- حضرة عثمان رضي الله عنه قد ضرب لنا أقوى مثل للمقاومة التي لا تعرض حياة الآخرين للخطر ولا تضيق عليهم حياتهم
- مدعو المقاومة اليوم قد أباحوا الحرمات وسفكوا الدماء ومنطقهم بعيد كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحاء
__
عندما ثارت الفتنةُ ضدَّ الخليفة عثمانَ ، وبدا واضحًا أنَّ هؤلاء المجرمين يتربصون به ويسعون لقتله، عرض عليه معاويةُ أن يرسلَ جيشًا من الشام كي يحميه ويحمي المدينة، فرفض حضرته ذلك، وقال إنه لا يريد أن يُضيّق على أهلِ المدينةِ بمساكنةِ جيشٍ لهم يقاسمهم أقواتهم؛ حتى وإنْ كان هذا الجيشُ سيحميهِ ويحمي الخلافةَ!
وعندما نزلَ المجرمونَ بالمدينة، وحاصروا الخليفةَ، وآذوه حتى منعوا عنه الماء، هبّ الصحابة لكي يدافعوا عن خليفتهم؛ وهم الشجعان الذين عركتهم الشدائدُ، وأثبتوا بسيرتهم مع النبي أنهم قادرون على التعامل مع وضعٍ كهذا، رفض حضرته أن يقوموا لمقاتلة هؤلاء حرصًا عليهم؛ موضحا لهم مرارًا أنَّ هؤلاء المجرمين يريدونه هو وحسب، ولا يريد أن تُسفك دماؤهم دونه.
كانَ مطلبُ المجرمين أن يتنازل عن الخلافة إنْ أراد أن يصونَ دمه، فرفض ذلك بشدة، وأكّد أنه لن يخلعَ قميصًا ألبسه الله تعالى إياه. وهذا يدل على أنه كان صلب العزيمة، وأنَّ موقفَه وأوامرَه للصحابة، لم تكنْ إلا من بابِ حقنِ ما استطاع من الدماء؛ ما دام هو الوحيدُ المستهدَف.
وحدثتْ الجريمةُ، واستُشهد عثمان ، ونجح بثباته على موقفه في الحفاظ على مقام الخلافة شامخًا، وأفشل بصلابة موقفه كيدَ المجرمين الذين أرادوا العبث بالخلافة، بل فرَّوا مذعورين بعد ارتكاب جريمتهم؛ مهزومين بعزيمة عثمان العظيم .
وهكذا فقد ضرب لنا حضرة عثمان المثل في المقاومة؛ تلك المقاومة القائمة على تعاليم الإسلام، والتي أحسن تنفيذها ذلك الخليفة الراشد والصحابي الجليل. هي المقاومة التي لا تتنازل عن المبادئ، ولكنها لا تُعرض أمن الناس للخطر، ولا تضيّق عليهم حياتهم وأقواتهم بحجة الحفاظ على المبادئ. هي المقاومة التي جعلت العدو في حيرة من استقامتها وهزمته ولم تتح له أن يستبيح الحرماتِ ويمعنَ في الناسِ قتلا وإيذاءً.
فأين موقفُ حضرة عثمانَ من موقف أدعياء المقاومة حاليا الذين جعلوها دينًا، ورفعوها فوق كل المقدسات، وأباحوا من أجلها الحرمات؟ حيث نراهم بدلا من أن يحموا الناس يحتمون بهم، وبدلا من أن يحرصوا على دماء الأبرياء يرون سفكها بيد عدو مجرم أمرا لا بد منه لبقائهم؛ ويعتبرون بقاءهم وبقاء أحزابهم المأجورة وكراسيهم الهزيلة وتياراتهم المتعطشة للسلطة أهمَّ وأعزَّ من الخلافة التي لم يكن لعثمانَ أن يفرِّط بها، ولكنْ ما كان له أن يتذرَّع بها ليحمي نفسه.
على هؤلاء الذين يلبس كثيرٌ منهم لباسَ الدين أن يدركوا أن حرمة الدم تفوق الحرماتِ كلَّها، وأنَّ التضييقَ على خلق اللهِ في معيشتهم وجعلهم رهينة عدوِّ مجرم هي مسئوليةٌ عظيمةٌ لا بد أن يُسألوا عنها أمام الله تعالى. أين هم من موقف عثمان الذي آثر أن يُستشهد هو بدلا من أن يموت كثير من الناس. أما كان واجبا عليهم أن يتنحّوا جانبًا إذا أدركوا أن العدو يتذرّع بهم ليقتل الآخرين ويضيّق عليهم معيشتَهم؟ أين هؤلاء من موقف الخليفة عمر الذي خاف أن يقف أمام الله يوم القيامة ويُسأل عن شاة عثرتْ في العراق إن لم يكن قد مهّد لها الطريق؟
الحقيقة أن أدعياء هذه المقاومة ليسوا إلا سياسيين يسعون إلى مصالح تيارات وقوى إقليمية ودولية هم ليسوا إلا امتدادا لها. وهذه المقاومةُ التي ابتدعوها ورفعوها فوق كلِّ المقدسات لا أصل لها في الإسلام العظيم الذي يلبسُ أكثرُهم رداءَه. فهي أصلا تخالف معايير أساسية بدهية أكد عليها الإسلام؛ ومن أهمها أنه لا يجوز الخروج على ولي الأمرِ وفرض خيار الحرب من قبل فئة من الناس على دولة أو مجتمعٍ بأكمله. كما لا يجوز خيانةُ الحاكم وغدرُه أو الضغطُ عليه أو إضعافُه والانقضاضُ عليه عندما تسنح الفرصة بعد أن كانوا قد أقسموا قسم الولاء له. وبالمقابل نرى أنهم لم يفرضوا وجودهم إلا بمخالفة هذه المبادئ؛ فقد خرجوا على أولياء الأمور، وفرضوا خيار الحرب على غيرهم، وارتفعت أصواتهم بمعارضة غير شريفة تخوِّنُ الحاكم وتكفِّرُه وتضعفه، ثم تنقلبُ عليه عندما تسنح الفرصة!
والواقع أنَّ سلاحَهم وقوتَهم، التي يفترض أنها لمقاومة العدو وردِّ عدوانه، تلعبُ دورها الأكبر في بسط نفوذهم على الساحة الداخلية أكثر من قدرتها وأثرها في مقاومة العدو، مما يجعلهم عقبة في تحقيق وفاق وطني أو مصالحة. فحيثما وجدوا وجدت الأزماتُ المستعصيةُ في بلدانهم والاحتقانات التي كثيرا ما تنفجر إلى حروب أهلية. ويزيد من تعقيد الأمور ارتباطاتهم الخارجيةُ التي تقيِّد قرارَهم وتجعلُه بيد غيرهم جزئيا أو كليا.
والمشكلةُ أنهم يرفعون سيفَ التكفير والتخوين، ويرهبون به كل من يعارضُهم، ويحاولون أن يُخمدوا كلَّ صوتٍ يئنُّ ألمًا تحت وطأة الظروف التي خلقوها بتعنتهم، ثم يسمحون لأنفسهم بالمزاودة على الجميع، ويدَّعون أنهم هم الوحيدون الأمناء على مصالحِ الشعب والأمة، وأن غيرهم لن يتوانوا عن التفريط بها! وهم باسم الحفاظِ على الحقوق يصادرون أبسط حقوق الناس، ويرتكبون مخالفات كثيرة للدينِ وللأخلاق ولمبادئ العدل والكرامة الإنسانية، وينصِّبون أنفسهم أوصياء على الأمةِ بمجملها دون تفويض منهم؛ وهذا ظلمٌ عظيمٌ لا يقرّه الإسلام ولا يرتضيه.
باختصار؛ إنَّ منطق المقاومة الذي يقدمونه بعيد كل البعد عن الإسلام وتعاليمه العظيمة. فآنَ للناس أن يتبينوا حقيقةَ مبادئهم وسلوكهم، وألا ينخدعوا بلباسهم الديني وحماسهم الغوغائي، وأن يعملوا على ترك مناصرتهم لهم التي تقويهم وتستبقيهم يعبثون بدماء الأبرياء وأقواتهم وكرامتهم. عليهم أنْ يدركوا أنَّ استعادة الحقوق والكرامة لا تتحقق بهذه المقاومة المزعومة، بل بوحدة الصفِّ والتكاتف والالتزام بأخلاق الإسلام وتعاليمه، وبالتناصر في الحق، لا بإضعاف الصفِّ الداخليِّ وتقويض نظم الحكم والخروج عليها ونشر ثقافة التكفير والتخوين والغدر.