في عالم التفسير

من تفسير حضرة مرزا بشیر الدین محمود أحمد ، الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود .

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (الإسراء: ۷۹ -80)

التفسير:

هذه الآيات الكريمة تتضمن بیان مواقيت الصلوات الخمس المفروضة. وذلك لأن لفظ «دلوك» المشتق من الفعل دَلَكَ يحمل ثلاثة معان في اللغة:

المعنى الأول: اصفرار الشمس، وبحسب هذا المعنى يكون قوله تبارك وتعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إشارة إلى وقت صلاة الظهر.

المعنى الثاني: يقال دَلَكت الشمس أي زالت عن كبد السماء، أو بعبارة أخرى مالت عن سمت الرأس. وهذا يشير إلى موعد صلاة العصر.

المعنى الثالث: يقال أيضًا دَلَكت الشمس أي غَربت، وفي ذلك إشارة إلى وقت صلاة المغرب.

فقوله : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قد تضمن تحديد أوقات الصلوات الثلاث: الظهر والعصر والمغرب.

ثم يلي ذلك قوله تعالى: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ . ولفظ الغسق في اللغة يطلق على ظُلمة أول الليل. وقد يعنى قوله تعالى: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقت صلاة المغرب، ولكن هناك معنى آخر للفظ «الغسق» إذ يطلق على ظلمة الليل، وهذا المعنى الثاني هو الأغلب. فيقال غسقت عينه إذا أظلمت أو دمعت، ويقال غسق الليل أي أظلم، ويقال:

أغسق المؤذّن: إذا أخَّر المغرب إلى غسق الليل. ويقال أغْسَقَ الليل: إذا اشتدت ظُلمته. وقيل في تفسير قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ معناه الليل إذا دخل.

ونخلص من ذلك إلى أن قوله تعالى: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ فيه إشارة إلى وقت صلاة المغرب، ولكنه يتضمن على وجه الخصوص ذکر صلاة العشاء.

يلي ذلك قوله تعالى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، وفيه إشارة إلى وقت صلاة الفجر. ويؤيد ذلك سياق الكلام، إذ ما دام قد ذكرت أوقات الصلوات الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فمن الواضح أن يلي ذلك مباشرة ذكر الصلاة الخامسة الباقية أي صلاة الفجر. وفضلاً عن ذلك فقد استعمل القرآن المجيد هذا الأسلوب في الآية التالية مباشرة فعبر عن الصلاة بالقرآن، في قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ . وكما نعلم أن التهجد بالقرآن لا یعنی تلاوته في الجزء الأخير من الليل، وإنما المقصود هو صلاة التهجد. وهكذا أيضا قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، يعني صلاة الفجر.

ننتقل بعد ذلك إلى معنى هذه الآية الكريمة على أساس موضعها في سورة الإسراء. فهذه السورة كما نعلم تلى سورة النحل التي تضمنت الإشارة إلى ما سيناله المسلمون من مجد وعزة وغلبة على الأقوام الأخرى. كما تضمنت تحذيرهم من اقتفاء أثر اليهود بصفة خاصة الذين فقدوا سلطانهم نتيجةً لخروجهم عن طاعة الله والاستهانة بكتابهم المقدس.

ويلي سورةَ النحل، سورة الإسراء (أو سورة بني إسرائيل) وكما هو ظاهر من التسمية الثانية أن السورة تتضمن ذکر تاریخ اليهود.

ثم يلاحظ عند تلاوة السورة أنها تتضمن الإشارة بصفة خاصة إلى حادثين مهمين في التاريخ اليهودي الأول، عندما عصوا وخذلوا داود ، وما انتهى إليه حالهم من الإذلال والإجلاء عن أرضهم علي يد بختنصر. والحادث الثاني هو تنكرهم لنبيهم عيسى ، ومن ثم حل العقاب عليهم على يد الحاكم الروماني تيتوس TITUS.

كذلك نلاحظ من الارتباط بين أواخر سوف النحل وأوائل سورة بني إسرائيل إشارةً إلى ما سيلقاه المسلمون من مناهضة على أيدي أهل الكتاب. وهو ما وقع فعلاً في مكة. ثم بدأت المناهضة والمقاومة والمعارضة عقب الهجرة إلى المدينة. وقد تضمنت الآيات الأخيرة من سورة النحل نصح المسلمين بالصبر على ما يلقونه من مناهضة قبل الهجرة. وتضمنت الآيات الأولى من سورة بنی إسرائيل الإشارة إلى أن المناهضة الشديدة التي سيواجهونها في المدينة ستنتهي بتغلبهم عليها.

في ضوء هذا الموجز العام لموضوع سورة الإسراء (بني إسرائيل) نستخلص من قوله تعالى:

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً ،

ومن قوله تعالی عقب ذلك مباشرة :

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا

أن الله ينبه المسلمين إلى ما سيصادفهم من متاعب ومعارضة من أيدي اليهود بالمدينة الذين يحافظون محافظة تامة على المظاهر الخارجية للعبادة، ومن ثم فإن أي تهاون بسيط من جانب المسلمين في حق الصلاة، يتيح الفرصة لليهود کي يسخروا من الإسلام ومن الرسول .

ومن ناحية أخرى إذا ما راعينا أن هذه السورة قد نزلت في مكة ، فإنه يستفاد أيضًا من قوله تعالى:

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ

إلى قوله تعالى

عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ،

أنه لما كان من المقدر أن يبدأ ازدهار شأن الإسلام بعد الهجرة، ولما كان من شأن النجاح والازدهار أن يجعل الناس عادة يميلون إلى الحياة السهلة الرخية، مما يدفعهم إلى الاستهانة بالصلاة، لذلك يُنبه المسلمين في هذه الآيات الكريمة إلى أمر الصلاة بصفة خاصة، كي يكونوا على حذر من أي تهاون فيها.

ننتقل بعد ذلك إلى قوله تعالى:

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا .

إن المعنى الغالب للفظ التهجد هو الاستيقاظ بعد النوم ليلاً، أو الاستيقاظ في الجزء الأخير من الليل. وأما لفظ (نافلة) فمن النفل ومعناه الغنيمة، أو العطية، أو ما يفعله الإنسان دون أن يكون واجبًا عليه.

ويبدو من هذه المعاني أن صلاة التهجد لا تعدّ من الصلوات المفروضة على المسلمين.

ومن ناحية ثانية تحمل الآية معنى آخر، وهو أن هذه الصلاة كانت بالنسبة لرسول الله من قبيل الصلوات المفروضة، وذلك لأن أسلوب الآية قد جاء بصيغة الأمر الموجَّه إليه وحده.

كذلك يمكن أن نفهم من الآية أن صلاة التهجد لا تعتبر عبئًا يشق على جسم الإنسان حيث إنها نافلة، والنافلة عطية. ومن ثم فصلاة التهجد هي في الواقع ميزة ونعمة من الله تعالى.

وقوله سبحانه :

عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا

يتضمن نبوءة جليلة الشأن.. إن الرسول قد تعرض للسب والإيذاء بقدر قد لا يكون له مثيل في التاريخ. ثم إنه عليه الصلاة والسلام قد اختص دون البشر جميعًا بقدر من التكريم الإلهي لا يدانيه أي تکریم، وكان أهلاً للفيوض الإلهية والنعم السماوية بما لا يضارعه أي شخص آخر. والنبوءة التي تضمنها قوله تعالى:

عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا

تبشره وهو في مكة أنه إذا كانت النفوس المظلمة تسبُّك وتنكر دعوتك، فإن ذوي النفوس النبيلة الطيبة ستستدر برکات الله ، وأنه تعالى يمدحك من عرشه الرفيع الدرجات. وهذا التكريم من جانب الله تعالى وعلا لأصفيائه يتضاءل أمامه ذلك السب والطعن الذي لاقاه ، ويصبح شيئًا لا قيمة له ولا وزن. وهذا هو المقام المحمود الذي وُعد به الرسول قبل الهجرة، والذي تحقق بعد ذلك.

ويمكن أن نقول بأن المقصود بالمقام المحمود ما خص به الرسول من تقديمه على غيره في الشفاعة، فقد ورد في الأحاديث أن الأنبياء صلوات الله عليهم يُحجم كلُّ منهم يوم القيامة من الشفاعة، ويُقدّم من جاء بعده، فيتأخر أيضًا، وهكذا. إلى أن يأتي دور عیسی ، فيقول لطالبي الشفاعة:

“لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنَ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ” (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن).

وهذه منزلة جليلة جديرة بأن تسمى بالمقام المحمود.

كذلك يمكن أن يكون مجيء الإمام المهدي والمسيح الموعود مظهرًا لذلك المقام. ففي الوقت الذي بلغ فيه التشهير بالرسول أقصى مداه، ولم يهتم له ومن يدَّعون أنهم من أمته ومن أتباعه، نهض الإمام المهدي والمسيح الموعود بمهمة صدّ التهم الموجهة من أعدائه وإظهار بطلانها. كما تولى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إيصال المعارف الصحيحة إلى متبعيه مُبينًا لهم تعاليمه وجمالها وكمال شخصيته. وبذلك بعث في نفوسهم احترام الرسول الأعظم .

هذا، وإن ذكر المقام المحمود بعد إيراد الصلاة المفروضة والصلاة النفل يتضمن الإشارة إلى أن الإنسان إذا ما تعرض لسخرية الناس وسبهم، فإن العلاج الحقيقي لذلك هو الاتجاه إلى الله تعالى بطلب العون منه، وليس مواجهة الإساءة بمثلها. ولا شك أن هذا التصرف من شأنه أن يُحوّل الأعداء إلى أصدقاء، كما حدث مثلاً بالنسبة لرسول الله ، فقد صار أشد أعدائه من أخلص متبعيه.

إن المقام المحمود متعدد الجوانب، وأول جانب وُعد به هو انقياد المدينة له حيث بدأ منها انتشار تحميده وتمجيده .

(ترجمة وتلخيص: الأستاذ محمد بسيوني، رحمه الله)

Share via
تابعونا على الفايس بوك