محمد... الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم

خطاب ألقاه إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، أمير المؤمنين، أيّده الله بنصره العزيز سيدنا مرزا طاهر أحمد الخليفة الرابع لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، في حفلٍ كبير أقامته الجماعة في هونسلو، لندن، بمناسبة السيرة النبوية الشريفة في 15 نوفمبر 1980م، حضر هذا الحفل البهيج العديد من الشخصيات البارزة من غير المسلمين ومدحو النبي في كلماتهم، منهم: سعادة المستشار وليام تشات، عمدة هونسلو برثر غراوند، عضو البرلمان البريطاني السيد تشاري وولر، ونائب عمدة مدينة إيلنغ، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من الهنادك والسيخ.

 (المحرر).

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: 111).

سعادة عمدة، أعضاء البرلمان المحترمين، يا من تحمّلتم الكثير من العناء لحضوركم هنا لمشاهدة هذه المناسبة التي نعتبرها غايةً من القداسة بسبب الموضوع الذي سنبحثه هنا هذا المساء.

ضيوفنا الأعزاء، يُشرّفني جدًا ويُسعدني التحدّث إليكم هذا المساء في موضوعٍ أحبه حبًّا جمًّا. لقد بدأت الخطاب بتلاوة كلمة الشهادة، وكذلك بآيةٍ من القرآن المجيد من سورة الكهف. وكلمة الشهادة التي تلوتها هي أكثر تفصيلاً من الشهادة المعروفة عامة، (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وهي مركّبة من مقطعين، الكلمة الأساسية التي تقول: بأنَّ (لا إله إلا الله) والثانية (أنَّ محمدًا عبده ورسوله). والتشديد هنا على كونه إنسانًا قبل اعتباره رسولاً نبيًّا.

يكتب “موريس ليدز” عن هذه الكلمة: “من الغريب أنَّ جيبون الذي أعطى محمدًا حقّ قدره في النتيجة الإجمالية، كان عليه أن يقول من البداية أنَّ دين محمدٍ يتضمَّن حقيقةً أزلية وأسطورةً ضرورية. فهنالك إلهٌ واحد، وهذا حسب قوله، حقيقةٌ أزلية، أما القول بأنَّ محمدًا رسول الله، فهو حسب قوله، أسطورةٌ ضرورية.

ويتقدَّم بورتوالد سميث بقوله: لقد كان وكأنني أحاول إظهار أي وهمٍ لمحمد نفسه أو لأصحابه. لو كان الأمر كذلك لما استطاع محمد أن يقوم بما عمله ولا أن يكون كما هو اليوم.

وإننا نشكر سميث على التمسك بتقييم جيد للموقف الغربي تجاه الإسلام وخاصةً تجاه نبي الإسلام الرسول محمد . ويبحث هذا في مرحلتين من التاريخ. وأقتبس عنه مايلي:

“لم يكن بمقدور العالم المسيحي خلال القرون الأولى من المحمدية، أن ينتقد أو يشرح، وكان بمقدوره فقط أن يرتعد ويترقّب بسكون. ولكن عندما تلقى السيراكيون أول صفعةٍ في قلب فرنسا أمام الشعوب الهاربة من وجههم أداروا وجوههم كما يفعل قطيعٌ من البقر عندما يهرب من كلبٍ واحد يأمر بالوقوف. ورغم ذلك لم يجرأوا على القتال. وما كان بمقدورهم إلا تشويه سمعة عدوهم المتراجع.

ثم يتابع بذكر أمثلة من تشويه السمعة كما دوّنها سميث، ولدي مراجع وجيزة عنها، وسأعود لذكرها لاحقًا في فقرة خطابي.

ويُروى في أسطورة لتمبيون مقتبسة على يد رينان بأنَّ محمدًا المدمِّر المتعصّب ضدّ كل عبّاد للأصنام صُنع صنم من ذهب باسمه ونُصِبَ للعبادة بعد تسُّوس عظامه. ثم يقول بأنه دجَّال، وفاسق، وسفيه القرن. ولا أدري ماذا أكثر من ذلك.

ولا أظنُّ بأنَّ مؤلفًا واحدًا خرج عن هذا الاستثناء الغريب حتى منتصف القرن الثامن عشر. وهناك يهودي باسم ميمونيدس الذي يتكلم عنه كدجَّالٍ نتن، ونبيٍّ كاذب، ويتوسع أكثر في الموضوع فيعلّق عليه أساطير بافومات التي كانت شائعة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ويعزو له أي نوع من الجرائم، كما فعل الأثينيون بآريوس ووصفوه بالفاسق، سارق الجمال، وكردينال (بمعنى رئيس) لم يحصل على أي طموحات كردينالية. اخترع دينًا جديدًا وفرض نفسه على إخوته واحتل مكانًا بارزًا في الجحيم. وداتتيه يضعه في دائرته التاسعة بين أحطِّ طبقات الديانات المختلفة.

ومن معلومات رئيسة نرى أنَّ محمدًا أعظم مصلح ديني يقابَل بقليل من التعاطف، وتبدو الكراهية تجاهه طبيعية، متغايرة عكسيًا حسب المعرفة. فلوثر يشكّ فيما إذا كان أسوأ من ليو. ومالينكوف يعتقد بأنه إما أن يكون إلهًا أو شبه إله، وبالأحرى كلاهما معًا.

وهذا الفصل الثالث من تشويه السمعة والكراهية القسوى، وعلى وجه الخصوص ضد مؤسّس الإسلام المقدَّس لم ينته بعد، لكنا نرى تحوّلاً في الاتجاه. كتب عنه أحد كبار المؤلفين عن الإسلام وهو كارلايل، الذي افتتح عصرًا جديدًا من التقارب نحو الإسلام، والذي كان القنبرة الأولى، وملك الشجاعة والنبل لإنشاء المدائح على النبي محمد ، في عصرٍ قاتم بالكراهية، فكان أول زهرةٍ تبشّر بالربيع.

وبعد كارلايل بدأت الأمور تتغير، ولكن لسوء الحظ، لم تخط قُدمًا لتتطور إلى اتجاهٍ عام، لأنه كثيرًا ما كان يظهر أولئك المنادون الذين ردَّدوا أناشيد العودة إلى الماضي. وعلى مدى تاريخ الانتقاد على النبي محمد نلاحظ دائمًا أمثال سلمان رشدي هنا وهناك. وهكذا فإنَّ تولّد سلمان رشدي ليس بظاهرةٍ جديدة في تاريخ التعصُّب الديني وانعدام التسامح، لأنه شيء معروف عند الإنسان، وله صلة عميقة بالجهل. ولكن دعوني أعد الآن إلى كارلايل الذي يقول:

“واحسرتاه، إنَّ الأبطال والبطولة ومثل هذه النظريات لجديرةٌ بالرثاء إذا ما أوصلتنا إلى ما خلق الله. دعونا نكفر به كليةً. هناك فرض بتحريم الشكّ. وهذا يشير إلى عجز الخدمات الروحية. وإلى مجرّد حياةٍ ميتة لأرواح الناس. ولا أظن بأنَّ نظريةً أكثر تجرّدًا وبُعدًا من الله قد تولّدت على هذه الأرض. رجلٌ زائفٌ أسَّس دينًا.. لماذا؟ فالرجل الزائف لا يقدر على بناء بيت من الآجر. فإذا لم يفعل ولم يتقيّد هو نفسه بإخلاص فإنَّ أملاك الميِّت ومخزونه وكل ما يمكن أن يُعمل به لا يعمل بيتًا، وإنّما هو كومة نفاياتٍ لن تصمد اثني عشر قرنًا لِتُؤوي مائة وثمانين مليونًا، وإنما تنهار فورًا.

ثم يقول: إنَّ الأكاذيب الصادرة عن حسن النية تكدَّست حول هذا الشخص، وكانت مؤلمة لأنفسنا فقط. وعندما استقصى “بهوكوك” بجدية: في أين تكمن الحقيقة من قصة تلك الحمامة اتجه لالتقاط دليل من أذن النبي محمد، ويتخطى إلى ملاكٍ يبلغه. وكان الجواب الإجمالي بأنه لا وجود لدليل. ولقد حان الوقت لتفنيد ذلك.

إنَّ الميزة أعظم أهميةً في نظري موجودة في الكلمة التي هي مبدأ الإيمان الإسلامي، ألا وهي كلمة (عبد)، وتعني إنسانًا صادقًا جدًا لسيّده، وتتضمن معنى الخادم الأمين أيضًا.

ولقد اخترت اليوم أن لا أتكلم عن نبوءة محمد وعن ميزته تلك، وإنّما اخترت لإلقاء الضوء على شخصيته كإنسانٍ فقط، كعبدٍ فردٍ محضٍ لله تعالى، وكشخصٍ متواضع عاش بين إخوانه وأصحابه وأعدائه خلال حياته كلها كرجلٍ صادق. واخترتُ في هذه الناحية أوجهًا قليلة من حياته الحقيقة، وسأشارككم معي فيها. ولكم أن تحكموا في ذلك الإنسان.

الدليل على صدقه

لماذا قلت: إنها كانت الأعظم أهمية؟ لأنَّ الناحية المتعلّقة بالنبوة تختلف الآراء حولها دائمًا، وأنه لصعبٌ جدًا للناس العاديين أن يؤمنوا أو يُنكروا النبوة كليةً. لأنَّ أحد أطراف النبي يكون مفتوحًا تجاه الله تعالى، وذلك الطرف هو الأكثر تعقيدًا. لذلك فإنّه من الصعب على الإنسان العادي مراقبة تلك الناحية من النبوة لا يمكنه المشاركة فيها إطلاقًا. ولكن كبشر فمن الممكن لكل إنسان أن يحكم على كل مدَّعٍ للنبوة بعدلٍ وإنصاف. وهكذا فإذا كان الرجل صادقًا فلا يمكن لذلك الشخص أن يكون نبيًّا كاذبًا. إنّ محور الفكرة كون ذلك الرجل مسبقًا صادقًا أو غير صادق. وهكذا إن أردنا أن نحكم على النبي محمد بأنه إنسان صادق ولا شيء غير كونه إنسانًا صادقًا، فمن المحتم علينا أن نستنتج بأنّ رجلاً صادقًا لا يمكن له أبدًا أن يكون نبيًا كاذبًا.

وسأبدأ ثانيةً ببعض المقتطفات من علماء غربيين، وأعود لأقتبس من بورتوالد سميث. ودعوني أولاً أن أبدأ بشرح عن قوامه ، وكيف كان شكله كرجل، وكيف يظهر لنا كإنسان:

حُليته المباركة

كان محمد متوسط القامة، وذا بُنية قوية فوق الاعتياد. كان رأسه كبيرًا، وله جبهة عريضة يتقدُّمها حاجبان جميلان مقوَّسان، بنيته قوية واضحة، وإذا ما غضب احمرَّ لونه احمرارًا (وأقول لكم إنّه نادرًا ما غَضِب). كانت عيناه سوادويين باردتين في إشراقهما. شعره قليل التجعُّد، وله لحيةٌ طويلة. وكالشرقيّين الآخرين يقف صحيحًا حيثما رُئيَ. ويُضاف إلى هذا التأثير العام لظهوره بأنَّ خطوته كانت سريعة وثابتة كشخصٍ صاعدٍ إلى تلٍ.

حياته قبل التكلُّف بالرسالة

ومرةً أخرى يكتب بورتوالد سميث عن ميّزاته بالكلمات التالية: “كان رجلاً وجيز الكلام. أصدقاؤه قلائل وسبب ذلك بصورةٍ خاصة وفوق كل شيء صدقه وحُسن عقيدته. وكانوا يُسمُّونه الأمين. كان عنايته بجمهور خادميه في أسفاره إلى سوريا مشهورة. ومن المحتمل صداقته القصيرة هناك مع سرجيوس أو الراهب النستوري بحيري. وكانت عادته المشهورة مساعدة المظلومين.. توظّف عند خديجة لرحلاتٍ تجارية وتزوَّجها بسرورٍ فيما بعد. وكانت هذه الحوادث الوحيدة المعروفة عنه أول حياته.

الأمين الصدوق

ويخبرنا كارلايل بوصف عن حياته قبل النبوة:

“كان في سنٍّ مبكرة مشتهرًا كرجل صدقٍ وأمانه، وسمَّاه أصحابه الأمين. كان صادقًا فيما فعل وفيما فكّر وتكلّم. ولاحظوا أنّه دائمًا يعني شيئًا. وكان رجلاً بالحريّ بليغَ الكلام وصامتًا عندما لا تكون هنالك حاجةٌ لقول شيء. ولكنه موضوعي وذكيٌ ومخلص. وإذا تكلم كان دائمًا يُلقي الضوء على الموضوع، وكان هذا هو نوع الحديث الموجب للكلام. ونجده خلال حياته كلها يُعتبر رجلاً أخويًا حصيفًا صلبًا، أصيلاً، متميزًا بسلوكٍ رزينٍ مخلص، ومع ذلك أنيسًا ودودًا حلو المعشر ومرحًا، يتمتّع بضحكةٍ جميلةٍ مع الجميع. وهنالك رجالٌ ضحكهم حقيقي صادق كأي شيءٍ فيهم، ولا يمكنهم الضحك. ويتأثّر الإنسان بجمال محمد ووجهه الجميل الحصيف الأصيل، وله عينان مشرقتان سوداويان. وأنا أميل إليه بعض الشيء أيضًا. وفيه ذلك السؤدد على الحاجب الذي تضخَّم وشمخ عندما كان في حالة غضب. وعاش بين قومه طيلة أربعين عامًا من حياته المبكرة حتى بُعِثَ نبيًّا من الله تعالى”.

ويتفق على ذلك جميع المؤرِّخين بلا خلاف، فلا يوجد أي تعارض حول الواقع، وحتى أشدّ المنتقدين لشخصيته لا يمكنهم أن يضع أصبع الاتهام على حياته المبكرة حتى بلوغه الأربعين، عندما كُلِّف بالنبوة من الله تعالى. وهكذا تحدَّى القرآن المجيد أولئك الذين رفضوه:

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يونس: 17)،

أي لماذا لا تستعملون عقولكم وتتفكَّرون. أّوَلا ترون أنَّ شخصًا عاش بينكم أربعين سنة حياة خاليةً من غشٍّ أو اتهام، وفجأةً ينقلب إلى أكذب وأخبث رجل على الأرض. والرجل الذي لم يكذب قط على إخوانه من بني قومه، فكيف يمكنه أن يتجرَّأ ويفتري على خالقه الذي أحبّه من كل قلبه.

أربح صفقة

كانت خديجة التي ورد ذكرها آنفًا والتي توظّف عندها محمد سيدةً ثرية أرسلته في رحلاتٍ تجارية مختلفة إلى سوريا، وكانت دائمًا ناجحة. ولكني اعتقد أنَّ أنجح صفقة من تلك التجارة على الإطلاق لم تُذكر وهي التي تمَّ فيها زواجه من خديجة التي عرضت نفسها عليه. وكان عندئذٍ شابًا في الخامسة والعشرين وكانت خديجة قد جاوزت سنّ الصبا وبلغت إلى ما فوق الأربعين، ورغم هذا الفارق في العمر قبِلَ عندما عرضت نفسها عليه. وعاش معها خمسًا وعشرين سنة أخرى. وعندما تزوَّجت معه خديجة مع علمها بخُلقه ونُبله قدَّمت له كل ما تملكه، وفي الحقيقة ملَّكته كل ما كان لها. والصفقة التي ذكرت والتي كانت أعظم روعةً ونجاحًا كانت عندما استلم أملاكها، فوزَّعها كلها على المحتاجين والفقراء، ولم يحتفظ بدرهم واحد لنفسه. وإنّها لمأثرة عظيمة له ولخديجة أيضًا، لأنها إذا كانت من أثرى الناس في الجزيرة العربية غدتْ واحدة من أفقر الفقيرات بدون أن تُبدي شيئًا من التذمُّر والاحتجاج. وعاشت باطمئنان وسلام مع النبي . لقد كانت تحبُّ ذلك الإنسان الذي لم يكن بعد نبيًّا، لم تحبّه لجماله الخارجي وإنّما أحبته لجماله الداخلي الذي كان متلألأ كالجواهر النفيسة.

خديجة أول المؤمنين

وهكذا عندما تلقّى نبي الإسلام أول وحي من الله تعالى كان يرتعد، فعاد إلى بيته يرتجف من الخوف الذي ملكَ نفسه. وكان الإنسان عندما يُصاب بالحمَّى يشعر بقشعريرة حادة تجعله يرتجف. وظنّت خديجة أنّه ربما أُصيب بمرضٍ، فغطّته بما كان في البيت من بطائن وألحفةٍ. وبعد ذلك أخبرها بما جرى معه من أنَّ ملاكًا ظهر له، وأمره من الله تعالى بأن يقرأ. وقال بأنني ارتجفتُ كليّةً ولا أدري ما جرى لي، وقد خشيتُ على نفسي. وعندها خاطبته خديجة وقالت: كلا والله لن يُخزيكَ الله أبدًا، إنّك لتصِلُ الرَّحم، وتَصدُقُ الحديث، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق. إنّك صادقٌ ودائمًا كنت صادقًا وإنّي أُؤمن بما رأيتَ وسمعت.

وهكذا كانت خديجة أول من آمن بالإسلام، وكانت الإنسانية الكامنة في نفسه هي ما أقنع زوجته بأنه نبيٌّ صادق. وكما قلت فإنَّ الرجل الصادق لا يمكن أن ينقلب في النهاية إلى نبي كاذب.

لقد روى بورتوالد سميث هذه الحادثة وحسب أقواله توجّهت خديجة إليه وقالت: إنَّ الله لن يُخزيك أبدًا. ألم تكن محبًا لأقربائك، رحيمًا لجيرانك، محبًا للفقراء، وفيًّا لكلمتك، مدافعًا دائمًا عن الحق.

بداية المعارضة

هكذا كان موقف خديجة، ولكن موقف جميع أصدقائه تحوَّل فجأة، بعد ادِّعائه بأنه رسول الله، إلى ثورةٍ كاملة ضده. وأولئك الذين كانوا يُسمُّونه الأمين والموثوق به جدًا، وكانوا يذهبون إليه لحلّ خلافاتهم، ووثقوا به ثقةً كاملة، وعرفوا عنه بأنه رجلٌ تقي، بدأوا فجأةً يتّهمونه بأشنع أنواع الكذب. وأعلنوا عنه بأنه رجلٌ مُفسدٌ من الدرجة الأولى. ويسجل لنا بورتوالد سميث بعض المواقف للناس الذين كانوا يتصارخون ضد محمد بعد تكليفه بالنبوة من الله تعالى بقوله: هناك يمشي محمد بن عبد الله الذي تلقّى محادثة من السماوات وسمُّوه: مجنون، شاعر، منجّم، وسخر منه أبناء عمومته، وعامله جمهور السكان بلا مبالاة كان تحمُّلها قاسيًا عليه. وبعدها بدأ الاضطهاد الفعلي. ثم يخبرنا بأنهم حاولوا إقناعه واستمالته للعدول عن دعواه فعرضوا عليه العرائس والتهديدات. فأجابهم محمد بأنّهم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري فلن أتخلّى عن غايتي. ويكتب بورتوالد سميث بأنّ هذه ليست كلمات كاذب وأسلوب متنبِّئ.

تواضعه

لقد كان إنسانًا متواضعًا جدًا من كل ناحية في جميع علاقاته. كان متواضعًا تجاه إخوته القدامى وهم أنبياء الله السابقون. وكان متواضعًا حتى مع صحابته الذين قبلوه نبيًا من الله تعالى. وسأقتبس قليلاً من الحوادث من حياته.

فمرةً بعد أن بُلِّغَ من الله تعالى بأنه (خاتَمُ النبيين) وتعني في الحقيقة أفضل النبيين، أثار أحد صحابته جدلاً مع شخصٍ آخر كان يُبجِّل جدًا نبيًّا آخر اسمه يونس صاحب الحوت، كما تعلمون. وطال النقاش بينهما فيمن هو أفضل، وقال الآخر: لا، يونس أفضل منه. وعندما أُخبِر النبي بذلك قال: لا تُفضِّلوني على يونس بن متّى، لأنّ هذا يتعارض مع كرامة العلاقات الإنسانية بأن تتفاخروا بتفضيل زعمائكم على زعماء الآخرين. فمن هو أفضل ومن هو أقل أفضلية هو أمر الله تعالى يُقدّره كيف يشاء. وعلى البشر ألا يُضيّعوا أوقاتهم ومجهوداتهم بمثل هذه المناقشات والمفاخرات. وتلك هي الرسالة التي قدّمها لنا، ولكن كثيرًا من المسلمين مع الأسف نسوا هذا الأمر.

وبعدها جاء ذكرُ موسى، عندما قال أحد المسلمين ليهودي بأنَّ نبيّنا أفضل من موسى. فاغتاظ اليهودي جدًا واتخذ موقفًا مغايرًا ومتعاليًا ومتطرِّفًا للغاية. فصفعه ذلك المسلم. وذهب اليهودي إلى النبي واشتكى عليه، فوبّخ النبي صاحبه توبيخًا عنيفًا. ومرةً ثانية استعمل نفس التعبير قائلاً: لا تفضلوني على موسى. وتابع حديثه فروى ميّزةً من مزايا موسى لوضع مرهم على الجرح الذي ربما أصاب قلب اليهودي.

ثم نسمع عنه بأنّه كان يقف طوال الليل سائلاً ومتوسلاً المغفرة والرحمة من الله تعالى إلى درجة أنَّ أصحابه رأوا بأنَّ قدميه قد تورّمتا بسبب وقوفه الطويل بين يدي الله متضرِّعًا لمغفرته تعالى. وبما أنَّهم لم يروا منه يومًا أي ذنبٍ قط وكان أطهر إنسان على وجه الأرض، لذلك استغربوا فتوجّهوا إليه وسألوه: لماذا تشقُّ على نفسك يا رسول الله؟ تطلب المغفرة من الله، وتقف طوال الليل متضرِّعًا لمغفرته حتى تورَّمت قدماك؟ فأجاب: أفلا أكون عبدًا شكورًا على ما أنعم الله به عليَّ.

وفي مناسبةٍ أخرى جرى فيها بحث نفس السؤال عن المغفرة وتقوى الإنسان، قال النبي لأصحابه: لن يغفر الله لأحدٍ على الأرض بسبب أعماله الصالحة، وإنّما هو فضل الله تعالى الذي يُنعم به، ويُنجي الإنسان في النهاية من ربقة الذنوب ويُدخله في الجنّة. واندهش أولئك الذين سمعوا هذا الحديث، وتساءل أحدهم: حتى ولا أنت يا رسول الله، ألا يُغفر لك بتقواك وأعمالك الصالحة؟ فأجاب : لا حتى ولا أنا. إنَّ كل ما يُعطى هو من فضل الله. كل شيء له ولا شيء لنا. وكل ما أنعم به علينا نستعمله ونستخدمه بأقصى علمنا ومقدرتنا، وكل شيء مرجعه إليه.

التواضع ليس له حدود. لقد كان إنسانًا متواضعًا يجلس مع أصحابه، ويرتدي ثيابًا عادية، ويأكل من نفس الطعام مما يأكلون، ولم يحتل مكانًا مجهزًا له بصورة خاصة، وكثيرًا ما كان بعض الأجانب يُخطئون في من هو مؤسِّس الإسلام . وبما أنَّ أبا بكر عنه الذي أصبح فيما بعد الخليفة الأول في الإسلام، كان أكبر منه سنًّا وأطول لحية، ولا أتأكّد من ذلك، وإنّما هو تصوّري، ولكن لا بدّ أنه كان به شيءٌ جذب إليه بعض الغرباء، فخاطبوه كنبي الله. وعلى أثر ذلك مباشرةً وبصورةٍ فُجائية كان يتجه بتواضع وإجلال نحو النبي مشيرًا إليه قائلاً: إنه رسول الله ولست أنا. وهكذا كانت عادته في الجلوس بين أتباعه.

ومرة أستأذنه عمر بن الخطاب وهو الذي أصبح فيما بعد الخليفة الثاني في الإسلام لتأدية العمرة، وهي صورة مصغرة للحج، وتعني زيارة الكعبة المشرَّفة والقيام بمناسك الحج في غير ميعاد الحج الذي هو العاشر من ذي الحجة، فأذِن له الرسول قائلاً له: قم بالعُمرة ولكني أرجو منك أن تتذكرني في صلواتك ولا تنساني في أدعيتك.

الإنسان الذي اعتمد كل مسلم على صلاته وسعى كل مسلم للتبرُّك من أدعيته، نراه بهذا التواضع يطلب من أحد صحابته أن لا ينساه في أدعيته أثناء صلاته خلال زيارته لبيت الله.

مشاركته في معاناة الآخرين

لقد شارك مع صحابته في تحمل صنوف المشاق وأنواع الشدائد بصورة عامة خلال حياته كلها. عُرف عنه أثناء معركة الخندق بأنه شارك كل المسلمين بتحمّل الجوع، وأنّه قام بحصته من العمل في حفر الخندق. وكانت المشاركة في العمل قد فُرضت على كل فردٍ، ولم يُستثنَ حضرته منها. ومرةً رآه أحد الصحابة بهذه الحالة، فامتلكه القلق ويُروى قوله: رأيت النبي يوم معركة الأحزاب حاملاً التراب. وكان التراب يغطي بياض بطنه وهو يقول:

اللهُّمَ لَوْلَا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنَافَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَاإنَّ الأُلَى قدْ بَغَوا عَلَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَاوَثَبِّتِ الأَقدَامَ إنْ لَاقْيناإذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبيْنَا

(صحيح البخاري، كتاب المغازي باب غزوة الخندق)

  ثم يروي لنا الصحابي جابر: بأنّا كنا نحفر الخندق، وقت معركة الأحزاب فجابهتنا كَديةٌ (أي صخرة عظيمة)، فشكونها لرسول الله وقلنا: هي ذي هنا صخرةٌ ظاهرةٌ في الخندق. فقال: ها أنا نازلٌ إلى تحت. ثم رفع سترته، فظهر حجرٌ مربوط إلى بطنه لأننا لم نكن أكلنا شيئًا لثلاثة أيام. وكانت العادة عند العرب أن يربطوا حجرًا إلى معدتهم عندما كانوا يعانون من الجوع بشدةٍ متناهية، وربما كان ذلك يساعد على تحمّل الجوع أو تخفيف آلامه. وفي حادثةٍ أخرى كما يحدّثنا الراوي: كنا مُدركين كلنا بأننا جميعًا قد ربطنا إلى بطوننا حجرًا واحدًا لكل منا، ولم نكن مطّلعين على حالة النبي . ولكنه رفع قميصه مرةً فظهر لنا حجران مربوطان إلى بطنه، وكان هذا تعبيرًا بأنه كان جائعًا أكثر من أي أحد من أصحابه. وهكذا كما يروي جابر بأنني شاهدته في هذا الضيق لم أعد أُطيق ذلك. فاستأذنتُ رسول الله وذهبت إلى خيام النساء وفتشتُ عن زوجتي، وسألتها فيما إذا كان عندها شيءٌ للأكل. فقالت: بأنَّه بقي لدي جديٌ واحدٌ وبعض الطحين. فقلت لها: من فضلك، اذبحي الجدي وجهّزي بعض الخبز لأنني رأيتُ النبي في حالةٍ لا أُطيق تحمُّلها.

وكان ذلك هو الإنسان الذي شارك كل وقته مع صحابته الأوفياء، دون أي فارق على الإطلاق. وكما ذُكر في عدة روايات موثوقة يمكننا أن نعتقد بحق بأنّه تحمَّل أكثر من غيره. كان حقيقةً وبل أدنى ريب شخصًا خاليًا من أي عيب.

الشجاعة

وكلما طرأ خاطرٌ كان حضرته أقرب إليه من غيره. ولقد اشترك في المعارك كلها مُدافعًا، ولم يحصل قط أنه بدأ حربًا عدوانية.. وكان يتواجد أثناء المعركة في تلك الساحة التي كان الخطر فيها أشدّ. ولقد ذُكر هذا على لسان كثير من الرواة في زمنه وشهدوا بأننا كلما أردنا اكتشاف المكان الذي قد نجد فيه النبي فنتطلع إلى تلك الساحة من المعركة حيث القتال مشتعل بأشدِّ ضراوة، ودائمًا وجدناه في وسطها.

ومرةً وهو في المدينة حيث هاجر إليها بعد ثلاث عشرة سنة من الاضطهاد في مكة، سمع الناس بالليل ضجةً أزعجتهم، وكانوا في تلك الأيام خائفين من الهجوم من جميع الجهات، ولهذا أسرجوا خيولهم وذهبوا للاستطلاع. فوجدوا النبي عائدًا من ذلك المكان ولم يسرج حصانه، وقال بأنه لم يكن لديه وقتٌ لذلك. فذهب وحده على عجل ولذلك لم يُسرج حصانه. وقال لهم: ليس هناك أي ضرر ولا خطر. عودوا إلى بيوتكم، وناموا ليلاً مريحًا.

التوكل على الله

ومرةً كان في رحلة أثناء يوم صيفٍ حار جدًا، فنام تحت شجرة. فرآه بدوي من عبدة الأصنام فظنَّ أنَّ الفرصة لقتله مواتية لأنَّ النبي كان وحده ولم يرافقه أحد من أصحابه. فاقترب منه البدوي والتقط سيفه ثم أيقظه وقال له: الآن من يستطيع إنقاذك مني يا محمد نبي الله؟ وقال الكلمتين الأخيرتين بسخرية. فقال له النبي : ربي. فأثّرت هذه الكلمة في أعماق نفسه وامتلكت عليه كل حواسه. لقد كان الإيمان والاتكال على الله والحق الصريح في هذا الجواب القصير مما جعل يديه ترتعد، وسقط السيف من يده. فالتقطه النبي ، وقال للبدوي: والآن من سينقذك مني؟ فقال مستجديًا: من فضلك، أنت إنسانٌ رحيم وكريمٌ جدًا فلا تقتلني. فقال له النبي : ويلك، ألم تتعلم درسًا مني؟ كان عليكَ أن تقول كما قلتُ أنا. أَتعلم ما قلت؟ ربي سينقذني منك. ومن الطبيعي أنَّ النبي عفا عنه.

 التسامح

لقد كان إنسانًا ذا قلبٍ كبير رحبٍ جدًا، أصبحت المساجد اليوم أماكن للتنازعات في جميع أرجاء العالم كما كانت الكنائس يومًا ما، ولكن النبي أحبَّ المساجد حبًا جمًّا بشكل لم يحلم أحد بمحبتها وإجلالها. وكانت نظرته مختلفة عن هذه الأماكن المخصّصة للعبادة. كان إنسانًا واسع القلب جدًا. تصوَّروا أنَّ بدويًا غير مسلم جاء يومًا لزيارة المدينة. فاستُضيف للمبيت في المسجد. وكانت المساجد تُستعمل لهذه الغاية أيضًا كما هو موجودٌ اليوم في بعض نواحي الهند حيث أُقيمت في بعض المساجد دورٌ للضيافة على حدة. فاستُضيف ذلك البدوي وأُنزل في المسجد لقضاء الليل. فبَالَ في المسجد حيث يُصلي الناس ويسجدون وحيث لا يجوز لكم أن تخطو بأحذيتكم للمحافظة على نظافته. وحدث هذا الشيء أثناء حضور النبي وأصحابه. فهرَعَ بعض الصحابة لضرب ذلك البدوي. فأوقفهم النبي فورًا. ليس لأنه لا يجب أن يُعاقب ولكنه قال لهم، لا تزعجوه. دعوه يُنهي ذلك، وليس لكم حقٌّ فيما أنتم فاعلون. وعندما انتهى ذلك البدوي من فعلته طلب النبي دلوًا من الماء وغسل ذلك المكان بنفسه. ثم استدار إلى أصحابه وقال: اذكروا بأنّ الله تعالى ما أقامكم لإحداث الصعوبة للناس، وإنّما أقامكم لجلب الراحة إلى الناس، فدائمًا تذكّروا هذا. وهكذا كان .

ومرةً قَدِم إلى المدينة وفدٌ مسيحي للمناظرة معه في الإسلام والمسيحية. ومكثوا هناك ثلاثة أيام. ومرة عندما كانوا منهمكين في نقاش داخل المسجد الذي كان يُسمّى المسجد النبوي حان وقت صلاتهم. فاستأذنوا بالخروج لأداء صلاتهم، فقال لهم النبي محمد : أليس هذا مكانًا للعبادة، فلماذا لا تؤدّون عبادتكم هنا؟ فصلُّوا فعلاً في المسجد. وفي هذه الأثناء وصل بعض الصحابة الآخرين ورأوا المصلين متجهين غير الاتجاه الذي كانوا يتوجهون إليه. وكادوا يعترضون عليهم، إلا أنَّ النبي منعهم بشدة من التدخُّل، وقال بأنني أذنتُ لهم لأنَّ هذا بيت الله، ولا حقَّ لأي إنسان في الاعتراض أيًّا كان على عبادة الله في أي مكان خُصِّص للعبادة.

ومرةً قدمت جماعةٌ من رجال الدين المسيحيين ممثلين في وفدٍ من دير سانت كاترين، وعرضوا على النبي وثيقةً خطيّة كإعلانٍ يُطالبون فيه بالحماية بديرهم عندما تصل الفتوحات الإسلامية إلى ذلك الجزء من العالم وأن لا يكون أي تدخُّل في شؤونهم. فقبل حضرته ذلك الطلب على الفور. وما زالت تلك الوثيقة الخطيّة محفوظة حتى اليوم كما يُذكر في مكانٍ ما بتركيا. ويُقرأ فيها بأنَّ لا حقَّ لأحد أن يتدخّل في أملاك الدير تحت شعار الصليب أو في قالبٍ آخر يمثّل عقيدتهم. ويجب ان لا يُضايَقوا بأي شكل في الكلام. ومن تجرَّأ على التدخُّل في هذا الدير فليس مني. أنا محمد رسول الله .

ذُكر الكثير عن الكراهية بين المسلمين واليهود. وبالرغم من أنَّ النبي كان قد واجه اعتراضات شديدة وقاسية جدًا نتيجة المكائد اليهودية داخل المدينة وفيما حولها، إلا أنّ موقفه كإنسان لم يتغيّر تجاه اليهود قيد شعرة. فمرةً كان جالسًا مع أصحابه رأى جنازةً، فوقف احترامًا. فذكر له أحد الحاضرين بأنّ هذه جنازة يهودي، وكان الجواب: ألم يكن هذا الإنسان من مخلوقات الله تعالى وهو سبحانه الذي منحه الحياة؟ أليس كذلك؟ تذكّروا أنَّ علينا أن نُظهر الاحترام للآخرين في الأشياء المشتركة بين الناس بغضّ النظر عن دينهم وقوميتهم أو عقائدهم. وكان هذا جوهر روح الإسلام الذي عُلّم في زمن الرسول وطُبِّق بجميع تفاصيله على يد رجل المحبة، تلك المحبة التي امتزجت مع تواضعه.

حبّه للصغار

وكان في الواقع رائعًا في جميع نواحي حياته اليومية. لقد أحب الأطفال بل احترمهم. فمرةً مرَّ أحد صحابة النبي من بين مجموعة من الأطفال كانوا يلعبون، وقال لهم: السلام عليكم. وكان الأولاد متعجبين كيف أنَّ هذا الشخص المسنّ المحترم وهو من صحابة النبي ، يُبادرهم بإلقاء السلام. فقال لهم: أتدرون لماذا؟ لأنني دائمًا أُلاحظ أنَّ رسول الله يفعل ذلك. لقد كان حضرته البادئ بإلقاء السلام حتى على الأولاد وكانت هذه عادته.

وروى مرة أسامة بن زيد بأنني أذكر أنني عندما كنت طفلاً حملني ووضعني على إحدى ركبيته. ثم أخذ حفيده الحسن وأجلسه على ركبته الثانية واحتضننا الاثنين وقال: اللهم ارحمهما كما أرحمهما. ولقد تركت هذه الحادثة أثرًا لا يُمحى من قلب أسامة بن زيد، ولم يكن بمقدوره نسيانها. وعندما روى هذه الحادثة كانت الدموع تترقرق بين عينيه.

مِزاحه

كان من عادته مداعبة الأطفال وإدخال الفرحة إلى قلوبهم بالتحدُّث إليهم. ودُعابته لم تؤذِ أحدًا قط، وإنّما كان مواسيًا. وهنالك عدة روايات عن نكاته الخفيفة مع الأطفال والمسنين، وسأُقدِّم لكم لونًا من خلق دعابته. فمرةً اقتربت منه عجوز وطلبت منه الدعاء ليغفر الله لها ويُدخلها الجنة. ولكن جوابه بأنَّ العجائز لن تدخل الجنة، فصُدِمت وقالت: ماذا تعني؟ فقال لها: إنّ كل من يدخل الجنة سيكون شابًا. وهكذا كان محورُ دعابته رقيقًا جدًا، واستعمل فيه دائمًا ما يجلب البهجة والسعادة، وليس ما يُثير الكآبة.

عدله

لقد كان إنسانًا كثير التمسُّك بالعدل، والعدل الكامل في كل شيء. وكان إنسانًا رحيمًا جدًا. وفصاحته في مجال العدل والرحمة كأنها أجمل نشيد وحوار. ورُوي عنه أنه في معركة بدر التي هاجمت فيها قريش المدينة أُسِرَ فيمن أُسر أحد أعمامه. فكُبَّلوا بأيديهم وأرجلهم في المسجد حول عمودٍ كان فيه، لأنه لم يكن في ذلك الوقت سجنٌ غيره. وحصل أنَّ البعض ربطوا أولئك الأسرى بقساوةٍ وخشونة. ولم يتمكن النبي من النوم، فراح يمشي حول مبيته بغير استقرار. ولاحظ عليه ذلك أحد الصحابة فقال له: ما يزعجك يا رسول الله؟ ولم لا تذهب للنوم بعد هذا اليوم الشاق؟ فقال لأنني أسمع صوت عمي العباس من المسجد، فلعلَّ أحدًا ربطه بقساوة. فذهب أحد الصحابة وخفَّف رباطه. وبعد قليل لم يعد النبي يسمع الأصوات. فقلق على ذلك، وقال: لماذا لا أسمع أي صوتٍ. فقال له أحدهم: إنّه بسببك يا رسول الله، فقد خفّفنا رباطه. فقال: ما دمتم فعلتم له ذلك، فافعلوه مع جميع الأسرى، وإلا لن أتمكن من الاطمئنان والشعور بالراحة. وهكذا خُفِّف رباط جميع الأسرى.

ومرةً سرقت بنت أحد كبار الزعماء في الجزيرة العربية شيئًا وقُبض عليها. وكان اسمها فاطمة كاسم بنت رسول الله فاطمة. وحصل خلاف إذ أصرَّ بعض الناس على الرأفة بهذه البنت لأنها كانت بنت زعيم كبير جدًا. وأقنعوا ابن خادمه سابقًا أسامة بن زيد للشفاعة لفاطمة هذه. وبما أنه كان يُعد حدثًا وعلى البساطة ولا يعلم الكثير عن مزايا مؤسِّس الإسلام ، ذهب إليه وتشفَّع فيها. فاحمرَّ وجهه (وكانت تلك إحدى المناسبات النادرة التي احمرَّ وجهه فيها) وقال لأسامة: ماذا تعني؟ أتشفع في فاطمة؟ إنّي سأفعل كل ما يأمرني به الله بكل تأكيد. والله لو أنَّ فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها. فلا تدخل في حدٍّ من حدود الله التي أُنزلت عليَّ. وما أنا إلا عبدٌ مأمور ولا خيرةَ لي فيما فرض الله.

ومرةً أقرضه يهودي بعض النقود، وحسب زعم ذلك اليهودي مرَّ ميعاد الدفع وأصبح النبيّ متأخِّرًا بتسديد الدين. فجاء للنبي وهو برفقة بعض أصحابه، ووجَّه إليه كلماتٍ قاسية جدًا، وزاد على قوله مردِّدًا: إنّك واحدٌ من قريش الذين نعرف بأنهم مَدِينونَ سيئون ولا يوفون أبدًا بعهودهم. وكان عمر هناك، فثارت ثائرته وامتدت يده إلى سيفه. فأوقفه النبي . وبينما كان عمر على وشك الانقضاض عليه خرجت من فمه الكلمات النابية ضد اليهودي نظرًا لموقفه المشين تجاه النبي . فتحوَّل النبي إليه وأوقفه قائلاً: اسمع يا عمر، إنّك لا تتصرف كما ينبغي. أتدرك ما كان عليك أن تفعل؟ فقال: نعم يا سيدي، ماذا كان عليَّ أن أفعل؟ فقال له: كان عليك أولاً أن تقول لي: من فضلك عندما تقترض شيئًا من شخص فالرجاء أن تتذكّر دائمًا العقد بينكما، وأن تؤدي ما عليك في الميعاد. وبعد ذلك تتوجَّه إليه وتُطالبه بالليونة في الطلب. إنّهم لرحماء أولئك الذين أقرضوا شيئًا. وبعدها تحوَّل إلى صحابته وقال: بقي ثلاثة أيام، وأنا أعلم بأن الميعاد لم يمضِ بعد. إني مدينٌ له وسأزيده. إنّه قدَّر وجوب تعويضه مقابل تعرُّضه لخشونة موقف عمر ، بإضافة شيء إلى المبلغ الذي كان النبي محمد مدينًا له به.

كان اقتفاؤه للعدل يفوق كل شيء، وكان كاملاً، وغير متحيّز بتاتًا، ولا مرتبطًا بأي شيء، وليس وفاء لعشيرته ولا لقبيلته. ومرةً أخرى أقتبس بعض الأمثلة عن علاقته مع اليهود، لأنَّ هذا الأمر قد أُسيء فهمه اليوم، ومن الجدير تصحيح هذا المفهوم عن العلاقات اليهودية الإسلامية، ويجب أن نقتدي بأسوة نبي الإسلام ، فإن كل منهج غيره لن يكون جديرًا بالذكر. لقد بنى النبي بنفسه مثل الإنسان العادل في المجتمع. عند وقوع خلافات بين يهود ومسلمين أو بين وثنيين ومسلمين كانوا دائمًا يذهبون عند النبي لإصدار حكمه بينهم، وأقتبس بعض الأمثلة من هذه الخلافات لتروا كيف حكم بالعدل في تلك القضايا.

وقع خلافٌ بين مسلم ويهودي حول قطعة أرض، فقدِما إلى النبي وطلبا منه أن يحكم بينهما. وتوجَّه النبي قبل كل شيء إلى المدَّعي المسلم وسأله: هل معك شاهدٌ؟ أو أي دليل يُثبت أنَّ قطعة الأرض هذه هي لك؟ وأنّك لم تَبِعها مؤخرًا لهذا اليهودي؟ فأجاب المدَّعي: ليس معي أي شاهد، ولكني أقول الصدق. فاستدار النبي إلى المدَّعى عليه وقال: هل تُقسم بالله على أنَّ هذه الأرض لك؟ فاحتجَّ المسلم قائلاً: إنه سيحلف باطلاً بدون خوفٍ. فقال له النبي : نعم، ربما لا أعلم ولكني أحكم حسب المبادئ. فإذا حلف فالأرض له. وذلك ما حصل بالفعل.

ومرةً زار خيبر مجموعة من التُّجار، وهي مدينةٌ استوطنها يهود بني نظير وسكنوا فيها بعد ترحيلهم عن المدينة، وقصة ترحيلهم لا شأن لها بالموضوع. وخيبر أصبحت بعد سكناهم فيها مكانًا منيعًا، ولم يسكن في تلك المنطقة سوى اليهود. وهكذا فعندما زار مجموعة أولئك التجار ذلك المكان حصل أن قُتل أحدهم. فرجعوا إلى النبي وطالبوا بِدِيّةٍ نقديةٍ يدفعها اليهود. فسألهم النبي : هل معكم شاهدٌ؟ فأجابوا: لا، ليس معنا أي شاهد، ولكن تلك المنطقة لا يسكنها سوى اليهود وليس هنالك أي احتمال إلا أن نعتقد بأنَّ يهوديًا قتله. فأجابهم النبي : إنّي لا أستطيع فرض ذلك عليهم بدون شاهد أو دليل، ولكن ما أستطيعه فهو دفع الدية نيابةً عن القاتل، كائنًا من كان. وهذا ما فعله.

رحمته بالعبيد

كانت رحمته متنوعة بمقتضى روح العدالة في أجمل صورها. وكانت مشاهدته في تطبيقها مغنمًا وهناء. وكان أيضًا رحيمًا جدًا مع خدّامه وعبيده. ومسألة العبودية قد أُسيء فهمها لدى أهل الغرب، ولن أدخل في هذا الموضوع في حدّ ذاته بالتفصيل، ولكني أُخبركم فقط بأنه لا توجد سوى طريقة واحدة حسب القرآن تسمح بجعل الآخرين عبيدًا. وهذا الأمر ذُكر في آيةٍ واحدة من القرآن المجيد هي قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (الأنفال: 68). وتعني الآية بأنّه في حالة نشوب حربٍ طاحنة ومعركةٍ شديدةٍ جدًا وليس مجرد مناوشة، يمكن أسر أحد. ذلك لأنّه لم يكن في تلك الأيام نظام معتقلات أو معسكرات لأسرى الحرب. وهكذا كانت العادة في تلك الأيام في جميع أنحاء العالم. القبض على الأسرى وتوزيعهم لحماية البيوت. وهذا ما يقوله القرآن المجيد بأنّ هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بواسطتها أسر أي إنسان. ويواصل القرآن المجيد في بيان الكثير من السُبل التي يُتاح بواسطتها تحرير الأسرى وإطلاق سراحهم. وهناك آيات قرآنية عديدة جدًا تتحدَّث عن هذا الموضوع، وإنَّ الإنسان عندما يتعمَّق في ذلك يستغرب كيف يمكن لمسلمي اليوم تصوُّر خاطئ للعبودية التي شدَّد القرآن المجيد عليها إلى حدّ أذا لم يحرِّر الأسير (العبد) بفدية تُدفع بواسطة أقربائه ولا يملك وسيلة أخرى لتحريره، فيمكنه حسب القرآن المجيد وسنّة الرسول أن يتوجَّه إلى محكمةٍ إسلامية ويطلب إطلاق سراحه الفوري مقابل تعهُّده بدفع ما قٌدِّرت قيمته به حتى بأقساطٍ مريحة بأمدٍ طويل. وهذا ما كان مُطبَّقًا بصرامة أيام النبي . ولذلك كان يتم أحيانًا تحرير ألوف الأسرى في يومٍ واحد. ولكن هذا الأمر كان في عصرٍ سادته المتاعب وبسبب توارثه عن الماضي. وكان بعض الأسرى قد توارثهم بعض الناس، واستمروا على الخدمة في البيوت الخاصة.

وبشأن أمثال هؤلاء حدَّث النبي المسلمين مرارًا بأن يكونوا رحماء بعبيدهم كما هم رحماء بذويهم، وشدَّد على ذلك كثيرًا جدًا. ونجد رواياتٍ عديدة ومتكررة عن بعض المناسبات التي كان يذهب فيها العبد مع سيده إلى بعض المتاجر لاقتناء بعض الحاجيات وما كان باستطاعة التاجر أن يميّز بين العبد والسيد. وذُكرت رواية عن علي بن أبي طالب الخليفة الرابع بعد النبي أنّه ذهب مرةً إلى متجر وطلب قطعتين من القماش متشابهتين، فسأله التاجر: لِمَ؟ ولِمَ لا تختار ثوبين من كل لونٍ آخر؟ فأجاب: بأنَّ سيدي أوصاني بمعاملة خادمي كما اُعامل أفراد عائلتي وأقربائي، ولذلك فإنّي سأجعله يلبس نفس ما ألبس، ولا شيء غير ذلك.

ويروي أبو مسعود أنّه مرةً كان يضرب عبده، فسمع صوتًا من ورائه قائلاً: إيّاك يا أبا مسعود، حذارِ يا أبا مسعود، حذارِ يا أبا مسعود، وقال: لم أكن أعرف ذلك الصوت وما اهتممت به، ولكني عندما استدرتُ إلى ناحية الصوت رأيت النبي منزعجًا جدًا، وابتدرني قائلاً: آهٍ يا أبا مسعود، عليك أن تعلم بأنَّ الله تعالى أقوى منك بكثير وأقدر من قدرتك على عبدك. وعندما سمعتُ هذا حرَّرتُ ذلك العبد فورًا. فقال النبي : لو لم تفعل ذلك لَلَفحتْ النار وجهك.

كان زيد، كما نعلم من التاريخ، قد عاش معه ، عمرًا طويلاً. ويذكر بأنّه خلال مدة خدمتي الطويلة للنبي صدرت مني طبعًا أخطاء كثيرة، ولكنه لم يقل لي ولا كلمة تأفُّف واحدة، حتى ولا مرةً واحدة، ولم ينتقدني قط. ومن الطبيعي أنّه لا مجال لذكر الضرب الذي لم يحدث بتاتًا.

كان زيد متأثِّرًا جدًا في أعماقه بنُبل النبي : مرةً أثناء مكوثه في المدينة سمع أبوه وخاله بأخباره وأنه يخدم عند النبي . فقدِما إلى المدينة وطلبا بتوسُّل النبي أن يُحرِّره، فأجاب النبي بأنني فاعلٌ ذلك بالتأكيد ولكن لِمَ لا تسألانه؟ إنّه إنسانٌ حرٌ، وإن قَبِلَ الذهاب معكما فليذهب، ولكنه إن رفض فلن أُجبره على ذلك. وحضر زيد فسلَّم على أبيه وخاله اللذين أظهرا له كل شوقٍ ومحبة، وذكّراه بأيام طفولته. وكان يستمع إليهما. فقال لهما: إن كان لي الاختيار فلن أعود معكما، لأنني وجدتُ إنسانًا أعزّ عليَّ من أمي وأبي وخالي ومن أي شخصٍ في العالم. وعندما سمع النبي ذلك دعاهم إلى الخارج، وطلب من بعض الناس أن يحضروه إليه، وأعلن أمامهم بأنَّ هذا الرجل المسمَّى زيدًا لم يعد من اليوم عبدًا، إنّه إنسانٌ حرٌ. وأعلن أيضًا بأنني أتبنَّاه ويجب أن يُدعى من اليوم فصاعدًا زيد ابن محمد.

هكذا كان موقفه مع العبيد وهكذا علَّم أصحابه معاملة العبيد برأفةٍ ورحمة. وإنّه لمما يُدهش الإنسان حقًا.

رحمته بالنساء

وأنتقل إلى ناحيةٍ أخرى من نواحي حياة محمد في مجال القيم الإنسانية: كزوج، وأب، وقريب للكثير من الناس. لقد تصرَّف حضرته بأسمى الإمكانيات في الإنسانية والرحمة، حتى إنك لن تسمع من أي مصدر عن خشونته للسيدات في أي علاقةٍ معهن. نسمع كثيرًا من الروايات على لسان عائشة رضي الله عنها بأنهنّ كُنَّ يغضبنَ عليه ويُكلِّمنّه بخشونة. ولم يُذكر حتى ولا مرة واحدة أنه ردَّ عليهم بمثله أو أنَّه ردَّ على تهجُّمهنَّ بنوعٍ آخر من الكلام.

تروي عائشة أنه ساعدها في أعمال البيت، هذا بالإضافة إلى أشغاله اليومية العديدة وإلى جانب مسئوليته النبوية لصالح الإنسانيّة جمعاء. لقد وجد الوقت لمساعدتها في أشغالها البيتية اليومية.. خاطَ ثيابه الخاصة، أصلح أحذيته بنفسه، وقام لتناول الماء لنفسه كلما احتاج منه. ولم يطلب من أحد شيئًا كان بحاجة إليه، بل قام إليه وفعله بنفسه.

ولقد أثّرت هذه الناحية من خُلقه على أصحابه تأثيرًا بالغًا. فمرةً بعد وفاته كان أحد صحابته راكبًا وسقط منه سوطه. فركض أحد الأولاد لمناولته له، فقال له: لا، من فضلك دعني أنزل عن جوادي وألتقطه، لأنني شاهدت النبي لا يزعج أحدًا قط ولا يعتمد على أحد في قضاء شؤونه الخاصة، وإنما كان يفعله بنفسه..

زهده بالدنيا

كان فراشه، كما تروي عائشة، نوعًا من القش مخيطًا بنوع من الثقال أو القصب، ولم تكن تمضي علينا ثلاثة أيامٍ نأكل فيها الخبز، وكانت تمضي علينا أحيانًا أيام وحتى أشهر لم نكن نأكل فيها لحمًا، وإنّما كنا نتغذى بالتمر وبعض الحليب الذي يتيسّر لنا ما عدا قطعة لحم كانت تُرسل أحيانًا للنبي عندما كان يذبح أحدٌ غنمةً وما شابه ذلك.

ويروي عمر بأنه زار مرةً النبي في حجرته الصغيرة، فوجده مستلقيًا على حصيرةٍ من الليف ورأى آثار الليف على جنبه الذي كان مستلقيًا عليه. ويقول: كنت واقفًا في الغرفة وأنظر إلى ما فيها من الأثاث، فإذا بها كانت هي خالية ولم يكن فيها سوى دلو من الماء وغرض أو غرضين. ويقول: كنت أعلم أنه الإنسان الأحبُّ إلى الله تعالى الذي وصل إلى الذروة في التواضع. فغمرني هذا التباين بالحزن إلى درجة أني بدأت في البكاء. فتوجّه إليّ النبي وقال: ماذا يزعجك ويؤلمك إلى هذا الحد؟ فقلت يا رسول الله، إنَّ الله تعالى يحبّك حبًّا جمًّا، وإنك الأفضل من خلقه، ومع ذلك أراك في هذه الفاقة التي ما دونها فاقة. ليس عندك فراشٌ لائق، ولا شيء يليق بيبتك، ولا شيء عندك. فتبسّم النبي وقال: أَتُفضِّل يا عمر، الأشياء الدنيوية في هذه الحياة أم هو مُقدَّر لنا من الله تعالى في الآخرة؟ فقال عمر: طبعًا يا رسول الله، إنّي أُفضّل ما قدَّر الله لنا في الآخرة. وهنا انتهت المحادثة.

فمن هذه الحادثة البسيطة يستطيع الإنسان أن يستنتج أنه هل من الممكن لدجّال محتالٍ أن يفعل يذلك؟ فلماذا يُلفّق الناس الأكاذيب حوله ولأي غاية؟ أن يعيش إنسان في مثل هذه الفاقة والمعاناة، ويشارك الناس في بأسهم حين وقوعها مع القيام بكل واجباتهم اليومية؟؟ فلو كان ذلك الزعم حقًا فلن يكون هنالك إذًا أي معنى للحق بحدّ ذاته، ويكون كل ما في الإنسان باطلاً.

رحمته بالحيوانات

لقد كان رحيمًا حتى بالحيوانات وأقتبس بعض الأمثلة على ذلك. فمرةً أثناء سفره مع أصحابه سمع صوت نياح طيرٍ وكانت أنثى تصيح في ألمٍ. فتحوَّل نحو صحابته وسألهم: ماذا فعلتم بها؟ فقال أحدهم: أخذتُ بيضتين من عشها. فقال له: أعدهما إلى مكانها. وفي روايةٍ أنه أخذ فرخين وليس بيضتين. وذُكر في تلك الرواية انّه توجّه إلى أصحابه وقال لهم: يجب أن لا تتألم أي أمٍّ وتتوجع من أجل أولادها. ومن هذا يتبيّن بأنّ الأمر لم يكن مسألة طيورٍ أو فراخٍ فحسب وإنّما مسألة تتعلّق بالحياة ذاتها.

وكذلك ذكر لأصحابه مرةً أنَّ إنسانًا كان يومًا في الصحراء وقد أجهده العطش. فاكتشف بئرًا فيها ماءٌ. فنزل إلى البئر وشرَبَ حتى ارتوى. ثم صعد إلى السطح، فوجد كلبًا يلهث ألـمًا من العطش، وعلى وشك الموت. فنزل إلى البئر ثانيةً، وملأ حذائه ماءً وصعد من البئر ممسكًا بحذائه بأسنانه، فقدَّمه للكلب. وهكذا خفَّف من شدة ظمئه. فغفر الله له ذنوبه بهذا العمل.

وفي روايةٍ بأنَّها كانت عاهرة وليس رجلاً. وكما قال رسول الله فإنَّ الله تعالى غفر لها جميع ذنوبها بسبب هذا العمل البسيط الذي أظهرت فيه الشفقة والرأفة بالحيوان.

وسأله أحد الصحابة فقال: وهل نُثاب على شفقتنا بالحيوانات: فأجاب: نعم، لجميع الحيوانات ذات الكبد الرطبة، ويعني الحيوانات المتصفة بالليونة والحساسية. فالحيوانات على مختلف أنواعها ذات المعدة المتميزة بالحساسية والاستقرار، فتلك يجب معاملتهما برفقٍ ورحمةٍ وسيُجازيكم الله خيرًا على شفقتكم بتلك الحيوانات.

وذات مرةٍ رأى النبي شخصًا يحلب ماعزًا، وخشي أن لا يُبقي شيئًا للجدي، فتوجّه إليه ناصحًا وقال: تذكّر دائمًا عندما تحلب الماعز أو غيرها من الحيوانات أن تُبقي شيئًا لصغارها.

وبعدما منع صحابته من قتل أي طير أو حيوان بغية القتل فقط، قال لهم: إنكم ستُسألون عند الله إن قتلتموها بلا سبب ودون أي وجه حق. فسألوه بأي حقٍ يمكننا فعل ذلك؟ فأجابهم: عندما تكونون مثلاً بحاجة إلى اللحم يحقُّ لكم أن تقتلوها. وذكّرهم بأن لا يكونوا مجرَّدين من الشفقة عند ذبحها، بل يُسرعوا في الذبح حتى يشعر الحيوان عند الذبح بأقل ما يمكن من الألم. ولذلك فعندما يسألني الإخوة الأحمديون عن وجوب تحويل رأس الذبيحة أولاً ثم ذبحها، فهل هذه الطريقة إسلامية أقول لهم: نعم، إنّها إسلامية حقًا، وما عليكم إلا أن تستعملوها. وإنّي لا أتفق مع بعض العلماء المسلمين المتعصّبين الذين يقولون بأنّ هذا لم يكن معلومًا لدى المسلمين الأوائل. صحيح أن التولّج في وسائل مساعدة الحيوانات أثناء ذبحها لتخفيف آلامها لم يكن مخترعًا في تلك الايام، ولكن المبدأ يرجع إلى ذلك العهد الذي فيه النبي أوصاهم بإظهار الشفقة والرأفة حتى في الذبح.

عقوبة التجديف

والآن انتقل إلى السؤال الأكثر جدلاً في هذه الأيام وهو موضوع التجديف بالإسلام، لقد لاحقني هذا السؤال في كل مكان زرته في العالم. ماذا عن فتوى الخُميني، وإدانته لقتل سلمان رُشدي؟ فكنت أقول لهم حسبما أعلمه عن الرسول : ليست هناك أي عقوبة ضد التجديف، وليس هناك مجال للتهديد بالقتل أو غيره. وعن هذا الشيء بالذات أقتبس هذه الحادثة من حياة الرسول التي ذُكرت بإيجاز في القرآن المجيد نفسه.

كان هناك زعيم في المدينة قبل وصول الرسول إليها مع من هاجروا إليها من مكة. وكان النجم المتألق في عصره وكان في نظر جميع القبائل المختلفة في المدينة زعيمهم. وكان الناس فيها يتبعون ديانات وقيادات مختلفة. وعندما وصل النبي تغيّروا تدريجيًا، ومن المؤكد أنّهم قَبِلوا النبي بأن يكون زعيم المدينة في جميع المجالات. ومن الطبيعي وجود خلافات بينهم ولكنه بلا شك كان الرئيس الوحيد الذي رجعت إليه مقاليد الأمور في كل نواحي المدينة. وهكذا غدا عبد الله بن أُبي بن سلول، وهذا كان اسمه، حاسدًا جدًا. فراحَ يُظهر بواطن مشاعره المجروحة بصيغةٍ أو بأخرى. وأطلق عليه صحابة رسول الله زعيم المنافقين. في أثناء العودة من غزوةٍ كانت فاشلة بكل معنى الكلمة ومضنية وقاسية، وكل من اشترك فيها كان مُنهك القوى ومُرهقًا، وكانت هذه الغزوة في آخر أيام الصيف.. وأثناء عودتهم منها إلى المدينة فكّر عبد الله هذا بأنّ الفرصة مواتية لينتقم لنفسه، فأعلن على مسمع الناس:

لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ،

وكل من سمعه فهم ما يعنيه وإلى من تُشير كلماته، وأُبلِغَ رسول الله بذلك. ولما سمع عمر بالخبر استأذن الرسول لقتل هذا الرجل قائلاً: إننا لا نُطيق ما سمعناه ولا الطريقة التي يُحاول بها إهانتك. فقال : لا تفعلوا شيئًا ولا عِقاب له من أي نوع.

وفي رواية أنّ ابن عبد الله بن أُبي بن سلول أتى النبي وقال: يا رسول الله، ربما أنّك أَذِنتَ بقتل والدي، فإن كنت فاعلاً فَمُرْنِي به، فأنا أحمل لك رأسه. فوالله، لقد علمت الخزرج ما كان بها رجلٌ أبرَّ بوالدي مني، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي إلى أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس فأقتله. فأكون قد قتلتُ رجلاً مؤمنًا بكافر، فأدخل النار. فابتسم الرسول وقال: لا تفعل شيئًا، ولا عِقاب له.

وعادوا إلى المدينة، وعاش هذا الرجل بأمان في ظل حماية النبي الكاملة وهو الذي كان قد جدَّف عليه. وعندما مات قرّر النبي الإمامة في صلاة الجنازة عليه. وهذا كان أثقل من أن يطيقه بعض الصحابة رضوان الله عليهم. ويذكر عمر بأنه وقف في طريق النبي قائلاً: أليس هو زعيم المنافقين؟ أليس هو الرجل الذي قال الله عنه:

إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ؟

يا رسول الله، يا من ينزل عليك وحيُ الله، لماذا تتغاضى عن كل هذه الأمور المتعلقة بك ولِمَ أنت ماضٍ للصلاة عليه؟ وكان الجواب: أخِّره عني يا عمر. دعني لوحدي سأُصلّي عليه وأرجو أن يغفر الله له، لأنني أستغفر له أكثر من سبعين مرة. وهذا ما فعله .

هذا هو نبي الإسلام.. إنسانٌ تحلّى بأسمى درجةٍ من الرحمة والحنوّ والشفقة. رجل مبدأ وعاش حياته كلها حياة صدق ولا شيء غير الصدق.

حربه ضد العنصرية

وعندما علم بِقُرب رحيله من هذه الدنيا إلى بارئه تعالى ألقى خطابًا في حشدٍ من الناس لم يبلغ فيه مثل ذلك العدد من الناس من قبل في تاريخ الأرض العربية. وكان ذلك في حجّة الوداع وهو آخر حج اشترك فيه النبي وفي موعظته أبرز أمرًا واحدًا كان رسالته إلى جميع بني نوع الإنسان لكل الأجيال القادمة، وقال: أيها الناس، ولم يقل أيها المسلمون، ويعني جميع بني نوع الإنسان اسمعوا قولي وتذكروا بأن إلهكم واحد، وأن أباكم واحد وهو آدم، وتذكروا بأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأناس من قوميات مختلفة على غيرهم وتذكروا بأن الفضل الوحيد المقبول للإنسان هو تقوى الله أي أن يكون الإنسان يخشى الله تعالى بأقسى درجات الخشية، قائما بواجباته تجاه الله والناس، وهذا هو معنى التقوى هذا هو الإنسان المفضل ولا أحد غيره والآن أخبروني: هل بلغت الرسالة؟ فأجابوا كلهم بصوت واحد: نعم يا رسول الله لقد بلغت فقال: لا، عدُوني بأنكم ستبلغون هذه الرسالة إلى بني نوع الإنسان في جميع أنحاء العالم ألا، فليبلغ الشاهد الغائب، ويجب أن يستمر هذا إلى نهاية العالم.

العنصرية مسألة تثير جدلا ً ساخنا في هذه الأيام وبعض المثقفين الراقين ينكرون الواقع لأنهم واقعون تحت تأثير العنصرية وحسب خبرتي وبعد أن تجولت في بلدان عديدة، فلا تزال العنصرية، وفي كل شعب، في كل جزء من العالم، وليس ذلك مسألة شعور ٍبتفوق الأبيض على الأسود وإنما هو أيضا مسألة شعور السود بتفوقٍ انتقامي على البيض وهكذا فإن العنصرية هي أخطر ما يجري حاليًا على أفكار البشرية وحوافز الإنسانية وها أنا أبلغكم برسالة الإسلام كما بلغها النبي إطاعة ً وتنفيذًا لأمره البين الصريح، وأرجو أن تتذكروا بأننا جميعا مخلوقات الله تعالى، وننتسب إلى نفس الأب ويجب أن لا نسمح لأنفسنا بأن ننحدر إلى مستوى التفكير بمفهوم عنصري، وإنما بمفاهيم التفوق الإنساني على الآخرين.

إن آخر كلمات سُمعت من فم نبي الإسلام حينما كان على وشك الرحيل هي (في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى) أي لقد خُيرت من الله تعالى بين البقاء على هذه الأرض بضعة أيام أو بضعة سنوات أخرى أو أن أعود إليه ، فاخترت في الرفيق الأعلى، إلى مولاي الأبدي أفوض نفسي كلية له وليستُرني كاملا.

كان هذا هو الإنسان محمد، فإن كنتم ترونه كاذبًا فمن الطبيعي أن لا تروا صادقًا أبدًا وأؤكد لكم بأن إنسانًا قضى كل حياته في الصدق لا يمكن أن يكون قطعًا كنبي كاذب، هذا من المحال ولكنه، لسوء الحظ، سنة الناس وتعصبهم وضيق فكرهم اللذان يحرفان الحقائق إنها طبيعة الإنسان العقلية التي تُبدل الحقائق إلى غشاوة وخرافات يمكن تخيلها؟ إن ذلك يتوقف على نوعية الإقرار بالفضل فبعض الأساطير تنشأ بدافع المحبة وتجعل منشئيها يتخطون ويهملون خلق الإنسان إلى ما هو فوق مقدرة الإنسان، قريبًا من الله تعالى الإله الحقيقي، إلى الوحدة مع الله، أو ما شئتم أن تسموه وأما الإله الذي هو من تصور البشر فينتهي دائما نتيجة الإفراط في المحبة إلى تحريف الحقائق وإلى غشاوة وخرافات وهذا ما يحدث لمعظم الديانات في العالم ومع ذلك فإننا نشاهد ظاهرة معاكسة لهذه تمامًا.

لقد كان النبي محمد عاملا على نبذ خرافة الكراهية، ولكن هذه الممارسة للأسف لم تنته بعد إنكم عندما تحكمون على الناس فلا تحكموا عليهم حسب الخرافات المنسوبة إليهم، وإنما احكموا عليهم على ضوء الحقائق الثابتة فيهم.

وفقكم الله جميعا، وشكرا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك