«لولا الإكرام لهلك المقام»
  • اتخاذ الأسباب أربابًا
  • حال الأولياء مع رب السماء
  • الأسباب خادمة الأولياء
  • الابتلاء في استقبال حال الأولياء

__

اعلم أن الأسباب أصل عظيم للشرك الذي لا يُغْفَر، وأنها أقرب أبواب الشرك وأوسعها للذي لا يحذر، وكم من قوم أهلكهم هذا الشرك وأردى، فصاروا كالطبعيين والدهريّين، يضحكون على الدّين متصلفين ومستكبرين، كما تشاهد في هذا الزمان وترى. ولا نمنع من الأسباب على طريق الاعتدال، ولكن نمنع من الانهماك فيها والذهول عن الله الفعّال، ومَن تمايل عليها كل التمايل فقد طغى. ثم مع ذلك إن كان ترك الأسباب بتعليم من الله الحكيم، فهِيَ آية من آيات الله الجليل العظيم، وليس بقبيح عند العقل السليم، وقد سمعتَ أمثالها فيما مضى.

واعلمْ أن لأولياء الله بعضَ أفعال لا تدركها العقول، ولا يعترض عليها إلا الجهول. أنسيت قصّة رفيق موسى وهي أكبر من قصّتي كما لا يَخْفَى؟ إنّه قتل نفسًا زكيّةً بغير نفس، ومُنِع فما انتهى، وخرَق السفينة وظُنّ أنه يُغرق أهلها وجاء شيئا إِمْرا.

ثم ههنا نكتة لطيفة وهو أنّ الأسباب خُلقت للأولياء، ولو لا وجودهم لبطلت خواص الأشياء، وما نفَع شيء من حيل الأطبّاء، وأنهم لأهل الأرض كالشفعاء، وأن وجودهم حِرْزُهم، ولولا وجودهم لمات الناس كلّهم بالوباء. فليس الدواء في نفسه شيئا، بل يأتي الفضل من السماء، كما قال لي ربي في وحي منه: “لولا الإكرام لهلك المقام”، وإن في ذلك لعبرة لمن يخشى. ثم جرت عادة الله أنّ بعض الناس يُبْتَلون بكَلِمِ أوليائه ولا يتدبرون ولا يفهمون، ويُضل الله بهم كثيرا، ويهدي بهم كثيرا، وكذلك قَدَّر وقضى. ولا يَضلّون إلا الذين في قلوبهم كبرٌ فهُمْ لكبرهم ينطَحون، ولا يخافون يوم الحساب، ويصرّون على ما يقولون، وما لهم بِهِ علم ولا يتّقون، ويسبّون رسل ربهم بغير علم ويعترضون على قولهم الأَخْفى. ولا يُهْدَونَ إلى نورهم لِشقْوةٍ سبقت، ولذنوب كثرت، ولمعاصٍ بلغت إلى المنتهى. فلا يَرون إلا عيوبهم ولا يُوفَّقون، ويُغشّي الله أبصارهم لئلا يبصروا، ويُصمّ آذانهم لئلا يسمعوا، ويختم على قلوبهم لئلا يفهموا، فينظرون إليهم وهم لا يبصرون. ذلك بما قدمت أيديهم وبما تمايلوا على الدنيا، وداسوا تحت أقدامهم دَار العُقْبى. يسبّون ولا يظلمون إلا أنفسهم ويُبارِزون الله الأغنى. وإنْ سبُّهم إلا حسرةٌ عليهم وحفرةٌ من النّار، فيقربون الحُفرة ظلمًا وطغوى، ومن دنا منها فقد تردَّى.

يقولون ما رأينا من آية وما رأينا من أمرٍ عجيب.

يا سبحان الله! ما هذه الأكاذيب؟ ما لهم لا يخافون أيام الحسيب؟ وقد رأوا منّي أكثر من مائة ألفٍ آياتٍ وخوارقَ ومعجزاتٍ، فنَسِيَ كل منهم ما رأى. فكيف إذا سُئِلوا يوم القيامة وكُشِفَ ما كتموا، وأتوا ربهم بنفسٍ تتعرَّى؟ وإنّ لعن الصادقين المرسلين ليس بِهَيِّنٍ، فسوف يرون ثمرة ما يبذرون، ويرون من أُخِذَ ومن نجا. وإن الله يأتي ينقُص الأرضَ من أطرافها، فيُري الفاسقين ما أرى في قرونٍ أُولى. وإن لحوم أوليائه مسمومة، فمن أكلها بالاغتياب والبهتان عليهم فقد دعا إليه الردى. وسيبدي السمّ آثاره، ولا يفلح الفاسق حيث أتى. وإن الله غيور لنفوسهم كما هو غيور لنفسه، فلا يترك من عادى، فانتظروا المدى. وإنّ أَشقى الناس من عاداهم وإن أَسْعدَهم من وَالَى.

(مواهب الرحمن، ص 4-7، الطبعة الأولى، بريطانيا 2006)

Share via
تابعونا على الفايس بوك