ومِن آيات رحمتِه العظيمة.. البدرُ الذي طلعَ من أُم القُرى

ومِن آيات رحمتِه العظيمة.. البدرُ الذي طلعَ من أُم القُرى

مصطفى ثابت

تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكاتب سيره حضره ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مُبرزًا الوقائع والأحداث الهامة من حياة حضرته المطهرة

رأينا في الحلقة الماضية كيف أن سيدنا أحمد كان شُغف بحب الله تبارك وتعالى، وبحب رسوله الكريم ، وحب كتابه العزيز الذي لا يمسه إلا المطهرون. وكان منذ حداثة سنه يقضي معظم أوقاته في المسجد، ويميل إلى العزلة عن الناس والتبتل إلى الله بمفرده. وقد كتب سيدنا أحمد يدعو الناس إلى معرفة الإله الحق وعبادته، وعبر عن مشاعر الحب والود نحو الله تعالى في أبيات شعرية جميلة ذكرنا جانب منها في الحلقة السابقة.

لقد كتب آلاف الأبيات الشعرية باللغة العربية والأردية والفارسية، ولكنه لم يكن شاعرا كغيره من الشعراء الذين يتكسّبون بشعرهم، ويمدحون أصحاب السلطان رغبة في الحصول على الأجر ونوال العطايا، ولكنه كان يحمد ربه ويثني عليه الثناء الجميل، ويتغنى بشكره وفضله عليه. ولعل بعض الناس يأخذه الظن بأن قرض الشعر أمر لا يليق بالأنبياء، حيث قال تعالى عن نبيه :

وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (يس:70)

ولقوله تعالى في سورة الشعراء:

وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ( (الشعراء:225-227)

 إن عدم تعليم الله تعالى رسوله قرض الشعر كان من أجل أن لا يختلط على الناس أمره في الفصاحة والبلاغة. فرغم أن لسانه كان لسانا عربيا، إلا أن الله لم يؤته ملكة قرض الشعر، حتى لا يظن الناس أن بلاغة القرآن جاءت من ملكاته الشخصية، أو أنها كانت من نتاج قدراته الأدبية. أما سيدنا أحمد فلم يكن عربي المولد أو المنطق، والله سبحانه لم يُنَزّل عليه قرآنًا، فلم يكن هناك من احتمال لاختلاط الأمر على الناس، وقرضه الشعر في هذه الأحوال يُعد معجزة من الله تبارك وتعالى، آتاهُ إياها تدليلاً على تأييده له وتصديقا لدعواه، وبذلك يتضح أن الله تعالى قد آتى البلاغة لنبيه الأكرم كما آتاها لعبده الإمام المهدي .

وغني عن القول أن الله تعالى حين أدان سلوك بعض الشعراء المحترفين، الذين يتكسبون من شعرهم، ويهيمون في كل واد يرتزقون من صناعة الشعر، بالمبالغات التي قد تنافي الحقيقة وتُعتبر نوعا من الكذب، فإنه قد استثنى الشعراء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، فقال استكمالا للآيات السابقة:

وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ  * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشعراء:225-228)

 ومع أن رسول الله نفسه لم يكن يقرض الشعر، إلا أنه لم يمنع صحابته الكرام من قرض الشعر، بل اتخذ له صحابة من بعض الشعراء، من أمثال حسان بن ثابت الذي اشتهر بلقب “شاعر الرسول”. وكان يحثهم على قرض الشعر، ليردوا على قصائد الكفار التي كانوا يهجون بها الإسلام ورسوله ، وكان يدعو لهم بالتأييد من الله تعالى، فكان يقول لحسان كما جاء في البخاري: “اُهْجُهُمْ أو هاجِهم وجبريل معك.” (البخاري، كتاب بدء الخلق). وفي رواية: “اُهْجُهُمْ أو هاجِهم، اللهم أيده بروح القدس” (مجمع الزوائد للهيثمي، كتاب الأدب)

أما القصائد التي تغنّى بها سيدنا أحمد ، فكان معظمها في حمد الله تعالى والثناء عليه، والتحديث بنعمه وتأييده وشكره على أفضاله ومننه، كما أنه قرض الشعر لنعت خير الخلق وسيد الانبياء . وهنا ننتقل إلى دوحه أخرى من دوحات الحب التي زرعها سيدنا أحمد ، مُعبرا بها عن عظيم محبته لرسول الله . لقد كان مصداقا لقوله تعالى في كتابه الحكيم الذي يقول فيه:

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (آل عمران:32)

 وكان هو خير من ينطبق عليه قول رسول الله الذي يقول فيه: “لا يُؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من نفسه وأهله وماله”. وكان يُدرك تماما معنى الوحي الذي تلقاه من الله تعالى الذي يقول فيه:

«كل بركة من محمد فتباركَ مَن عَلَّمَ وتَعلَّم».

ولذلك لم يكن من شيء في قلب سيدنا أحمد بعد حب الله تبارك وتعالى وحب رسوله . لقد قرأ عنه منذ صغره، وتعلم صفات وشمائل ذلك الإنسان الأكرم وأدرك عظمة ذلك النبي الذي كان رحمة للعالمين؛ فتعلق به قلبه، واستهام به حبا، حتى لكأنه قد أسكره ذلك الحب، فصار نَشوان يفيض قلبه بالمحبة، وتنساب أحاسيسه ومشاعره على لسانه في كلمات رقيقة يُناجي بها محبوبه، فلا يهتم لانتقاد المعارضين، ولا يكترث لمطاعن المخالفين، ولا يأبه لفتاوى التكفير، ولا يتأثر بحمم اللعنات التي صبوها عليه صبًّا، فيقول في إحدى قصائده باللغة الفارسية ما معناه: “مِن بعد حب الله إني قد سكرت بعشق محمد ، فإن كان ذلك هو الكفر فو الله إني كافر أشد الكفر”. وقد ترجم الأستاذ نادر الحصني.. وهو أحد الأخوة الأدباء الكرام من سوريا مقيم حاليا في كندا.. هذين البيتين، وصاغهما شعرا رقيقا باللغة العربية فقال:

إنِّي لَنَشْوَانٌ بِعِشْقِ مُحَمَّدٍ

مِنْ بَعْدِ حُبِّ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ

.

إنْ كَانَ هَذَا الْكُفْرَ إنِّي لَكَافِرٌ

رَبِّي شَهِيدٌ قَدْ سَبَانِي جَمَالُهُ

.

ويذكر حضرة ميرزا بشير أحمد مظاهر هذا الحب الذي رآه بنفسه، وهو أحد أنجال سيدنا أحمد ، حيث قال:

“لقد وُلدتُ في بيته، وهذه نعمة كبرى من الله تعالى لا يمكن لي أن أشكره عليها حق الشكر. ولا بد لي أن أُسَلّم نفسي إلى الله يوما ما، فأقول مستحلفًا بالله: إنه لم يحدث ولا مرة واحدة أن ذَكَرَ حضرته رسولَ الله أو حتى اسم محمد إلا واغرورقت عيناه بالدموع. فإن قلبه.. وعقله.. وكل ذرة من ذرات كيانه.. كانت عامرة بحب رسول الله نابضة بغرامه”. (سيرة المهدي)

 هذه شهادة أحد أبنائه الذي قضى في معيته زمنا طويلا، وكان يراقبه عن كثب في جميع أحوال حياته، وهو يُقسم بالله على أن عاطفة المحبة لرسول الله التي كان ينبض بها قلبه، كانت تعبر عنها الدموع التي دائما ما تتقاطر من عينيه كلما ذُكِرَ أمامه اسم حبيبه.

وفي مناسبة أخرى كان يجوب صحن المسجد المبارك، وهو مسجد صغير يتصل بداره ، وكان يذهب ويجيء وحده وهو يُتمتم بكلمات، بينما تنسكب الدموع من عينيه جارية على خديه. وحدث أن دخل المسجد أحد أصحابه فانزعج لما رآه يبكي بهذه الصورة وحده، فظن أن أمرا خطيرا قد ألمّ به، فسأله مضطربًا. “ماذا جرى يا سيدي؟” فرد عليه قائلا:  “كنت أردد بيتين من شعر سيدنا حسّان، وكنت أتمنى يا ليتني كنتُ أنا قائلهما”.

كان البيتان اللذان يرددهما سيدنا أحمد هما قول حسان بن ثابت في رثاء رسول :

كُنتَ السَّوَادَ لِنَاظِرِي

فَعَمِىْ عَلَيْكَ النَّاظِرُ

.

مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ

فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ

.

هكذا كان ذلك الإنسان الذي ملك حبُّ رسول الله قلبَه ووجدانَه، فرغم أنه تحمّل الكثير من المشاق وكابد المصاعب، وتعرض للمصائب، وذاق الأمرّين على أيدي أعدائه الذين لم يدّخروا وسعا في إيذائه والإساءة إليه، ورغم أنه صبر على قضاء الله عند وفاة أولاده وأعزائه وصحابته، إلا أن مشاعر الحزن والألم تعتصر قلبه عند ذكر وفاة حبيبه الذي مضت عليها ثلاثة عشر قرنا، ونراه يردد أبيات حسان بن ثابت، وتجود عيناه بفيض من الدموع، وتتدفق عواطفه المتأججة متمنية لو أن لسانه هو الذي جاء بذلك الشعر الرقيق الجميل.

ما أعظمَك يا حبيبَ رسولِ الله وما أعظم حبَّك ووفاءك لسيد خلق الله! وما أشقى هؤلاء الذين لم يعرفوك ولم يتعلموا منك أشرفَ وأطهرَ مشاعر الحب، ولم يرو منك أجمل وأحلى ألوان الوداد والغرام!

كان في أكثر مراحل حياته معتل الصحة عليل الجسد، وكان يعاني طوال عمره الشريف من مرضين هما الصداع المزمن وكثرة التبول، مما جعل ذلك أحد الموانع التي منعته من السفر لتأدية فريضة الحج وحدث مره أنه كان مريضًا وراقدًا في سريره، وكانت زوجه أم المؤمنين تجالسه الحجرة ومعها حضرة مير ناصر نواب والد أم المؤمنين ، وكان الجميع يتجاذبون أطراف الحديث فجرى ذكر الحج ، فقال مير ناصر نواب لابنته أنه قد أن الأوان للاستعداء للسفر لأداء شعائر الحج ، فقد صارت تسهيلات السفر ميسرة. كان سيدنا أحمد يسمع هذا الكلام بينما كانت عيناه تفيضان بالدموع ، فكان يمسحها بكفيه ويقول : “هذا صحيح .. ولكم أود ذلك من أعماق قلبي، ولكني أفكر: هل سأتحمل رؤية قبر رسول الله ؟ يا سبحان الله! هذا حديث عادي من الأحاديث الكثيرة التي عادة ما تجري في البيوت ولكننا نلمح من خلاله ذلك البحر الزاخر من المحبة التي كان يموج بها قلب سيدنا أحمد ، أنه على بعد آلاف الأميال من قبر الرسول  ، ولكن العبرات تتقاطر من عينيه لمجرد تصور أنه يقف أمام ذلك القبر المطهر، ويتساءل ..هل من الممكن أن يتحمل رؤية قبر حبيبه.

لقد كان يحب الرسول حبا جما، كما كان يحب أيضًا كل ما يتعلق بمحبوبه ..فكان يحب العرب، ويحب اللغة العربية، ويحب أرض الحجاز التي شرفتها أقدام رسول الله ، بل كان يحب تراب تلك الارض ويتمنى أن يزورها، ويجعل من ذلك التراب كحلاً تكتحل به عيناه. وقد عبّر  عن هذه المحبة في الجزء الذي كتبه باللغة العربية من كتاب “مرآة كمالات الإسلام”، فاستهل قائلاً في فصل منه وجّه فيه الخطاب إلى مشايخ العرب وصلحائهم: “السلام عليكم، أيها الأتقياءُ الأصفياء، مِن العَرَبِ العُرَباء. السلام عليكم، يا أَهلَ أرضِ النبوّةِ وجيرانَ بيتِ اللهِ العُظمى. أنتم خيرُ أمّمِ الإسلامِ وخيرُ حزبِ الله الأعلى. ما كان لقومٍ أن يبلُغَ شأنَكم ، قد زِدتم شَرَفًا ومَجدًا ومَنزِلاً، وكافيكم مِن فخرٍ أن اللهَ افتَتحَ وحيَه من آدمَ وختمَ على نبيٍّ كان منكم ومنْ أرضِكم وطنًا ومأوًى ومولدًا. وما أدراكم من ذلك النبيُّ! محمدٌ المصطفى، سيِّدُ الأصفياءِ وفخرُ الأنبياءِ، وخاتَمُ الرسلِ وإمامُ الوَرى. قد ثبَت إحسانُه على كلِّ منْ دَبَّ على رِجلين ومَشى . وقد أدرَك وحيُه كُلَّ فائت من رموزٍ ومعانٍ ونِكاتٍ عُلَى . وأحيَا دِينُه كُلَّ من كان مَيْتًا من معارف الحق وسُنَنِ الهدى. اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبَاركْ عليه بعَدَدِ كل ما في الارض من القطراتِ والذرّاتِ والأحياءِ والأموات، وبعدَدِ كلِّ ما في السماواتِ، وبعَدَدِ كلِّ ما ظهَر واختفَى، وبَلّغهُ منا سلامًا يملأُ أرجاءَ السماءِ. طُوبَى لقوم يحمِل نيرَ محمد على رقبته، وطُوبَى لقلبٍ أفضَى إليه وخالَطَه وفي حُبِّه فَنى. يا سكّانَ أرضٍ أوطأته قَدَمُ المصطفى … رَحِمَكم اللهُ ورَضِي عنكم وأرْضَى … إن ظني فيكم جليلٌ، وفي روحي للقائكم غليلٌ، يا عبادَ الله. وإني أحِنُّ إلى عِيانِ بلادكم، وبركات سوادكم، لأزور مَوطئ أقدامِ خيرِ الورى، وأجعلَ كُحْلَ عيني تلك الثرى.” ( مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج٥ ص ٤١٩- ٤٢١)

وفي مكان آخر كتب يقول موجّها كلامه الى مشايخ الهند وأفغانستان ومصر وغيرها من الممالك: “ومِن آيات رحمته العظيمة .. البدرُ الذي طلَع من أُمِّ القُرى، في ليلةٍ اسودّتْ ذَوائِبُها العظمى، فرفَع الظلمات كلَّها، ووضَع سِراجًا منيرًا أمامَ كلِّ عينٍ تَرى. ما عندنا لفظٌ نشكُر به على منَنه الكبرى. أيقَظَ العالَمين كلَّهم، ونفَى عن النائمين الكَرَى. تَلقَّى كلَّ هَمٍّ وغَمٍّ للدينِ بطِيب النفسِ لـّما انْبَرى ، وسَنَّ بَذْلَ النفس ِلله لكل مَنْ يطلُب المولى. فَنَى في الله.. وسعى لله ..ودَعا إلى الله وطهّر الأرضَ حقَّ طهارتها، فيَا عَجَبًا للفَتى! رَبِّ .. اجْزِ منا هذا الرسولَ الكريم خيرَ ما تَجْزي  أحدًا من الورى. وتوَفَّنا في زُمرتِه، واحشرْنا في أُمّته، واسقِنا من عينه، واجْعلها لنا السُقيا. واجْعَله لنا الشفيعَ المشفِّعَ في الأولى والأخرى. رَبِّ .. فتقَبَّلْ منا هذا الدعاء، وآوِنا هذا الذُّرَى. رَبّ.. يا ربّ.. صلِّ وسلِّم وباركْ على ذلك النبيّ الرؤوفِ الرحيم، وعلى كلِّ مَنْ أحبَّه وأطاعَ أمْرَه واتّبع الهدى.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 364-366)

لم يكن من الغريب إذن لهذا المحب أن يتغنى بمدح حبيبه، ولم يكن من العجيب أن تنساب منه الكلمات عذبة شجية، لا تكلّف فيها ولا تصنّع، وإنما هي كالنسمات الندية.. تهب على قاطن الصحراء بشمسها الحارقة، فتصيبه رطبا وبردا وسلاما، وهي كحبات المياه العذبة الباردة.. تلمس شفتي الظمآن الذي يكاد يموت عطشا، فتُرد إليه الحياة بشرب أعذب السُقيا. إن أول قصيدة كتبها باللغة العربية كانت في مدح حبيبه سيد الأنبياء، ومنها نقتطف هذه الأبيات:

يـا عينَ فيـضِ اللهِ والعِــرفانِ

يَسعَى إليكَ الخَلْقُ كالظَّمـآنِ

يا بَحر فَضلِ المُنعِمِ المنّانِتهوي إليك الزُمَرُ بالكيزانِيا شمسَ مُلكِ الحُسنِ و الإحسانِنَوَّرتَ وجهَ البَرِّ و العُمرانِلا شَكَّ أن مُحمـدًا خيرُ الْوَرى رَيْقُ الْكِـرامِ ونُخْبةُ الأعيـانِتَمَّتْ عليـهِ صِفاتُ كُلِّ مَزِيّـةٍ خُتِمتْ به نَعْماءُ كُلِّ زمــانِهو فَخرُ كُلِّ مُطهَّرٍ ومُقــدَّسٍ وبه يُباهي الْعَسكرُ الرُّوحـانِيهو خيرُ كُلِّ مُقـرَّبٍ مُتقـدِّمٍ والفَضـلُ بالخيراتِ لا بِزَمـانِإني لقد أُحيِيتُ مِـن إحيـائه وَاهًا لإِعْجازٍ فما أَحْــياني!يَا رَبِّ صَلِّ على نَبِيِّك دائِــمًا في هذهِ الدنيا وبَعْثٍ ثــانِيا سيّدي قد جئتُ بابَك لاهـفًا والقومُ بالإكفــارِ قد آذانيللهِ دَرُّكَ يا إمامَ العالَمِأنتَ السبوقُ و سيِّدُ الشُجعانِ اُنْظُـرْ إليّ برحمـةٍ وتحــنُّـن يا سـيِّدِي أنا أحقَـرُ الْغِلمانِيا حِبِّ إنك قد دَخَلْتَ مَحـبّةًفي مُهْجَتي ومَـدارِكي وجَنانيمِن ذِكر وَجْهِكَ يا حديقةَ بَهجَتيلَـمْ أَخلُ في لَحْظٍ ولا في آنِجسمي يَطِيرُ إليكَ مِن شوق عَلايا ليتَ كانت قـوّةُ الطيَرانِ (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص590، 592-594)

حقاً ما أعظمكَ يا رسول الله، فأنت الذي بعثك الله تعالى رحمة للعالمين، وبفضل اتّباعك وطاعتك يصل أحباؤك إلى أعلى الدرجات وأعز المقامات. وما أعظمَ حبيبَك…الإمام المهدي والمسيح الموعود…الذي قال الله تعالى له : (أنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي…أنت مني بمنْزلة لا يعلمها الخلق)، ومع ذلك فإن حبيبك هذا يناجيك..ويدق على بابك لاهفا، ويشتكي إليك أن قومه قد آذوه بالإكفار والتكفير، ولكن كل هذا في سبيل حبك يهون،وتكفيه منك نظرة برحمة وتحنن، ويقف أمامك بكل احترام وخضوع وتقدير، ويقول لك: يا سيدي ..أنا أحقر الغلمان. أي قسوة تلك التي اعترت هذه القلوب التي آذته بالتكفير؟ وأي عماية تلك التي أصابت هذه الأعين فلم تبصر نور المحبة التي أضاءت بها أرجاء قلبه؟ وأي صمم ذلك الذي أصاب تلك الآذان فلم تسمع تلك الكلمات التي تقطر حنانا و ودادا ومحبة، بل إنهم وصموه بالكفر، وحاولوا إخراجه هو وأتباعه من دين حبيبه محمد المصطفى  ، فما أتعسهم  حقا وما أشقاهم من قوم !

إنه برغم الخدمات الجليلة التي قدمها للدفاع عن الإسلام، والذود عن شرف سيدنا محمد المصطفى ، فإنه كان حين يتقدم إلى سيده ومطاعه ، يخضع له كتلميذ مجِدّ غلبه الوفاء تجاه أستاذه، وكخادم أمين ملكته الطاعة والاحترام نحو سيده، وكان يُقدم إليه كل زهرة يجتنيها وكل ثمرة يقتنيها قائلاً: كل هذا من فضلك وفضل اتّباعك، ولولاك أنت لما كنتُ أنا شيئًا مذكورا، فكتب  مرة يقول ما تعريبه :

“وإنني أقسم به ( ) أنه تعالى كما شرَّف بالمكالمة والمخاطبة إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى والمسيح ابن مريم، ثم في الأخير كلَّم نبينا -بحيث كان الوحي النازل عليه أوضح وأطهر ما يكون- كذلك تمامًا شرَّفني بمكالمته ومخاطبته. ولكن قد مُنحت هذا الشرف بسبب اقتدائي الكامل بسيدنا محمد ، لو لم أكن من أمته لما نلتُ شرف المكالمة والمخاطبة أبدًا وإن كانت أعمالي مثل جبال الدنيا كلها. (التجليات الإلهية، الخزائن الروحانية ج٢٠، ص ٤١١، ٤١٢(

ويقول بالعربية في مكان آخر:

ولا يقول هذا العبد إلا ما قال النبي ، ولا يُخرِج قدمًا من الهُدى. ويقول إن الله سمّاني نبيًا بوحيه، وكذلك سُمِّيتُ من قبلُ على لسانِ رسولِنا المصطفى. وليس مراده من النبوة إلا كثرة مكالمة الله وكثرةُ أنباءٍ من الله وكثرة ما يُوحى، ويقول: ما نَعني من النبوة ما يُعنى في الصحف الاولى، بل هي درجةٌ لا تُعطَى إلاّ من اتّباع نبيِّنا خيرِ الوَرى. وكل مَن حصُلتْ له هذه الدرجة …يكلّم الله ذلك الرجلَ بكلام أكثر وأجلى، والشريعةُ تبقَى بحالها…لا يُنقَصُ منها حكم ولا تزيد هدى. ويقول إني أحدٌ من الأمة النبوية، ثم مع ذلك سماني الله نبيًّا تحت فيض النبوة المحمدية، وأوحى إليَّ ما أوحى. فليست نبوتي إلا نبوته، وليس في جُبَّتي إلا أنواره وأشعَّتُه، ولولاه لما كنت شيئًا يُذكَرُ أو يُسمَّى. (الاستفتاء، الخزائن الروحانية ج٢٢ ص ٦٣٧(ومن كلامه المنظوم ما تعريبه:

“إنه مقتدانا الذي اقتبسنا منه كل هذا النور… اسمه محمد وهذا هو حبيبي الوحيد. نفسي فدًى لذلك النور الذي لم أكن إلا بفضله، فهو كل شيء، ولست أنا بشيء”.

وفي قصيدة عربية أنشد يقول:

وأنت إلهي مأمني ومفازتي

وما لي سواك معاونٌ يدفع العدا

.

عليك توكلنا وأنت ملاذنا

وقد مسَّنا ضُرٌّ وجئناك للندى

.

ولك آيات في عباد حمدتَهم

ولا سيّما عبدٌ تسمّيه أحمدا

.

له في عبادة ربه غَلْيُ مِرجَلٍ

وفاقَ قلوب العالمين تعبُّدا

.

وكان الحجاز وما سواه كميّتٍ

شفيع الورى أحيا وأدنى المبَعَّدا

.

فلم يبق منهم كافر إلا الذي

أصرَّ بشِقْوته على ما تعوَّدا

.

وأتى بصحف الله لا شك أنها

كتاب كريم يرفِد المسترفِدا

.

فمن جاءه ذلا لتعظيم شأنه

فيعطى له في حضرة القدس سؤددا

.

فيا طالبَ العرفان خُذْ ذيلَ شرعه

ودَعْ كلَّ متبوع بهذا المقتدى
.

يزكّي قلوب الناس مِن كل ظلمة

ومن جاءه صدقا فنوّره الهدى
.

تراءى جمال الحق كالشمس في الضحى

ولاح علينا وجهه الطلق سرمدا
.

وقد اصطفيتُ بمُهْجتي ذكرَ حمده

وكافٍ لنا هذا المتاع تزوُّدا
.

وفوّضني ربي إلى فيض نوره

فأصبحتُ مِن فيضان أحمد أحمدا
.

وهذا من الله الكريم المحسنِ

وما كان من ألطافه مستبعَدا

.

وواللهِ هذا كله من محمد

ويعلم ربي أنه كان مرشدا

.

وفي مُهْجتي فورٌ وجيشٌ لأمدحا

سُلالةَ أنوار الكريم محمدا

.

كريم السجايا أكملُ العلم والنهى

شفيع البرايا منبع الفضل والهدى

.

بشير نذير آمرٌ مانع معًا

حكيم بحكمته الجليلة يُقتدى

.

هدى الهائمين إلى صراطٍ مقوَّم

ونوّر أفكار العقول وأيّدا

.

له طلعةٌ يجلو الظلامَ شعاعُها

ذُكاءٌ منير بُرجُه كان بُرْجُدا

.

له درجات ليس فيها مشارِكٌ

شفيع يزكّينا ويدني المبَعَّدا

.

وما هو إلا نائب الله في الورى

وفاق جميعا رحمةً وتودُّدا

.

تخيَّرَه الرحمن مِن بين خلقه

وأعطاه ما لم يُعْطَ أحد من الندى

.

تكنَّفَ عَقْوةَ داره ذاتَ ليلة

جماعةُ قوم كان لُدًّا ومفسدا

.

فأدركه تأييدُ ربٍّ مهيمن

ونجّاه عونُ الله من صولة العدا

.

تذكرتُ يوما فيه أُخرِجَ سيدي

ففاضت دموع العين مني بمنتدى

.

إلى الآن أنوارٌ ببُرقَةِ يثرِبَ

نشاهد فيها كل يوم تجدُّدا

.

فوجهُ المدينة صار منه منوّرا

وباركَ حُرَّ الرمل وَطِئًا وقَردَدا

.

حِفافَي جناني نُوِّرا مِن ضيائه

فأصبحتُ ذا فهم سليم وذا الهدى

.

وأرسلني ربي لتأييد دينه

فجئتُ لهذا القرن عبدا مجدِّدا

.

وهذا من النور الذي هو أحمدُ

فدًى لك روحي يا محمد سرمَدا
.

أُمِرتَ من الله الذي كان مرشدا

فأحرقتَ بدعاتٍ وقوَّمْتَ مَرْصَدا

.

وجئتَ لتنجية الأنام من الهوى

فواهًا لِمُنْجٍ خلّص الخَلق مِن رَدَى

.

وتورَّمَتْ قدماك لله قائما

ومثلك رجلا ما سمعنا تعبُّدا

.

جذبتَ إلى الدين القويم بقوة

وما ضاعت الدنيا إذا الدين شُيِّدا

.

وأرسلَك الباري بآيات فضله

لكي تُنقذ الإسلام مِن فتن العِدا

.

يحبّ جناني كلَّ أرض وطِئْتَها

فيا ليت لي كانت بلادك مولدا

.

وأكفَرَني قومي فجئتك لاهفًا

وكيف يُكفَّرُ مَن يوالي محمدا

.

ولستُ بذي علم ولكن أعانني

عليم رآني مستهاما فأيّدا

.

و واللهِ إني صادق غيرُ مفترٍ

وأيّدني ربي وما ضاعني سُدًى

.

و والله لولا حُبُّ وجهِ محمد

لما كان لي حولٌ لأمدح أحمدا

.

وموتي بسبل المصطفى خيرُ مِيتةٍ

فإنْ فزتُها فسأُحْشَرَنْ بالمقتدى

.

سأدخلُ مِن عشقي بروضةِ قبره

وما تعلم هذا السرّ يا تاركَ الهدى

(كرامات الصادقين، الخزائن الروحانية ج7 ص90-95)

الله أكبر! ما أعذبَ هذه الكلمات التي تنساب من قلب محب يعلم قدر حبيبه، ويُرجع إليه كل فضل ناله وكل خير أصابه، فتخرج هذه الكلمات من صميم وجدانه ومن أعماق فؤاده.

وفوّضني ربي إلى فيض نوره

فأصبحتُ مِن فيضان أحمد أحمدا

.

وهذا من النور الذي هو أحمدُ

فدًى لك روحي يا محمد سرمَدا
.

ووالله لولا حُبُّ وجهِ محمد

لما كان لي حولٌ لأمدح أحمدا

.

لقد مدح الكثيرون رسول الله ، وأنشد الكثير من الشعراء نعًتا لخير البرية، وقرأنا الكثير من قريض البلغاء والأدباء والشعراء، ولكننا لم نر أحدا يُعبّر عن مقدار حبه بهذا التعبير، ولم نسمع همسات قلب ينبض بهذه النبضات التي ملؤها الحب والعرفان والتقدير. فهل يمكن أن ينطق لسان كاذب بهذه الكلمات؟ هل يمكن أن ينبض قلب مفتر بهذه النبضات؟ هل حدث في تاريخ الكذابين والمفترين الذين كانوا يفترون على الله الكذب أن صاغ واحد منهم حبه وشوقه وتقديره وتبجيله وامتنانه وعرفانه بفضل الرسول عليه وعلى الأمة وعلى الإنسانية كلها، كما فعل هذا الرجل الذي يصمه أعداؤه بأنه كان -والعياذ بالله- كاذبا مفتريا؟ فليُرنا هؤلاء كيف عبر الكذابون والمفترون عن حبهم لرسول الله، وليأت هؤلاء بأبيات الشعر التي أنشدها مسيلمة الكذاب أو الأسود العنسي أو سجاح الكاهنة أو غيرهم ممن ادعوا النبوة كذبا، وليثبتوا لنا وللأمة الإسلامية كلها أن الكذاب الدجال الذي يفتري على الله كذبا يمكن أن تجيش مشاعره بهذا الحب الجياش، ويمكن أن تثور عواطفه بهذه المحبة الدفاقة، فيذوب وجدانه بأرق الكلمات وأعذب الألفاظ وأجمل التعبير وأجمل البيان في حب المصطفى . فإن لم يفعلوا.. ولن يفعلوا.. فليتقوا الله ربهم، وليقرأوا أبياته مرة أخرى، لعل قلوبهم تدرك صدق الإحساس، أو يهتز وجدانهم لعمق المشاعر. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك