هل يجوز القتال من أجل الدين؟
  • هل أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرار الحرب؟
  • التعاليم اليهودية والمسيحية عن الحرب
  • تعاليم القرآن المجيد عن الحرب
  • ماذا ورد في السنة النبوية حول الحرب؟

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

فإذا كان المسيح قد جاء للحرب، فلماذا يدعو إلى إدارة الخد الآخر؟ من الواضح أنه ينبغي إما التسليم بوجود تناقض في الإنجيل، أو أن علينا تأويل التناقض على وجه مناسب.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

هل أراد رسول الله استمرار الحرب؟

في المعارك التي وقع فيها قتال، كان المسلمون إمّا في المدينة أو خرجوا على مسافة قريبة منها لصد هجوم الكافرين. لم يـبدأ المسلمون هذه المعارك، ولم يُبدوا أبدًا أيّة رغبة في استمرارها بعد أن بدأت، فهم لم يحرصوا بتاتًا على استمرار الحرب.

وعادة عندما تبدأ المعركة بين طرفين، فإنها يمكن أن تنتهي بإحدى طريقتين لا ثالث لهما: إما سلام يُتفق عليه، أو يخضع أحد الطرفين للآخر. وفي المعارك التي وقعت بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين، لم يحدث أيّ إلماح إلى السلام، ولا خضع طرف من الأطراف للآخر. صحيح أن القتال كان يتوقف أحيانًا، ولكن لا يمكن القول إن الحرب بينهما قد توقفت في هذه الوقفات المؤقتة. وحسب العرف المعمول به، كان من حق المسلمين أن يهاجموا القبائل المعادية ويجبروهم على الاستسلام، ولكنهم لم يفعلوا ذلك. فعندما كان العدوّ يكفّ عن القتال، كان المسلمون يتوقفون كذلك. كانوا يتوقفون وهم يتصوّرون أن الكفّ عن القتال قد يعقبه كلام عن السلام. ولكن بعدما صار واضحًا أن الحديث عن السلام لا وجود له مع المشركين، ولا يبدو أن لديهم أية نية في الخضوع، فكّر الرسول أنه ربما قد حان الوقت لإنهاء الحرب، إما بعقد اتفاق للسلام أو بخضوع طرف للآخر، ولكن لا بد من إنهاء حالة الحرب لكي يحل السلام. ويبدو أنه بعد موقعة الخندق، عقد الرسول العزم على تحقيق أحد الأمرين: إما السلام أو الاستسلام. وكان من المستحيل بالطبع أن يستسلم المسلمون للكافرين، فلقد كان وعْد الله لهم هو تمام نصر الإسلام على المشركين الذين عارضوه واضطهدوا المسلمين، وقد أعلن الرسول هذا الوعد مرارًا في مكة قبل الهجرة. فهل كان على المسلمين أن ينادوا بالسلام؟ إن طلب السلام يمكن أن يأتي من الجانب الأقوى أو الأضعف، وعندما يطلب الطرف الأضعف السلام، فإنه بذلك يتنازل مضطرًا – سواء بشكل مؤقت أو على الدوام – عن بعضٍ من أرضه أو دخله، أو يقبل مضطرًا أية شروط أخرى يفرضها العدوّ عليه. وعندما يعرض الجانب الأقوى سلامًا، فإن هذا يعني أنه لا يهدف إلى القضاء على الطرف الأضعف قضاءً تامًا، بل يعني أنه يريد أن يتركه ليحتفظ باستقلال كامل أو جزئي، وذلك في مقابل شروط معينة يفرضها عليه. وفي المعارك التي نشبت حتى ذلك الوقت بين المشركين والمسلمين، فشل المشركون مرة بعد أخرى في تحقيق أهدافهم، غير أن قوّتهم لم تكن قد تحطمت بعد، وكل ما حدث هو أنهم فشلوا في محاولاتهم للقضاء على المسلمين. والفشل في القضاء على العدوّ لا يعني الهزيمة، بل يعني أن الهجوم لم ينجح، وقد ينجح إذا تكرر الهجوم. وهكذا لم يكن أهل مكة قد تلقوا الضربة القاصمة بعد؛ بل كل ما حدث هو فشل عدوانهم على المسلمين. ومن الناحية العسكرية، كان المسلمون قطعًا هم الجانب الأضعف. صحيح أنهم صمدوا في الدفاع عن أنفسهم، ولكنهم كانوا لا يزالون يشكلون الأقلية الأضعف، الأقلية التي لم تكن قادرة على اتخاذ مبادرة الهجوم، وإن كانت قد نجحت في مقاومة هجوم الأكثرية. ولذلك لم يكن المسلمون قد أسسوا صرح استقلالهم حتى ذلك اليوم، ولو أنهم دعوا إلى السلام لفُهم من ذلك أن دفاعاتهم قد انهارت، وأنهم أصبحوا الآن على استعداد لقبول ما يمليه عليهم المشركون. لذلك فإن عرضًا لطلب السلام من جانبهم يكون كارثة على الإسلام، وهو يعني إلقاء أنفسهم إلى التهلكة، وقد يبعث الروح من جديد في عدوّ أوْهنته المحاولات الفاشلة المتكررة التي قام بها، وقد تتيح له فرصة لتجديد الآمال وإذكاء الطموحات لديه، وربما ظن الكفار أن المسلمين، رغم نجاحهم في إنقاذ المدينة، إلا أنهم قد صاروا يتشككون في تحقق نصرهم النهائي وتحقيق غلبتهم على المشركين. ولذلك، فلا يمكن أن يصدر الاقتراح بطلب السلام من الجانب المسلم، وإنما يمكن أن يأتي من جانب أهل مكة، وهو الجانب المعتدي، أو من طرف ثالث، إذا كان للطرف الثالث وجود، ولكن لا يوجد طرف ثالث في هذا الصراع، فقد كانت المدينة تقف ضد جميع العرب في الجزيرة العربية. وبذلك فإن المشركين وحدهم هم الذين كان عليهم أن يبادروا المسلمين بالسلام، غير أنه لم تكن هناك علامة واحدة في هذا السبيل، مما يعني أن الحرب بين العرب والمسلمين كان يمكن أن تستمر إلى الأبد. فالمسلمون لا يمكنهم عرض السـلام، والعرب لا يريدون عـرض السلام، وعلى ذلك فقد بدا أنها حـرب أهليـة بلا نهايـة، على الأقل لمائة سـنة قادمـة.

كان هناك سبيل وحيد للمسلمين إذا أرادوا وضع نهاية لهذا الصراع، وهم لم يكونوا مستعدين أن يُخضِعوا عقولهم وعقائدهم للعرب، وأن يتنازلوا عن حقهم في الإيمان بما يرونه حقًّا، وأن يمتنعوا عن ممارسة شعائر الدين الذي يؤمنون به وعن الدعوة إليه، وفي نفس الوقت، لم تكن هناك أية بادرة لإحلال السلام من جانب المشركين. كان المسلمون قادرين على دفع هجوم المشركين المتكرر، وهذا يعني أنه ينبغي لهم أن يدفعوا العرب إلى الاستسلام أو إلى قبول السلام، وهذا هو ما قرر الرسول أن يفعله.

فهل كانت الحرب هي ما ابتغاه الرسول ؟ لا. لم تكن الحرب، بل هو السلام الذي أراد الرسول أن يقيمه ويُرسي دعائمه. ولو أنه لم يفعل شيئًا في هذا الوقت، فإن الجزيرة العربية كانت ستظل في قبضة الحرب الأهلية، والخطوة التي اتخذها كانت هي الخطوة الوحيدة نحو إحلال السلام. لقد سجّل التاريخ وقوع حروب طويلة عديدة، استغرق بعضها مائة عام، والبعض ثلاثين عاما أو نحوها أو أكثر، وما كانت الحروب الطويلة لتستمر إلا بسبب الافتقار إلى خطوة حازمة يخطوها طرف من الطرفين. والخطوة الحازمة كما قلنا ليس لها إلا أحد وجهين، الاستسلام التام أو التفاوض لإقرار السلام.

فهل كان ينبغي للرسول أن يتخذ موقفًا سلبيا؟ هل كان ينبغي له أن ينسحب مع قوته الصغيرة من المسلمين، ويقبع خلف جدران المدينة، تاركًا كل شيء آخر في مهب الريح؟ مستحيل. لقد كان المشركون هم الذين بدأوا بالهجوم، ولم تكن السلبية لتعني انتهاء الحرب بل استمرارها؛ فإن السلبية تعني أن للمشركين أن يهاجموا المدينة متى يحلو ذلك لهم، وأن يتوقفوا عن الهجوم أو يعاودوه كما يشاءون. وتوقف المعركة لبعض الوقت لا يعني انتهاء الحرب، وإنما يعني فقط مناورة استراتيجية.

تعاليم اليهودية والمسيحية عن الحرب

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: هل يجوز القتال من أجل الدين؟ ولنبدأ بمعالجة هذا السؤال أولاً.

إن التعاليم الدينية عن الحرب تتخذ صورًا شتى. وقد ذكرنا فيما سبق تعاليم العهد القديم، التي جاءت في التوراة إلى موسى تأمره بدخول أرض كنعان بالقوة لهزيمة سكانها وإسكان شعبه فيها. (التثنية 20: 10 – 18)

وعلى الرغم من وجود هذا التعليم في شريعة موسى، وعلى الرغم من تطبيقه عمليًا على يد النبي يوشع والنبي داود وآخرين، فإن اليهود والمسيحيين لا يزالوا يشيدون بأنبيائهم ويعتبرون كتبهم كتبًا سماوية من عند الله تعالى.

وعندما انتهى العهد القديم، وجدنا يسوع يعلم في الإنجيل:

“وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا” (متى 5: 39).

ولطالما ذكر المسيحيون هذا البيان الصادر عن يسوع، واحتجوا به على أنه كان يعلم ويعظ تعليمًا مضادًا للحرب، ولكنا نجد في أناجيل العهد الجديد فقرات مفادها العكس تمامًا، تقول فقرة منه على سبيل المثال، في إنجيل متّى 10: 34:

“لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا”.

وفي فقرة أخرى يقول:

“فقال لهم: ولكن الآن من لـه كيس فليأخذه ومِزوَد كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفًا” (إنجيل لوقا 22 :36).

هاتان الفقرتان الأخيرتان من الفقرات الثلاث السابقة تناقضان الأولى، فإذا كان المسيح قد جاء للحرب، فلماذا يدعو إلى إدارة الخد الآخر؟ من الواضح أنه ينبغي إما التسليم بوجود تناقض في الإنجيل، أو أن علينا تأويل التناقض على وجه مناسب.

ولسنا معنيين في هذا المقام بقضية ما إذا كانت إدارة الخد الآخر أمرًا قابلاً للتطبيق على وجه الإطلاق، ولكن ما يعنينا هنا أن نشير ونؤكد أن الدول المسيحية كلها طوال التاريخ لم تتردد في الذهاب إلى الحرب ولم يديروا الخد الآخر. وعندما نال المسيحيون الملك والسُلطة لأول مرة، فإنهم دخلوا الحروب مهاجمين ومدافعين. وهم الآن قُوى مسيْطرة في العالم، ولا زالوا متورطين في الحروب مدافعين ومهاجمين. وفي هذا العصر الحالي نجد أنه إذا انتصر جانب منهم، مجّدته بقية الشعوب المسيحية، واعتبروا انتصاره انتصارًا للحضارة المسيحية، وأصبحت الحضارة المسيحية في كل صورها تعني الهيْمنة والنجاح. وعندما تتحارب دولتان مسيحيتان، فإن كلاً منهما تدّعي أنها تحمى المثل المسيحية، ويتم تمجيد الدولة المنتصرة باعتبارها الدولة المسيحية الحقيقية. ومن الواضح أنه منذ زمن المسيح وإلى عصرنا هذا، ظلت المسيحية تخوض غمار الحروب، وتشير كل الشواهد إلى أنها سوف تظل على نفس الحال.

وإذن فالفتوَى العملية للمسيحية هي أن الحرب تُعبر عن التوجيه الحقيقي لتعاليم العهد الجديد، وأن موضوع إدارة الخد الآخر هذا، لم يكن إلا تعليمًا انتهازيًا أملاه العجز التام للمسيحيين الأوائل، أو أن المقصود به هو أن يُطبّق على الحالات الفردية، لا على الدول ولا على الشعوب.

وثانيًا، حتى لو افترضنا أن المسيح قد أمر بالسلام لا الحرب، فلا يعني هذا أن من لا يتّبعون تعاليمه لم يكونوا قديسين أو شرفاء. فقد دأبت المسيحية دائمًا وأبدًا على احترام أعمدة الحرب، مثل موسى وداود ويوشع. وليس هذا فقط، بل إن الكنيسة نفسها قد كرّمت الأبطال القوميين الذين دخلوا الحروب، ونصّبتهم قدّيسين على يد البابوات.

تعليم القرآن المجيد عن الحرب والسلام

يختلف القرآن المجيد في تعاليمه عن تعاليم التوراة والإنجيل. إنه وسط بين الاثنين؛ فهو لا يأمر بالعدوان كما جاء في التوراة، ولا هو يفعل كما تفعل المسيحية هذه الأيام فيأمر بأمرين متناقضين: أي يطلب منا أن ندير الخد الآخر، وفي نفس الوقت يأمرنا أن نبيع الملابس لشراء السيوف. إنّ تعاليم الإسلام تطابق الفطرة الطبيعية للإنسان وتتناسب معها، وتدعو لنشر السلام بالطريقة الوحيدة الممكنة.

يحرّم الإسلام الاعتداء على الناس، ولكنه يحث على القتال إذا كان القعود عنه يعرّض السلام للخطر ويشجّع الحرب. وإذا كان القعود عن القتال يؤدّي إلى الاستئصال التام لحرية الاعتقاد وحرية البحث عن الحقيقة، فإن واجبنا أن نقاتل.

هذا هو التعليم الذي يمكن أن يُبنى عليه سلام دائم، وهذا هو التعليم الذي بَنى عليه الرسول سياساته الخاصة وممارساته العملية. لقد عانى باستمرار وبصبر في مكة، ولكنه لم يقاتل العدوان القاسي الذي كان هو ضحية بريئة له. ولما هاجر إلى المدينة، وخرج العدو لاستئصال شأفة الإسلام، كان قتال العدو حينئذ هو العمل الذي لا بد منه، من أجل الدفاع عن الحق وحرية الفكر والعقيدة.

وسنعرض في ما يلي للآيات القرآنية التي تشتمل على موضوع الحرب.

أولاً: في سورة الحج: 40-42 نجد ما يلي:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرا وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *  الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ

تقول الآيات إن ضحايا العدوان قد سمح لهم بالقتال، وأن الله تعالى قدير على أن يعين هؤلاء الضحايا، الذين طُردوا من بيوتهم بسبب عقائدهم. وهذا التصريح لهم بالقتال هو فعل حكيم، فلو لم يدفع الله تعالى الظلم والقسوة، بواسطة المخلصين من عباده الصالحين، فلن توجد في العالم حرية للإيمان ولا للعبادة، ولذا فلا بد أن يعين الله عز وجل أولئك الذين يعملون على إقرار حرية الفكر وحرية العبادة. ويعني ذلك بالتالي أن القتال مسموح به عندما تطول معاناة الناس من عدوان ظالم، حين لا يكون لدى المعتدي سبب للعدوان، ويبتغي بعدوانه التدخّل في اختيار الناس لدينهم. وعليهم إذا تقلّدوا السُلطة أن يقيموا دعائم احترام حرية الدين والعقيدة، وأن يحموا كل الأديان وجميع أماكن العبادة. ولا يجوز لهم استخدام سُلطتهم أو قوّتهم من أجل مجدهم الخاص، ولكن من أجل مصالح الفقراء، وتقدّم البلد كلها، وتعميم السلام على الجميع. وهذه التعاليم بقدر ما هي واضحة ودقيقة فهي رائعة، ولا غبار عليها. وإنها لتعلن للعالم حقيقة أن المسلمين الأولين ذهبوا إلى الحرب حيث لم يكن أمامهم من سبيل سوى ذلك، وحيث حرّم الإسلام عليهم الحرب العدوانية. لقد وعدهم الله تعالى بالنصر السياسي والسُلطة، ولكنه سبحانه وتعالى  حذّرهم من استخدام هذه السُلطة لتعظيم أنفسهم واستعلائهم على الناس، بل لتحسين حالة المساكين وإشاعة السلام والتقدم.

ثانيًا: جاء في سورة البقرة الآيات التالية من 191 إلى 194:

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ*  وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ*  فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ*  وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين

والمعنى: إن القتال يكون هدفه التماس رضوان الله تعالى، وليس بغرض إرضاء رغبة الانتقام أو تعظيم شأن النفس، وينبغي ألا يقوم القتال على أساس العدوان، لأن الله لا يرضى بالاعتداء على الناس أو العدوان على البريء. والقتال يكون فقط بين المتقاتلين، فالتعدّي على الأفراد ممنوع بأمر الإسلام. والعُدوان على الدين يجب أن يُقابَل بمقاومة فعّالة، لأن عدوانًا من هذا القبيل لهو أخطر من سفك الدماء. وعلى المسلمين ألا يقاتلوا أحدًا قريبًا من المسجد الحرام إلا إذا بدأ العدوّ بالهجوم، فالقتال قريبًا من المسجد الحرام يتعارض مع الحق العام في الحج، ولكن إذا بدأ العدوّ بالهجوم فللمسلمين حقّ ردّه، فهذا هو الجزاء العادل للعدوان. أما إذا توقف العدوّ فعلى المسلمين التوقف كذلك، بل ونسيان الماضي وغفرانه. ويظل القتال مشروعًا حتى ينتهي الاضطهاد الديني وتستقر أعمدة الحرية الدينية، لأن الحساب على أمر الدين متروك لله عز وجل. إن استعمال القوّة أو الإكراه في أمور الدين خطأ فادح، وإذا انتهى الكافرون عن ذلك، وأطلقوا الحرية الدينية، فعلى المسلمين الكفّ عن قتال الكفار. ولا يُرفع السلاح إلا على الذين يرفعونه ويقصدون العدوان، ولكن عندما يتوقف العدوان فإن القتال يجب أن يتوقف أيضًا بشكل تام.

ويمكننا أن نقول إن الآيات ترشد إلى القواعد التالية:

أ. تُشنّ الحرب ابتغاء وجه الله تعالى، وليس التماسًا لأية دوافع نفسية، ولا للاستكبار في الأرض، ولا للاستكثار من أية فوائد أخرى.

ب. يجوز لنا أن نحارب الذين يبدأوننا بالهجوم ولا سواهم.

ج. ويجوز لنا أن نقاتل الذين يرفعون علينا السلاح، من المقاتلين وحدهم. ولا يجوز لنا قتال من لا يساهم في المعركة.

د. وحتى بعد أن يبدأ العدوّ الهجوم، فإن علينا الحفاظ على إبقاء مجال الحرب في أضيق الحدود، فمن الخطأ تَوسيع رقعة القتال، سواء من حيث المساحة على الأرض أو بالنسبة لنوعية الأسلحة المستخدمة.

هـ. ينبغي ألا نقاتل سوى الجيش النظامي الذي أخرجه العدو للقتال، ولا يجوز مقاتلة الآخرين الذين لا يقاتلون في صفه.

و. أثناء الحرب يجب المحافظة على حُرمة كل الطقوس والشعائر الدينية، وأماكن وأزمنة تأديتها. وإذا حافظ العدوّ على الأماكن التي تقام فيها المناسك الدينية، فإن على المسلمين أيضًا أن يكفّوا عن القتال في هذه الأماكن.

ز. إذا استخدم العدوّ أماكن العبادة كقواعد للانطلاق في هجومه، فإنه يمكن للمسلمين رد هذا الهجوم، ولا لوم عليهم حين يفعلون. ولا يجوز القتال حتى في جوار الأماكن المقدسة، فمن المحظور بشكل مطلق أن تهاجم الأماكن المقدسة أو تهدم أو تخرّب أو يوجّه إليها أي فعل يضرّ بها. وإذا اتخذ العدو مكانًا مقدسًا كقاعدة لعملياته فإن ذلك يمكن أن يستجلب ردًّا مضادًا، وفي هذه الحالة فإن مسؤولية أيّ تلف يصيب المكان ستقع على العدوّ لا على المسلمين.

ح. إذا أدرك العدو خطأه في اتخاذ مكان مقدّس كقاعدة لعدوانه، وتنبّه للخطر الذي ينتج من ذلك فابتعد عن ذلك المكان المقدس، فعلى المسلمين أن يأخذوا ذلك التغيير في الاعتبار. ولا يجوز للمسلمين أن يهاجموا ذلك المكان لمجرّد أنّ العدوّ قد بدأ هجومه منه. ولكن حرصًا على قداسة المكان، ينبغي للمسلمين تغيير جبهة القتال بعيدًا عن ذلك المكان المقدس، بمجرد أن يبتعد عنه العدوّ.

ط. يستمر القتال حتى ينتهي التدخل بالجبر والإكراه في الدين وفي الحرية الدينية، وعندما تتحقق حرية الدين، وعندما لا يُسمح بالإكراه في الدين، ويعلن العدوّ ذلك ويبدأ في الالتزام به والسلوك بمقتضاه؛ عند ذلك تنتهي الحرب معه، رغم أن العدوّ هو الذي بدأها.

ثالثًا: في سورة الأنفال، وفي الآيات 39 إلى 41، نجد لدينا ما يلي:

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ* وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

ومعنى ذلك أن الحرب تكون مفروضة على المسلمين، ولكن إذا توقف العدوّ وانتهى عنها، فعلى المسلمين فعل الشيء نفسه، وعليهم غفران الماضي. ولكن إذا لم ينته العدوّ، وظل يكرر الهجوم فعليه إذن أن يتذكر مصير أعداء الأنبياء السابقين. ويحق للمسلمين القتال حتى ينتهي الاضطهاد الديني، أو طالما أن الدين ليس متروكًا إلى الله تعالى، أو طالما أن العدوّ لم يتوقف عن التدخل والإكراه في الدين. فإذا انتهى المعتدي فعلى المسلمين الانتهاء كذلك، وليس لهم حق الاستمرار في القتال بسبب بطلان عقائد العدوّ، إن الله يعلم جيدًا قيمة العقائد ووزن الأعمال وسوف يجزي عليها بفضله. وليس للمسلمين الحق في التحرّش بدين قوم آخر مهما بدت عقائد هذا الدين زائفة. وإذا استمر العدوّ في الحرب بعد عرض السلام عليه، فعلى المسلمين أن يكونوا على يقين من النصر مهما كان عددهم قليلاً، لأن الله سوف يعينهم، ومن أحسن من الله عونًا ونصرًا؟

لقد نزلت هذه الآيات في أيام معركة بدر، التي كانت أول معركة منظمة بين المسلمين وبين العدوّ، وفيها كان المسلمون ضحايا هجوم لا مبرر له. لقد اختار العدوّ تدمير سلام المدينة والمنطقة المحيطة بها، ورغم ذلك كان النصر من نصيب المسلمين، ولقي القادة الكبار من رجال العدوّ مصرعهم. وبينما بدا أن الانتقام من عدوان كهذا هو أمر طبيعي وعادل وضروري، إذا بالمسلمين يتلقون أمر الله تعالى بأن يوقفوا القتال حالما يوقفه العدوّ، وكل ما على العدوّ أن يلتزم به هو منح حرية الاعتقاد والعبادة.

رابعًا: في سورة الأنفال أيضًا، وفي الآيات 62، 63 نقرأ قوله تعالى:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ

والمعنى أنه لو مال الكافرون إلى إنهاء القتال قبل موقعة ما أو بعدها وعرضوا السلام، فالواجب على المسلمين أن يقبلوا عرض السلام، حتى مع وجود خطر احتمال المخادعة. فعليهم أن يضعوا ثقتهم في الله ربهم، لأن الخيانة لن تجدي الكافرين نفعًا ضد المسلمين الذين يتوكلون على الله. إن انتصاراتهم ليست من عند أنفسهم بل من عند الله تعالى الذي يقف إلى جانب رسوله وأصحابه، وسوف يساندهم ضد أي خداع أو خيانة للعدوّ. ولذلك لا بد من قبول عرض السلام، ولا يجوز رفضه بحجة احتمال أن يكون مجرد حيلة يلتمس بها العدوّ كسب الوقت، أو كسب فرصة لتنظيم صفوفه واستئناف الهجوم.

والتركيز على السلام في هذه الآيات ليس بلا معنى، إنه يستبق السلام الذي وقّعه الرسول في الحديبية، وقد أخبر الله تعالى رسوله هنا أنه سيأتي الوقت الذي يطالب العدوّ فيه بالسلام، فلا يجوز رفض السلام على خلفية أن العدوّ كان هو المعتدي، وأنه قد أصرّ على عدوانه، أو أنه غير جدير بالثقة. إن الصراط المستقيم الذي يقرّه الإسلام يُلزم المسلم أن يقبل عرض السلام، وكل من التقوَى والحكمة السياسية يحبّذان هذا القبول.

خامسًا: في سورة النساء والآية 95 نقرأ قول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

أي عندما يذهب المسلمون للحرب فعليهم واجب التحقق؛ وطريقه هو أن يوَضّحوا للعدوّ عبثيّة الحرب وسوء مآلها، وأنه مع ذلك لا يزال يصر عليها. وحتى في هذه الظروف فإن عليهم ألا يرفضوا عرض السلام لو جاءهم من طرف فرد أو مجموعة، وليس لهم أن يعتذروا بأن العرض غير صادق. ولو رفض المسلمون عرض السلام فلن يكون قتالهم حينذاك في سبيل الله، بل لأجل أنفسـهم ولأجل المكاسب الدنيويـة. وعليهم أن يعلـموا أن المغـانم الدنيـوية تأتي من عند الله تعالى، تمامًا كما تأتي من لدنه الهداية الربانية.

يختلف القرآن المجيد في تعاليمه عن تعاليم التوراة والإنجيل. إنه وسط بين الاثنين؛ فهو لا يأمر بالعدوان كما جاء في التوراة، ولا هو يفعل كما تفعل المسيحية هذه الأيام فيأمر بأمرين متناقضين…. إنّ تعاليم الإسلام تطابق الفطرة الطبيعية للإنسان وتتناسب معها، وتدعو لنشر السلام بالطريقة الوحيدة الممكنة.

إن القتل يجب ألا يكون هدفًا، فإن من يُراد قتله اليوم قد يهتدي غدًا. وهل كان للمسلمين أنفسهم أن يصبحوا مسلمين لو لم يكن الله تعالى قد أبقاهم أحياء؟ لذلك فعلى المسلمين أن يمتنعوا عن القتل، لأن النفس التي يبقون عليها قد تتحوّل إلى نفس مهتدية، والله تعالى وحده هو الذي يعلم تمامًا ماذا يفعل الناس وما هي غاياتهم وما هي نيّاتهم ودوافعهم إلى ما يفعلون.

إن الآيات تعلمنا أنه حتى بعد بدء الحرب فإن واجب المسلمين أن يتأكدوا في أنفسهم تمامًا أن العدوّ يجنح للعدوان، فغالبًا ما يحدث أن تنعدم نيّة العدوان، ولكن شروع العدوّ في الاستعدادات للحرب تبعث الخوف والانزعاج.

وعلى المسلمين ألا يخرجوا للحرب ما لم يتحقّقوا أن العدوّ قد خطط للعدوان والهجوم، وإذا تبين أن الاستعدادات كانت للدفاع عن النفس، أو قال العدوّ ذلك، فعلى المسلمين التوَقف عن الحرب وقبول زعم العدوّ. وليس للمسلمين أن يحتجّوا بأنه لا سبب للاستعدادات سوى العدوان، فربما نوَى العدوان ثم عدل عن نيته. ألا تتغير النيّات وتتحوّل المقاصد باستمرار؟ ألم يحدث مرارًا أن أعداء الإسلام قد صاروا من أتباعه؟

سادسًا: يقول القرآن المجيد في عدم انتهاك المعاهدات:

إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 5)

المشركون الذين دخلوا في اتفاق سلام مع المسلمين، وحافظوا على عهدهم، ولم يساعدوا عدوًّا ضدهم، فمن حقهم أن ينالوا نفس المعاملة من المسلمين، فإن من مستلزمات التقوَى على المسلمين أن يفوا من جانبهم بما عليهم في الميثاق نصًّا وروحًا.

سابعًا: يأمر القرآن المجيد بما يلي فيما يختص بالعدوّ الذي يرغب في فهم رسالة الإسلام رغم أنه في حرب مع المسلمين:

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (التوبة: 7)

أي أن على المسلمين واجب منح اللجوء إليهم لمدة مناسبة، تكفي لغرض الشرح والإيضاح، إذا ما طلب اللجوء إلى المسلمين أحدُ أفراد العدوّ المحارب، يبتغي أن يسمع رسالة الإسلام للدراسة والتمعّن.

ثامنًا: ويقول القرآن المجيد عن أسرى الحرب:

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيدُ الآخِرَةَ وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 68)

أي أنه لا يجوز أسر أحد، إلا من المقاتلين الذين يشتركون فعلاً في ميدان القتال، فلم يُشرّع الله تعالى لأحد من الأنبياء أن يتّخذ أسرى إلا من الأعداء المقاتلين الذين قاموا بالعدوان وسفكوا الكثير من الدماء. وقد حرّم الإسلام خطف الأفراد من القبائل المعادية وهي العادة التي كانت منتشرة قبل الإسلام، وظل غير المسلمين يمارسونها بعده، فليس من الجائز شرعًا عند الله تعالى أن يؤخذ أسير دون حرب وممارسة قتال فعلي.

تاسعًا: وضع القرآن المجيد قواعد إطلاق سراح الأسرى كما يلي:

فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 5)

إن الوضع الأفضل في الإسلام هو إطلاق سراح الأسير دون فدية، ولما كان هذا غير ممكن في كل حالة، فلذلك نص الله تعالى على السماح بقبول الفدية.

عاشرًا: هناك نص يختص بأسرى الحرب الذين لا يستطيعون أن يدفعوا الفدية، وليس لهم وليّ يستطيع أو يوافق على أن يدفع الفدية. وغالبًا ما يدفع أقارب الأسير فديته لإطلاق سراحه، ولكن يحدث أحيانًا أن يُفضّل بعضهم ترك القريب أسيرًا، ربما ليقوم باختلاس أمواله في غيابه، وقد فتح القرآن المجيد السبيل أمام هؤلاء لنوال حريتهم. يقول تعالى:

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ (النور: 34)

أي أن أولئك الذين لا يستحقّون أن يُطلَقوا دون فدية، ولكن ليس لهم أحد يدفع نيابة عنهم، فبإمكانهم أن ينالوا حريتهم إذا وقّعوا على كتاب يتعهّدون فيه بالدفع إذا سُمح لهم بالعمل والكسب، وذلك إذا كانت لديهم الحرفة الملائمة والقدرة على العمل والكسب. فإذا تبين أهليّتهم وإمكاناتهم في العمل والكسب، يمكن للمسلمين أن يساعدوهم على ذلك بإمدادهم بما يستطيعون من عناصر العمل والربح. والأفراد المسلمون القادرون ماليًّا على المساعدة فعليهم أن يدفعوا عنهم، أو يتم إنشاء اكتتاب عام يشترك فيه المتبرعون لمساعدة هؤلاء البائسين ليقفوا على أقدامهم.

لقد عرضنا فيما سبق الآيات القرآنية التي تحتوي على تعاليم الحرب والسلام في الإسلام، وهي تخبرنا عن الظروف والشروط التي بها ندخل الحرب الدفـاعية، والحدود التي يجب على المسلمين مراعـاتها عندما يضـطرون إلى خـوض الحرب.

السنة النبوية حول الحرب

إن تعاليم الإسلام لا يحتويها القرآن المجيد وحده، بل تتجلى أيضًا في سنة الرسول وقدوته، وفي سيرته وحياته. فما فعله وما علَّمه وما أمر به في وقائع موثّقة معينة، يُعتبر أيضًا جزءًا أساسيًا من تعاليم الإسلام، ونذكر فيما يلي ما تفيده بعض أقوال الرسول في موضوع الحرب والسلام.

  1. يحرم على المسلمين جميعا أن يمثلوا بجثث القتلى (صحيح مسلم).
  2. يحرم على المسلمين أن يلجئوا إلى الغدر والخيانة (مسلم).

“اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا”.

  1. لا يجوز قتل النساء ولا الأطفال، وقد استنكر رسول الله قتل النساء والصبيان (مسلم).
  2. لا يجوز التدخّل في عمل الرهبان والقسس والعاملين على إقامة الشعائر والقادة الدينيين (الطحاوي).
  3. لا يجوز قتل الشيوخ والعجزة والأطفال والنساء، ويجب أن يكون نصب أعيننا دائمًا أن نتيح الفرصة لإحلال السلام (أبو داود).
  4. عندما يدخل المسلمون أرض العدوّ يجب ألا يُرَوّعوا سكان البلد، ولا يجوز أن يسمحوا بأية إساءة في معاملة الناس عامة (مسلم).
  5. لا يجوز للجيش المسلم أن يضرب معسكره في مكان يتسبب في إزعاج الجمهور العام. وعندما يتحرك على الطريق فلا يجوز له سد الطرق أو أن يسبب إزعاجًا لعابري هذه السبل.
  6. لا يجوز تشويه الوجوه (البخاري ومسلم).
  7. عند إيقاع القصاص بالعدوّ فعلى المسلمين تكبيده أقل خسائر ممكنة (أبو داود).
  8. يجب الحفاظ على بقاء الأقارب الأسرى معًا، وعدم التفريق بينهم عندما يوضع أسرى الحرب تحت الحراسة (أبو داود).
  9. يجب أن يحيا الأسير في ظروف مريحة، ويجب أن يهتم المسلمون بأَسْراهم فيرعوا راحة الأسرى أكثر مما يرعون راحتهم هم (الترمذي).
  10. يجب استقبال الوفود والرسل من البلاد الأخرى بحفاوَة بالغة، ويجب تجاهل ما يصدر عنهم من فظاظة وأخطاء (أبو داود كتاب الجهاد).
  11. أي سوء معاملة تحدث من مسلم نحو أسير، فكفارتها إطلاق سراح هذا الأسير، دون أن يدفع فدية عن نفسه. “من لطم مملوكًا فكفّارته عتقه”.
  12. إذا وُضع أسير حرب تحت رعاية أحد المسلمين، فعليه أن يُطعمه من نفس طعامه ويكسوه من نفس ثيابه (البخاري).

ولقد بلغ من إصرار الرسول على هذه القواعد السلوكية للجيش المقاتل أنه أعلن لمن لم يُراعِ هذه الوصايا أنه لا يقاتل في سبيل الله، بل من أجل نفسه الأمّارة (أبو داود).

وقد أصدر أبو بكر ، الخليفة الراشد الأول للإسلام، بعض التعليمات في موضوع الحرب والسلام، وأصبحت جزءًا من التعاليم التي يلتزم بها المسلم، ونذكر منها:

  1. المنشآت العامة والأشجار المثمرة وحقول المزروعات لا يجوز إتلافها (الموطأ).

ومن أقوال الرسول وتعليمات الخليفة الأول للإسلام يتضح أن الإسلام قد شرّع وشيّد أُسسًا لها آثارها في منع أو إيقاف الحرب، أو تقليل ويْلاتها وبشاعتها. وكما سبق أن ذكرنا فإنّ الأسس التي أمر بها الإسلام ليست مجرد مُثُل عليا للتقوَى وسننها فقط، بل إن لهذه الأسس تجلياتها العملية في أسوَة الرسول وخلفاء الإسلام الأوّلين. وكما يعلم العالم كله، فإن الرسول لم يكتف بتلقين هذه الأسس، بل سلك بموجبها، وعمل بمقتضاها، وأصرّ على رعايتها حق رعايتها.

وإذا نظرنا إلى عصرنا الحاضر، فلن نجد تعليمًا آخر قدّم حلاًّ لمشكلة الحرب والسلام. فتعاليم موسى بعيدة عن مفاهيمنا للعدالة والإنصاف، ولا يمكن تطبيقها في أيامنا هذه. وأما تعليم المسيح فليس عمليًا على الإطلاق، ولم يكن عمليًا في يوم من الأيام، ولم يحاول المسيحيون في تاريخهم أن يضعوه يومًا قط موضع التطبيق. إن تعليم الإسلام هو التعليم العملي، وهو التعليم الوحيد الذي تم التبشير به كما تم تطبيقه أيضًا بيد أنصاره المخلصين، بالممارسة العملية التي يمكنها فعلاً حفظ السلام في هذا العالم. وفي هذا العصر يقوم غاندي بتقديم تعليم جليّ يقول: “إننا حتى لو فُرض علينا القتال والحرب، فليس علينا الذهاب إليه، ويجب ألا نقاتل”. ولكن هذا التعليم لم يوضع موضع الاختبار في أيّ وقت خلال التاريخ، إنه لم يدخل إلى بوتقة التجربة لتثبت جدارته، فمن المحال أن نحدد قيمة هذا النهج إذن بلغة الحرب والسلام.

ويبدو لنا واضحًا إذن أن التجربة الإنسانية والحكمة الإنسانية تشيران إلى طريقة وحيدة فقط لمنع وإيقاف الحرب، هذه الطريقة هي التي جاءت بها تعاليم الإسلام ووُضعت في حيز التطبيق العملي على يد نبيّ الإسلام .

لقد عاش السيد غاندي طويلاً ليرى اتحاد الولايات الهندية وهي تنال استقلالها السياسي، ولم يحدث أن قامت حكومة الاتحاد بتسريح الجيش، ولا أية قوات هندية مسلحة، بل كل ما فعلته هو وضع الخطط لصبغها بصبغة هندية، بل إن لها خططًا في إعادة تعيين الضباط الهنود الذين كانت السلطات البريطانية قد فصلتهم خلال هجوم اليابان على بورما والهند في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الحديثة، والذين كانوا قد قاموا بتشكيل الجيش الهندي الوطني. ولقد رفع السيد غاندي صوته داعيًا في مناسبات عدة إلى التقليل من شأن جرائم العنف، وحث على إطلاق سراح الذين اقترفوا جرائم العنف، وهذا يدل على أن التعليم الذي يدعو إليه لا يمكن أن يطبق، والسيد غاندي يعرف ذلك جيدًا، كما يعرفه أتباعه كذلك. ولا يوجد مثال عملي واحد يمكن عرضه على العالم ليرى كيف يمكن تطبيق سياسة اللاعنف عندما ينشأ نزاع مسلح بين أمة وأمة أو بين دولة ودولة، أو كيف أن اللاعنف يمكنه إيقاف أو منع الحرب.

إن الدعوة إلى طريقة لإيقاف الحرب، مع عدم القدرة بتاتًا على تقديم مثال عملي على نجاح هذه الطريقة يدل على أن هذه الطريقة غير عملية. ويبدو لنا واضحًا إذن أن التجربة الإنسانية والحكمة الإنسانية تشيران إلى طريقة وحيدة فقط لمنع وإيقاف الحرب، هذه الطريقة هي التي جاءت بها تعاليم الإسلام ووُضعت في حيز التطبيق العملي على يد نبيّ الإسلام .

Share via
تابعونا على الفايس بوك