الحج ومقاصده الروحانية

الحج ومقاصده الروحانية

جمال أغزول

  • معنى الحج الحقيقي بأنه هروب إلى الله عز وجل.
  • لقد شرح المسيح الموعود عليه السلام الحج فالكعبة المشرفة هي رمزاً ماديا للمحبين وكأنما الله يقول لمحبيه: هذا بيتي.
  • معنى الإحرام لغة هو تعطيل النفس البشرية وحرمانها من كل ما شهوة.
__
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران : 97)

 فرض الله سبحانه وتعالى شعيرة الحج على المسلمين وجعلها إحدى الركائز الخمس التي أقيم عليها بنيان الإسلام، بحيث من استوفى شرائطها ولم يقم بحقها يكون قد هدم ركنا هاما من أركان الإسلام. والذي يتأمل في الشعائر الإسلامية التي شرعها الباري تعالى لعباده يجد أن للبدن فيها نصيب كما أنّ للروح فيها حظا، ولعل الجانب الروحي فيها أعظم لما له من أهمية قد تخفى على كثير من السَّطْحيين الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه ولا تحقق عباداتهم المقتصرة على الجوارح والحركات أدنى مقصد للسمو الروحي لأن العبادة التي يغفل القلب عن استحضار روحها هي صور ميتة لخلوها من ثمرة التقوى. قال تعالى:

  ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج : 32)

والحج وإن كان ظاهره الانتقال الجسدي من الوطن إلى مكة المكرمة وفق دعوة إبراهيم :

  وأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج : 27).

 فهو سَفَر إلى الله وفرار إليه، فرار من الدنيا إلى الملكوت الأسمى الأعلى حيث البيت الحرام الذي جعله الله مثابة وأمنا ومهبط تجليات الأنوار والبركات لتعظيم شعائره التي تحقق جملة من المقاصد العقدية والتربوية والروحية. وتخصيص الله تعالى هذه الشعيرة بزمان ومكان محدد فيه من المعاني والمقاصد والحكم العظيمة التي لا يرقى إليها أي حج آخر في الأديان والملل الأخرى.. فكل الحجاج يطوفون حول مكان واحد، ويلبسون لباسا غير مخيط، ويسعون بين مكانين، ويبيتون في المزدلفة، ويقفون بالمشعر الحرام، ويرمون الجمرات، ويتمتعون بالتحلل من الإحرام، ثم يذبحون الهدي.. ولا شك أن مفردات شعائر الحج لها من الرمزية والرسالة السامية التي ترتبط بسيدنا إبراهيم وزوجه وإسماعيل عليهما السلام، وليست مجرد طقوس شكلية حرفية لا وجه اعتبار فيها..

فالطواف حول الكعبة يحقق مقصد الانقطاع عن الدنيا والتعلق بالله وتوحيده وتفريده ومحبته، وفيه من معاني الوصال به والسجود على عتبته سبحانه في كل آن وحين، وإدراك أن غاية الوجود البشري تحقيق تلك العبودية التي مدارها المحبة والعشق وهذا ما يستحضره الطائف حول الكعبة بعاطفة جياشة عملا بأمر الله تعالى:

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج : 29)

يقول المسيح الموعود بهذا الصدد: كذلك جُعلت الكعبة المشرفة رمزا ماديا للمحبين الصادقين، وكأن الله تعالى يقول لهم: انظروا، هذا البيت بيتي، وهذا الحجر الأسود حجر عتبتي. ولقد أراد الله تعالى بذلك أن يتمكن الإنسان من التعبير عن مشاعر حبّه الجياشة تعبيرا ماديا، فالحُجاج يطوفون بهذا البيت طوافاً جسمانيا، بهيئة تشبه هيئة من أصابهم الجنون من فرط اشتياقهم ومحبتهم لله تعالى، فيتركون الزينة، ويحلقون الرؤوس، ويطوفون ببيت الله في هيئة المجذوبين الوالهين، ويقبلون هذا الحجر متمثلين أنه عتبة بيت الله تعالى. هذا الولَه الجسماني يولّد حباً ولوعة روحانية. فالجسم يطوف بالبيت ويقبّل حجر العتبة، بينما تطوف الروح حول الحبيب الحقيقي، وتطبع القُبُلات على عتبته. وليس في ذلك أي أثر للشرك بالله تعالى. إذ أن الصديق يُقبّلُ رسالة صديقه الحميم عندما يتسلمها. فالمسلم لا يعبد الكعبة المشرفة، ولا يستغيث بالحجر الأسود، وإنما يتخذه رمزا ماديا أقامه الله تعالى…(ينبوع المعرفة ،الخزائن الروحانية مجلد23 ص99-101)

والإحرام  مشتق من فعله: فهو تعطيل للجـوارح من اللبـاس، والطيب، والنساء، وكذلك في الصلاة يحرمُ لها أي يعطّلُ جوارحه عن كل شهوة (أسرار الحج للحكيم الترمذي ص 34). الذي يرتديه الحجيج والذي يشبه الكفن، فيه من دلالة البساطة والتجرد من التكلف، كما أنه تذكير بالمصير المحتّم على كل نفس منفوسة وهو الموت الذي يجب الاستعداد له بإعداد زاد التقوى قبل الرحيل ومغادرة هذا العالم..وفيه أيضا من الرسالة الاعتبارية الأخرى كالولادة الروحية الجديدة للذي رجع من حجه بتقوى وبرّ كيوم ولدته أمه..باعتباره مناسبة لتطهير النفس الأمّارة ومنعها بسعي ومجاهدة من الرفث والفسوق لتحصيل التقوى كما قال تعالى:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (البقرة : 197)

ولهذا مثّل النبي من حقّق في حجّه هذا المقصود:

من حجّ البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.  (أخرجه البخاري) ، كما عدّ النبي الحج أفضل الجهاد:

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ “عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لاَ لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ”  (أخرجه البخاري)
ومن عجائب ألطاف الله أننا نجد الأماكن الموجودة بتلك الديار المقدسة المرتبطة بشعائر الله قد اصطلح عليها بأسماء مشتقة من فعلها مثل ” مِنًى” المشتق من الأمنية أي ذلك المقصد الذي تتمناه النفس وتتشوق إليه، ولا غرو أن ذروة أماني الحاج السالك الذي يزور هذا المكان هو لقاء الله والتجرد من الأوزار والذنوب. أما “عرفات” فهو اشتقاق من المعرفة أي أننا قد عرفنا الله تعالى وظفرنا بمعرفته لينجز لنا وعده ويغفر لنا ما سلف.و”مُزدلفة” فهي مشتقة من الزُّلفى ومعنى القُرب، وفيه إشارة لقرب تحقيق الغاية المنشودة، أما “المشعر الحرام” فيُلهم الحاج بعواطف جياشة نحو سيدنا إبراهيم ويذكّر بأهمية الإكثار من الدعاء لشعور القلب بربه تعالى. كما أن “رمي الجمرات” فيه إبداء براءة من الشيطان، وتذكيرٌ بوجوب التخلّص من تأثيراته وتحصين النفس منه، ومن معاني التجمير: الحبس وفيه سُمي المجمر (مجمراً) لأنه يحبس النار عن أن تُحرق الثوب فإذا فعل ذلك فقد أدى ما وجب عليه وما دُعي له (أسرار الحج للترمذي الحكيم-جمرة العقبة ص34). ثم في “نحر الهدي” إشارة إلى التضحية وتزكية النّفس ونحر أرجاسها وسفك دماء أرجاسها وأهوائها، والخضوع والاستعداد للتضحية في سبيل الله والاستسلام لإرادته .وهناك فائدة أخرى وهي أن الكعبة المشرفة أم القرى مدار طواف الحجيج، لها عمق في التاريخ والقِدم ما يجعلها مثابة للبشرية جمعاء، فكانت عتبة تمدنه وتحضّره. ومحط أنظاره. وهذا قبل أن يرفع إبراهيم قواعدها تجديدا وهو بمعية ابنه إسماعيل بآلاف السنين. كما  تحدثت الأسفار القديمة عن عظمتها وقداستها، والنكتة الأخرى في هذا الإطار أن الطواف حولها لم ينقطع رغم أزمنة الانحراف عن التوحيد وابتداع الشرك والوثنية، إذ ظلّت الكعبة محافظة على قدسيتها ومكانتها عبر كل العصور قبل الإسلام ونظر إليها العرب قبل البعثة نظرة تقدير وتقديس من أن لهذا البيت ربا يحميه، وأنّ له وصلاً بإبراهيم ، ومن المأثور في كتب السير أن أبرهة لما أرسل رسوله مبشرا قريشا بعزمه على هدم البيت قال له عبد المطلب:”والله ما نريد حربَهُ، وما لنا بذلك من طاقةٍ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنَعْهُ منهُ فهو بيتُه وحَرَمُه. وإن يُخَلِّ بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفعٌ عنه.. وإن للبيت ربّاً سيمنعُه” (سيرة ابن هشام). وعند انبلاج فجر الإسلام أعاد لها سليل الدوحة الإبراهيمية محمد اعتبارها بتطهيرها من رموز الوثنية المبتدعة لتحقق مقاصدها التوحيدية فأشرقت بنور ربها وتألقت بوهج نور التوحيد الخالص.

وهناك فائدة أخرى وهي أن الكعبة المشرفة أم القرى مدار طواف الحجيج، لها عمق في التاريخ والقِدم ما يجعلها مثابة للبشرية جمعاء، فكانت عتبة تمدن الإنسان وتحضّره. ومحط أنظاره، وهذا قبل أن يرفع إبراهيم قواعدها تجديدا وهو بمعية ابنه إسماعيل بآلاف السنين.

ويُستفاد كذلك من نداء الناس إلى الحج وتوجههم في هذا الموسم المحدد، ضرورة اجتماع المسلمين على كلمة واحدة وقيادة روحية واحدة على رجل منهم، هو خليفة الله في الأرض، إذ لا بد للأمة الواحدة أن تكون جماعة واحدة ليتحقق الهدف المنشود في بناء صرح الإسلام وإقامة عمائده وإعلاء كلمته وتحقيق سيادته المجيدة ، وهذا لا يتأتى إلا وكل المسلمين تحت جناح خليفة المسيح الموعود والامام المهدي الذي يزكيهم ويبين لهم شعائرهم ويوطد عظمة المصطفى في أفئدتهم ..

إن الحج عبادة عظيمة له من المقاصد الجليلة ما يصعب حصرها، وهو ذكرى لتلك التضحية العظيمة التي قدّمها سيدنا إبراهيم بترك إسماعيل وأمه هاجر عند بيت الله الحرام في واد غير ذي زرع وهما في حالة افتقار إلى الأسباب. .. والحاج إنما يستحضر كل هذه المشاهد أمامه بألم وحرقة قلبية مدركا حقيقة كيف أن الله تعالى ينجي من الهلاك من يخلص في عزمه للتضحية ويعزّه ويمجد ذكره كما مجّد تلك البذرة الإبراهيمية الطاهرة التي تفتّقت منها دوحة الرسول الأعظم محمد المصطفى الفيحاء بشذى التضحيات الجسام في سبيله تعالى.

لقد حذّر المسيح الموعود من خطورة الحج الظاهري المجرّد عن مقاصده وأكّد أن ليس المقصود أن يردّد الإنسان بلسانه ما يردّد الناس ثم يرجع ويفتخر بأنه الحاج. وبيّن حضرته أن هذه الشعيرة هي من آخر مراحل العبادة والسلوك التي تقتضي أن يكون الإنسان منقطعا عن نفسه، ويعشق ربّه، ويغرق في حبّه، ويكون طوافه ببيت الله الحرام رمزا لهذه التضحية وهذا الفداء، وأن لا ينسى الحاج أنه كما يوجد بيت لله تعالى على الأرض فكذلك يوجد بيت لله في  سماء  عليائه وعظمته، إذْ ما لم يطُف به الإنسان لا يصحُّ طوافه. (خطبات الاجتماع السنوي سنة 1906)

نسأل الله أن يُدرك الحجيج فهم وإدراك مقاصد الحج حتى تتجلّى لهم عظمة الله وجلاله، فمن أحاط بهذه الفـوائد وحقّقها في حجّه بلـغ المقصـود .وصلى الله على سـيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعيـن .

Share via
تابعونا على الفايس بوك