عشق الرسول

عشق الرسول

عشق حضرة المسيح الموعود والمهدي المعهود

لله عز وجل ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم

يقول الله :

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (سورة العنكبوت: 70)

وكذلك يقول :

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (سورة آل عمران: 32)

ويتبيّن من هاتين الآيتين أنَّ عشق الله والحب الصادق له وعشق الرسول والحب له يؤدي دومًا إلى الاتصال بالله تعالى، حتى يجعل العبد من أحباء الله وأصفائيه. فأحد الأدلة الناصعة على صدق أحد من هذه الأمة أن يكون مفعمًا فيّاضًا بعشق الله وعشق الرسول . وفي ضوء هذا الدليل نرى صدق حضرة المسيح الموعود جليًا كوضح النهار.

إنَّ موضوع الحب لا يستدعي إيضاحًا، والشعراء في كل بلد كانوا ولا يزالون يتناولون حقائقه منذ أقدم العصور المجهولة، والأديان كلها لا تزال تعدّه أساسًا للإيمان بالله والاتصال به، لكن القرآن الحكيم قد بزَّ أحاسيس جميع الشعراء ومشاعرهم وشرح حبّ الله شرحًا كاملاً لا نجد نظيره، حيث يقول الله عز وعلا:

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (سورة التوبة: 25)

  أي أنَّ علامة الحب الكامل أن يُضحّي الإنسان لأجله كل ما يملك، فإن لم يكن مستعدًا لذلك، فلن ينفعه مجرّد التفوّه بكلمات. ولكلّ رجلٍ أن يدّعي بحبّ الله وحبّ رسوله، بل ما من مسلم يقول إنّه لا يحبّ الله ورسوله، لكن المهم هو تأثير هذا الادِّعاء في أعماله وأفكاره. إنَّ الذين يدّعون بأنَّ قلوبهم قد شُغفت بحبّ رسول الله ، ويُنشدون في مدحه قصائد حينًا ويسمعونها من غيرهم في أحيان أخرى بل بعضهم يؤلفون قصائد النحت بأنفسهم، هم الذين لا يُعيرون أدنى اهتمام لاتّباع أحكام الرسول ، إنهم يصلفون بحبّ الله تعالى، لكنهم لا يسعون للاتصال به أتفه سعي. إننا نرى أنَّ أحدًا إذا أقبل عليه رجلٌ من أعزائه هرول للقائه واستقباله تاركًا وراءه جميع أشغاله الهامة، وإذا أُتيحت له فرصة الاجتماع بأصدقائه وأحبائه، اهتزَّ سرورًا وحبورًا، وإذا ظفر بحظوة لدى الحكّام سرَّ غاية السرور، ولكن الناس، وإن ادَّعوا بحبّ الله، لا يقربون الصلاة، أو يُصلّون ولكن لا يُداومون عليها، أو يُداومون أيضًا، لكنهم ينقرون نقر الديك إذا لا يُعرف سجودهم من قعودهم، لا متخشّعين ولا متضرّعين. كذلك الصوم الذي يقول الله تعالى فيه: أنه هو جزاؤه. إنَّ الناس يتباهون بحبّ الله، لكنهم لا يتوجّهون إلى الاعتصام بعروته الوثقى، ولا يجتهدون للتقرُّب إليه. إنّهم يتظاهرون بحبّ الله لكنهم يسلبون حقوق الناس ويكذبون ويفترون ويغتابون، ويتشدَّقون بتعشُّق الله لكنهم لا يتدبّرون القرآن. هل يُعاملون كلام الله معاملة رسائل أعزّائهم وأحبائهم التي يتلقّونها؟ أيهملونها ولا يقرأونها ولا يتدبّرون فيها؟ كلا، إنَّ مجرّد الادِّعاء بالحب شيء والحب الحقيقي شيءٌ آخر يغايره. إنَّ الحب لا يخلو أبدًا من العمل والتضحية والفداء، وإنَّ مثل هذا الحب الحقيقي لا نجده في هذا العصر إلا في حضرة مؤسّس الحركة الأحمدية وأتباعه.

إنَّ تاريخ حياته يدلُّ على أنَّ حضرته منذ بلوغه مبلغ الرشد كان هائمًا في حبّ الله ورسوله، وكان حبهما يجري منه مجرى الدم في عروقه. وكان حضرته متمسكًا بالأحكام الشرعية منذ الصغر، وكان يحب العزلة والخمول.

ولما فرغ من دراسته وأصرَّ والده على أن يعمل كموظف، لكن حضرته لم يرضَ بذلك، وظلَّ يرفض رغم الإصرار المتكرّر. وآثر ذكر الله وعبادته على جميع أشغال الدنيا. كان حضرته من عائلةٍ محترمة، فلوا أراد التوظف لوجد وظيفةً ممتازة كما كان أخوه الأكبر يحتلُّ منصبًا محترمًا، لكن حضرته تعمّد الابتعاد عنه. ولم يكن ذلك عن كسلٍ أو تهاون، لأنه أثبت في حياته المقبلة أنّه لا يمكن أن نجد مثيله في الاجتهاد وتحمُّل المشقّات على وجه الأرض. وكان يقصُّ رجلٌ سيخيّ من القرى المجاورة لقاديان، وكان من معارف والده، ورغم الاختلاف الديني كانت عيناه تدمعان من خلال الحديث، حدَّث أنّه بعثني والده إليه وأوصاني بأن أُصرّ عليه وأمنّيه بأنني سأتوسل إلى بعض الحكّام لكي أجد له وظيفة حاكم القضاء. ولما ذهبت إليه وجدته منعزلاً في حجرة مستغرقًا في دراسة كتاب. ولما أخبرته بما أراد والده وأنّه يجب أن يخضع لرغبته، قال حضرته: قولوا لوالدي بكل احترام: أنني قد توظّفت عند من أحببت خدمته، فتفضّلوا عليّ بالإراحة من الوظائف الدنيوية.

وكان شغله الشاغل في تلك الأيام دراسة القرآن والتدبُّر فيه أو مراجعة الحديث النبوي أو مطالعة “مثنوي الرومي” وأحيانًا كان يتردّد عليه طائفة من اليتامى والمساكين، وكان حضرته يفرّق بينهم طعامه، وأحيانًا يمضي النهار بلا أكل أو يقتات من الحمّص المقلي، وكانت العزلة والتبتُّل قد بلغ به إلى خمول سبّب أحيانًا غفلة أهل البيت حتى عن طعامه.

ومرةً إنه تعمّد للهجرة إلى “سيالكوت” لكي يبتعد عن أنظار والده الذي كان دومًا يتحيّن الفرص لتوظيفه، فاضطر هناك مؤقتًا إلى أن يقوم بعملٍ يقتات به، لكن هذا العمل لم يكن حائلاً دون عبادته وتبتُّله، إذ إنما اختار هذا العمل للتجنّب عن السؤال، ولم يبتغ من ورائه مطمعًا دنيويًا فهناك في “سيالكوت” عرف حضرته لأول مرة أنَّ الإسلام يمرُّ بأصعب مراحل حياته، والأديان الأخرى تتصدّى للقضاء عليه نهائيًا، وذلك لأنَّ “سيالكوت” كان مركز نشاط القساوسة المسيحيين. كانوا ينشرون دعوتهم في الأسواق والشوارع ويُشكّكون المسلمين في دينهم. وكانت الحيرة تأخذ حضرته إذ رأى أنّه ليس هناك أحدٌ من المسلمين ليقاومهم. وكان ذلك في عصر كانت المسيحية فيه دين الحكومة، وكان الناس يخافون أن يتعرَّضوا لها فيؤذوا ومعظم علماء المسلمين كانوا يحذرون أن يكذّبوا المسيحيين، ومن تجرّأ منهم على الردّ عليهم عاد مغلوبًا مهزومًا، إذ كانوا لا يعرفون من القرآن شيئًا.

فنظرًا إلى حالة الإسلام هذه، أنَّ حضرته شمَّر عن ساعد الجدّ لمقاومة القساوسة. واقتحم في معارك البحث والمناظرات ضدهم. ثم فتح باب البحث والنقاش هذا للآريين وأهل الملل الأخرى أيضًا.

وبعد مدة قصيرة استعاده والده، وألحَّ عليه مرةً ثانية، نظرًا لتوظفه في “سيالكوت” على إقناعه بالعودة إلى الوظيفة، لكن حضرته أبى إلا أن يبتعد عنها، غير أنه اقتنع نظرًا لمشاكل والده المادية بأن يقوم عنه بمتابعة القضايا المرفوعة من قبله في المحاكم. وخلال متابعة القضايا لم يقصّر حضرته في الإنابة إلى الله. وحدث مرةً أنّه ذهب لمتابعة قضية، فتأخر عقد المحكمة حتى حانت الصلاة، فذهب حضرته للصلاة رغم منع الناس. فنُوديَ عليه من المحكمة أثناء غيابه، لكن ظلَّ حضرته مستغرقًا في عبادته، ولما فرغ منها، اتجه إلى المحكمة. وكان على الحاكم طبق القانون الحكومي أن يحكم للفريق الحاضر على الفريق الغائب، لكن الله أُعجب بعمل حضرته أيّما إعجاب. فشغل الحاكم عن هذا الأمر، فحكم لوالده بصرف النظر عن غياب حضرته.

وكان يقصُّ أحد زملائه منذ الصغر انّه كان موظفًا بلاهور، فجاء حضرته أيضًا إليها لمتابعة بعض القضايا الهامة المرفوعة في المحكمة العليا. وكانت هذه القضية من الأهمية بمكان، إذ كانت خسارتها بمثابة الخسائر الفادحة في حقوق والده، ومن ثم حقوق نفسه أيضًا. يروي هذا الشخص أنّ حضرته كان مسرورًا جدًا بعد متابعة القضية فحسبت أنّه قد ربح القضية، فهنّأته على النجاح. فقال حضرته: أما القضية فقد خسرناها وأما السرور فلأنّ الآن سأتفرّغ للعبادة بضعة أيام.

فلما سِئم حضرته من مثل هذه الأشغال، كتب إلى والده رسالةً طلب بها إليه أن يُريحه من هذه الاشغال، وأُسجّل هنا نصَّ تلك الرسالة التي كانت قد كُتبت بالفارسية طبق العادة في تلك الأيام، وذلك لكي يتبيّن مدى كراهية حضرته للدنيا منذ الصغر، وشدّة استغراقه في ذكر الله .

(حضرة والدي المحترم)، السلام عليكم،

بعد أداء واجبات الاحترام أعرض على حضرتكم عرضًا، وهو بما أنني أرى كل سنة وفي كل البلاد رأي العين وباءً عظيمًا يفرّق الأصدقاء عن الأصدقاء والأهل عن الأهل، ولم أشهد عامًا لا أرى فيه هذه الكارثة العظمى والمأساة الكبرى التي تُثير قيامة الأحزان، فنظرًا إلى كل ذلك، قد خمدت في قلبي نيران الأهواء الدنيوية، وقد امتقع لون وجهي حذر الموت، وكثيرًا ما أردّد البيت التالي لمصلح الدين الشيخ السعدي الشيرازي فتفيض عيناي حسرةً:

“لا تتكئ على العمر الفاني، ولا تكن بمأمن من صروف الدهر”.

وكذلك أُكرّر البيت التالي لنفسي:

“أيها الفتى لا تربط قلبك بهذه الدنيا الدنيئة، لأنّ الأجل مفاجئك”.

ولذلك أريد أن أقضي بقية حياتي في زوايا العزلة والتبتُّل، وأسلَّ ذيلي من صحبة رجال الدنيا، وأستغرق في ذكر الله تعالى لكي أتدارك ما فات، إنَّ معظم العمر قد انقضى، ولم يبقَ منه إلا بضع خطوات. والخير أن أسهر بضع ليالي حتى الصباح في ذكر الله المحبوب. والدنيا ليس لها أساسٌ محكم كما ليس على الحياة اعتماد.

وحينما توفّي والده انقطع حضرته عن جميع الأشغال، وأخذ يقضي أوقاته في دراسة الدين والصيام والتهجُّد، ولم يبرح يردُّ على حملات أعداء الإسلام بالصحف والمجلات. إنَّ حضرته سلّم جميع ممتلكاته إلى أخيه الأكبر في حين نرى الناس يتقاتلون على فلسٍ واحد. والطعام كان يأتيه من بيت أخيه، وكان يهيّء لحضرته بعض الملابس إذا أراد. بينما حضرته كان لا يأخذ من نصيبه من الضيعة شيئًا، ولا يقوم بشيء من أعمالها. كان يوصي الناس بالصلاة والصوم، كما كان يبلّغ دعوة الإسلام مع تفقّد أحوال الفقراء والمساكين. وبما أنَّ حضرته كان لا يملك من ملكه الخاص شيئًا، فلا يجد عنده إلا طعامه الذي كان يأتيه من بيت أخيه، وكان يوزّع هذا الطعام أيضًا بين الفقراء. فأحيانًا كان يقنع بأقل ما يمكن من الطعام، وإذا لم يبقَ من طعامه شيء، أمضى يومه بلا طعام، ولم يكن ذلك عن قلّة تراثه، بل كان شريكًا مع أخيه في ملك قريةٍ كاملة، وكذلك كانت له موارده من الضيعة أيضًا.

وفي ذات الأيام بدأ حضرته الابتهال والتضرُّع نظرًا لحالة الإسلام الخطِرة، وألّف كتابه الشهير (البراهين الأحمدية) بعد أن تلقّى من الله الإرشاد إلى تأليفه. وأعلن أنّه سيُضمّنه ثلاثمائة دليل على صدق الإسلام. فصار ذلك الكتاب العظيم ضربةً قاضية في ذبِّ الاعتراضات على وجود الله تعالى ورسوله ودينه القويم الإسلام. وإنَّ هذا الكتاب، وإن لم يتم، لكن مع ذلك لم يلبث أن نال الاستحسان من الأصدقاء والأعداء على السواء، وعلّق عليه كبار العلماء منوِّهين به، قائلين: إنّهم لم يجدوا لهذا الكتاب نظيرًا خلال ثلاثة عشر قرنًا. وهذا الرأي أوضح من أي شرحٍ أو إيضاح.

وعلاوةً على ذلك، لم يدَع حضرته أي صحيفة أو مجلة إلا ونشر فيها مقالاتٍ عديدة ليزيح الغطاء عن وجه الإسلام الأغرّ ويردَّ على هجمات أعدائه، حتى عادته سائر الملل، غير أنَّ حضرته لم يهتم بذلك.

كان ذلك في عصر كان المسيحيون يتّخذون فيه رسول الله عرضةً لسبّهم وشتمهم، بينما الآريون من الهنادك أيضًا كانوا يُطلقون لسانهم الفاحش في عِرض رسول الله ، لكن العلماء المسلمين كانوا في شغلٍ شاغل عن كل ذلك، كانوا يتبادلون فتاوى التكفير، وكانوا مستغرقين في النزاعات التافهة من رفع اليدين في الصلاة، ووضع اليدين على الصدر أو تحته، والجهر بآمين أو إخفائه وغيرها. في تلك الأيام العصيبة كان حضرته هو الرجل الوحيد الذي ما زال يذود عن حِياض الإسلام وكان يوجّه جهوده نحو حثّ المسلمين على الأعمال الصالحة. كان لا يهمه دعم مذاهب الأحناف أو تصديق أهل الحديث، بل كان دومًا يوصي بأن طبِّقوا ما يصحُّ عندكم بالعمل، وتمسّكوا بأحكام الله واتركوا الإباحة والإلحاد جانبًا. إنَّ حضرته بارز “باندت ديانند” مؤسّس الآرية، واقتحم في معركة المباحثات مع “ليخرام” “جيون داس” “مرلي دهر” “اندرمن” وغيرهم، ولم يزل يطاردهم في كل ميدان حتى يمتنعوا من الهجوم على الإسلام أو يقضي الله عليهم بالهلاك، كذلك كان حضرته يقاوم القساوسة المسيحيين “فتح مسيح” حينًا “وآثم” حينًا آخر، و”مارطون” “هاول” و”رائيت” و”طالب مسيح” أحيانًا أخرى، بل كان لا يقتنع بذلك، بل كان يبعث الألوف من النشرات الإنجليزية إلى أوربا وأمريكا، وكان يُراسل كل من كان يُبدي الاهتمام بالإسلام، داعيًا إيّاه إليه. وكان السيد “ويب” المسلم الأمريكي القديم من ثمرات هذه الجهود. هذا الشخص كن رجلاً محترمًا في المجتمع الأمريكي، وكان في حين من الأحيان يتبوّأ بمنصب السفارة البارز من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فلما بلغ حضرته اهتمامه بالإسلام كتب إليه واستمر على ذلك حتى أسلم ذلك الرجل السليم الطبع، واستقال من منصبه.

وبالجملة كان بحضرته شبه جنون لنشر توحيد الله تعالى وإثبات صدق الرسول ، ولم يكن يغفل عن ذلك ولا دقيقة واحدة. وبعد ذلك لما ادّعى حضرته بالنبوة التابعة لمحمد ، توسّع نطاق أعماله. فما من عدو للإسلام بارز إلا برز له، وما سمع أحدًا يهجم على الإسلام إلا قاومه. إنَّ “اسكندر دوئي” النبي الأمريكي الكذّاب، لما سمع عنه حضرته بارزه من وراء البحور. ولما ادَّعى “بيغوت” الإنجليزي بالألوهية لم يلبث حضرته أن تحدّاه. وقصارى القول أنه ما من عدو للإسلام ظهر على وجه الارض، إلا وداهمه حضرته في موطنه، ولم يتركه حتى يقلع عن شرّه أو يلقى حتفه مرذولاً.

إنَّ حضرته عمَّر أربعًا وسبعين سنة ظلَّ عاكفًا على خدمة الإسلام ليلاً نهارًا طوال حياته، وأحيانًا كان ينقطع للتأليف أشهر متتالية، حتى لم يعرف أحد متى ينام. وكان يحب الله ورسوله حبًا جمًّا يضحّي في سبيله بكل غالٍ ورخيص، وإذا قام أحد من الناس بهذه الخدمة امتنَّ له. وكان أحيانًا يسهر معظم الليل متتابعًا. ويكبّ على عمله، وإذا ساعده أحد على نسخ الطباعة أو مراجعتها فاضطّر للسهر معه، وكان لا يرى فيه أنه قد قام بخدمة دينية وأدّى واجبًا من واجباته، بل كان يفرط في إبداء الامتنان كأنّه قام له بخدمة شخصية خاصة فوجب عليه أن يمتنَّ له، إنَّ حضرته رغم ضعف صحته ومرضه المتواصل، ألّف نيّفًا وثمانين كتاب ومئات النشرات لتبليغ دعوة الإسلام. وألقى مئات الخطب عدا مواعظه اليومية عن فضائل الإسلام. وكان قد بلغ به استغراقه في العمل، أنَّ الأطباء لما أشاروا عليه بالاستراحة، ردَّ عليهم قائلاً: إنّما استراحته في القيام بقهر أعداء الإسلام. حتى أنّه ظلَّ عاكفًا على هذه الأعمال إلى يوم وفاته، حتى قضى الليلة التي توفّي في صبيحتها في تأليف كتاب دعا به الهنادك إلى الإسلام، الأمر الذي يتبيّن منه مدى توقه وحماسه الذي كان يضمره لإظهار جلال الله وصدق نبيه الكريم .

وقد سبق أن ذكرت أنّ مجرّد الادِّعاء ليس معيارًا لمعرفة مدى الحب، غير أنَّ الشخص الذي حقّق صلة العشق بأعماله وبكل حركة من حركاته، فدعواه أقوى وسيلة لإظهار عواطفه القلبية، لأنَّ عواطف العاشق الصادق لتفوق أعماله الخارقة أيضًا، وإنها من أجل تعمُّقها ورسوخها لا بدَّ أن تؤثر في قلوب الآخرين. وأنقل فيما يلي قصيدتين فارسيتين لحضرته عليه السلام إحداهما في عشق الله والأخرى في عشق الرسول :

  • أفديك بنفسي يا حبيبي المحسن، إنّك لم تبخل عليَّ بأي رحمة حتى أبخل بالشكر.
  • كل مطلب ومراد غائب أريده، وكل أمنية أضمرها في نفسي.
  • قد جدْتَ عليَّ بكل حاجاتي هذه وقد دخلت مسكني تلطّفًا.
  • لم تكن لي من قبل من معرفة عن آداب العشق والوفاء لك، أنت الذي بنفسك ملأت ذيلي بمتاع الحب.
  • إنَّك بنفسك صيّرت هذه التربة الحقيرة إكسيرًا، كان جمالك قد بدا أحسن وأفضل من الجميع.
  • إنَّ صقل قلبي ليس عن زهدي وتعبُّدي، بل أنت بنفسك نورّتني بتفضُّلاتك.
  • إنَّ لك مئات المنن على قبضة الغبار هذه (نفسي) وإنَّ جسمي وروحي رهينًا للطفك العميم.
  • يا كهفي ومأمني، إنَّ تَرْكَ كلا العالمين أيسر إذا تيسَّر لي رضاك.
  • إنَّ فصل الربيع وأيام الزهر لا تنقصني شيئًا، إذ أنني أراني في رياض من روعة وجهك الجميل.
  • لِمَ أحتاج إلى معلم أو مؤدِّب آخر؟ إذ ربّاني ربي المهيمن.
  • إنَّ العناية الأزلية صارت قريبةً لي قربًا جعل نداء الحبيب يبلغني من كل أبعد زقاق وزاوية.
  • يا ربّ ثبّت قدمي في طريق رضاك، ولا تدع ذلك اليوم يطلع إذا كنت ناقضًا لعهدك.
  • إذا قطعوا رأس العشّاق في سبيلك، كنت أول من يجهر بنداء التعشُّق.
  • إنَّ النور في نفس محمد (صلى الله عليه وسلم) لأعجب الأنوار، وإنَّ جواهر معدن محمد صلى الله عليه وسلم، لأروع الجواهر.
  • الذين يصيرون من طائفة محمد صلى الله عليه وسلم، قلوبهم تُنقّى من جميع الظلمات.
  • إنني لأستغرب لهؤلاء الجاهلين الذين يُعرضون عن مائدة محمد صلى الله عليه وسلم.
  • لا أرى أحدًا في كلّ العالمين يبلغ سموّ محمد وعظمته.
  • إنَّ الله عز وجل بريءٌ من ذلك الصدر الذي يُكنّ عداء محمد كل البراءة.
  • إنَّ الله تعالى سيحرق بنفسه تلك الدودة الخسيسة التي تصير من أعداء محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إذا أردتَ التخلُّص من سكَرات النفس، فهلمَّ إلى صفّ السكارى بعشق محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إذا أردت أن يثني عليك إلهك الحق، فكن ممن يمدح محمدًا.
  • وإذا طلبت على صدقه دليلاً، فكن من عشّاقه، لأن وجود محمد أكبر دليل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إنَّ رأسي فداء غبار أحمد صلى الله عليه وسلم، وقلبي مفدي في سبيله.
  • ومن أجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا فداء وجه الرسول صلى الله عليه وسلم الأغر.
  • إنني وإن أُقتل في هذه السبيل وأُحرق، لن أُولّي دُبري عن إيوان محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إنني لا أخاف أحدًا في سبيل الدين، لأنني مصطبغ بصبغة إيمان محمد صلى الله عليه وسلم.
  • ما أسهل الانقطاع عن الدنيا كلها من أجل ذكر حُسنِ محمد وإحسانه.
  • إنَّ كل ذرّة من وجودي فدىً في سبيله، إذ أنني شاهدت أخفى محاسن محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إنني لا أعرف أحدًا من الأساتذة، إذ أنني تعلّمت في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.
  • مالي ولحبيبٍ آخر، إذ أنني قتيل روعة محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إنني بأمسّ الحاجة إلى لحاظ من ألحاظ عين محمد، ولا أرضى إلا رياض محمد صلى الله عليه وسلم.
  • لا تبحثوا عن قلبي الملتاع في جنبي، إذ أنني شددته بأذيال محمد صلى الله عليه وسلم.
  • أنا من طيور القدس السعيدة التي اتخذت أعشاشها في بستان محمد صلى الله عليه وسلم.
  • يا نفسَ محمدٍ قد نوّرتِ نفسي بعشقك، فدًى لكِ نفسي يا نفسَ محمد صلى الله عليه وسلم.
  • إنني ولو فديتُ بمائة نفس في هذه السبيل لما كان ذلك أيضا لائقًا بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم.
  • ما أروعَ الهيبةَ التي وهبها الله لهذا الفتى، إذ لا أحد يجرؤ على مبارزته في الميدان.
  • يا أيها العدو الجاهل الضال المغترّ، خفْ سيف محمد الصارم.
  • إنَّ صراط الله المستقيم الذي ضل عنه الناس، التمِسوه في آل محمد وأعوانه صلى الله عليه وسلم.
  • يا أيها المنكر لشأن محمد ولنور محمد الممتاز كذلك، إنَّ كرامته إذا كانت مجهولة عند الناس، فهلمُّوا شاهدوها عند عبيد محمد صلى الله عليه وسلم.

فتفكروا الآن، أن شخصا قد بذل كل ساعة من الطفولة إلى يوم وفاته في ذكر الله تعالى وإظهار جلاله وفي سبيل نشر كلام الله والتفاني في حب الرسول واستحكام شريعته، وقد اتخذ المسلمين وغير المسلمين أعداء له لأجل الدفاع عن جلال الله وشرف رسوله ، وقد ضحى بكل ذرة من وجوده في سبيل خدمة الاسلام، أجل، إن شخصا بهذه الصفات هل يمكن أن يكون ضالا مفسدا ودجالا، وإذا كانت هذه الأعمال مفسدة، وإذا كان مثل هذا العشق كفرا، وإذا كان هذا الحب والتفاني من آثار الضلال، فأذن: والله، أي جعل الله مثل هذا الضلال كله من حظى، ووهب لي مثل هذا الكفر، وإن الله تعالى ليشهد، وإن رسوله ليشهد، وإن العقل السليم ليشهد.

ان مثل هذا الشخص لا يمكن أبدا أن يكون كاذبا وضالا، وإذا كان هذا القدر من عشق الله ورسوله وهذه الدرجة من الطاعة والخضوع، ومثل هذه الجهود الجبارة لنشر أحكام الله ومثل هذه الغيرة التي تفوق الاولين والآخرين في هذا العصر، كل أولئك لا تجعل الانسان الا ضالا ودجالا فليس من أحد في هذا العالم استحق الهداية ولن يستحقها أبدًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك