من تفسير سورة الفاتحة للمسيح الموعود
في تفسير
اعلمْ أن حقيقة العبادة التي يقبَلها المولى بامتنانه، هي التذلل التام برؤية عظمته وعلوّ شأنه، والثناءُ عليه بمشاهدة مِننه وأنواع إحسانه، وإيثارُه على كل شيء بمحبّة حضرته وتصوُّر محامده وجماله ولمعانه، وتطهيرُ الجنان من وساوس الجِنّة نظرًا إلى جِنانه. ومن أفضل العبادات أن يكون الإنسان محافِظًا على الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها، وأن يَجْهَدَ للحضور والذوق والشوق وتحصيل بركاتها، مواظبًا على أداء مفروضاتها ومسنوناتها. فإن الصلاة مركَبٌ يوصل العبد إلى رب العباد، فيصل بها إلى مقام لا يصل إليه على صهوات الجِياد، وصيدُها لا يُصاد بالسهام، وسرُّها لا يظهر بالأقلام. ومن التزمَ هذه الطريقة، فقد بلغ الحق والحقيقة، وأَلْفَى الحِبَّ الذي هو في حُجب الغيب، ونجا من الشك والريب، فترى أيامَه غُرَرًا، وكلامَه دُرَرًا، ووجهَه بدرًا، ومقامَه صدرًا. ومَن ذلَّ للهِ في صلواته أذلّ الله له الملوكَ، ويجعل مالِكًا هذا المملوكَ.
ثم اعلم أنّ الله حمِد ذاتَه أوّلاً في قوله: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ ، ثم حثّ الناس على العبادة بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ففي هذه إشارة إلى أن العابد في الحقيقة هو الذي يحمَده حقَّ المـَحْمدة. فحاصل هذا الدعاء والمسألة أن يجعل اللهُ أحمدَ كلَّ مَن تصدّى للعبادة، وعلى هذا كان من الواجبات أن يكون أحمدُ في آخر هذه الأُمّة على قدم أحمدَ الأول الذي هو سيد الكائنات، ليفهم أن الدعاء استُجيبَ مِن حضرة مستجيبِ الدعوات، وليكون ظهوره للاستجابة كالعلامات. فهذا هو المسيح الذي كان وعدُ ظهوره في آخر الزمان مكتوبًا في الفاتحة وفي القرآن.
ثم في هذه الآية إشارة إلى أن العبد لا يمكنه الإتيان بالعبودية، إلا بتوفيق من الحضرة الأحدية.
ومِن فروع العبادة أن تحبّ من يعاديك، كما تحب نفسك وبنيك، وأن تكون مُقِيلاً للعثرات، متجاوزًا عن الهفوات، وتعيش تقيًّا نقيًّا سليمَ القلب طيّبَ الذات، ووفيًّا صفيًّا منـزَّهًا عن ذمائم العادات، وأن تكون وجودًا نافعًا لخَلْقِ الله بخاصية الفطرة كبعض النباتات، مِن غير التكلفات والتصنّعات، وأن لا تؤذي أُخَيَّك بكبرٍ منك ولا تجرحه بكلمة من الكلمات، بل عليك أن تجيب الأخَ المغضَب بتواضعٍ ولا تحقِّره في المخاطبات، وتموت قبل أن تموت، وتحسب نفسك من الأموات، وتعظِّم كلَّ من جاءك ولو جاءك في الأطمار لا في الحُلل والكسوات، وتسلِّم على من تعرفه وعلى من لا تعرفه، وتقوم متصدّيًا للمواساة.
اعلمْ أن هذه الآيات خزينة مملوّة من النكات، وحجّة باهرة على المخالفين والمخالفات، وسنذكرها بالتصريحات، ونُرِيك ما أرانا الله من الدلائل والبينات، فاسمعْ مني تفسيرها لعلّ الله ينجيك من الخزعبيلات.
أما قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فمعناه أَرِنا النهجَ القويم، وثَبِّتْنا على طريق يوصل إلى حضرتك، وينجي من عقوبتك.
ثم اعلم أن لتحصيل الهداية طرقًا عند الصوفية مستخرَجةً من الكتاب والسنّة، أحدها طلبُ المعرفة بالدليل والحجة، والثاني تصفيةُ الباطن بأنواع الرياضة، والثالث الانقطاعُ إلى الله وصفاءُ المحبة، وطلبُ المدد من الحضرة، بالموافقة التامة وبنفيِ التفرقة، وبالتوبة إلى الله والابتهال والدعاء وعقدِ الهمة.
ثم لما كان طريقُ طلب الهداية والتصفية لا يكفي للوصول مِن غير توسُّل الأئمّة والمهديّين من الأُمّة، ما رضِي الله سبحانه على هذا القدر من تعليم الدعاء، بل حثَّ بقوله: صِراطَ الَّذِينَ على تحسُّس المرشدين والهادين من أهل الاجتهاد والاصطفاء من المرسلين والأنبياء. فإنهم قوم آثروا دار الحق على دار الزور والغرور، وجُذبوا بحبال المحبّة إلى الله بحرِ النور، وأُخرجوا بوحيٍ من الله وجذبٍ منه مِن أرض الباطل، وكانوا قبل النبوّة كالجميلة العاطل. لا ينطقون إلا بإنطاق المولى، ولا يؤْثرون إلا الذي هو عنده الأَولى. يسعون كلَّ السعي ليجعلوا الناس أهلاً للشريعة الربّانية، ويقومون على ولدها كالحانية. ويُعطَى لهم بيان يُسمِع الصُمَّ ويُنـزِل العُصْمَ، وجنانٌ يجذِب بعَقْدِ الهمّة الأُممَ. إذا تكلّموا فلا يرمون إلا صائبا، وإذا توجّهوا فيُحيون مَيْتًا خائبا. يسعون أن ينقلوا الناس من الخطيّات إلى الحسنات، ومن المنهيّات إلى الصالحات، ومن الجهلات إلى الرزانة والحَصاة، ومن الفسق والمعصية إلى العفّة والتقاة. ومَن أنكرَهم فقد ضيَّع نعمة عُرِضتْ عليه، وبعُد مِن عين الخير وعن نورِ عينَيْه. وإن هذا القطع أكبر من قطع الرحم والعشيرة، وإنهم ثمرات الجنة فويل للذي تركهم ومالَ إلى المـِيرة. وإنهم نور الله ويُعطَى بهم نورٌ للقلوب، وترياقٌ لسُمِّ الذنوب، وسكينةٌ عند الاحتضار والغرغرة، وثباتٌ عند الرحلة وتركِ الدنيا الدنيّة. أتظنُّ أن يكون الغير كمثل هذه الفئة الكريمة؟ كلا والذي أخرجَ العَذْقَ من الجريمة. ولذلك علّم اللهُ هذا الدعاء مِن غاية الرحمة، وأمَر المسلمين أن يطلبوا صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ مِن النبيّين والمرسلين من الحضرة. وقد ظهر من هذه الآية، على كل مَن له حظٌّ من الدِراية، أن هذه الأمّة قد بُعثتْ على قدم الأنبياء، وإنْ مِن نبي إلا له مثيل في هؤلاء. ولولا هذه المضاهاة والسواء، لبطُل طلبُ كمال السابقين وبطُل الدعاء. فالله الذي أمَرنا أجمعين، أن نقول اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مصلّين ومُمسِين ومصبحين، وأن نطلب صراط الذين أنعمَ عليهم من النبيين والمرسلين، أشار إلى أنه قد قدّر من الابتداء، أن يبعث في هذه الأمّة بعضَ الصلحاء على قدم الأنبياء، وأن يستخلفهم كما استخلفَ الذين مِن قبلُ مِن بني إسرائيل. وإنّ هذا لهو الحق فاترُك الجدل الفضول والأقاويل. وكان غرض الله أن يجمع في هذه الأمّة كمالاتٍ متفرقة، وأخلاقًا متبددة، فاقتضتْ سنّتُه القديمة أن يعلّم هذا الدعاءَ، ثم يفعل ما شاء. وقد سُمّي هذه الأمّة خيرَ الأمم في القرآن، ولا يحصل خيرٌ إلا بزيادة العمل والإيمان والعلم والعرفان، وابتغاءِ مرضاة الله الرحمن. وكذلك وعَد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ليستخلفنّهم في الأرض بالفضل والعنايات، كما استخلف الذين من قبلهم من أهل الصلاح والتقاة. فثبت من القرآن أن الخلفاء من المسلمين إلى يوم القيامة، وأنه لن يأتي أحد من السماء، بل يُبعَثون من هذه الأمة.
وما لك لا تؤمن ببيان الفرقان؟ أتَرَكْتَ كتاب الله أم ما بقِي فيك ذرة من العرفان؟ وقد قال الله مِنْكُمْ ، وما قال “مِن بني إسرائيل”، وكفاك هذا إن كنت تبغي الحق وتطلب الدليل. أيها المسكين اقرأ القرآن ولا تمشِ كالمغرور، ولا تبعُدْ مِن نور الحق لئلا يشكو منك إلى الحضرة سورةُ الفاتحة وسورةُ النور. اتّق الله، ثم اتّق الله، ولا تكنْ أوّلَ كافر بآيات النور والفاتحة، لكيلا يقوم عليك شاهدان في الحضرة. وأنت تقرأ قوله وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وتقرأ قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ، ففكّرْ في قوله مِنْكُمْ في سورة النور واترُك الظالمين وظنَّهم. ألم يأنِ لك أن تعلم عند قراءة هذه الآيات، أن الله قد جعل الخلفاء كلهم من هذه الأمّة بالعنايات، فكيف يأتي المسيح الموعود من السماوات؟ أليس المسيح الموعود عندك من الخلفاء، فكيف تحسبه من بني إسرائيل ومن تلك الأنبياء؟ أتترك القرآن وفي القرآن كل الشفاء؟ أو تغلّبتْ عليك شِقْوتك، فتترك متعمدًا طريقَ الاهتداء؟ ألا ترى قوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ في هذه السورة؟ فوجب أن يكون المسيح الآتي من هذه الأمّة، لا مِن غيرهم بالضرورة. فإن لفظ كَمَا يأتي للمشابهة والمماثلة، والمشابهةُ تقتضي قليلا من المغايرة، ولا يكون شيءٌ مُشابِهَ نفسِه كما هو من البديهيات. فثبت بنصٍّ قطعيّ أن عيسى المنتظَر من هذه الأمة، وهذا يقينيٌّ ومنـزّهٌ عن الشبهات. هذا ما قال القرآن ويعلمه العالمون، فبأي حديث بعده تؤمنون؟ وقد قال القرآن إن عيسى نبي الله قد مات، ففكّرْ في قوله فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ولا تُحْيِ الأمواتَ، ولا تنصُر النصارى بالأباطيل والخزعبيلات، وفِتَنُهم ليست بقليلة فلا تزِدْها بالجهلات، وإن كنت تحبّ حياةَ نبيٍّ فآمِنْ بحياةِ نبيِّنا خيرِ الكائنات. وما لك أنك تحسب مَيْتًا مَن كان رحمةً للعالمين، وتعتقد أن ابن مريم من الأحياء بل من المـُحْيِين؟ انظُرْ إلى “النور” ثم انظر إلى “الفاتحة”، ثم ارجِع البصرَ ليرجع البصر بالدلائل القاطعة. ألستَ تقرأ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ في هذه السورة، فأَنَّى تُؤفَك بعد هذا؟ أتنسى دعاءك أو تقرأ بالغفلة؟ فإنك سألت عن ربك في هذا الدعاء والمسألة، أن لا يغادر نبيًّا من بني إسرائيل إلا ويبعث مثيلَه في هذه الأمّة. وَيْحَك، أنَسِيتَ دعاءَك بهذه السرعة، مع أنك تقرأه في الأوقات الخمسة؟ عجبتُ منك كلَّ العجب، أهذا دعاؤك، وتلك آراؤك؟ انظرْ إلى الفاتحة وانظرْ إلى سورة النور من الفرقان، وأيّ شاهد يُقبَل بعد شهادة القرآن؟ فلا تكنْ كالذي سرى إيجاسَ خوفِ الله واستشعارَه، وتَسَرْبَلَ لباسَ الوقاحة وشِعارَه. أتتركُ كتاب الله لقوم تركوا الطريق، وما كمّلوا التحقيق والتعميق، وإنّ طريقهم لا يوصل إلى المطلوب، وقد خالف التوحيدَ وسبلَ الله المحبوب. فلا تحسبْ وَعْرًا دَمِثًا وإنْ دمَّثه كثيرٌ من الخُطى، وإنْ اهتدتْ إليها أبابيل من القطا، فإنّ هُدى الله هو الهدى. وإن القرآن شهد على موت المسيح، وأدخلَه في الأموات بالبيان الصريح. ما لك ما تفكّر في قوله فَلَمَّا تَوَفَّيتَني وفي قوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وما لك لا تختار سبيل الفرقان وسَرَّك السُّبُلُ. وقد قال فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ، فما لكم لا تفكّرون. وقال لكم فيها مستقرٌّ ومتاع إلى حين، فكيف صار مستقرُّ عيسى في السماء أو عرشَ رب العالمين؟ إنْ هذا إلا كذب مبين. وقال سبحانه أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ، فكيف تحسبون عيسى من الأحياء؟ الحياء الحياء، يا عباد الرحمن. القرآن القرآن، فاتقوا الله ولا تتركوا الفرقان. إنه كتاب يُسأَل عنه إنسٌ وجانٌّ. وإنكم تقرأون الفاتحة في الصلاة، ففكِّروا فيها يا ذوي الحصاة. ألا تجدون فيها آية صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، فلا تكونوا كالذين فقدوا نورَ عينَيْهم، وذهب بما لديهم. وَيْحَكم، وهل بعد الفرقان دليل، أو بقِي إلى مفرٍّ من سبيل؟ أيقبَل عقلكم أن يبشّر ربُّنا في هذا الدعاء، بأنه يبعث الأئمّةَ مِن هذه الأمّة لمن يريد طريق الاهتداء، الذين يكونون كمثل أنبياء بني إسرائيل في الاجتباء والاصطفاء، ويأمرنا أن ندعو أن نكون كأنبياء بني إسرائيل، ولا نكون كأشقياء بني إسرائيل، ثم بعد هذا يدُعُّنا ويُلقينا في وِهاد الحرمان، ويرسل إلينا رسولا من بني إسرائيل وينسى وعده كل النسيان؟ وهل هذا إلا المكيدة التي لا ينسب إلى الله المنان؟ وإن الله قد ذكر في هذه السورة ثلاثةَ أحزاب من الذين أنعمَ عليهم واليهود والنصرانيين، ورَغَّبَنا في الحزب الأول منها ونهى عن الآخرين، بل حَثَّنا على الدعاء والتضرع والابتهال، لنكون من المنعَم عليهم لا من المغضوب عليهم وأهل الضلال.
ووالذي أنزل المطرَ من الغمام، وأخرج الثمرَ من الأكمام، لقد ظهر الحق من هذه الآية، ولا يشكّ فيه مَن أُعطيَ له ذرة من الدراية. وإن الله قد منَّ علينا بالتصريح والإظهار، وأماطَ عنا وَعْثاءَ الافتكار، فوجب على الذين يُنَضْنِضون نضنضةَ الصِلِّ، ويُحَمْلِقون حملقةَ البازي المطِلِّ، أن لا يُعرِضوا عن هذا الإنعام، ولا يكونوا كالأنعام.
وقد عَلِقَ بقلبي أن الفاتحة تأسُو جِراحَهم، وترِيش جناحَهم، وما مِن سورة في القرآن إلا هي تكذّبهم في هذا الاعتقاد، فاقرأْ مما شئتَ من كتاب الله يُريك طريق الصدق والسداد. ألا ترى أن سورة “بني إسرائيل” يمنع المسيحَ أن يرقى في السماء، وأن “آل عمران” تعِده أن الله مُتوَفِّيه وناقِلُه إلى الأموات من الأحياء. ثم إن “المائدة” تبسُط له مائدة الوفاة، فاقرأْ فَلَمَّا تَوَفَّيتَني إنْ كنت في الشبهات. ثم إن “الزُمَر” يجعله مِن زُمَرٍ لا يعودون إلى الدنيا الدنيّة، وإنْ شئتَ فاقرأْ فَيُمْسِكُ الَّتِيْ قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ . واعلم أن الرجوع حرام بعد المنيّة. وحرام على قرية أهلكهَا الله أن تُبعَث قبل يوم النشور، وأما الإحياء بطريق المعجزة فليس فيه الرجوع إلى الدنيا التي هي مقام الظلم والزور. ثم إذا ثبت موت المسيح بالنص الصريح، فأزال الله وَهْمَ نزولِه من السماء بالبيان الفصيح، وأشار في سورة النور والفاتحة، أن هذه الأمّة يرث أنبياء بني إسرائيل على الطريقة الظلّيّة، فوجب أن يأتي في آخر الزمان مسيح من هذه الأمة، كما أتى عيسى ابن مريم في آخر السلسلة الموسوية، فإن موسى ومحمـدا -عليهما صلوات الرحمن- متماثلان بنصّ الفرقان، وإن سلسلة هذه الخلافة تشابهُ سلسلةَ تلك الخلافة، كما هي مذكورة في القرآن، وفيها لا يختلف اثنان. وقد اختُتمتْ مئاتُ سلسلةِ خلفاء موسى على عيسى كمثل عِدّة أيام البدر، فكان من الواجب أن يظهَر مسيحُ هذه الأمّة في مدّة هي كمثل هذا القدر، وقد أشار إليه القرآن في قوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ، وإن القرآن ذو الوجوه كما لا يخفى على العلماء الأجلّة، فالمعنى الثاني لهذه الآية في هذا المقام، أن الله ينصر المؤمنين بظهور المسيح إلى مِئِينَ تُشابهُ عِدّتُها أيامَ البدر التامِّ، والمؤمنون أذلّةٌ في تلك الأيام. فانظرْ إلى هذه الآية كيف تشير إلى ضعف الإسلام، ثم تشير إلى كون هلاله بدرًا في أجلٍ مسمّى من الله العلام، كما هو مفهوم من لفظ البدر، فالحمد لله على هذا الإفضال والإنعام.
وحاصل ما قلنا في هذا الباب، أن الفاتحة تبشّر بكون المسيح من هذه الأمّة فضلاً من رب الأرباب. فقد بُشِّرْنا مِن الفاتحة بأئمّةٍ منّا هم كأنبياء بني إسرائيل، وما بُشِّرْنا بنـزول نبي من السماء فتَدبَّرْ هذا الدليل. وقد سمعتَ من قبل أن سورة النور قد بشّرتْنا بسلسلة خلفاء تشابهُ سلسلةَ خلفاء الكليم، وكيف تتمّ المشابهة من دون أن يظهر مسيح كمسيحِ سلسلة الكليم في آخر سلسلة النبي الكريم. وإنّا آمنّا بهذا الوعد فإنه من رب العباد، وإن الله لا يخلف الميعاد. والعجب من القوم أنهم ما نظروا إلى وعد حضرة الكبرياء، وهل يُوفى ويُنجَز إلا الوعد، فلينظروا بالتقوى والحياء. وهل في شِرعة الإنصاف، أن ينْزل المسيح من السماء ويُخلَف وعدُ مماثلةِ سلسلة الاستخلاف؟ وإنّ تشابُهَ السلسلتين قد وجب بحُكم الله الغيور، كما هو مفهوم من لفظ كَمَا في سورة النور.