فلسفة احياء الاسلام

خطاب هام ألقاه إمام الجماعة الاسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد أيده الله بنصره العزيز في سيدني_استراليا. أثناء جولته إلى بعض دول الشرق الأقصى عام 1983.

تعريب:

الأستاذ مصطفى حلمي ثابت

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العلمين. الرحمن الرحيم. ملك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. غهدنا السراط المستقيم. سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

آمين

إن موضوع خطابي اليوم هو فلسفة إحياء الإسلام، واود أن أحدثكم اليوم عن فلسفة الإسلام التي تعالج هذا الموضوع، لأنها هي الفلسفة الوحيدة الحقة والخالدة. ذلك أنه لا سبيل إلى إحياء الديانات إلا بتدخل إلهي، وليس من سبيل آخر لذلك. فالله العلي القدير يبعث المجدد لينقذ الناس من تهافتهم على المادة ويعيدهم إلى خالقهم، وشأن هذا المجدد دائما حض الناس على بذل تضحيات عظمى في سبيل الله. فهو يدعوا الناس إلى الجهد والعرق، إلى الصبر والتحمل، ويلقنهم أن من أراد الحياة فليكن على استعداد لطلب الموت لينال الحياة. وهكذا يعد مبعوث الله أتباعه لنضال طويل مضن، شاقا طريقه وسط معارضة عمياء واضطهاد قاس على أيدي اولئك الذين يسعى المبعوث ومن معه لهدايتهم بكل محبة. وكما قلت لكم، هذه هي الفلسفة الوحيدة الخالدة لإحياء الإسلام، وكل فلسفة مخالفة لها ليست على وفاق في هذا الموضوع. فهناك فريق كبير من بين المسلمين يعترض أنه قد طرأ تغيير أساسي في العالم على اسلوب إحياء الإسلام، ولكن الجماعة الإسلامية الأحمدية في الجانب الآخر ترى أن سنة إحياء هذا الدين قد استمرت عبر التاريخ ولم يطرأ عليها أي تغيير.

وحتى لا تسبب الخلافات القائمة بين المسلمين في خلق انطباع خاطئ، أرى من الضروري سرد العقائد الأساسية المتفق عليها بين المسلمين والتي تجتمع عليها كلمتهم جميعا رغم اختلاف مذاهبهم.

إن كل مسلم، أيا كان مذهبه، يؤمن بوحدانية الله تعالى ورسالة النبي الأعظم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكل مسل يؤمن بأن الإسلام هو آخر الأديان التي أنزلها الله تعالى لهداية وخلاص جميع البشر، وكل المسلمين يؤمنين بأن الإسلام هو الدين الذي لم يزل ملبيا حاجات الإنسان الروحية وموفيا لها إلى يوم الدين. وجميع المسلمين يؤمنون بأن الشريعة التي انزلت على محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم كاملة لا تتغير ولن تنسخ ابدا، وان القرآن المجيد لم يقع فيه تحريف ولا تبديل في كلمة من كلماته بل ولا في حركة منه. وكل المسلمين من جميع الاتجاهات الفكرية يعتقدون أن لتعاليم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم صلاحيتها وسلطانها إلى آخر الزمن، فالمسلمون من كل فرقة يؤمنون بأنه لا سبيل إلى إدراك لحقائق الروحانية الازلية إلا عن طريق اتباع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

كل هذه الحقائق الاساسية مشتركة بين المسلمين دونما استثناء. ورغم هذه الامور المشتركة بيننا، يظل هنالك اختلاف جوهري يميز الجماعة الإسلامية الأحمدية عن طوائف المسلمين الأخرى؛ ألا وهو الاختلاف في قضية إحياء الإسلام، وفي واقع الأمر إن جميع الاختلافات الأخرى تنبع من هذه القضية الهامة. فكيف يتحقق بعث الإسلام؟ وكيف يمكن أن ينال حياة جديدة ويدب حماس جديد في هذا الدين الذي راح أهله في سبات عميق؟

وعند الإجلبة على هذه الأسئلة تتفق كلمة المسلمين عمة بما فيهم الجماعة الإسلامية الأحمدية على أن هذه المسألة تتم بمجيء المسيح عيسى بن مريم، وبظهور الإمام المهدي المنظر، أي بواسطة المصلح الذي يصطفيه الله تعالى لهذه المهمة وتوجهه الهداية السماوية. وهذا الاتفاق الظاهري ينشأ عنه في الواقع رأيان متعارضان تماما عند التفسير. فالجماعة الإسلامية الأحمدية تنظر إلى النبوءات المتعلقة بمجيء المسيح على أنها جاءت باسلوب المجاز، وإنه لا سبيل لإدراك معناها الحقيقي إذا أخذناها بمعناها الحرفي. وعلى النقيض تماما من هذا، تصر الفرق الإسلامية الأخرى على تحقق تلك النبوءات بظاهرها الحرفي. وهذا هو الفرق الأساسي الذي يميز الجماعة الأحمدية عمن سواها من الفرق الأخرى

نبذة عن النبوءة

إن حالة انحطاط المسلمين الحاضرة وما يقع بينهم من اختلافات كانت من الأمور التي كشفها الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولقد تنبأ منذ اربعة عشر قرنا بإلهام من الله بأن المسلمين سيتفرقون إلى ثلاث وسبعين فرقة. كما وصف حال المسلمين المؤسفة بتفصيل كما لو كان يشهدهم أمام عينيه. فالاحاديث النبوية تضمنت وصفا بينا لزمننا المعاصر حيث جاء فيها” لا يبقى من الاسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى”. ولكن لم يقتصر الوصف على هذه العلامات المروعة، بل بشرنا أيضا صلى الله عليه وسلم ببشارات عظيمة الشأن، فأخبرنا بأن الأمة الإسلامية لن تهلك رغم تعرضها لتلك المحنة الرهيبة وقال:” كيف تهلك أمة أنا في أولها والمسيح في آخرها” (ابن ماجه، كتاب الاعتصام بالسنة).وقال صلى الله عليه وسلم :” كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم” (صحيح مسلم- كتاب الإيمان). وكرر البشرى في قوله:” والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا” (نفس المرجع السابق).

كذلك بشر المصطفى صلى الله عليه وسلم بإمام عظيم.. هو الإمام المهدي الذي يظهر في وقت عيسى بن مريم.

والجماعة الإسلامية الأحمدية تتفق مع كل الفرق الإسلامية في اعتقادها بأن بعث الإسلام وغلبتها العالمية ترتبط بمجيء المسيح وظهور الإمام المهدي، ولكنها تختلف عنهم في تفسير هذه النبوءات. إنها ترى ضرورة فهم هذه النبوءات في ضوء القانون الرباني كما جرت به سنة الله تعالى، وبما يتفق وتاريخ الأنبياء السابقين. ولكن الفرق الإسلامية الاخرى على عكس ذلك تتمسك بالمعنى الحرفي لهذه النبوءات دون أن تتعمق في معانيها ومراميها. ولسوف أسعى أولا إلى شرح وجهة معارضينا إنصاف لهم.

إنهم يقولون إن نهضة الإسلام مرتبطة بسيادته الاقتصادية والسياسية. ولعل ما يبرر ذلك هو ما للذهب من بريق وما للقوة من سلطان وسيطرة تقليدية على صراعات البشر.. فذروة النهضة الوطنية قد تكون عن طريق السطوة السياسية أو الاقتصادية أو في كلتيهما، ويتجلى الفضل الإلهي في رأيهم بتحقيق تلك النتيجة. هذا هو مفهوم نهضة الإسلام كما يراها الكثيرون. وحسب اعتقادهم سيكون مجيء المسيح بشير عهد جديد يخضع فيه العالم كله للإسلام سياسيا، ويكون ظهور الإمام المهدي سبيلا إلى هيمنة المسلمين على العالم كله اقتصاديا.

وهنا أوجز لكم تصورهم عن مجيء المسيح. انهم يعتقدون بأن عيسى بن مريم الناصري عليه السلام، الذي ذكر في القرآن أنه كان أنه رسولا إلى بني إسرائيل، سينزل من السماء بشخصه وجسده العنصري، ويشرع فور نزوله بإعمار سيفه في رقاب أعداء الإسلام، وأنه سيكتسح العالم محققا أغراضا ثلاثة: فيكسر الصليب لا بمعناه المجازي، بل بمعناه المادي. وسيمضي محطما في طريقه رمز العقيدة المسيحية بمهمة ونشاط بما لا يدع له من أثر، فلا يبقى صليب واحد مرفوعا على كنيسة أو متدليا من عنق.

هذه هي مهمته الأولى، أما مهمته الثانية عند معارضينا فهي قتل الخنزير، إذ إنه يطارد هذا الحيوان ليستأصل شأفته من الحظائر ومن الغابات بحيث لا يجد المسيحيون صليبا لعبادتهم ولا خنزيرا لطعامهم. وهكذا سوف يحرم المسيحيون من غذائهم الروحي فضلا عن غذائهم المادي.

والغرض الثالث من نزول المسيح في رأيهم أنه سيقتل الدجال، أي المسيح الدجال. ولمن يتساءل عمن هو الدجال نقول أن الأحاديث النبوية إذا أخذت بمعناه الظاهري كما يفعل البعض تحكي عن كائن جبار، اعور العين، يأتي راكبا على حمار ذي أبعاد غير عادية، فهو طويل حتى أن رأسه يعلوا فوق السحاب، وقد حذر كل الأنبياء أممهم من شرور ذلك الدجال. و حينما يعيث الدجال في الأرض فسادا ينزل المسيح بن مريم من السماء، و يقاتل الدجال بالقرب من دمشق فيقتله ، ثم يغزو الدنيا كلها و يستولى عليها ، و في النهاية يسلم زمامها للمسلمين .

هذه بوجه عام هي فلسفة عامة المسلمين بشأن نهضتهم وهيمنتهم العالمية. انها فلسفة تعفيهم كلية من عبء أي كفاح سياسي، و هكذا فإن الحالمين بوراثة الأرض من دون ان تتحرك فهم عضلة او تهتز لهم شعرة، بوسعهم الا يشغلوا انفسهم بتفكير او عمل سياسي من أي نوع كان ، و ان يعيشوا في سعادة الغفلة عما هم فيه من فساد و انحطاط. دع عنك كل شيء آخر، فهم يعلمون بكل تأكيد ان يوم السعادة ليس. بعيدا عنهم عنما ينزل عنهم عندما ينزل الكائن الإلهى من  السماء، و ينطلق غازيا من اجلهم.. فيقتل الخنزير ويحطم الصلبان، ويقضي على قوى الشرق والغرب، ثم يعود إلى جماهيره المسلمين، ويقول لهم: هلم يا جند الله، هلم يا معشر الأتقياء.. تعالوا وتقلدوا مقاليد الأمور في مملكة الأرض!!!

هذا- عند عامة المسلمين- الرأي العظيم الذي يشرح كيفية نهضة الدين وبعثه، والذي لا يسع المسلمين الأحمديين ان يشاركوهم في بهذه الحرفية الفجة.

فتبقى بعد هذا نهضة الإسلام اللاقتصادية حيث يرى أهل العلم في الفرق الأخرى ان علاجهم من مأزقهم الاقتصادي المؤسف والمتغلغل في المجتمعات الإسلامية كلها لن يتحقق بالكفاح والتضحيات، وانما يأتيهم العلاج التام عند ظهور الإمام لمهدي المنتظر والذي يكون ظهوره معاصر للمسيح. وتكون أهم واجبات هذا الإمام هي إفاضة المال على المسلمين وتوزيع ثروات لا حد لها، فيعم خيره اللانهائي، ويجعل كرمه عن الوصف، حتى تكون الثروات أكثر من ن يستطيع المسلمون إحصاءها.. وعندئذ تغيب شهور الذهب إلى غير رجعة. هذا عند البعض هو العلاج الناجح الشامل لحل كل المشاكل الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية. إذ يعتقدون إن ظهور الإمام المهدي يعتبر في حد ذاته الجواب الشافي على كل المساوئ الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، فلا حاجة لهم إلى العرق والدموع والكدح. لا ضرورة لهم في الأرض واكتناه أسرار الفضاء. لا لزوم لصناعة أو اختراع أو عمل، فكل ما يلزم هو أن يأتي الإمام المهدي.

وهنا أيضا- نحن المسلمين الأحمديين- نختلف معهم في هذا إذ نرى أن هذا المفهوم صبياني أو غير مستساغ أو مقبول.

والجماعة الإسلامية الأحمدية لا ترفض النبؤات المتعلقة بنزول المسيح وظهور الإمام المهدي بأي وجه من الوجوه، بل ترى أن منهج التفسير الصحيح لهذه النبؤات يجب ألا يكون بحملها على ظاهر ألفاظها، الأمر الذي يعتبر في نظرنا منتهى السذاجة والجهل، ونرى أن حمل الألفاظ على معناها الظاهري يأتي نتيجة لهدم الإدراك الكامل للمكانة العالة التي يتبوؤها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أوقع هؤلاء في خطأ فاحش عند محاولتهم فهم تلك الرسائل الفلسفية العميقة.

إن أهل البصيرة والحكمة كثيرا ما يستعملون الأمثال والمجاز عند بيان أمر من الأمور ذات الشأن الخطير مما يجعل النظرة السطحية عاجزة عن إدراكها بسهولة. ويعتقد المسلمون الأحمديون أن كل المسائل المتعلقة بالمسيح والدجال وحمارة قد وردت بأسلوب المجاز. فالمسيح المذكور في النبوءة ليس هو ذلك النبي الذي أرسله الله تعالى لبني إسرائيل.

إن الأحمديين يعتقدون بأن المسيح ابن مريم قد مات ميتة طبيعية بعد أن أنقذه الله تعالى من الموت على الصليب، وإن مسيح النبوءة إنما هو في الواقع شخص آخر. هو فرد ممن يولد في امة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. له من الخصائص والخصال ما يشارك فيها عيسى بن مريم، ولذلك اطلق عليه اسم”عيسى بن مريم”، كما يسمى الرجل الكريم حاتما والشجاع عنترة. كذلك فإن الإشارة إلى الصليب رمز ومجاز، فالمسيح الموعود لن يطوف الأرض يكسر الصلبان، ولكنه يهزم العقيدة المسيحية بالأدلة القوية والحجج الدامغة. اذن فكسر الصليب يرمز إلى تحطيم الأساس الفكري في العقيدة المسيحية، وليس المراد به الكسر المادي للصليب.

وكذلك الحال بالنسبة للألفاظ “يقتل الخنزير”، فهي تشير إلى حياة الانحلال الخلقي في المجتمع الغربي التي تحول الآدمي إلى حيوان ديوث. فلفظة الخنزير ترمز إلى ما يسمى بالثورة الجنسية التي تجتاح أوروبا وأمريكا. إنها تومئ إلى ذلك الفسق المزرى الذي لا يتورع عن اتخاذ ضحاياه حتى من بين الأطفال الأبرياء وغيرهم. وإن الأحاديث النبوية لا تعني البتة، بكل تأكيد إن المسيح سوف يقوم بمطارة قطعان الخنازير البرية ليقضي عليها أو يعقد العزم على جمع الخنازير من المزارع ليقتلها. فذلك الأمر جد غريب ولا يليق بأنبياء الله تعالى. ولكنه يذكرنا بالأساطير اليونانية القديمة عن “اجتس” الذي تصدى لقطعان من الماشية والأغنام، فأعمل فيها القتل تحت تأثير وهمه المجنون بأنها هي قواد جيش الأعداء. إن نبيا على هذه الشاكلة لم يظهر على وجه الأرض، ولن يأتي نبي بهذه الصورة أبدا.

أما الدجال فهو اسم وصفي شأنه في ذلك شأن الكلمات الأخرى مثل كلمة المسيح والصليب والخنزير التي ذكرت في النبوءة، فالدجال وصف لأمة عظيمة قوية تحكم الأرض والفضاء. والواقع أن كلا من الصليب والخنزير يتعلق بهذه الأمة. تقول الأحاديث النبوية بأن العين اليمنى للدجال عوراء، وأما عينه اليسرى فكبيرة نيرة. وفي هذا الوصف المجازي تدل عماية العين اليمنى على عماية البصيرة الروحانية عند هذه الأمة وحرمانها من النور الروحاني، أما قوة العين اليسرى فتدل على شدة بصيرتها المادية التي تمكنها من التفوق المادي وتحقيق إنجازات مادية عظمى.

وأخيرا فإن المسلمين الأحمديين يرون في حمار الدجال وصفا رمزيا كذلك. فهو يشير لوسائل النقل المستحدثة التي قدر لها أن توجد في زمننا ، ذلك ان جميع ملامح حمار الدجال يمكن التعرف عليها فيما نراه من وسائل النقل الحاضرة ذات المحركات الاحترافية التي اخترعها الغرب. فلو تأملنا أوصاف هذا الحمار كما وردت في الأحاديث النبوية الشريفة وكما انكشفت للمصطفى صلى الله عليه وسلم في إدى كشوفه لرأيناه يأكل النار، ويجري على الأرض ويشق البحار، ويطير في الهواء، وسرعته “كغيث استدبرته الريح” كناية عن السرعة الفائقة، ويدخل الركاب في جوفه ولا يركبون على ظهره، وإنه يضيء لهم، ويعلن عن مسيره، ويطلب من الركاب ملازمة مقاعدهم. فلو تأملنا هذه الأوصاف التي رواها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا لأدركنا المعنى، ولفهما مراده من هذا المخلوق. ولا شك ان تحقق هذه العلامات بدقة بالغة لشهادة مجيدة على صدق محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وبالمثل فإن المسلمين الأحمديين يرون الأنباء المتعلقة بمجيء الإمام المهدي من قبل المجاز أيضا. وإن الثروة التي سوف يوزعها بين المسلمين إنما هي ثروة العرفان الروحاني والحكمة الربانية، وليست ثروة المال الدنيوي. ثم إن رفض البعض قبول هذا المال المادي لا يشبع منه الإنسان قط، جاء في الحديث الشريف :” لو كان لابن آدم واد من ذهب احب أحب أن له واديا آخر ولن يملأ فاه إلا التراب” (صحيح مسلم-كتب الزكاة). وإنما الكنوز الروحانية هي وحدها التي تلقى منه الازدراء. وهكذا فإن الجماعة الإسلامية الأحمدي ترفض أيضا هذه الفكرة الساذجة لنهضة السلام الاقتصادية التي تنتشر بين طوائف المسلمين الأخرى. وهي ترى أن فلسفتهم هذه تناقض تعاليم القرآن المجيد، ولا تتفق وتاريخ الأنبياء، بل وتناقض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن الجماعة الإسلامية الأحمدية لتنأى بنفسها عن هذا الافيون الفكري الذي يأتي إلى الأمة وهي في المعترك، ثم يتركها في عالم من الهلوسة والخيال.

فلسفة الأحمدية فيما يتعلق بالإحياء الديني

لا تختلف هذه الفلسفة عن التراث المشترك بين جميع الديانات، والتاريخ يعضد هذه الفلسفة وحدها. فمع ان كتب الديانات والاساطير ذكرت ان كثيرين قد صعدوا إلى السماء، فلا توجد هاك رواية واحدة تخبر بعدة أحدهم إلى الأرض ثانية منذ عهد آدم وحتى يومنا هذا. وإذا غضضنا الطرف عن صعود هؤلاء إلى السماء كما يزعم البعض، فلا نرى ذكر رجوع أي واحد منهم إلى السماء كما يزعم البعض، فلا نرى ذكر رجوع أي واحد منهم إلى الأرض ثانية بعد اختفاء طويل. لقد اصطفى الله الأنبياء من بين جموع الناس العاديين، فقوبلوا بالتكذيب والتحقير من بني قومهم فلم ترفع لأحدهم أقواس الزينات ترحيبا، ولم تقدم لهم أكاليل الزهور احتفاء، ولم توقد لهم المشاعل ابتهاجا، بل كان العكس هو الصحيح. لقد بعثوا جميعهم باسم الله تعالى، فعذبتهم أقوامهم وكأنهم ارتكبوا جريمة مروعة. وكان طريقهم مفروشا بالأشواك، واثير الغبار في وجوههم، وألقيت الأحجار على رؤوسهم. لقد عقدوا لهم تيجان الشوك، وانزلوا بهم كل أنواع التعذيب التي يتصورها البشر. فكنت ترى أحدهم عائد من مدينة صور يغطيه الدم من قمة رأسه إلى قدميه. ثم ترى الآخر ي موقعة (احد) ملقى على الأرض كالميت من فرط الاعياء، تغطيه أجساد القتلى من أصحابه الذين بذلوا حياتهم من أجله.

وكنت ترى أتباعهم يعانون كمثلهم. ولقد عذبوا بأشد أنواع العذاب، فسحبوا من أقدامهم على الطرق الوعرة كما نسحب الكلاب، وارغموا على الرقود فوق الرمال المحرقة تحت الشمس الملتهبة، وألقوهم على أسياخ الحديد المحماة ليطفئوا جذوتها في أجسادهم. وأخرجوهم من مساكنهم وطردوهم إلى المنفى، وهددوهم بالموت جوعا، وقتلوهم غدرا بالسيوف، وفرقوا بين الوج وزوجته، وأبعدوا الزوجة عن زوجها، وحرموا الآباء من أطفالهم، وسلبوهم جميع حقوق الإنسان المعروفة، وهضموا كل حق تفرضه لهم الحياة، فحيل بينهم وبين الصلاة في المساجد، بل ومنعوا من بناءها، وحرموا حتى من حق إعلان عقيدتهم، بل ومن مجرد ذكر اسم دينهم

ولكن الإنسان لا ينال حياة روحية جديدة إلا بعد أن يسير في طريق الموت. هذه هي الظاهرة الوحيدة التي نشهدها فعالة ومؤثرة في حياة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذا هو منطق التاريخ وواقعه. فكيف نتوقع من الله العلي القدير أن يبدل هذه السنة الثابتة المستمرة؟ كيف نقبل بأن المسلمين سيرثون الأرض من دون بذل قطرة دم واحدة، أو دون القيام بمجهود ما؟ كيف نعتقد بإمكان فلاحهم من دون أن يسيروا في طريق الآلام والتضحيات كما سار الذين من قبلهم؟. يقول الله تعالى:” أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مَثَل الذين خلوا من بلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله” (سورة البقرة: 215)، ان هذا لم يحدث من قبل، وانه لن يحدث أبداً.

يؤكد المسيح الموعود عليه السلام – مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية – هذه الحقيقة الأبدية الخالدة في تحذيره للأمة، حيث يقول ما ترجمته:

“ما من نبي إلا وسخروا منه. فلا بد وأن يسخروا من المسيح الموعود. يقول العلي القدير: “يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون”. فهذه إذن علامة من الله تعالى ولا بد لكل نبي من أن يسخر منه الناس. والآن، من يجرؤ على السخرية من شخص ينزل من السماء تصبحه الملائكة على مشهد من الناس أجمعين؟ إن للعاقل أن يستنتج من هذه الحجة أن عقيدة نزول المسيح الموعود من السماء نزولاً جسدياً هي عقيدة باطلة. تذكروا أن أحداً لن ينزل من السماء. إن جميع الذين يكذبونني اليوم سيذوقون الموت يوماً ما، ولن يرى أحد منهم أبداً عيسى بن مريم نازلاً من السماء. ومن بعدهم سيوارى أبناءهم وأحفادهم الثرى، ولكن لن ينزل عيسى بن مريم من السماء. ثم ستمتلأ أفئدة الناس قلقاً ورهبة، أن أيام سيطرة الصليب قد مضت، ولكن لم ينزل عيسى بن مريم من السماء، ولسوف يمل العاقلون من هذه العقيدة، وقبل انقضاء ثلاثة قرون من اليوم سوف يتخلى المسلمون والمسيحيون عن هذه العقيدة الباطلة في ازدراء وقنوط، وسيبقى في الأرض دين واحد وهدي واحد. إنني ما جئت إلا لأغرس البذرة، ولقد غرستها بيدي، ولسوف تنمو وتثمر، ولن تملك سلطة على الأرض إن تمسها بسوء”.

وبوسع كل ذي فكر منصف أن يرى من خلال هذه المقارنة أن وجهة نظر الحمدية قائمة على حقائق التاريخ الديني ومنطقته، في حين أن فلسفة المعارضين لنا تتسم بأسطوريتها وتعارضها مع سنة الأحياء الديني عبر التاريخ. إننا نعرف من التاريخ أن كل مبعوث إلهي قد قوبل بعاصفة من المعارضة، وجميع الأنبياء حملوا إلينا رسالة الحق والحياة الأبدية، ولكنهم عورضوا وكذبوا من قبل الذين آثروا الباطل على الحق، وفضلوا الموت على حياة الخلود. هذا هو سبيل ولادة كل دين جديد، فإذا ما لحقت به المفاسد والبدع والانحرافات يعود أحياؤه مرهوناً بنفس السبيل. جاء في الحديث الشريف: بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً. فطوبى للغرباء (صحيح مسلم – كتاب الإيمان). وإن المصلحين والمجددين الذين يقيمهم الله تعالى يلاقون أيضاً ما لاقاه الأنبياء من قبلهم، وكلما تحركت إرادة العلي القدير لبعث أمة من سباتها الروحاني نجدها تنقسم إلى فريقين: فريق يؤمن بما نزل من الحق وفريق يكون من المكذبين. ولم يحدث أن تخلى أحد الفريقين عن أسلوبه أو خرج على مسلكه. ويصف القرآن المجيد هذه السنة المتكررة بوصف بليغ يثير المشاعر، ويهز أوتار القلوب. وعلى ذوي الألباب أن يعوا الدرس وينتفعوا به.

  • يعلمنا القرآن المجيد أن تجديد الدين إنما يتم عن طريق من يختارهم الله تعالى من المجددين. ولم يتجدد الدين أبداً على أيدي موظفي الدوائر الدينية أو عن طريق عقد المؤتمرات أو إصدار الفتاوى.
  • كان هؤلاء المجددون الذين يصطفيهم الله بفضله تعالى يلقون الرفض من أقوامهم دائماً وأبداً، وكانوا يواجهون بالاستعلاء والاحتقار.
  • كان الناس يقاومون المجددين باللجوء إلى وسائل العنف وأساليب الإرهاب، ويتهمونهم بإفساد دين الآباء، ويصمونهم بالكفر والخروج عن الملة، ويفتون بكفرهم، ويُحلون دماءهم، ويخيرونهم بين العودة إلى عقيدة الأغلبية المعارضة أو النفي من البلاد أو مواجهة الإعدام.

وفي الجانب الآخر نجد أن المجددين لم يستعملوا العنف كوسيلة أبداً، بل كان أنصارهم يتحملون الاضطهاد، ويتحلون بالصبر، ويؤثرون النفي أو القتل على الارتداد إلى ما خلفوه من العقائد الباطلة. إنهم ينأون عن الطمع في الدنيا، ويترفعون عن إغواء الناس بالمال، ويتحلون بروح الإيثار، ويقدمون كل تضحية، ويبذلون كل غال ورخيص. ويعتبر الأغنياء منهم أم كل نعمة هي من الله تعالى فيبذلونها في سبيله ابتغاء لمرضاته.

إن القرآن الكريم والكتب السماوية كلها توضح بأن الأنبياء منذ عهد آدم وحتى زمن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم قد مروا جميعاً بتلك المراحل. لقد بعثوا في أممهم حياة جديدة، سائرين بهم في طريق الآلام والابتلاءات والتضحيات. لقد علموهم الحب، غرسوا فيهم الرغبة في بذل الجهد المتواصل والسعي الدؤوب والعمل الشاق. إن هذه الثورة الروحية هي التي نفخت الحياة في الأمم. إنها السنة الإلهية المتكررة التي لا تتبدل ولا تتغير، المنسجمة مع طبيعة البشر ومع فكره وضميره. إنها السنة التي تعترف بها الجماعة الإسلامية الأحمدية.

وبعد أن استبان لكم موقفنا. فإن مفهوم الإحياء الديني عند الجماعة الإسلامية الأحمدية ليس هو بالفلسفة المبتدعة وليدة فكر الإنسان، بل إنها نابعة من سنة الله التاريخية المستمرة اللامتغيرة. والتي حفظها لنا القرآن الكريم بكل دقة وصدق. إنها موجودة في كل تلك المبادئ والحقائق الخالدة التي هي أساس كل دين حق. ومثالاً على ذلك يعلن القرآن المجيد: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم”. (سورة البقرة: 257)

ثم يؤكد القرآن المجيد قائلاً: “يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون” (سورة يس: 31)

ثم يمضي في تأكيده فيقول: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (سورة الرعد: 12)

وعندما هدد شعيباً قومه وقالوا له: “لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا” (سورة الأعراف: 89)

رد عليهم شعيب باستنكار وقال: “أو لو كنا كارهين” (سورة الأعراف: 89)

إن تساؤل شعيب: هل ستكرهوننا على اتباع عقائدكم رغماً عنا؟ وهل ستدفعون بها في قلوبنا بحد السيف، أو هل ستنزعون إيماننا من صدورنا قسراً وإكراهاً؟ كان تساؤل شعيب عليه السلام هذا وصرخته تلك تمثل صرخة الأنبياء الصادقين على مر الأيام. وهاكم القرآن يحكي عن نوح إذ هدده قومه أن يرجموه إذا استمر في دعوته إياهم: “قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين”. (سورة الشعراء: 117)

إن هذه المعاملة لم يواجهها عدد قليل من الأنبياء فحسب، بل إن القرآن الكريم يلخص موقف الأقوام جميعاً من رسلهم فيقول: “وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا” (سورة إبراهيم: 14)

ولقد عوقب إبراهيم عليه السلام لخروجه على دين أجداده وعلى قوله الصدق، فصب رؤساء القوم جام غضبهم عليه كما يحكي لنا القرآن المجيد: “قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين” (سورة الأنبياء: 69)

ولقد عُلق المسيح بن مريم الناصري على الصليب ودقوا جسده بالمسامير، لأنه لم يوافق علماء اليهود على فهمهم الخاطئ لتعاليم التوراة رغم أنه أعلنها صراحة: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض، بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (إنجيل متى الإصحاح الخامس: 17-18)

واسمحوا لي أن أذكركم في النهاية بأن محور الخلاف الذي حدث بين المسيح ابن مريم وبين شيوخ بني إسرائيل انحصر حول تفسير الفقرة القائلة:

“فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء” (سفر أخبار الملوك الثاني – الإصحاح الثاني: 11).

فقد تمسك علماء اليهود بمعناها الحرفي الظاهري، واعتقدوا بأن إيليا سينزل بجسده من السماء قبل مجيء المسيح. ولكن المسيح عليه السلام أكد بأن هذه الألفاظ قد استعملت على سبيل المجاز ليس إلا، وأن العبارة رمزية وليست حرفية. وأوضح بأن يحيى ابن زكريا هو إيليا المزمع نزوله من السماء. مع أنه يعلم تماماً بأن يحيى قد ولد على الأرض، وإنه يقينا لم ينزل من السماء. لقد قال هذا رداً على الذين سألوه: “لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟”، فأجابهم قائلاً: “أقول لكم أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا”.

ففهم التلاميذ أنه كان يتحدث عن يحيى المعمدان وأخيراً، وبالإضافة إلى كل ما ذكر، فإن ما عاناه نبي الإسلام محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وكما رواه لنا بنفسه، لم يلق نبي مثل ما لقى هو بيد أعدائه. وهكذا فإن تاريخ الأديان يذكرنا بأن جميع أنبياء الله قاطبة كانوا من بني نوع الإنسان، لم ينزل أحد منهم من السماء كما يحدث لأبطال الأساطير الخرافية، بل عانوا جميعاً ألواناً من الابتلاءات والشدائد، وفي النهاية نال أتباعهم المجد، لا بجهد غيرهم، ولكن بجهدهم أنفسهم ومن خلال حبات العرق التي بذلوها ودمائهم التي أراقوها في سبيل الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك