فلسفة أصول التعاليم الإسلامية (تابع الإصلاح الثاني)

كلام الإمام.. (4)

فلسفة أصول التعاليم الإسلامية (تابع الإصلاح الثاني)

التسامح أو المسالمة

القسم الثالث من أخلاق التقوى يسمى في اللغة العربية بالتسامح أو المسالمة. أي الكفّ عن إيذاء الناس باليد أو اللسان والابتعاد عن الشر والإساءة. ومعاشرة الناس بصلح وسلام. ولا ريب أن السلم من أسمى الأخلاق، وأنه أهم والزم ما يكون للإنسانية ولا يمكن الاستغناء عنه مطلقًا.

غريزة التآلف وخُلُق التسامح

إن الغريزة التي تكون في الطفل كمنشأ لهذا الخُلُق، والتي بتعديلها تصير فضيلة ويتكوّن منها ذلك الخُلُق .. هي الاستئناس أو التآلف الطبيعي. ومن الظاهر أن الإنسان في حالته الطبعية لا يستطيع أن يفهم معنى السلم ولا يمكنه أن يدرك حقيقة الحرب إذ يكون خلوًا من التعقّل. لذلك فإن سجيّة الاستئناس والوفاق هي المنشأ لخُلق التسامح والمسالمة. وبما أن هذه السجيّة لا تكون وقتئذ وليدة التفكّر والتدبّر والإرادة المعيّنة. فهي لذلك غير داخلة في عداد الأخلاق، وإنما تدخلها متى جعل الإنسان نفسه عديم الشر بإرادته. وأبدى خُلُق السلم في محله، واحترز دائمًا من استعماله في غير موضعه. وهاكم إرشاد الله تعالى في هذا الخُلُق:

وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (الأَنْفال: 2)

أي اصلحوا فيما بينكم بمحو الضغائن وبالمواساة وحسن المعاشرة.

ويقول سبحانه وتعالى في مقام آخر:

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (النساء: 129)

ويقول سبحانه وتعالى أيضًا:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (الأَنْفال: 62)

أي إذا كنتم في حرب مع قوم ورأيتم أنهما مالوا إلى الصلح وجب عليكم عندئذ أن تعقدوا معهم صلحًا ولا تمانعوهم فيه.

ويقول سبحانه وتعالى:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (الفرقان: 64)

ويقول:

وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان: 73)

أي أنهم لا يتجادلون على توافه الأمور بل إذا سمعوا عبث القول مما عساه أن يؤدي للقتال سمعوا عبث القول مما عساه أن يؤدي للقتال والشقاق عالجوه بلباقة ووقار ثم انصرفوا عنه كرامًا مكرمين. ولا يستحسنون الخصام والجدال ولا يلجأون إليه إلا إذا أصابهم ضرر شديد. ولا ريب أن هذا هو الأصل الوحيد في معرفة مواضع السلام، أي عدم المبالاة بالسفاسف والتغاضي عنها.

الفرق بين التسامح والعفو

إن كلمة اللّغو الواردة في الآية هنا تعني العبث. أو الفعل الذي يأتيه الإنسان بغرض الفساد أو الإيذاء ولكن لا ينتج عنه في الحقيقة بأس كبير أو ضرر ذو شأن. فينبغي والحالة هذه أن يُعامل ذلك الشخص معاملة الكرام. ويُصفح عنه الصفح الجميل، فإن هذا من شعار التواضع والسلام.

وأما إذا تجاوز حدّ اللّغو، وعاد منه الضرر على الحياة أو المال أو العرض، فلا يكون الإعراض عن ذلك هو خُلُق التسامح. وإنما يكون الإعراض عن هذا الجرم هو خُلُق العفو، وسيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله .

فرق السلم وموضعه

ومما يرشدنا الله به إلى طرق السلم قوله تعالى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت: 35)

أي عامل من أساء إليك بالحسنى يكن لك صديقًا بعد أن كان عدوًا، وبالجملة فإن التغاضي على سبيل التسامح يكون للفعل المستهجن الذي لا يعود منه ضرر حقيقي بل يكون مجرد هذر وثرثرة.

الرفق والقول الحسن

غريزة الطلاقة وخُلُق الرفق

القسم الرابع من أقسام التقوى هو الرفق والقول الحسن. والحالة الطبعية التي ينشأ منها هذا الخُلُق هي الطلاقة، أي بشاشة الوجه، التي لا يفتأ يبديها الطفل تعبيرًا عن الرفق والقول الحسن الى أن يقدر على النطق. إن الطلاقة ملّكة طبيعية، وأما الرفق فهو خُلُق يتولّد من استعمال هذه الملكة في موضعها. واليكم ما أرشدنا الله تعالى اليه في هذا الشأن:

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا (البقرة: 84)

أي قولوا لهم ما هو في الواقع خيرًا.

ويقول سبحانه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (الحجرات: 12)

ويقول :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات: 13)

ويقول:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء: 37)

أقسام الـبر

العفو وحدوده

بعد أن انتهينا من ذكر أقسام التقوى نتناول الآن أقسام البر .. وهو إيصال الخير.

فالخُلُق الأول من أخلاق البر هو العفو .. وذلك أن الذي يصفح عن المسيء اليه إنما يصله الخير، إذ لا يؤاخذه بما يستحق على إساءته بإيصال الإيذاء اليه في أي شكل كان من عقاب أو سجن أو غرم أو ضرب باليد على الأقل، لذلك فإن العفو عنه يكون بمثابة إيصال الخير بشرط أن يكون في محلّه. وما أجمل ما أرشدنا اليه القرآن المجيد عن هذا الخُلُق بقوله:

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ (آل عمران: 135)

وقوله :

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (الشورى: 41)

أي أنه يصف أهل البر والصلاح بأنهم يمسكون عن الغضب، ويغفرون للناس عند اقتضاء الحال، وإذا عاقبوا المعتدي كان عقابهم بمثل ما اعتدى عليهم، وهذه هي القاعدة الحكيمة في العقوبات بأن السيئة جزاؤها سيئة مثلها، وأما العفو إذا كان في موضعه بنيّة الإصلاح. أو لمنع الفتنة والفساد.. فهو إذا من الحسنات التي يثاب عليها الإنسان بالحسنى.

الأصل الحكيم في العقوبة والعفو

ونرى من هذه الآية أن القرآن المجيد لا يقول بوجوب ترك مقاومة الشر وعدم معاقبة الظَّلمة والأشرار في كل الأحوال .. كلا، بل يرشدنا في ذلك لأن نتبيّن أولاً مواضع العقوبة. ثم نختار منها ما ينفع المجرم وعامة الخلائق. فالمجرم قد لا ينفعه العفو بل يزيده عتوًّا على جرمه، لذلك يرشدنا الله تعالى ألاّ نعتاد العفو كالعميان، بل يجب أن نتبين موضع الخير الحقيقي أهو في العفو أم في العقاب؟ ثم نأتي بعد ذلك بما يوافق الحال والمقام. إننا إذا استقرأنا أخلاق البشر، وأنعمنا النظر في كل فرد، ظهر لنا جليًا أنه كما يكون بعضهم حقودًا يضمر الحقد الدفين حتى أنه لا ينسى أحقاد آبائه، كذلك يكون من بينهم من يبالغ في العفو والصفح منتهى المبالغة، حتى أن هذا الإفراط ليفضي أحيانًا إلى المجون والديُّوثية، ويصدر عن المرء من الحلم والعفو والتغاضي ما ينافي تمامًا الحمية (1) والغيرة والعفّة، ويَصِمُ السيرة الصالحة وصمة سوء، وتكون النتيجة من وراء مثل هذا العفو والسماح أن الناس يتبرأون من صاحبه ويلعنونه. لذلك فإن هذه المفاسد هي التي راعاها القرآن المجيد وجعل كل خُلُق مشروطًا بأن يكون في محله، ولم يقبل منه إلا ما يصدر حسب من المقتضى.

الفرق بين غريزة العفو وخُلُق العفو

لا يغيب عن البال أن العفو مجرد لا يجوز تسميته خُلُقًا لأنه قوة طبعية قد توجد في الطفل أيضا. أفلا ترون أن الطفل إذا أصابه أحد بإصابة ولو كانت بقصد الإيذاء نسيها بعد قليل، وأقبل على ضاربه بحلو القول راضيًا عنه حتى وإن كان قد نوى قتله؟ فهل يكون عفوه هذا من قبيل الأخلاق في شيء؟ كلا، إن هو إلاّ ملَكة فطرية تصدر منه عفوًا، بصرف النظر عن مقتضيات الأحوال. ولذلك لا تدخل هذه في عداد الأخلاق إلا إذا استعملناها في محلها، ولكن قليلا من الناس من يدرك الفرق بين الغريزة والخُلُق. ولقد سبق القول مرارًا أن الفرق بينهما هو أن الخُلُق يستلزم مراعاة الحال والمقام. وأما الغريزة فهي تفعل فعلها بدون هذه المراعاة. هذا، وإلا فإن من بين البهائم نجد أن البقرة وديعة، وأن الشاة متواضعة، ولكن لأنها لم تُمنح قوة التمييز فلا يمكن أن نقول بأنها متّصفة بهذه الفضائل. ألا إن حكمة الله البالغة وكتابه الحق الكامل قيَّدا كل خُلُق بشرط استخدامه في الموضع اللائق.

مــــدارج البـــــر

العدل، الإحسان، إيتاء ذي القربى

الخُلُق الثاني من أخلاق البر هو العدل، والثالث هو الإحسان، والرابع هو إيتاء ذي القربى كما يذكره الله تعالى في قوله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى (النحل: 91)

أي أنه يأمر بأن نقابل الحسنة بالحسنة، وذلك هو العدل، وأن نزيد فوق العدل إحسانًا إن كان في محله، وإن اقتضى المقام نزيد عن الإحسان بأن نفعل الخير خالصًا بعاطفة فطرية كعاطفة ذي القربى. كما وأنه سبحانه وتعالى ينهى عن الفحشاء .. أي أن نتجاوز حدود الاعتدال أو أن يصدر منّا من الإحسان ما ينكره العقل بأن نأتي الإحسان عن غير مأتاه، أو نتلكأ في مراعاة الظروف، أو نقصّر عند الضرورة في العمل بمقتضى “ايتاء ذي القربى”، أو نفرط فيه فنساعد الأقرباء ونرحمهم فوق الحد.

إن الآية الجليلة تتضمن درجات ثلاث من البر:

فالدرجة الأولى أن يكون الإحسان بإحسان مثله، وهذه أدنى درجة لإيصال الخير يستطيع أن يبلغها رجل صالح من أدنى طبقة بألاّ ينفك يحسن إلى من أحسن إليه. أما الدرجة الثانية فهي أصعب منها نَيلاً، وهي أن يبدأ الإنسان غيره بالحسنة من تلقاء نفسه، وليس هذا الخُلُق إلا وسطًا بين درجتين. وكثير من الناس يحسنون الى الفقراء، بيد أن هذا الإحسان قد يستتر فيه عيب .. وهو أن المحسن قد تحدّثه نفسه بأنه قد أحسن .. فينبغي على إحسانه كلمة شكر أو دعاء على الأقل، وإذا خالفه من أحسن إليه في شيء لمزه واتهمه بأنه كافر للنعمة ناكر للجميل.. وحمّله أحيانًا ما لا يحتمل .. ومنَّ عليه بصنيعه. لذلك يُحذّر الله تعالى هؤلاء المحسنين بقوله:

لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى (البقرة: 265)

أي لا تضيّعوا بالامتنان والإيذاء صدقاتكم التي يجب أن تكون عن صدق، لأن كلمة “الصدقة” مشتقة من الصدق. وإن لم يكن الصدق والإخلاص في قلب المرء فلا تبقى الصدقة صدقة وإنما تكون من قبيل الرياء. وملخص القول، إن في المحسن ضعفًا، إذا يمنَّ بإحسانه إذا ما أخذته ثورة الغضب، فلهذا حذّر الله المحسنين من المنِّ والأذى. وأما الدرجة الثالثة من البر فهي ما عبّر الله تعالى عنه باسم “إيتاء ذي القربى” وهو ألاّ يكون بقلب المحسن أي شعور بالإحسان .. ولا رجاء لتلقي الشكر عليه، بل يجب أن ينبثق الإحسان عن اندفاع إنساني كاندفاع الأم الحنون إلى العطف على فلذة كبدها. وهذه الدرجة هي أسمى الدرجات في إيصال الخير، وليس وراءها درجة يُرتقى اليها.

هذا ، وقد جعل الله تعالى جميع أقسام البر هذه منوطة بمراعاة المقام، وصرّح في الآية المذكورة بكل وضوح أن هاتيك الحسنات إن لم توضع في مواضعها تصبح سيئات. فيكون العدل فحشًا إذا تجاوز الحد لدرجة يُستقبح فيها، ويعود الإحسان شيئا منكرًا يرفضه العقل والوجدان، ويكون إيتاء ذي القربى بغيًا، أي أن يولّد صورة مكروهة، فإن البغي في اللغة هو المطر الذي يتجاوز الحد في الشدّة ويتلف الحرث، وكذلك التفريط أو الإفراط في تأدية ما يجب من الحقوق.

وبالجملة فإن أي قسم من الأقسام الثلاثة إذا صدر في غير محله كان خُلُقًا سيئًا. ولهذا يُشترط في كلًّ منها ملاءمة المقام وملاحظة الحال.. ولا يبعد عن الذهن هنا أن مجرد العدل أو الإحسان أو الشفقة التي هي كشفقة ذوي القربى، لا يكون خُلُقًا في ذاته وإنما هي جميعها حالات طبعية وملكات فطرية، توجد حتى في الأطفال قبل نشوء العقل فيهم. وأما الخُلُق فهو مشروط بالعقل، كما أنه مشروط بأن تستعمل كل قوة في موضعها.

صورة الإحسان ومواقعه

وعدا ما سبق، فإن في القرآن المجيد تعليمات ضرورية عن خُلُق الإحسان .. لقد ذكر الله تعالى تعاليمه عن العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى مُعرَّفة بـ”ال” التعريف إشارة الى أهمية مراعاة موضع الاستعمال.

ويقول سبحانه :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (البقرة: 268)

أي انفقوا على سبيل الجود أو الإحسان أو الصدقة من كسبكم الحلال، الذي لم يختلط به شيء من المال المسروق أو الرشوة أو الخيانة أو الغبن أو الظلم ونزِّهوا قلوبكم عن إنفاق الخبيث.

ويقول سبحانه وتعالى:

لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ (البقرة: 265)

ويقول:

وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة: 196)

ويقول :

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (الإِنْسان: 6-10)

والمراد من قوله تعالى:

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا  (الإنسان : 6)

أن أهل البِر الحقيقي يُسقون من الشراب ما يُطفئ في نفوسهم لواعج(2) الحياة الدنيا، ويبعد عنها أوار الحسرات، وينفي عن قلوبهم الشهوات الخبيثة. إن كلمة “الكافور” مشتقة من الكفر، والكفر في اللغة العربية معناه التغطية والإخفاء، لذلك كان المراد من سقي الشراب الكافوري إخماد أهوائهم الدنيئة فيصحبون أنقياء البواطن وتسري فيهم طمأنينة العرفان. والمراد من قوله تعالى:

 عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (الإنسان : 7 )،

أنهم شاربون يوم القيامة من النبع الذي يشقّونه اليوم بأيديهم، وهنا سر غامض من أسرار حقيقة الجنّة، فليفهم من شاء.

هذا، ومن خصال أهل البر الحقيقي أنهم يطعمون المساكين واليتامى والأسارى مما تستطيب نفوسهم من الطعام، ويقولون إن ما فعلوه من الخير إنما فعوله حبًّا لله وابتغاء مرضاته، وأنهم لا يبتغون به جزاء ولا شكورًا .. وهذا إشارة الى أنهم يفعلون المعروف بدافع الشفقة المحضة.

ثم إن من خصال الأبرار الصادقين أنهم يسعفون أولي الأرحام في سد حاجاتهم بالمال، ولا يفترون عن الإنفاق منه على اليتامى في سبيل تعليهم وتربيتهم وتعهّد حالهم، وينقذون الفقراء من الجوع والعطب، ويخدمون المسافرين والسائلين والمتكففين، وكذلك يبذلون منها في تحرير الرقيق وفك العاني والغريم، ويفعلون كذل هذا ابتغاءً لمرضاة الله كما يصفهم بقوله :

وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ  (البقرة : 178 )

وكما يقول عنهم :

وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (الفرقان: 68)

ويقول:

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ  (الرعد : 22)

ويقول:

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  (الذاريات: 20)

أي المحروم من قوة النطق والسؤال، ويدخل في عداده الكلاب والهررة والبهائم والعصافير وغيرها من العجماوات.

كذلك يقول عنهم :

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (آل عمران: 135)

ويقول:

وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً (الرعد : 23)

أي أنهم لا يتضايقون من البذل في الرخاء أو في البؤس وأيام القحط، بل ولا يبرحون ينفقون حسب الاستطاعة مهما واجهوا من الأحوال. وإذا أنفقوا أنفقوا تارة سرًّا خشية الرياء وطورًا علانية كي يكونوا أسوة للناس.

ثم يقول :

 إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة: 60 )

ويقول :

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (آل عمران: 93)

ويقول:

وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (الإسراء: 27)

وفي الآية الأخيرة تحذير من الإسراف في إنفاق الأموال الطائلة في الأعراس وحفلات أعياد الميلاد وأماكن اللهو واللعب وغيرها من التقاليد.

ويقول :

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (النساء: 37-38)

وقوله تعالى وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يشمل جميع ما يكون تحت تصرّف الإنسان من الخدم والأنعام. والإحسان اليهم هو اتخاذ أحسن ما يكون من الوسائل لتربيتهم وتحسين أحوالهم.

  1. الحميَّة: القوة الغضبية.
  2. لواعج: جمع لاعج وهو الهوى المحرق.
Share via
تابعونا على الفايس بوك