مراعاة عظمة الله عز وجل وشأنه عند الإنفاق في سبيله

 

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (267)

شرح الكلمات:

نخيل – أشجار النخيل أو بستان النخل ( الأقرب).

الكِبَر – كَبُر الرجل أو الدابة: طعن في السن ( الأقرب).

إعصار – ريح ترتفع بتراب بين السماء والأرض وتستمر كأنها عمود. وتُستخدم الكلمة للتعبير عن الشدة، يقول العرب: إن كنتَ ريحًا فقد لاقيتَ إعصارا (الأقرب).. أي إذا كنت شديد المراس فقد وجدت من هو أشد منك.

التفسير:

الآن يضرب الله تمثيلا آخرًا كي يبرز أهمية الإنفاق في سبيله. فيقول إذا كان عند المرء مال قليل ثم ضاع منه فإنه يتأسف عليه، ولكن إذا كان عنده بستان من النخيل والأعناب تجري خلاله الأنهار، ويؤتي أنواع الثمار، وكان المرء كبير السن، لا يأمل في البقاء حيًّا لمدة أطول، وذريته من صغار السن لا يُرجى منهم كسب أو جهد.. فهل يتمنى هذا الشيخ المسن أن يأتي إعصار على بستان ويحرقه؟ لقد استخدم هنا كلمة إعصار لأنه شديد السرعة، عنيف الأثر، يحدث الحريق ويصعب إطفاؤه. ويُرى هذا المشهد في حرائق الغابات أثناء الأعاصير.

لو كان مال المرء قليلاً لتعزّى بأنه لا حرج في ضياعه، فإنه قليل ضئيل ويوشك على النفاذ، ولو لم يكن طاعنًا في السن لأمّل أن أبناءه سوف يكبرون في حياته ويكتسبون المال ويعولون أنفسهم. ولكن إذا كان صاحب مال كثير، وهو في أرذل العمر، وله أولادٌ صغار.. فإنه لا يريد أبدا أن تدمّر أمواله أو تحترق ثروته هكذا في حادث. ويمكن أن تقدروا صدمته إذا حلت به هذه المصيبة واحترق بستانه وضاعت ثروته كلها وصارت رمادا. هكذا يكون يوم القيامة حال أولئك الذين لا ينفقون أموالهم في سبيل الله في هذه الدنيا. لن يجدوا في أيديهم مالاً ولن تنفعهم أولاد.. لذلك قال فكّروا في مصيركم. تستطيعون اليوم أن تفعلوا ما تريدون، ولكنكم لن تستطيعوا التصرف يوم القيامة، إذا أنفقتم اليوم أموالكم في سبيل الله فسوف تدَّخر لكم عند الله وسوف تنتفعون منها، وإلا تهلكون.

استخدم في الآية تعبير ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ للتحذير خاصة.. يقول: إذا كنتم لا تريدون لأولادكم في هذه الدنيا -وهي حياة محدودة- أن يؤول حالهم إلى عدم الحيلة.. فلماذا لا تهتمون بنفوسكم التي تكون يوم القيامة أضعف من الطفل الصغير؟ لماذا لا تفكرون ولا تتدبرون؟ فأين من العقل أن تضيعوا نعمة الإيمان أو نعمة رضوان الله التي سوف تنفعكم أنتم.. في وقت تكونون أضعف حيلة من الطفل الصغير؟ فاحذروا من الآن، وادَّخِروا من الحسنات قبل أن يأتيكم الموت.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (268)

شرح الكلمات:

الخبيث – النجس؛ الرديء المستكره. (الأقرب).

لا تيمموا – تيمَّم الشيءَ: تعمَّدَهُ.

فمعنى قوله وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي لا تختاروا قصدا وإرادة الشيء الرديء لتنفقوه في سبيل الله.

أن تُغمضوا – أغمض عينيه: أطبق أجفانهما. أغمض عن الشيء: تجاوزه. أغمض على كذا: تحمله ورضي به (الأقرب). فمعنى إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ 1 – تأخذوه مغمضي العين 2- تتجاوزوا عن فعله هذا وتقبلوا ما يعطيكم؛ 3 – تأخذوه لأجْله.

التفسير:

نصح الله هنا المؤمنين أن ما ينفقون في سبيله يجب أن يكون مما كسبوه بأيديهم ومن خير مالهم، لا أن يستولوا على أموال الآخرين وينفقوا منها. هناك من الناس من يجدون في قلوبهم حماسًا لإعانة الفقراء، فيشرعون في السرقة وقطع الطرق، ثم ينفقون معظم ما يجمعونه من هذا الطريق على الفقراء. والذين لا يقفون على فلسفة الأخلاق يمدحون عموما هؤلاء السارقين، ويقولون: إن هذا السارق رجلٌ طيب لأنه يعين الفقراء. يقول الله: ليس من الخير في شيء أن يسرق الإنسان أموال الآخرين ويستولي عليها ثم يوزعها على الفقراء، فهذا ليس الطريق الصحيح لإعانة الفقراء، وإنما واجبكم أن تنفقوا مما كسبتم بأيديكم، ثم اتركوا الباقي لله تعالى. إن إعانة الفقراء بسلب أموال الآخرين هي بمثابة إطفاء النار بالزيت. إذا رأيتم كثرة الفقراء فإطعامهم ليس واجبكم، وإنما عليكم أن تنفقوا عليهم بقدر استطاعتكم، ودَعُوا الأمر بعد ذلك لله.

إذا كنتم لا تريدون لأولادكم في هذه الدنيا -وهي حياة محدودة- أن يؤول حالهم إلى عدم الحيلة.. فلماذا لا تهتمون بنفوسكم التي تكون يوم القيامة أضعف من الطفل الصغير؟ لماذا لا تفكرون ولا تتدبرون؟ فأين من العقل أن تضيعوا نعمة الإيمان أو نعمة رضوان الله التي سوف تنفعكم أنتم..

وقوله مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ لا يعني أن بعض أموال المؤمن حلال وبعضها حرام، وتطلب منه الآية ألا ينفق من الحرام وإنما يختار الحلال فقط. بل الحقيقة أن طَيِّبَاتِ هي صفة مَا كَسَبْتُمْ ، فالمراد أن ما كسبتم هو من الحلال؛ وعليكم أن تنفقوا منه في سبيل الله، سواء كان مالاً أو علما أو غيرهما. وكأن قوله مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ثناء على المسلمين، أشار فيه بأن مالهم حلال وطيب دائما، وليس فيه شائبة من الحرام.

ثم يجب أن نعلم أنه لم يأت بكلمة ’طيبات‘ إزاء ’حرام‘ وإنما جاء بها إزاء ’خبيث‘.. والمعنى أنكم لن تكونوا منفقين في سبيل الله حقا ما لم تنفقوا من أفضل وأحب أموالكم. قد يعطي الإنسان الفقراء ما عنده من أشياء مستعملة، ولا مانع من إعطائها. كأن يعطي بعض ثيابه المستخدمة لفقير ينتفع بها وهذا ليس ممنوعا بل يُثاب عليه، ولكن بإعطاء هذه الأشياء المستعملة لا يكون من العاملين بأمر الله أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ، وإنما يؤدي واجب الإنفاق في سبيل الله إذا أعطاها وهي صالحة للاستخدام، وفي حالة جيدة، ومن خير ماله، لكي تكون لتضحيته أيضا عظمة.

وقوله وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ .. أي أنفقوا أيضا من المستخرَج من الأرض. الحقيقة أن هناك نوعين من المال: الأول- ما يكسبه الإنسان بالتجارة والوظيفة، والثاني: ما وضعه الله من الخيرات في الأرض ويستخرجها الإنسان ببذل الجهد.. مثل الزروع والأشجار والمعادن والأحجار الثمينة في الأرض، فكل هذه تندرج تحت وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ . يقول الله: سواء كسبتم المال بتجارة أو حرفة أو وظيفة أو مما تنبته الأرض أو مما يخرج منها من معادن.. فعليكم أن تنفقوا من كل ذلك جزءًا في سبيل الله.

وفي قوله وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ استخدم كلمة الْخَبِيثَ على إطلاقها دون تحديد لما هو خبيث. فيمكن أن يفسَّر بعدة معانٍ منها:

أولا – لا تعطوا ما يكون في ذاته خبيثا لا يصلح للاستعمال لا لكم ولا لغيركم. وهذا لا يندرج تحت ما لا يصلح للمعطي ولكنه يصلح للمُعطى له.

ثانيا – لا تعطوا شيئا يكرهه من تعطونه إياه. وبذلك علَّم أنكم إذا أعطيتم أحدا شيئا فينبغي مراعاة مشاعره كيلا يكدر خاطره أو كيلا يُحرم من الانتقاع من الشيء.

وثالثا – بناء على معنى التيمم.. لا تتحروا للإنفاق أشياء غير مرغوب فيها لرداءتها.

وقوله وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُواْ فِيهِ يعني لا تنفقوا في سبيل الله ما إذا أوتيتموه لم تقبلوه إلا خجلاً.

وقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ بيّن فيه أن هذه الصدقات إنما هي لصالحكم، وليس لله حاجة إليها. فإذا أنفقتموها في سبيله أو آتيتموها عباده فكأنكم قدمتموها له سبحانه – ولذلك عند إنفاقها ضعوا في الاعتبار عظمة الله. إنكم عندما تتعاملون مع الناس في الدنيا تراعون مقامهم ومنزلتهم، مع أنهم خلقٌ مثلكم، وإذا أنفقتم الصدقات تريدون بها رضوان الله فلماذا لا تراعون عظمته وشأنه جل وعلا. إنه غَنِيٌ ليس بحاجة إلى أي مساعدة منكم، وإنما أنتم محتاجون إليه. ثم إنه تعالى حَمِيدٌ يستحق كل حمد. فعامِلوا عباده معاملة محمودة كي يعاملكم بمثلها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك