أخذ العبرة من صناعة الأنعام اللبن
  • اتباع الهوى والضلال وأعمال الشيطان يجعل الإنسان مطمئنًا رغم اقترابه من العذاب.
  • من أهم أسباب نزول الوحي فض الخلافات الأخلاقية والدينية.
  • يستحيل أن يصل الإنسان لليقين الحقيقي من غير التعليم الروحاني.
  • تشابه عظيم بين تحول العشب للبن سائغ وتحول الإنسان من حالته الطبعية للروحانية وكلاهما يمران برحلة التطور فاعتبر.

__

يَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُون (63)

شرح الكلمات:

تصِف: وصَف الشيءَ: نَعَتَه بما فيه وحلّاه. ووصَف الطبيب للمريض وصفةً: بيّن له ما يتداوى به (الأقرب).الحُسنَى: ضدُّ السُوءَى؛ العاقبةُ الحسنة؛ النظرُ إلى الله؛ الظفرُ؛ الشهادة (الأقرب).لا جَرَمَ: راجع شرح الآية رقم 24.مفرَطون: أفرطَ الأمرَ: نَسِيَه؛ ترَكه وخلَّفه. أفرطَ عليه: حمَّله ما لا يطيق. وما أفرطتُ من القوم أحدًا أي ما تركتُ (الأقرب).

التفسـير:

تتناول هذه الآية الموضوعَ السابق نفسه ولكن بأسلوب آخر حيث تقول: كيف يتوقع الكافرون من الله مصيرًا حسنًا وهم يعزون إليه تعالى ما لا يرضون به لأنفسهم؟ كلا، بل إن من يعزو إليه العيوب لا بد أن يرى عاقبة سيئة.ثم قال الله تعالى وأنهم مفرَطون .. أي كما أنهم تركوا الله تعالى كذلك سيتركهم الله في العذاب وينساهم.

هناك سبب آخر لنـزول الوحي ألا وهو الاختلاف الشديد الموجود بين الناس فيما يتعلق بالأخلاقيات والدين. هل كان هناك من سبيل لرفع هذه الاختلافات بينهم إلا أن يأتيهم العلم اليقيني من عنده ؟

تاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (64)

شرح الكلمات:

وَلِيُّهم: الولي: المحبُّ والصديق؛ النصيرُ. وكلُّ مَن وَلِيَ أمرَ أحدٍ فهو وليُّه (الأقرب).

التفسـير:

أي أن معارضي الأنبياء السابقين انخدعوا بقول الشيطان لهم بأنهم لن يعاقَبوا على أعمالهم فاطمأنوا إليه وضلّوا؛ وكذلك حال أعداء الحق اليوم، فإنهم رغم إتيان المعاصي يجلسون مطمئنين، ولا يدرون أن عذابًا أليمًا يقترب إليهم باستمرار.

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (65)

التفسـير:

يقول الله تعالى: هناك سبب آخر لنـزول الوحي ألا وهو الاختلاف الشديد الموجود بين الناس فيما يتعلق بالأخلاقيات والدين. هل كان هناك من سبيل لرفع هذه الاختلافات بينهم إلا أن يأتيهم العلم اليقيني من عنده ؟ ولقد نـزل هذا الكتاب بهذا العلم اليقيني. فلو أدرك الناس أن هذا الوحي نزل من عند الله تعالى أمكنهم إزالة هذه الاختلافات، وإلا فكيف يتخلَّون عن موقفهم وكل واحد يرى أن موقفه أفضل من موقف غيره؟كما أن هذه الآية توجه اللوم إلى الكفار على قولهم: ما الحاجة إلى بعث نبي جديد وقد ظهر أنبياء كثيرون من قبل. إنهم لا يفكرون أن أعمالهم هي التي استدعت بعث هذا النبي الجديد، إذ تركوا الحق واختلفوا. لو لم يختلفوا لما كانت هناك حاجة لظهور نبي جديد. الغريب أنهم رغم إصابتهم بمرض الاختلاف يعترضون على مجيء طبيب أرسله الله ليعالجهم من مرضهم هذا!قد يعترض أحد على المعنى الذي ذكرته آنفًا ويقول: لنفترض أن الناس ظلّوا عاملين بشرع موسى من دون أن يختلفوا فيه، أما نزلت الشريعة الكاملة عن طريق نبينا الكريم ؟ والجواب: إنْ هو إلا افتراض لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، لأن الناس ما كانوا لينتهوا في الواقع العملي عن الاختلاف، وبالتالي لم يكن بد من نزول هذه الشريعة الكاملة. ولو سلّمنا جدلاً بإمكانية وقوع هذا المستحيل فقد سبق أن أجاب الله على ذلك أيضًا بقوله: قُلْ لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشُون مطمئِنِّين لنـزّلْنا عليهم مِن السماء ملَكًا رسولا (الإسراء:96)

أي لو أن كل البشر صاروا صالحين كالملائكة لما كانت ثمة حاجة لبعث نبي، بل لصار الجميع أنبياء يتلقون الوحي من رسلِنا الملائكةِ، ولما كان هناك منكر ولا كافر. ولكن لم يصبح أهل الدنيا كلهم أبرارًا قط، وبالتالي لم يتوقف بعث الأنبياء من عند الله أيضًا.وبيّن بقوله تعالى: وهدًى ورحمةً لقوم يؤمنون

أنه يجب عليك يا محمد أن تسعى بالقرآن لإزالة الاختلاف من بين المختلفين في أمرهم من جهة، ومن جهة أخرى عليك أن تسعى لكي يعمل المؤمنون بالقرآن ليزدادوا رحمةً وزلفى عند الله تعالى.

ونزول الماء المادي لا يكون آية لقوم يسمعون، إنما هو آية لقوم يشاهدون ويتدبرون فيدركون. فكلمة يسمعون توضّح جليًّا أن المراد من الماء هنا هو الوحي. فالله تعالى يلفت الأنظار إلى وحي الأنبياء السابقين موضحًا: كم من مرة أنزلنا من السماء الماء الروحاني فأحيينا به العالم…

والله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (66)

التفسـير:

الماء هنا يعني الوحي، والدليل على ذلك أن الله قد قال بعد الحديث عن نزول الماء إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون ؛ ونزول الماء المادي لا يكون آية لقوم يسمعون، إنما هو آية لقوم يشاهدون ويتدبرون فيدركون. فكلمة يسمعون توضّح جليًّا أن المراد من الماء هنا هو الوحي. فالله تعالى يلفت الأنظار إلى وحي الأنبياء السابقين موضحًا: كم من مرة أنزلنا من السماء الماء الروحاني فأحيينا به العالم، ولو أنكم سمعتم أخبار الأنبياء الذين خلوا من قبل لصدّقتم بما نزل إليكم من الحق.وقد جاء بقوله تعالى فأحيا به الأرضَ كدليل على كون القرآن هدًى ورحمةً حيث بين أن الوحي ما دام قد أحيا الموتى في الماضي فلم لا يكون القرآن سبب هدًى ورحمة وحياة للمؤمنين. إن ما وقع في الماضي لا بد أن يقع اليوم.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (67)

شرح الكلمات:

الأنعام: النَّعَم: الإبلُ والشاءُ، وقيل: خاص بالإبل. وقال في المصباح: النَّعَم: المالُ الراعي، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل. قال أبو عبيد: النَّعَم: الجِمال فقط، ويؤنَّث ويذكَّر، وجمعُه أنعام. وقيل: النَّعَم: الإبلُ خاصة، والأنعامُ: ذواتُ الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم. وقيل: يُطلَق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمٌ، وإن انفردت الغنم والبقر لم تسمَّ نَعمًا (الأقرب).فَرْث: السِّرْجِين ما دام في الكِرْش (الأقرب).سائغًا: السائغ: السهلُ المدخَلِ من الطعام والشراب (الأقرب).

التفسـير:

إن قوله وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً من الروعة والشفافية بمكان. إن الأنعام تهيئ للإنسان الغذاء على شكل لبن ولحم، كما تنفعه في حمل أثقاله. وكان الجمل وسيلة النقل عمومًا في الجزيرة العربية لندرة البقر والثور هناك، ولكن في المناطق المختلفة الأخرى من العالم تخدم البقر الإنسانَ كثيرًا في نقل أحماله. أما المعز والنعاج فهي أيضًا تُستخدم لهذا الغرض في المناطق الجبلية، خاصة أثناء السفر في أعالي الجبال؛ فإن الرعاة يضعون على ظهور هذه الحيوانات الصغيرة أثقال السياح نظيرَ بعض النقود. ولقد رأيت في منطقة “كانغره” رعاةً قادمين من جبال “لاهول” وقد وضعوا أحمالهم على متون مئات من الغنم، على كل شاةٍ حوالي عشرة أو عشرين كيلو غرامًا. ويا لـه من منظر رائع!

وجدير بالملاحظة أن كلمة عِبرة الواردة هنا مشتقّة من العبور الذي يدل على السفر أيضًا. وقد أشار الله باستخدامها إلى معنى رائع لطيف جدًّا وهو أنكم تستعينون بهذه الأنعام في أسفاركم المادية، ولكن لا تستعينون بها في رحلتكم العقلية، فلا تتدبرون في حالة هذه الحيوانات حتى يعبر بكم هذا التدبرُ من عالم الجهل إلى دنيا العلم والمعرفة. وهذا هو معنى كلمة العبرة أيضًا، إذ تعني انتقالَ الذهن برؤية شيء إلى أمر آخر وبالتالي فهمُ حقيقة الأمر قياسًا على ذلك الشيء. فلا جرم أن ورود كلمة عبرة خلال الحديث عن الأنعام قد أضاف إلى الموضوع شفافية رائعة.

وما هي تلك العبرة؟ لقد فصّلها الله تعالى إذ قال: إن هذه الأنعام تأكل العشب والكلأ الذي يتحول إلى الفرث الذي في الكرش، ثم ينقلب بعض هذا الفرث إلى الدم، ثم يصبح جزءٌ من الدم لبنًا خالصاً سائغًا لدرجة أن أشد الناس نفاسةً وحساسية أيضًا يشربونه بمنتهى اللذة والمتعة، ولا يجدون في شربه أي غضاضة وانقباض؛ مع أن اللبن هو نتاج الدم، حيث يتولد الدم من الفرث المتكون في كرش الحيوان من غذائه، والذي يصل إلى الأمعاء، ثم يُنقل عبر العروق إلى القلب وحين يصل هناك يتحول إلى الدم. ومن الدم ما يصل إلى الضرع ويصير لبنًا. فالله تعالى ينبه هنا أن هذا الكلأ والعشب – الذي لا يستطيع الإنسان أكله – حين يصل إلى بطن الحيوان يتحول إلى لبن خالص من أي نجاسة وسائغٍ للشاربين. إن الإنسان لا يقدر على تحويل هذا العلف إلى لبن، ولكن الله يحوّله إلى لبن في جسم الحيوان؛ فينبغي للإنسان أن يتلقى من ذلك درسًا.. ألا وهو أن ذلك التعليم الفطري.. الذي لا يستطيع به الإنسان إحراز اليقين، وإنما يبقى ملطَّخًا بصنوف الرذائل والنقائص.. يصبح كاللبن الخالص السائغ بعد أن يمر هذا التعليم عبرَ الآلة الروحانية التي خلقها الله ، فلا يضر بصحة الإنسان الروحانية شيئًا، بل ينفعه في كل مجال. فلم لا تأخذون العبرة من عملية صناعة اللبن في الحيوان، ولم لا تدركون أن الميول الإنسانية الطبيعية لا يمكن أن تصير غذاء روحانيًّا حقيقيًا للإنسان ما لم يحوّلها الله إلى لبن روحاني. ولكن هذا العمل هو خارج نطاق قدرة الإنسان، وما دام الإنسان لا يقدر على تحويل الكلأ إلى لبن فكيف يستطيع أن يحوّل الميولَ الطبيعية غيرَ المهذَّبة إلى تعليم سامٍ.

… فلم لا تأخذون العبرة من عملية صناعة اللبن في الحيوان، ولم لا تدركون أن الميول الإنسانية الطبيعية لا يمكن أن تصير غذاء روحانيًّا حقيقيًا للإنسان ما لم يحوّلها الله إلى لبن روحاني

ثمة إشكال لفظي في الآية وهو أن الله تعالى قد استخدم في بطونِه ضمير الواحد للغائب مع أنه راجع إلى الأنعام التي هي جمعٌ؟ ولقد أجاب المفسرون عليه بوجهين: أحدهما أن ضمير الفرد ورد نظرًا إلى المعنى المذكور وليس إلى اللفظ، بتقدير (بطونِ ما ذَكَرْنا)؛ وثانيهما أن الضمير راجع إلى كل فرد من جنس الأنعام (انظر تفسير فتح البيان). وكلا الوجهين صحيح وفق القواعد العربية.

هذا، وتشكل هذه الآية برهانًا عظيمًا على أن الذي أنزل القرآنَ هو الذي خَلَقَ الكون أيضًا، ذلك أن كيفيةَ تكوُّنِ اللبن – كما ذكرتها الآيةُ – لم تكن معروفةً لدى الإنسان في زمن نزول القرآن. وعملية تكوُّن اللبن تتم كما يلي: عندما يصل الغذاء من كرش الحيوان إلى أمعائه يتحول إلى الفرث، ومن هذا الفرث ما يتحول إلى الدم، ثم يصير بعض الدم لبنًا. وهذه الحقيقة لم يكتشفها الإنسان إلا بعد نزول القرآن بزمن طويل، ولذلك نجد المفسرين المتأخرين يشيرون إلى أخطاء المفسرين القدامى في بيان كيفية تكوُّن الدم. غير أن ما ذكره المتأخرون أيضًا لا يتفق تمامًا مع ما أكدته البحوث العلمية، ولكن كلمات القرآن الكريم متطابقة تمامًا مع الاكتشافات الحديثة وهي: أن الغذاء يصل من معدة الحيوان إلى الأمعاء، وهناك جزءٌ لطيف من هذا الغذاء المهضوم يصل مباشرةً إلى القلب عبرَ العروق وينقلب لدى وصوله إلى الأوردة دمًا، وهناك جزء لطيف آخر يصل من المعدة مباشرة إلى الكبد، ثم ينصبّ في القلب عبرَ الأوردة ويصير دمًا؛ ولدى انصباب الدم في الضرع يحدث من التفاعل ما يحوّله إلى اللبن. كان الناس في الماضي يجهلون هذه الحقيقة بحيث إن المفسرين القدامى قد عانوا مشكلة كبيرة في شرح هذه الآية، لأنهم ظنوا بحسب الأفكار السائدة في زمنهم أنه خلال تحوُّل الغذاء إلى الفرث والدم يقع تفاعلٌ يُنتج اللبن. فقد كتب صاحب الكشاف: “إذا أكلت البهيمةُ العلفَ فاستقرّ في كرشها طَبَخَتْه، فكان أسفَلُه فرثًا، وأوسَطُه لبنًا، وأعلاه دمًا” (راجع أيضًا البحر المحيط، ابن كثير). مع أن الآية تقول إن الغذاء يتكون لبنًا بعد مروره بمرحلتي الفرث والدم، وهما الشيئان اللذان لا يرضى أحد بتناولهما، ولكن عندما يصير الغذاء لبنًا يستسيغ الناس شربه بكل شهية ومتعة، لأنه عندئذ يكون خالصًا نقيًّا مما يوجد في الفرث من نجاسة وفي الدم من سموم. مع العلم أن هذه الآية لا تعني أن لا أحد يقدر على صنع اللبن ولو بكمية ضئيلة، فقد يتمكن الإنسان في المستقبل من صنع اللبن بمقدار قليل، ولكنه لا يستطيع تزويدَ الدنيا كلها بهذا الغذاء الهام. فإن الإنسان قد استطاع صنع المطر بتفاعل بعض الغازات، ولكن تلك القطرات القلائل من الماء لا يمكن أن تغني غناءَ الأمطار. كذلك لا غرابة لو تمكَّنَ الإنسان في المستقبل من صنع اللبن من العلف، لأن تزويد البشر باللبن سيبقى منوطًا بالأنعام شأنَ الماء الذي هو منوط بالسحب.

كما أن الآية تتضمن الإشارةَ إلى أن الإنسان يمكن أن يفسد غذاء الحيوان، لكن لا يقدر على صنع اللبن منه، وبالمثل فيمكنه أن يتلاعب بتعاليم الأنبياء ويفسدها، لكنه غير قادر على تحويل ما يوجد في العقل الإنساني من الحقائق الفطرية غيرِ الصـافية إلى تعليم روحاني سامٍ خـالص من الشـوائب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك