لبيك اللهم لبيك
  • كل تضحية ما هي رسالة عظيمة تبقى لنا لنقرأها ونفهم الغاية منها.
  • إن لنا في قصة سيدنا ابراهيم وتضحيته عبرة كبيرة بالرغم من الفارق الزمني بيننا وبين زمن سيدنا ابراهيم عليه السلام لكن صفات الله عز وجل لا تتغير لو بَعد الزمن.
  • كما أن سيدنا ابراهيم عليه السلام لم يتردد لحظة في التضحية بنفسه وأولاده في سبيل الله كذلك يجب أن نكون نحن.
  • لقد وضح سيدنا المسيح الموعود عليه السلام الغاية الحقيقية من التضحية فهي ليست حدثا عابرا فحسب بل هي حقيقة ذو معنى عظيم جدا.

__

لا شك أن كل تضحية تتضمن رسالة عظيمة. وبالتالي فإن الباحث المنصف في التاريخ ينعم بنفحاتها المتعددة الأبعاد ويغوص في معانيها وأهدافها، ولكن الحق يفرض علينا أن نحكم بأنها لا تصل في جوهرها إلى المعاني الإيمانية والروحانية العظمى كالتضحيات التي أثنى عليها الدين الحنيف.

الأضحى.. موتٌ يَهَبُ الحياة، أي تضحية النفس بالاستسلام لله تعالى استسلاما كاملا لا ريب فيه، لدرجة أن يصبح هذا الاستسلام بمثابة الموت.. ذلك الموت الذي وهب الحياة لسيدنا إبراهيم حيث سلّم عنقه هو قبل أن يسلّم عُنق ابنه إسماعيل عليهما السلام. فما كان له أن يُقدم على تسليم عنق ابنه والتضحية بنسله في واد غير ذي زرع لولا يقينه التام في الله عز وجل. فهو العاشق الولهان الذي انمحت جذور نفسه بنار المحبة الإلهية.

إن العلاقة التي كانت بين سيدنا إبراهيم الخليل وربه قادته إلى التضحية بأعز ما لديه.. وبنفس العزيمة والاستسلام التام، يحثنا التعليم الكامل الذي جاء به المصطفى لتقديم التضحية روحانيا وماديا. وبما أن الله تعالى لا يتغير في ذاته ولا في صفاته، وبالرغم من البعد الزمني بيننا وبين العهد الإبراهيمي ومن بعده حفيده خير خلق الله ، فإن الحكمة البالغة من تدوين هذه التضحيات وذكرها إجمالا وتفصيلا يدل بالدرجة الأولى على أن الله تعالى يؤكد علينا أن تكون بيننا وبينه نفس العلاقة التي كانت مع إبراهيم وحفيده في الخصال الإيمانية والاستسلام الكلي والخضوع والمحبة..

إن شوق المؤمن المحب أن تكون له مع الله خلة، ولا يهدأ له بال إلا إذا ذاب قلبه في حب الله تعالى أكثر من ذي قبل بحيث يكون مستعدا لتلبية النداء “لبيك اللّهم لبيك”. فكما أن إبراهيم لم يتردد في ذبح ابنه تنفيذا لأمر الله كذلك ينبغي على الإنسان أن يكون كله لله تعالى وألا يكترث بالتضحية بنفسه وأولاده وكل ما يملك أمام أمر الله تعالى.. لقد قُدّمت تضحيات عظيمة في زمن الرسول الذي كان أسوة حسنة كاملة في كل سُبل الهداية، والمظهر الجلالي للذبح العظيم إذ كان المؤمنون به يقدمون شتى التضحيات المادية والمعنوية لدرجة أنهم رضوا بأن يُقطعوا إربًا إربًا في سبيل الله تعالى بصورة لم يشهد لها تاريخ الديانات مثيلا.. ويا حسرتاه على تبخر روح الأضحى عبر العصور فقد نسي كثير من الناس رسالته واكتفوا بذبح كبش كشعار للكبش الذي أنزل من السماء، حسب اعتقادهم.

الأضحى … ليس حدثا عابرا بل غاية بعثة المصطفى الذي يجسد التعبير العملي للتضحية والذي نحر ناقة نفسه وتلّها للجبين لِيَهَبَ الحياة للعالمين فطوبى لكل من أدرك حقيقة هذا الذبح العظيم وسلك سبيله وتأسّى به إلى يوم الدين …

وقد تصدّى المسيح الموعود لهذا الفهم التقليدي البعيد كل البعد عن حقيقة الأضحية الإبراهيمية ومقاصدها وروح التضحية في حد ذاتها وفلسفتها مُذكّراً الحرفيين أَنَّ عليهم أن تضطرب أرواحهم وتذوب وتُذبح روحيا كي يتولد فيها الاستسلام، وأن الفوائد التي تجلبها روح التضحية الحقّة هذه تكون شبيهة للفوائد الظاهرية التي يستفيد منها الناس عقب ذبح قرابينهم المادية حيث تحظى الروح المضحية بالسُّكون والرِّضى والاطمئنان من الحضرة الأحدية، فينبع منها كل ما هو خير. هذه هي التضحية الحقة التي ما زالت ينبوعا فياضا ومقدسا بفضل بذرة الذبح المحمدي العظيم حيث لا تزال إلى يومنا هذا تسقي بفيوضها السالكين على نهج روح النبوة لأنها روحٌ تدفع إلى الرقي وليست مجرد عاطفة أو قَصص..

إن الأمة الإسلامية في حاجة ماسة للشعور بهذه الصلة الروحية في بعث الروح ببذرة التضحية الإبراهيمية المتمثلة في شخص رسول الله لأن ما آل إليه حال الأمة من انحراف عن المقاصد الروحانية وتقهقرُ وتشويه وتحجُّر ليس مجرد مظهر، بل هو نتيجة قحط روحي لعدم إدراك حقيقة تضحية سيدنا إبراهيم وسليل دوحته الطاهرة. إن نظرة المسيح الموعود إلى الأضحى وفلسفته بما ألهمه الله تبارك وتعالى من لب معدنها الإسلامي الأصيل في الخطبة الإلهامية المباركة هو ذلك السبيل إلى تلك الروح التي ترسم لنا معالم مغالبة النفس ومجاهدتها حتى يتم نحر النفس الأمارة بالأدناس والأرجاس. فكم حري بمسلمي اليوم أن يدركوا الأضحى ومعانيه حتى يستردوا الحقيقة التي تتجلى في المنعم عليهم من حلل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليتهم كابدوا بالجهد والمشقة للوصول إلى أصالته، حتى يتحرروا من الفتور والبؤس والشقاء الذي أصابهم. ولا يكون التحرر من هذا الفتور والسبات الروحي سهلا ولا بدون ثمن، فنحن نعتقد أن لا سبيل لذلك ما لم يستسلم المرء استسلاما كليا لما يريده الله منه وأوجبه عليه الرسول بتصديق وقبول الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي قدّر الله له إحياء الدين وإقامة عمائده، فما لم تكن صفة الاستسلام الكامل مظهر هذه الأمة كالتي انصبغ بها إبراهيم في امتثاله لأمر الله فلن يصل أحدٌ إلى إدراك تلك الحالة الجديرة به، اللائقة بصفة خير أمة، وبوعد المنعم عليهم.

فتعبير الأضحى العملي هو الإيمان بالتطهر والمجاهدة والانقياد الكامل، وتاجه التقوى الذي هو غاية ومقصد الشريعة. ويظن البعض أن الأضحى ليس سوى تذكرة بقَصص زمن مضى وهذا هو الشائع  والمطبق عند الكثيرين، في حين  أن الأضحى بالنسبة إلى السالكين بالروح الإبراهيمية والإسماعيلية ليس حدثا عابرا بل غاية بعثة المصطفى الذي يجسد التعبير العملي للتضحية والذي نحر ناقة نفسه وتلّها للجبين لِيَهَبَ الحياة للعالمين فطوبى لكل من أدرك حقيقة هذا الذبح العظيم وسلك سبيله وتأسّى به إلى يوم الدين، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك