لن أترك الصدق في أي حال، و ليحدث ما يحدث قراءة في موافق صدق المسيح الموعود عليه السلام

لن أترك الصدق في أي حال، و ليحدث ما يحدث قراءة في موافق صدق المسيح الموعود عليه السلام

جمال أغزول

  • خُلق الصدق من أعظم الأخلاق الذي يتحلى به أنبياء الله تعالى ويثبت مصداقيتهم.
  • الصدق يعكس الإيمان فالكذب يعكس النفاق والكفر.
  • تقترن صدق الرؤيا بصدق الحديث.
  • اثبتوا على الحق واجعلوا شهادتكم لله وحده ولو ضر صدقكم أقرب الناس لكم.
  • الكذب أصل للشر وأعظمه الكذب على الله.
  • طوبى للصادقين الذي يسلكون مسالك الأنبياء ويبشرهم الله وملاتكته بالفضل وحسن العاقبة.

__

خُلُق الصدق من الأخلاق العظيمة التي حث عليها الإسلام وهو على رأس الصفات الأخلاقية اللازمة للأنبياء التي تتبث صدق طويتهم ودعواهم .. وهو تاج أدب السلوك والكمالات الروحانية.. وهو على عظيم قدره مدار النُّصرة والتجليات الإلهية التي تهُبّ نسماتها على وجوه وسوانح أصفياء الله وأوليائه وأنبيائه.. فالصدق في اللغة كما ذكر ابن منظور: هو نقيض الكذب، يقال: صَدَقَهُ الحديث: أنبأه بالصّدق، وصَدَقْتُ القوم: قلت لهم صدقا، ورجل صَدُوق أبلغ من الصّادق، والصّدّيق الدّائم التّصديق، ويكون أيضا الّذي يصدّق قوله بالعمل، والصّدّيق المبالغ في الصّدق. (1)

وتعلق الصادقين بالله تعالى واليقين بوجوده هو ارتباط وثيق لا ينفكّ. إنها علاقة ناشئة عن الصفاء والنقاء كانعكاس أشعة الشمس الوهاجة في المرآة الصافية الوضّاءة… وهذا الارتباط بين الظاهر والباطن ثابت من هدي النبي حيث ورد في الحديث اقتران صدق القول بصدق الرؤيا في قوله: (…أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) (2)

فلا يؤمن عبد الإيمان كله حتى يترك الكذب ويتخلى عنه ويتحلى بالصدق؛ فقد سُئل رسول الله ذات يوم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فـقال نعم، فقيل له أيكون المؤمـن كذّابا؟ قال: لا (3)

فإذا كان الصدق يعكس الايمان فإن الكذب يضاده إلى ما ينافيه ويقتلعه. وإذا كان كثير من الناس عند الخصومة في طلب غاياتهم يلجأون إلى اللّدد والكذب على قصد دفع الايذاء والانتصار ولو استعانوا بالكذب نصرة لحجتهم وقهرا لخصمهم فلا يقوون على ضبط لسانهم بالصدق عند الخصومة والنـزاع؛ فينصرون كلامهم بالتزوير والتبديل والتعريض والجحود والإنكار وشهادة الزور عكوفا على وثن الكذب ظنا منهم أنّ فيه نجاتهم وفلاحهم. فالأبرار السالكون على درب عبودية الله يستمسكون بالصدق ويجعلونه نبراسا لهم وإن أضرّ صدقهم بأنفسهم أو بأقاربهم لدى إدلائهم بالشهادة، فلا يبرحون الصدق، يقول النبي :

“تحرَّوا الصّدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن فيه الهلكة” (4)

ويقول :

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (النساء:136).

وقد فسّر المسيح الموعود هذه الآية: ..

“أي عليكم أن تثبتوا على الحق والإنصاف، وأن تكون كل شهادة منكم لله فقط. لا تكذبوا وإن أضرّ قولُ الصدق بكم أو بآبائكم أو بأقاربكم كالابن وغيره.” (5)

ويقول أيضا:

وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا (البقرة: 283) وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا (المائدة: 9) وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (الأنعام: 153)

وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ (البقرة: 284)

ولعل أبلغ موقف يتبدى فيه المتخلق بهذا الخلق على سبيل الحقيقة هو عند تعرضه للتجربة والامتحان في أوقات الشدّة والضيق، بحيث يكون قول الصدق يهدد حياته ومصالحه أو قرابته بالخسارة المادية أو المعنوية، فيؤثره بإرادته بوازع الايمان وخشية الله مهما كانت العواقب المترتبة عليه، ومهما أضرَّ الصدق به ظاهرا.. فإن الذي يظهر صادقاً في وقت الابتلاء ولا يترك الصدق، فيثبت صدقه بالتجربة فيسمى صدّيقا على صفة الصديقين…

نعم قد يصدق بعض الناس في بعض المواقف التي لا يخشون فيها زوال مصلحة أو خسارة مالية أو معنوية أو يصدقون القول نكاية بخصومهم.. ولكن هذا لا يجعلهم من الصادقين بهذا المعنى الذي نقصده ما لم يكن الصدق سجيّتهم في كل المواقف الصعبة التي تحيط بها المخاطر والخسائر..!

وفي هذا العصر الذي بَعُد فيه الناس عن تعاليم الإسلام وفضيلة الصدق واستشرت فيه الأنانية وشهادة الزور والبهتان والانتصار بالكذب – في عالم السياسة والاقتصاد والقضاء والصحافة والمجتمع.. الخ – وارتفع فيه الايمان إلى الثريا، فقد أعاد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود فضيلة الصدق من العلياء إلى الغبراء، وتجلت أنواره في القول والعمل كما تجلت في سوانحه هذه الفضيلة في أقوى تجلياتها عند محك التجربة والاختبار العملي من خلال التحديات والقضايا التي رفعت ضده في المحاكم، إذ كانت سببا في تجلي إشراقات صدقه، وهي دروس وعبر لمن أراد أن يتخذ الصدق شرعة ومنهاجا ويحيط بسرّ نوال المعية والنصرة الالهية والنجاة من كل بلاء…كما أن هذا الاختبار العملي لأخلاق المسيح الموعود شاهد قوي على صدق دعواه وبرهان عظيم لكل متفرس باحث عن صدقه ، يُغْني الأحمدي في تبليغه عن لَجَجِ النقاشات والسّجالات الكلامية مع المخالفين، كما يطمئن قلوب المستبصرين الحائرين….فكيف لا وقد أغنى هذا البرهان ذاته هرقل عظيم الروم في تحرّيه عن سوانح الرسول الأعظم محمد المصطفى حتى شهد له اعترافا كما جاء في الأثر الخالد: فقد عرف أنه لم يَكُن ليذَرَ الكذب على النّاس ويكذب على الله! (6)

يقول ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح:

“ودلائل صدق النبي الصادق، وكذب المتنبي الكذاب كثيرة جدا، فإن من ادعى النبوة وكان صادقا، فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين…. فالكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله ، والصدق أصل للخير، وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى.» (7)

فهل كان سيدنا أحمد كاذبا على الله كما يزعم الظالمون ليصدُق مع الناس؟! تعالوا نستقرئ معا بعضا من أمثلة شواهد تمسك المسيح الموعود بشهادة الصدق في محك التجربة والاختبار العملي:

المثال الأول : ” لن أترك الصدق في أي حال، وليحدث ما يحدث!”

قضية رليا رام والطرد البريدي:يروي سيدنا أحمد : ومن تلك النماذج أن هذا العبد المتواضع أرسل للنشر قبل خمس عشرة سنة تقريباً أو أكثر بقليل مقالاً- نصرة للإسلام ضد الآريه – في طرد مفتوح طرفاه إلى مطبعة مسيحيٍ يُدعى رليا رام وكان محامياً يسكنً في أمرتسر وكان يصدر جريدة أيضاً، ووضعت في هذا الطرد رسالة أيضاً، محتواها كان يومئ إلى تأييد الإسلام وإبطال الأديان الأخرى وتأكيد على نشر الموضوع؛ فاستشاط ذلك المسيحي غضباً بسبب المخالفة، وانتهز الفرصة للهجوم العدائي لوضعي رسالةً مستقلةً في الطرد كون ذلك مخالفةً قانونية، وهذا العبد المتواضع لم يكن يعرف بذلك مطلقاً؛ وعقوبة هذه المخالفة حسب قوانين البريد خمسمائة روبية أو سجن ستة أشهر. فأخبر مسئولي البريد وجعلهم يرفعون الدعوى عليّ، فأراني الله في رؤيا قبل أن أعلم بأمر هذه الدعوى أن رليا رام المحامي أرسل حية إليّ لتلدغني، فقليتها مثل السمكة وأعدتها إليه، وأعلم أن هذه كانت إشارة إلى أن هذه القضية كما تم الحكم فيها هي عبرة للمحامين. طُلبتُ إلى مركز غورداسبور بناء على هذه المخالفة، وكل واحد من المحامين المستشارين أشار بأن لا خلاص دون الكذب، وطلبوا أن أقول إني لم أضع الرسالة في الطرد بل وضعها رليا رام بنفسه، وطمأنوني أن الحكم سيصدر لصالحك بمثل هذا البيان وسنقدم شاهدي زور أيضاً فتخرج بريئاً، وإلا فالقضية صعبة جداً ولا يمكن الخلاص بطريق آخر، ولكني قلت لهم جميعاً: إني لـن أتـرك الصـدق في أي حال، وليـحدث ما يحـدث. فحضرت في اليوم نفسه أو بعد يوم أمام قاضٍ إنجليزي وحضر مسئول المكاتب البريدية كمدعٍ حكومي ضدي، وكتب حاكم العدل اعترافي بيده وسألني قبل كل شيء: هل وضعت هذه الرسالة في طردك، وهل هذه الرسالة والطرد مِلكُك؟ فقلت على الفور، نعم هذه رسالتي وهذا طردي وقد أرسلت هذه الرسالة واضعاً إياها في الطرد، ولكن لم أقم بهذا العمل بنية سيئة لكي أخسّر الدولة ضريبتها، بل لم أعتبر هذه الرسالة مفصولة عن الموضوع، كما أنه لا يوجد فيها أمر شخصي. فأَمَال الله قلب هذا الإنجليزي إليّ بعد سماع ذلك، وصرخ مسئول مكاتب البريد ضدي كثيراً وأطال بكلام في الإنجليزية لم أفهمه، وفهمت فقط أن الحاكم كان يرد عليه بعد كلامه بالإنجليزية بـ”No No»؛ ولما قدم المسئول كل أدلته وأفرغ كل غضبه، توجه الحاكم إلى كتابة الحكم، وبعد أن كتب سطراً أو سطراً ونصفه قال لي: حسناً، أسمح لك بالذهاب، فخرجت من الغرفة وشكرت محسني الحقيقي الذي غلّبني على المسئول الإنجليزي، وأعلم يقيناً أن الله خلّصني من هذه البلية حينئذ ببركة الصدق (8)

فجاءني حينئذ محامي سلطان أحمد وسألني: ماذا ستقول في المحكمة؟ فقلت: سأقول الواقع والحق، فقال لي: فما الحاجة لذهابك إلى المحكمة، سأذهب وأتنازل عن الدعوى، فخرّبت هذه الدعوى بيدي بسبب الصدق، ورجحت الصدق ابتغاء لمرضاة الله ولم أكترث لخسارة مالية.

المثـال الثـاني: “سـأقول الـواقع والحق!”

* قضية دعوى سلطان أحمد ضد هندوسي

كتب عن هذه القضية قائلا: ومن تلك النماذج أن ابني سلطان أحمد رفع دعوى على هندوسي أنه بنى بيته في أرضنا، وكانت الدعوى لهدم البيت، وكان في هذه الدعوى مخالفة إجرائية، وتسقط الدعوى بثبوته، وكان على سلطان أحمد بل عليّ أيضاً أن أتحمل خسارة تلف هذا المُمتَلك في حالة سقوط الدعوى، وكتب الفريق المخالف شهادتي وذهبت إلى بطالة ونزلت في بيت بابو فتح الدين مسؤول البريد الواقع قرب بطالة، وكان القاضي في هذه الدعوى هندوسيا، لا أذكر الآن اسمه، ولكنه كان أعرج، فجاءني حينئذ محامي سلطان أحمد وسألني: ماذا ستقول في المحكمة؟ فقلت: سأقول الواقع والحق، فقال لي: فما الحاجة لذهابك إلى المحكمة، سأذهب وأتنازل عن الدعوى، فخرّبت هذه الدعوى بيدي بسبب الصدق، ورجحت الصدق ابتغاء مرضاة الله ولم أكترث لخسارة مالية. …. (9)

أخي القارئ كم هي عظيمة هذه المواقف المشرقة بنور صدق سيدنا أحمد ؛ المعطّرة بعبق مرضاة الله وإيثاره على كل شيء، فهلاَّ تمسكنا بالصدق وجعلناه ركيزة أساسية للايمان لمجابهة زمن الكذب والزور الذي أنبأ عنه النَّبِيِّ عن عصرنا حيث قال:

“خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ “(10)،

(أي أنهم يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا يَعْنِي شَهَادَةَ الزُّورِ !).

فطوبى للصادقين الذين يسلكون على خطى الخادم الصادق لإمام الصادقين محمد وبشرى لهم من الله وملائكته بالفضل وحُسن العاقبة. يقول حضرته :

“افرحوا وابتهِجوا لأن الله معكم. إنْ تمسكتم بالصدق والإيمان فستعلِّمكم الملائكةُ، وستنزل عليكم السكينةُ من السماء، وستُنصَرون بروح القدس، وسيكون الله معكم عند كل خطوة، ولن يتغلب عليكم أحد أبدا.” (11)

“وقوموا لله بشهادة صادقة في المرافعات. على كل من ينتمي إلى هذه الجماعة أن يتمسك بالصدق بكل قلبه وكل قوته”. (12)

المصـادر

(1) لسان العرب لابن منظور ج 10/ 192
(2) صحيح مسلم، كتاب الرؤيا(3) موطأ الإمام مالك

(4) ابن أبي الدينا، مكارم الأخلاق

(5) فلسفة تعاليم الإسلام، للمسيح الموعود

(6) صحيح البخاري- كتاب بدء الوحي.

(7) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية الحرّاني ص 127

(8) مرآة كمالات الإسلام

(9) المرجع السابق

(10) جامع الترمذي، كتاب الشهادات.

(11) (تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية مجلد 20 ص 68)

(12) (الملفوظات الإصدار الجديد مجلد 3 ص620 – 621)

Share via
تابعونا على الفايس بوك