لا يخفى أن السؤال الأول يتصل بحالات الإنسان الطبْعية والأخلاقية والروحانية. فاعلموا أن كلام الله القرآن الكريم قد قسم هذه الحالات الثلاث تقسيمًا يحدد لها ثلاثة مبادئ، لكل حالة منها مبدأ على حدة. وبعبارة أخرى: إنه جعل لكل حالة من هذه الحالات الثلاث ينبوعًا خاصا تنبع منه.
الحالة الأولى: النفس الأمارة
يسمي القرآنُ الكريم الينبوعَ الأول الذي يُعتبر مَوْردًا ومصدرًا لجميع الحالات الطبْعية “النفسَ الأمارة”، وذلك في قوله تعالى:
أي أن من خواص النفس الأمارة أنها تميل بالإنسان إلى السيئات التي تُغاير الأخلاقَ وتُنافي الكمال، وتدفعه إلى السير في مسالك السوء ومذاهب المنكر. فخروج الإنسان عن حد الاعتدال وجموحُه إلى السيئات، حالةٌ تسبق حالتَه الأخلاقية وتستولي عليه بصورة طبيعية، وتسمّى هذه الحالة طبْعية ما لم يمشِ الإنسان في ظل العقل والمعرفة، وإنما يتبع -كالبهائم- النوازعَ الطبْعية في الأكل والشرب والنوم واليقظة والغيظ والغضب وما شابه ذلك من الميول والأهواء. أما إذا تصرف في حالاته الطبْعية على ضوء توجيه العقل والعرفان، وراعى فيها حد الاعتدال المطلوب، فلا تبقى هذه الحالات طباعًا، بل تصير أخلاقا، كما سنبيّنه بالإيجاز فيما بعد.
الحالة الثانية: النفس اللوامة
وأما منشأ الحالات الأخلاقية فاسمه في القرآن المجيد “النفس اللوامة”.. كما يقول الله عز وجل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (القيامة: 3).. أي أُقسِم بالنفس التي تلوم ذاتها على كل مأثمة تغشاها أو زلة تبدر منها. هذه النفس اللوامة هي الينبوع الثاني الذي تنشأ منه الحالات الأخلاقية . وإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة نجا من مشابهة الأنعام. وقد أقسم الله هنا بالنفس اللوامة تنويهًا بمكانتها، فكأنما استحقت عند الله هذا الإكرام لأنها انسلخت عن طبيعتها الأولى الأمارة بالسوء، وارتقت إلى درجة النفس اللوامة.
وقد سماها الله “اللوامة” لأنها تلوم الإنسان على إتيان السيئة، ولا ترضى له أن يسترسل في دوافعه الطبْعية استرسالَ الأنعام المطلَقة القيود وأن يعيش عيشة البهائم، بل تريد ألا يصدر منه إلا خيرُ الحالات وصالح الأخلاق، وألا يتجاوز حد الاعتدال في جميع لوازم الحياة، وأن يلبي رغباته وأهواءه الطبْعية باسترشاد من العقل. وبما أن النفس تلوم الإنسان على ارتكاب السوء.. فلذلك وصفها الله باللوامة، أي كثيرة اللوم.
والنفس اللوامة وإن كانت تمقت الانصياعَ للنوازع الطبْعية، ولا تنفك تلوم نفسها.. فإنها مع ذلك لا تكون قادرةً كل القدرة على عمل الصالحات، بل إن النوازع الطبْعية تصرعها أحيانا، فتتعثر وتسقط كأنها طفل ضعيف يحاول ألا يسقط، إلا أنه يسقط بسبب ضعفه، ويأسف على عجزه هذا.
وخلاصة القول.. إن هذه حالة أخلاقية تجمع بها النفس في ذاتها مكارم الأخلاق، وتكره الطغيان والفسوق.. ولكنها لا تستطيع بعد أن تتغلب على النفس الأمارة حق الغلبة.
الحالة الثالثة: النفس المطمئنة
هذا، وهناك منبع ثالث ينبغي اعتباره مصدرًا للحالات الروحانية كلها.. اسمه في مصطلح القرآن الحكيم: “النفس المطمئنّة”، وقد ورد ذكره في قول الله تعالى:
هذا هو المقام الروحاني الذي تتخلص فيه النفس من كل ضعف، وتمتلئ من القوى الروحانية، وتتصل بربها اتصالا لا تكاد تحيا بدونه. وكما أن السيل ينحدر متدفقًا في جريانه تدفقًا شديدًا بسبب غزارة مياهه وانعدام العوائق، فكذلك النفس المطمئنة تنطلق مندفعةً إلى الله. وإلى هذا الاندفاع تشير الآية:
فالنفس تتبدل تبدلا عظيمًا في هذه الحياة، كما بعد الموت، وتجد نوعا من الجنة في هذا العالم، كما في غيره؛ كما تقول الآية ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ .. أي تعالَيْ إلى من ربّاك.. فإن هذه النفس عندئذ تتربى بربوبية الله، وتتغذى من حُبّ الله، وتستقي من ذلك المـَعين الواهب للحياة، فلا تذوق الموت أبدا؛ كما جاء ذلك في قوله تعالى
أي من طهر نفسه من النوازع الأرضية فقد نجا من الهلاك، وأما من أخلد إليها فقد يئس من الحياة.
فهذه هي الحالات الثلاث التي يمكن أن نسميها -بعبارة أخرى- الحالات الطبْعية والأخلاقية والروحانية. وبما أن النوازع الطبْعية تصبح عند الإفراط خطرًا عظيمًا، وكثيرا ما تُفسد أخلاقَ الإنسان وتتلف روحانيته، لذلك فقد عُبر عنها في كتاب الله القدوس باسم النفس الأمارة بالسوء.
(فلسفة أصول الإسلام، تعريب حضرة سيد زين العابدين ولي الله شاه رضي الله عنه).