فرض الشريعة الإسلامية كقانون دولة ورأي الأحمدية

هذه محاضرة ألقاها إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية أمير المؤمنين حضرة مرزا طاهر أحمد الخليفة الرابع لسيدنا الامام المهدي والمسيح الموعود ، في المجلس الديني الدولي الذي دُعيَ حضرته إليه في دولة سورينام في ٣ حزيران عام ١٩٩١. نتشرّف بتقديم هذه المحاضرة القيّمة الهامة إلى حضراتكم. (التقوى)

كلمة البيشوب رئيس المجلس

بدأ رئيس المجلس بالترحيب بالخليفة طاهر أحمد فقال:

((يُشرّفني يا سيد أحمد، أن أُرحب بكم بالنيابة عن ((إيريس)) وأعضاء المجلس هنا. إنّ كلمة ((إيريس)) تعني: ((المؤتمر الديني الدولي في سورينام)). نرحب بكم في مؤتمرنا. أنتم هنا منذ أسبوع، ولا بد أنّكم لمستم كيف أنّكم موضع التقدير البالغ هنا في مجتمعنا السورينامي، وإنّ سورينام كما تعلمون تُدعى بلد الضيافة والبشاشة.

ولقد قرأنا مسبقا يا سيد أحمد، عن شخصكم وثقافتكم وعلومكم، وأيضًا قرأنا عن نشاطكم التبشيري في بلدنا سورينام وفي العالم أجمع. وحسبما استطعنا أن نفهم، فإنّ الغاية الرئيسية من مهمتكم هي أن تجمعوا وتؤلّفوا الناس من مختلف الأجناس والبلدان والثقافات. ولقد تبيّن لنا أنّ رسالتكم رسالةٌ قائمةٌ على الاحترام والتقدير والتفكُّر والتفاهم المتبادل. وبهذا فإنّكم تهدفون إلى نشر العدالة والسلام في الناس.

وإننا من خلال فهمنا هذا قد دعوناكم في هذه المناسبة لتكونوا ضيفًا كبيًرً يشاركنا في بحث قضايانا ووجهات نظرنا واهتماماتنا في هذا المجلس الديني الدولي حول هذه المواضيع، وذلك لأن ((إيريس)) يتألف من مجموعة من القادة الدينيين في سورينام، وهي تعمل منذ حوالي ثلاث سنوات. ولكن عملها قد تركّز حتى الأن على العمل المتعاون المشترك بدلاً من الحوار. ولقد قمنا بهذا العمل من خلال تقديم الكتب والدراسات وغيرها، ونحن نسعى الآن إلى العمل من خلال الحوار ومناقشة وجهات النظر المختلفة، ولذلك فنحن نسعى إلى المشاركة والتفاهم في وجهات النظر أيضًا من خلال ضيوفنا الأكارم.

ولهذا فإننا قد تشرّفنا بدعوتكم لأن تكونوا أول الضيوف المتحدثين إلينا في سياق إنشاء الحوار الديني بين القادة الدينيين في هذا المجلس الدولي، وإننا نشكركم جزيل الشكر على تفضُّلكم بقبول دعوتنا ومشاركتنا.

وأما المواضيع التي نريد أن نتحدّث فيها هذا المساء فهي تتعلّق بالشريعة وبالتحديد الصلة بين الدين والسياسة في الإسلام من خلال الفهم المتعاون المشترك بين الفئات والطوائف الدينية المختلفة لبلدٍ واحد.

والموضوع الثاني الذي نريد أن تحدِّثونا عنه في هذا اللقاء هو المسألة الأحمدية والحقيقة المباشرة المتعلقة بالاضطهاد الذي يلاقيه المسلمون الأحمديون.

مرةً ثانية نشكركم على حضوركم معنا للمشاركة في هذه الأمسية التي نأمل أن تكون ناجحة موفقة لنا جميعًا من خلال الحوار المريح والخِبرة الأخوية المثمرة لصالح العلاقات الأفضل بين المجموعة الدينية في سورينام والعالم أجمع.

واسمحوا لي الآن أن أُقدمكم للحديث إلى المجلس وشكرًا)).

كلمة أمير المؤمنين حضرة مرزا طاهر أحمد

((حضرة البيشوب، السكرتير العام لهذا المجلس الموقر، الضيوف الأكارم، السيدات والسادة.

إنه حقًا لتشريفٌ متميزٌ لي، أن أُدعى من قِبَلِكم في هذه الأمسية لأكون أول المتحدثين إليكم. وإنها لحظةٌ تاريخيّة، بالنسبة إلي، أن أُشارككم الخبرة من خلال حوارٍ حُرٍّ ناضج وخالٍ من الروح الاستثارية أو التحريضيّة أو العاطفية وإنما فقط لتحديد الوجهات والطرق القويمة بالسبل الإنسانية المتميزة بكل ما يجب من اللباقة والتأدُّب والتهذيب، وذلك بغيةَ أن نُمكِّن الآخرين من فهمنا بشكل أفضل وكذلك أن نحاول نحن تفهُّم الآخرين بشكلٍ أفضل أيضًا.

تلك هي الغاية من الحوار الحر. وإنه ليسرُّني جدًا، أنّكم قد حمّلتم أنفسكم مشقة القيام بهذا العمل النبيل، الهادف إلى المزيد من التقارب والتفاهم بين مختلف الطوائف الدينية في العالم، لأن العالم حقًا في حاجةٍ ماسّة إلى مثل هذا النشاط وهذا السعي الحكيم في كل جانب من جوانب الحياة البشرية.

وأما فيما يتعلق بالمواضيع المطلوب مني التحدُّث فيها، فإنّ عليّ أن أعتذر إليكم أولاً لأنّ هذين الموضوعين يتميّزان بالسعة الكبيرة جدًا، ولربما لا يكون من الممكن في زمن قصير أن نَفِيَ بالحق ولا حتى لموضوعٍ واحد منهما. ولذلك فإنني أقترح بعد أن أُنهي الحديث عن الموضوع الأول وهو المتعلّق بالشريعة والسياسة، أو فرض الشريعة كقانون في بلدٍ ما، أنه إذا ما بقي لدينا المزيد من الوقت يمكننا عندئذٍ التحوّل إلى البحث الآخر، وإلا فإننا سنكتفي بما وصلنا إليه، وذلك لإعطائكم الفرصة لتُساهموا بتقديم وجهات نظركم ولتوجِّهوا بعض الأسئلة إن رغبتم. وعلى أية حال فإنني سأسعى إلى أن أكون موجزًا، ولكن على المرء أيضًا أن يكون في بحثه شاملاً مستوفيًا ما أمكن.

إنّ موضوع تطبيق الشريعة كقانون هو الآن أمرٌ يكثر حوله الجدل الكبير في الدول الإسلامية. ولقد كانت باكستان مؤخرًا ميدانًا ساخنًا لمثل هذا الجدل والنزاع المتعلّق بتطبيق الشريعة الإسلامية كقانون.

من المفهوم بشكل عام أنه إذا كانت الأغلبية في بلدٍ ما تتشكل من المسلمين فيكون عندئذٍ للمسلمين الحق، لا، بل وأكثر من ذلك، يكون من الواجب عليهم أن يُطبِّقوا الشريعة الإسلامية كقانونٍ في ذلك البلد. ومنطقهم أنهم إذا كانوا يؤمنون بالقرآن الكريم وأنّه كتابٌ شامل يغطي كل جانبٍ من النشاط، ويهدي الإنسان إلى كيفية اتباع السلوك السليم في كل مجال من الحياة، فإنّ الأمر عندئذٍ يكون إما نفاقًا حين يتحدثون عن القرآن بهذا المفهوم ويقولون أنّ دينهم الإسلام، أو أنّ عليهم أن يتبعوا النتيجة المنطقية المترتبة على هذا الإيمان، فيعملوا على تطبيق وتنفيذ الشريعة كقانون في الدولة الإسلامية التي ينتمون إليها، وأن يجعلوا من هذه الشريعة القانون الأوحد المعمول به في دولتهم.

هذا ما يُقال من جانب، ومن جانب آخر فإنّ الصعوبات التي تبرز عندئذٍ هي تلك المتعلقة بالمشاكل التشريعية، وهي مشاكل أساسية جادة هامة وخطيرة الشأن، وتتناول كل مجال يتعلق بتطبيق الشريعة كقانون.

اسمحوا لي أولاً أن أُبيّن لكم لِمَ لا يمكن ممارسة الشريعة كقانون وتطبيقها على الناس الذين هم في واقعهم وفيما يتعلق بطريقة حياتهم العادية ليسوا مسلمين مثاليين، بل هم بعيدون جدًا عن الإسلام. ففي البلاد التي يستطيع أهلها تطبيق الشريعة الإسلامية بشكلٍ صحيح بكل حرية، تجد  أنّ الناس هناك غاية في التقصير في هذا الشأن وغير مهتمين حقًا بالعمل عليها. فإذا كان أولئك الذين هم أولى بالتطبيق ليسوا راغبين من ذاتهم في تطبيق الإسلام، فكيف يمكننا إذن أن نتوقع إمكانية تطبيق الإسلام بالإكراه وقوة القانون على مَن هم أقل اهتمامًا والتزامًا؟!

هذا ما يحدث في مثل تلك المناطق، حيث يأخذ موضوع تطبيق الشريعة كقانون طابعًا ساخنًا وحادًا. وإنني سأوجز لكم هنا معدِّدًا النقاط الهامة لأوضح لكم جميع جوانب هذه المسألة:

أولاً، كنت في باكستان أشارك في الرأي حول مثل هذه المسألة، وقد أشرتُ برأيي أيضًا لكثير من العلماء الذين قدموا إلى لندن، أو كتبوا إليَّ مسترشدين، فعمَدَتُ إلى مساعدتهم في بيان حقيقة هذا الأمر إلى حدٍّ بعيد. ولذلك فإنكم تجدون أنّ الكثير من المقالات التي نُشرت في باكستان قد احتوت أيضًا على رأيي.

الشريعة هي قانون الإسلام والمسلمين، هذا مما لا شكّ فيه، ولكن إلى أي حد يمكن تحويل هذا القانون إلى تشريع يُدير حكومةً سياسية؟ هذه هي المسألة، وكثير من المسائل تُبنى على هذه المسألة.

ولنضرب مثلاً: إذا كان مسلم حنفي المذهب يملك الحق بأنّ يُملي هذا القانون على جميع الناس في بلده، فإنه يَحِقُّ بنفس المنطق ونفس الحق لكل بلد آخر بأغلبية دينيّة أخرى أن تُطبّق شرعها كقانون. وعند ذلك فإنّ العالم بأكمله سيغدو ميدان صراع ليس سياسيًا فحسب بل سيصير ميدانًا للصراع الديني والسياسي حيث تُعزى عندئذٍ كل الشرائع والقوانين لله، ومع ذلك فإنها جميعها سيناقص بعضها البعض بكل ما في الكلمة من معنى.

سيصل العالم حتمًا إلى مثل هذه النتيجة، وسيبدأ الناس بفقد إيمانهم بالله الذي يقول شيئًا لشعب، وشيئًا لشعبٍ آخر، ويأمرهم أن يُنفِّذوا شرعه كقانون بالقوة على الناس، ويقول: وإلا فلن تكونوا مخلصين لي.

وعلى هذا يمكنكم أن تتخيَّلوا بأنفسكم ماذا يمكن أن يحدث في بلد مثل الهند إذا ما تمَّ تطبيق شريعة ((منوسمرتي)) الهندوسيّة مثلاً كقانون شرعي في الهند.. ماذا سيحدث عندئذٍ للمسلمين كأقليّة في الهند.

وإنَّ هذه لن تكون مشكلة الهند وحدها، بل في كل دولة؛ فمثلاً في إسرائيل إذا قامت بتطبيق الشريعة اليهودية شريعة التلمود ((التلمود)) هناك، ولقد قرأت وأعلم أنه سيكون من المستحيل لأي مخلوق بشري أن يعيش هناك بشكل طبيعي وأخلاقي. وهكذا فإنَّ نفس الحق سيكون للمسيحيّة، وكذلك الحق ذاته للبوذيّة وغيرها من الديانات.

ولكن ماذا عن المفهوم الأدق والأعمق لــ ((الدولة))؟ هذا هو السؤال الأهم الذي يجب الإجابة عليه مِن قبل المعنيين بالسياسة والقانون الدولي.

والمسألة هنا: إذا وُلد شخصٌ ما في دولة فإنَّ له الحق بالمشاركة في تشريعها. نجد في المفهوم المدني لإدارة الحكومات والتشريع أن أي مواطن لأي دولة مهما كان دينه أو لونه أو معتقده ويكون قد وُلِد في تلك الدولة، فإنّه يمتلك الحقوق المدنية الأساسية، وأهم الحقوق، على الأقل، الحقُّ في المشاركة في التشريع. طبعًا الأحزاب تأتي وتذهب، فيكون للبعض أغلبية حزبيّة اليوم ثم أقليّة حزبية غدًا، ولا يمكن تحقيق وتنفيذ رغبة الكل، ولكن من حيث المبدأ، فإنّه يحقُّ لكل شخص أن يكون له فرصة متساوية لأن يجعل قوله، على الأقل، مسموعًا من قِبَل الطرف المعارض، وعلى أساسٍ عام. ولكن ماذا يحدث إذا فُرضت شريعةٌ واحدة أو دينٌ واحد كقانون للدولة؟ ما إذا فُرِضَ القانون الإسلامي على دولةٍ ما؟ لا بدَّ عندئذٍ أن يُحسب باقي المواطنين في تلك الدولة كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة، ولا يكون لهم حق في إبداء أي قول في هذا التشريع.

ولكن هذا ليس كل شيء، بل إنّ المشكلة ستزداد تعقيدًا بين المسلمين أنفسهم، وذلك لأنّ المسلمين لهم كتابٌ موحى به من الله ، والعلماء المسلمون يزعمون أنّ لهم وحدهم الحق في تفسير هذا الكتاب. وسنجد عندئذٍ في مسائل تتعلَّق بالحقوق المدنية أنَّ الهيئة التشريعيّة ستغدو ثانوية وتابعة للرأي المدرسي المذهبي لهؤلاء العلماء الذين خصُّوا أنفسهم في فَهْمِ القرآن الكريم أو الذين يزعمون أنّهم قد تخصَّصوا في فهمه. كيف يمكن عند ذلك أن تكون العلاقة المشتركة بين الهيئة التشريعيّة وهؤلاء العلماء العاملين بفهمهم المذهبي المتخصِّص. إنّهم سيعدُّون بعض جوانب القانون التشريعي ضدَّ الفهم الأساسي للإسلام، فيقولون بأنّه لا مجال في الإسلام لمثل هذا أو ذاك الهراء! لا بدّ عندئذٍ من السؤال: أي الصوتين أولى بالاستماع إليه؟

سيبدو من جانب أنّ الله تعالى هو الذي يتحدَّث من وراء أولئك العلماء، ولكن ظاهريًا فقط، وسيكون هناك من ناحيةٍ أخرى صوت الناس عموم الناس وأغلبيتهم في تلك الدولة، وهكذا تكاد تصير المعضلة مستحيلة الحل.

ومع ذلك فهذا ليس كلَّ شيء. إنّ كل دين في أصله واحد، ولكن يبدأ الدين مع مرور الزمن الطويل بالانحراف والانقسام من داخله، ومن ثم يتعدّد ويزداد أكثر فأكثر. وهكذا فإنّ نفس الدين والمعتقد الذي كان مثلاً في زمن المسيح الناصري دينًا مسيحيًّا واحدًا، نجده قد تحوّل إلى عدة طوائف ومذاهب مسيحيّة مختلفة. وإذا ما نظرتم من خلال وجهة نظر الطوائف المختلفة فإنكم تجدون حتى الأصل الواحد فيها يبدو مختلفًا في اللون، وكأن أتباع كل طائفة يستعملون نظارات عينيّة ملونة مختلفة ويرون المفاهيم من خلالها.

والأمر ليس مجرد مسألة الاختلاف القائم بين المسلمين السنيين أو المسلمين الشيعة، أو كيف سيفسر علماؤهم الشريعة، إذ أنّ هناك بين المسلمين الشيعة حوالي أربع وثلاثين طائفة يختلفون جميعًا في تفسيرهم للشريعة، وكذلك ثمة حوالي أربع وثلاثين طائفة بين المسلمين السنّة وهم يختلفون أيضًا في تفسيراتهم للشريعة عن بعضهم البعض. وحقيقة الأمر أنّه لا يتوافق عالمان من مذهبين ليس فقط على الأمور السطحيّة، بل ولا حتى على الأمور الأساسية!

ويفيد أن نضرب هنا مثلاً (تمَّ في باكستان) أثناء محاكمة الأحمديين على أنهم غير مسلمين. حيث طلب القاضي من العلماء المسلمين أن يضعوا تعريفًا للمسلم. وجاء في النهاية تقرير هذا القاضي يقول إنّه لم يتفق ولا حتى عالمان على تعريف واحد للمسلم، ماعدا أحد العلماء الذي طلب إمهالَه بعض الوقت ليعطي تعريفًا وتحديدًا للمسلم. فما كان من القاضي الذي كان يتميّز بروح النكتة والمرح إلا أن قال لذلك العالِم: ليس من الممكن إعطاؤك مزيدًا من الوقت، إذ يكفيكم ما يزيد على ألف وثلاثمائة سنة لتتمكنوا من تحديد أهم تعريف في الإسلام. فأيّة مهلة يمكن أن تفيدكم الآن؟ وما هو هذا التعريف، وكم يستلزم من الوقت؟ الحق أنها مسألةٌ عميقة وحسَّاسة!

إذا ما طُبِّقت الشريعة كقانون فإنّه لن يكون غير المسلم هو الذي سيجرَّد من الحق الأساسي في المشاركة في تشريع بلده، ولكن أيضًا سيكون بين المسلمين أنفسهم الكثير من المذاهب والطوائف التي ستُحرَم من هذا الحقّ الأساسي.

وثمّة أيضًا الكثير من المشاكل الأخرى، حيث نجد مثلاً، وبناء على بعض مفاهيم الشريعة، أنَّ العقوبة لجريمةٍ ما تكون مختلفة تمامًا في مذهب عنها في مذهبٍ آخر، بحيث أنَّ الإسلام سيُمارَسُ في العالَم بشكل مختلف كثيرًا على نفس الأساس، وبذلك سيخلق انطباعًا مُريعًا في العالَم غير الإسلامي، وسيقول الناس في كل مكان: أي نوعٍ من الدين هذا الذي يحدد عقوبة لجريمةٍ ما بشكلٍ في مكان وبشكلٍ آخر في مكانٍ آخر؟ بل وحتى في أماكنٍ أخرى ولدى طوائف أخرى لا يكون ذلك العمل جريمةً أصلاً.

وهكذا تجدون أنَّ دراسة جميع هذه المشاكل بعمق تؤدي بنا إلى الوصول إلى القرار بأنَّ تطبيق الشريعة كقانون في وقتنا الراهن يكاد يكون مستحيلاً. وعلاوةً على ذلك فإنّه سيتم التعثُّر بالحقوق الأساسية للطوائف الأخرى أو إهمالها في كثير من الحالات، ولنأخذ مثالاً على ذلك شرب الخمر.

إنَّ شرب الخمر محرَّمٌ في الإسلام حقًا، ولكن السؤال فيما إذا كانت الجرعة العلاجية للإنسان مسموحًا بها أم لا.. لا يزال موضع خلاف، ولم يتم الاتفاق عليه بعد من قبل مسلمي العالم. وكذلك العقوبة المترتّبة على شرب المسكِر. إنَّ القرآن الكريم لا يذكر أية عقوبة وهو كتاب القانون التشريعي الأساسي، إلا أنه يُستنتج من بعض الأحاديث الشريفة عن رسول الله أنّ ثمّة عقوبةٍ ما، ولكنهم يرجعون فيختلفون مع آخرين بأنَّ هذه أو تلك الأحاديث غير صحيحة أو مصدّقة. إذن هل من الممكن إيقاع العقوبة على جزء كبير من الناس في المجتمع الإسلامي فحسب، بل وغير الإسلامي على مثل هذه الأمور التي هي في حدِّ ذاتها موضع شك من قِبَل الآخرين بحيث يمكن اعتبارها صالحة للحكم أم لا؟ هذا هو السؤال. ومع ذلك فهناك متطرفون في كل مكان، وخاصةً أولئك الذين يُصرُّون على تطبيق وفرض الشريعة كقانون، وهم الذين، في العادة، لا يُطيقون سماع أي رأي مخالف بأيّ شكلٍ كان. وحتى في مثل مواضع الشكّ هذه تجد أنَّ المتطرفين لا يعدّونها موضع شكّ أبدًا ويُصرُّون على تطبيقها. يقولون نعم: نحن نعلم أنَّها وجهة نظرنا في الفَهم وهي وجهة النظر التي يدعمها الملايين من العلماء. وهذا هو الشرع. ولقد نشأ مثل هذا النزاع في مناظرة تمت في باكستان مؤخرًا وقد كان على رئيس الوزراء نوّاز شريف حينئذٍ أن يقرّر في النهاية أنّه لا يمكن تطبيق شريعة أيّ مذهب معيّن. والشرع الذي تمَّ تقريره في باكستان هو القول بأنّهم سيقبلون تفوّق القرآن في الشرع وسيتفقون بأنّه لا يمكن قبول أي شرعٍ يناقض التعاليم الأساسية في القرآن، ولكنهم لن يتبنّوا فيما وراء ذلك أية أحكام أو إجراءات تنشأ عن القوانين على أنها بناء تشريعي من الله. وفيما وراء هذا فإنّ ما تبقّى من الشريعة هو المبادئ العامة كما تمَّ بيانها في القرآن الكريم، والتي على ضوئها سيُعمد إلى إجراء محاولة إلى ((أسلَمَة)) القوانين في البلاد، وحتى هذا الحدّ يكون الأمر جيدًا.

أعتقد أنَّ رئيس الوزراء هنا استطاع أن يُخلّص نفسه من مأزقٍ حرج وفي موضعٍ شديد الصعوبة، بشكلٍ ذكيٍّ جدًا، ولكن ليس إلى وقتٍ طويل، حيث أنَّ العلماء هناك قد أحكموا مسبقًا الخناق حول عنقه، وهم أيضًا يُصرّون على ألا تستمر المحكمة الشرعيّة في العمل وحسب، بل وأن يعزّز دورها وتقوى سلطانها، وأن تنتهي السلطة النهائيّة العليا إليها، سواءً أكان القانون يُطبّق بحسب الشريعة الإسلاميّة أو غيرها وذلك باعتبارها المحكمة العليا. وبناءً على ذلك فإنّه سيتمُّ نقل ميزان السلطة من الأعضاء المنتخبين في بلدٍ ما إلى يد الشيوخ المتطرفين.

إنّك حالما تقبل أمرًا لا يمكن تطبيقه أو فرضه على الناس بشكلٍ واقعي، فإنّك عندئذٍ ستقود الناس إلى نزاعاتٍ مختلفة دائمة، وسيكون من المستحيل عليك أن تتابع دون المزيد من التعقيدات.

ذلك جانب متميّز من الصعوبات، ولكن هنالك أيضًا جانب آخر وهو غاية في الأهمية حيث أنَّ حياة المسلمين في معظم بلاد الأرض بعيدةٌ جدًا عن حقيقة الإسلام. إنّك لست في حاجةٍ إلى قانون الشريعة لتؤدّي صلواتك الخمس، ولا تحتاج إلى قانون الشريعة لتتعامل مع الناس بشرف، وكذلك لا تحتاج إلى أن يُفرض عليك قانون الشريعة لتقول الحق وتلتزم الصدق، وتحضر في المحاكم كشاهد حق متى يُطلب إليك ذلك.

ماذا تتوقّعون من الشريعة أن تفعل، وكيف يمكن لقانون الشريعة أن يُطبّق بشكلٍ أصيل في المجتمع الذي تكون السرقة فيه ممارسة يوميّة، سواء أكانَ هذا النظام يعتمد على اغتصاب حقوق الآخرين، حيث نادرًا ما ترى المحاكم شاهدًا صادقًا، وحيث تكون اللغة القذرة في معظم الأحيان تعابير ((مودرن))، وحيث لم يبقَ ثمّة تهذيب أو احتشام في السلوك الإنساني!. ماذا تتوقعون من قانون الشريعة أن يفعل عندئذٍ؟! هذا هو السؤال!. وجّهتُ هذا السؤال للمعنيين ولكن بصورةٍ مختلفة بعض الشيء، ولم أتلقَّ جوابًا حتى الآن من شأنه أن يُساعد حقًا في حلِّ هذا الإشكال.

إنَّ لكل بلدٍ مناخه الخاص. لا يمكن لكل أنواع الحياة النباتية أن تنمو وتُثمر في مناخٍ واحدٍ محدود، فالتمور تنمو وتُثمر في الصحارى، ولا يمكنها أن تحيا وتُعطي ثمارًا في الشمال ذي البرودة القاسية، وكذلك فإنّ أشجار الكرز لا تستطيع أن تنمو وتُثمر في الصحراء، ولكنها تتطلب مناخًا ملائمًا خاصًا بها، فإذا لم نخلق للشريعة المناخ الملائم لها فإنّها لا يمكن أن تُفرض ويُكره الناس عليها مطلقًا. إنّ كل نبي، وليس فقط سيدنا محمد ، قد وضع أولاً المناخ الصحي السليم حتى يمكن تطبيق شريعة الله تعالى بملء حرية الناس وعن طواعيتهم واختيارهم وليس بالفرض والإكراه. كان النبيون يعملون على تهيئة المجتمع، ثم بعد ذلك يعرضون الشرع ويُطبِّقونه بفعالية متدرِّجة حتى يتمّ الكل. ولذلك فقد كانت مجتمعات النبيين أهلاً في ذلك الوقت لحمل عبء تطبيق الشريعة والدين أو أي قانون آخر.

خُذ مثلاً المجتمع الذي تشيع فيه السرقة، حيث يكون الكذب ممارسةً يومية، لو طبَّقتم في مثل هذا المجتمع قانون الشريعة وقطعتم أيدي السارقين، ما الذي سيحدث؟ ستجدون عندئذٍ أنَّ أيدي الصادقين فقط هي التي ستُقطع، لأنّهم لن يستطيعوا أن يُدافعوا بالصدق عن أنفسهم، وذلك لأنّه بالإمكان، في مثل هذا المجتمع شراء ثلاثة أو أربعة أو حتى ألف شاهد ليشهدوا ضدَّ هؤلاء بأنّهم سرقوا. وهناك أيضًا حالات لا يقدر الصادق فيها على الخلاص من مؤامرة معينة، لأنّه سيضطر هو أيضًا أن يردَّ على خصومه بالكذب. وثمة الكثير من مثل هذه الحالات. أذكر أنَّ عاملاً أحمديًا قُتل في حادث طُرق، وكان من الواضح أن الخطأ كان خطأ السائق، وكان خطأً كبيرًا في الواقع. ولكن كان ثمّة شخصٍ واحدٍ فقط شاهدًا على الحادث، وكان ضريرًا لا يرى. وجاء ضابط البوليس إليَّ وأصرَّ أن أُحضر شاهدًا أو اثنين. قال أعلم يقينًا أنَّ ذلك الشخص قد قُتل بغير حق، ومن الحق أيضًا أن يُعاقب ذلك السائق بجرم القيادة الخطِرة، لذلك أرجو أن تزودني بشاهد يستطيع أن يشهد بحقيقة ما حدث. قلت له بأنَّ ما حدث حقًا هو أنّه كان ثمة رجلٌ أعمى يقف بالقرب من الحادث ولم يستطع أن يرى شيئًا، ولا أستطيع أنا نفسي أن أرى شيئًا وراء ذلك، ولهذا فإنّه لا يمكنني المجيء بأي شاهد. وكانت النتيجة أن طُويَ ملف القضية، وفقد صاحب الحقّ حقه.

يتم اختبار الحقيقة والصدق أحيانًا بشدة، وخاصة عندما عليك أن تُدافع عن نفسك وأنت محقٌّ صادق، ثم وبدون أن تلجأ إلى الكذب لا يمكنك الدفاع عن نفسك. وهكذا فقد يُرجَم بعض الناس حتى الموت وهم لم يرتكبوا جُرم الزنا، أو تُقطع أيدي الآخرين وهم لم يسرقوا شيئًا. يحدث هذا عندما تكون الأغلبية فاسدة وعندما يكون الكذب ممارسة عامة شائعة. عند ذلك تعاني الأقليّة البريئة الصادقة بشكل دائم. هل هذه هي الغاية من تطبيق الشريعة؟!

إنَّ الأمر ليس مجرّد إحساس عاطفي تجاه الدين، بل إنَّ أمر الله يجب أن يقوم بالطريقة التي يريدنا هو أن نُقيمه بها. اقترحتُ على العديد من القادة السياسيين في باكستان أن يدعوا جميع العلماء المسلمين ليُصلحوا مدينةً واحدة صغيرةً هناك، ثم يعمدوا إلى تطبيق الشريعة فيها كقانون. إنَّ فيصل آباد هناك مدينةٌ مشهورةٌ بممارساتها الفاسدة، وقد اقترحتُ على هؤلاء العلماء المجتمعين من جميع أنحاء باكستان أن يعملوا على إصلاح أهل هذه المدينة الصغيرة أولاً، وعندما يجدون أنهم قادرين على حمل عبء تطبيق الشريعة هناك، يمكن للحكومة المجيء لتحلَّ محلَّ هؤلاء العلماء في القيام بالأمر.

إنَّ ذلك لن يحدث، لأنَهم غير مهتمين أصلاً، وليس صحيحًا أنَّ حبَّ الإسلام هو ما يحثُّهم على المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة كقانون دولة، بل إنَّ ذلك مجرّد وسيلة للوصول إلى السلطة، والقبض على زمامها، وليتحكّموا بالمجتمع باسم الله. إنَّ المجتمعات محكومة مسبقًا بالفاسدين، ولكن هذا الحكم هو باسم الإنسان البشر، وهذا يمكن قبوله إلى حدٍّ معيّن. ولكن عندما يتم ارتكاب الفساد والظلم والقبح باسم الله ، فإنَّ ذلك أبشع ما يمكن أن يحدث للإنسان. ولذلك فإنَّ علينا قبل كل شيء أن نفكّر مرتين بل مراتٍ كثيرة، حتى قبل أن نبدأ بالتفكير فيما إذا كان يمكن تطبيق شريعة الدين كقانون مفروض في أي مكان من العالم. أنا شخصياً أشكُّ في ذلك.

أقف بالموضوع هنا إلى حين. وإذا رأيتم أنّ علينا أن نتحول إلى الموضوع الآخر فسأبدأ التحدُّث فيه، وإلا فإنني سأردُّ على أسئلتكم حول البحث الأول إذا شئتم.

أسئلة وردود

وفي ردٍّ على سؤال من الحاضرين أجاب حضرته:

((نحن هنا لا نناقش السؤال: ما هو الشرع الإسلامي، وإنما نبحث في مسألة ما إذا كان من الممكن تبنّي الشرع الإسلامي كقانون في دولة أو حتى إمكانية تطبيق أي دين آخر كذلك.

أنا أعتقد أن ذلك غير ممكن. إنّ ذلك لا يمكن حتى لو أنّك رغبت فيه بشدّة. إنّ فرض هذا الأمر باسم الله يظلُّ بشكلٍ أصيلٍ غيرَ قابل للتطبيق. فقد مضى الناس أشواطًا بعيدةً عن الدين وصاروا منافقين. المجتمع الإنساني بأكمله أضحى منافقًا: السياسة والمجتمع، وفي كل مكان تجدون النفاق. ولا يسمح النفاق للصدق والأمانة والشرف أن تنتعش وتُثمر. وكذلك لا يسمح النفاق لكلمة الله أن تتأصّل وتتجذّر. تلك هي المشكلة الرئيسيّة)).

وردًّا على سؤال آخر أجاب حضرته:

((أما عن السؤال فيما إذا كان بالإمكان فرض الشرع الإسلامي أو شرع أي دين آخر بالقوة، فإنني أقول: لا، لا يجوز، لأنّ ذلك يناقض روح الدين ذاته، ولأنّ القرآن الكريم يقول:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا .

  إنّ هذه مقولة القرآن، ولكنها مقولة عالمية المغزى ولا يمكن تغييرها مطلقًا، وهي تبيّن كيف يمكن للقوانين والشرائع أن تصير دائمة وعالمية، وكذلك تبيّن أنّ أمر الله يقضي ألا يكون ثمة أي إكراه للناس في الدين والمعتقد. الإكراه لا يجوز وهو غير مسموح به على الإطلاق. إذن هذا هو الموضوع الأساسي. إذا فرض دينٌ ما شرعه على الناس في مجتمع يعيش فيه أيضًا أتباع لديانات أو معتقدات أخرى، فكيف يمكن إذن لهذه الآيات الكريمة التي ذكرناها أن تقوم مع السعي للإكراه، ليس فقط في حق الناس من أتباع المعتقدات والديانات الأخرى، ولكن أيضًا مع الناس من أتباع الدين الواحد والذين هم لا يرغبون بفرض قانون الشرع عليهم؟ هذا هو السؤال الأساسي؛ لا إكراه في الدين.

إنّ السلطة الوحيدة في الإسلام التي كانت مؤهلة لأن تُعطي الحقّ للإكراه في الدين، كانت مؤسسَ الإسلام محمدًا ؛ وذلك لأنه كان نموذجًا حيًا للإسلام، وكان قرآنًا حيًا كما قالت زوجته عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن شخصه وخُلْقه. إذن الإنسان الوحيد الذي نستطيع حقًا أن نأتمنه بالثقة فيما يخصُّ دين ومعتقدات الناس وأن نأذن له باستخدام الإكراه أيضًا حيث يريد إجراء الإصلاحات الضرورية بالقوة كان محمدًا ، ومع ذلك فقد خاطبه ربنا في القرآن الكريم بقوله:

إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ .

   أي يا رسول الله، إنما مهمتك أن تُذكّر الناس، ليس أكثر. وإنّك لم تُعطَ أية سلطةٍ للإكراه.. أنت لست مديرًا في دائرةٍ للشرطة، لأنّ كلمة (مسيطر) تقابل مفهوم ((مدير الشرطة)) في عُرفِنا.

ولهذا فأنا أقول: إنّه لا إمكانية لتطبيق الشرع بالإكراه، ولا هو أيضًا مسموح به من الله تعالى، بل هو أمرٌ حرام يُخالف شرع الله . وكما ذكرت لكم أثناء حديثي حول السؤال: ماذا يمنع المسلم من أن يلتزم بشرع الإسلام، ولماذا ينتظر حتى يتغيّر التشريع بأكمله.. إنّ أكثر الإسلام، أو أكثر المسيحية أو البوذية يمكن أن تُمارَسَ دون أن تكون شرعًا وقانون دولة، وذلك لأن المبدأ المعمول به حديثًا والمقبول لدى المعنيبن في جميع أنحاء العالم، هو أنه يجب ألا يُسمح للدين بالتدخُّل في السياسة، ولا السياسة أن تتدخّل في الدين. ((التدخُّل)) هو ما أتحدّث عنه هنا، وليس ((التعاون)).  فالتعاون هو الجزء الثاني من البحث. وهكذا إذا ما سُمِحَ للناس في المجتمع أن يعيشوا على حسب طموحاتهم الدينيّة الخاصة بهم، فلماذا يجب عندئذٍ جعل الشريعة قانونًا؟

سأضرب لكم مثالاً، كيف أنّ هذه المحاولة قد فشلت مُسبقًا. فقد تم في باكستان خلال فترة حكم الجنرال ضياء الحق تأسيس محاكم إسلامية شرعية أيضًا، وتُرِك أمر الاختيار للشرطة لإدانة مجرمٍ ما وجرّه إلى المحكمة الشرعية الإسلامية، أو أن يأخذوه ليُحاكم بقانون القضاء العادي. هل تعلمون ماذا كانت نتيجة هذا الإجراء؟ نادرًا ما كانت أية قضية تؤخذ إلى محكمة شرعية إسلامية، لأنّ الشرطة كانت قد رفعت معدّل الرشوة، وكانوا يُهدِّدون كل من يقبضون عليه بأنّه إذا لم يدفع ضعف معدّل الرشوة العادية، فإنّهم سيحوِّلون قضيته إلى المحكمة الشرعية. كان هذا هو المحصول. وستندهشون حين تعلمون أنّه من بين الآلاف والآلاف من الاختيارات الممكنة فقد كانت تصل فقط قضيتان أو ثلاث إلى المحكمة الشرعية، وذلك بسبب الضغط السياسي، لأنّ بعض الأحزاب السياسية كانت تريد أن تُعاقب خصومها، ولذلك أرادت أن تتناول المحكمة الشرعية قضيتهم.

هذه واقعيّة الحياة الآن، وهذا هو الأمر الواقع، فكيف يمكن تغييره؟

وأما فيما يتعلق بالجزء الثاني من السؤال، فقد درستُ مسبقًا هذا السؤال عميقًا، وأعتقد أنّ أي دين يمكن أن يكون دائمًا وعالميًّا بشرط أن تكون مبادئه وأسسه عميقة الجذور في النفس البشرية وفطرتها. إنّ الأُسس النفسية والعقليّة والفطرية لدى البشر لا تتبدّل. وهذا بالذات ما يبيّنه القرآن الكريم حيث يقول عن الإسلام أنّه ((دين الفطرة)). إنه دينٌ شرعُه مبنيٌّ على أُسس الطبيعة والفطرة الإنسانية. ويقول ربنا : لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ .

إنّ خلق الله تعالى وما يحرك فيك من ميول ونزعات لأن تعمل أو لا تعمل أمرًا ما يظلُّ دائمًا هو نفسه لا يتبدّل. ولذلك فإنّ أي قانون أو شرع يكون مغروسًا بعمق في الفطرة والطبيعة البشرية يجب أن يكون عالميًا ودائمًا. ولكن القرآن الكريم لا يقف هنا ولا يحتكر هذه الحقيقة، بل يتابع فيقول: إنّ جميع الأديان في مراحلها الأولى كانت في الأصل واحدة، وكانت جميعها تحمل الحقائق الأساسية المنسجمة مع الطبيعة البشرية، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم على أنه: دِينُ الْقَيِّمَةِ .

ويقول أنّ ثمة ثلاثة ملامح أساسية في كل تعليمٍ ديني:

أولاً: أن تُصلح صِلتك بالله تعالى، وأن تكون مخلصًا مسلمًا له.

ثانيًا: أن تعبده. ولا يعني المفهوم القرآني للعبادة أن تُقدِّم لله الولاء والتقدير من خلال الذكر والصلوات الشفهية، بل أن تحاول أن تتصف بصفات الله الحسنى أيضًا.

وثالثًا: أن تُقدِّم الخدمات الصالحة للإنسانية والجنس البشري، وأن تبذل ما تملك للمحتاجين. تلك هي الأصول الأساسية بحسب القرآن الكريم، والتي هي عامة بالنسبة إلى كل الأديان، ولكنها تغيّرت فيما بعد.

إذن الحاجة الآن هي تصحيح وتصويب ما قد تغيّر، وليس أن نأتي العالم بدينٍ جديد. وهذا ما يحدث الآن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك