. ولذلك نجد أقارب يعقوب لا يصدقونه فيما أخبرهم به بناءً على الوحي، وإنما يعتبرونه مستحيلاً وضرباً من الخبل.
وأما قولهم إنك لفي ضلالك القديم فاعلم أن الضلال يعني الانحراف عن الحق، وأيضا الاعتقاد بأمر من الأمور، وإن المعنى الثاني هو الذي ينطبق هنا فقط، لأن الذين خاطبوا يعقوبَ بهذا الكلام كانوا من المؤمنين وإن كانوا ضُعفَاء الإيمان، فالمراد: أنك لِشدة حبك لابنك تفسّر الوحي تفسيرًا حرفيًا وإلا فمن المستحيل أن تلقاه مرةً أخرى.
شرح الكلمات:
فارتدّ: ارتدّ على أثره: رجع. ارتدّ إلى حاله (الأقرب).
بصيراً: بصُرَ به وبَصِرَ بصارةً وبَصَراً: علِمَ به. رجل بصير بكذا: عالم به خبير (الأقرب).
التفسـير:
قوله تعالى فارتدّ بصيرا لا يعني أنه كان قد عَمِيَ من قبل وعاد إليه البصر عندما وُضع القميص على وجهه. كلا، بل المراد أنه كان من قبل مؤمناً بحياة يوسف، بناءً على الوحي، أما الآن فبرؤية القمـيص تحول إيمانه إلى اليقـين والاطمئنـان.
حتى إن نفس البلد الذي خرج منه مهاجرًا تحت ستار الليل وقع في يديه بعد أن دخله منتصرًا في وَضَحِ النهار، ومعه عشرة آلاف قُدُّوسي من صحابته الأطهار رضي الله عنهم. عندها قال النبي لأهل مكة: ما ترون إني فاعل بكم؟ وبما أنهم كانوا قد أدركوا مكانته الرفيعة، وانكشفت عليهم الغاية من نزول سورة يوسف، فلذلك أجابوه على الفور: ستفعل بنا ما فعله يوسف بإخوته. فقال: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
والحق أننا لو أمعنّا النظر في حقيقة الوحي لأدركنا أن علم الأنبياء عليهم السلام ينقسم إلى قسمين؛ علم باطني: وهو الذي يتلقونه بالوحي، وعلم مادي: وهو ما يحصّلونه بالحواس المادية. فعندما يتلقون خبراً بالوحي يحصل لهم علم أساسه الإيمان، وليس الواقع، وحينما تصدق حواسهم هذا الوحي يحصل لهم علم أساسه الواقع، ويشترك فيه معهم غيرهم أيضا. وقوله تعالى فارتد بصيرا إشارة إلى هذا النوع من العلم، لأنه إذا تظافرت الحواس الباطنية والمادية معاً على تصديق أمر معلومٍ بالوحي يصبح العلم به كاملاً. إذا لم تؤكد الحواس المادية العلمَ الحاصل بالوحي يبقى هناك احتمال أن يكون الوحي بحاجة إلى التأويل بما يخالف ظاهر كلمات الوحي، أما إذا تحقق الخبر في الظاهر أصبح العلم كاملاً ولا يبقى للشبهة مجال.
بعد أن أُلقي القميص عليه قال: (ألم أقل لكم)، وهذا يوضّح أن ما حدث لم يكن معجزة ليوسف وإنما ليعقوب، وإلاّ لو كانت عيونه قد شُفيت بإلقاء قميصه عليه -كما يزعم بعض المفسرين- لقال: انظروا إلى المعجزة العظيمة لابني حيث شفى قميصه عيوني، ولكنه يقول: انظروا، لقد تحقق قولي بأن يوسف حيّ. فإنما المراد من الجملة -كما قلت من قبل- أنهم عندما وضعوا قميصه أمام يعقوب تحول علمه المبني على الوحي إلى علم يقينيّ واقعي. وكما هي سنة الأنبياء عليهم السلام فإن يعقوب لم يملِك نفسه من فرط السرور والفرحة، فأخذ في حمد الله تعالى وتسبيحه بأن وحيه قد تحقق.