احترام المسيح الناصري عليه السلام والجماعة الإسلامية الأحمدية

احترام المسيح الناصري عليه السلام والجماعة الإسلامية الأحمدية

هادي على شودري

 

بدأت النهضة والنشاطات بين الحركات الدينية في شبه القارة الهندية قبل حوالي 150 سنة أو قرنين. بدأت كل واحدة منها إثبات أن دينها أحسن من دين غيرها. ففي سنة 1800م سافر القسيس وليم كيري من بريطانيا إلى إقليم البنغال (الهند) لإنشاء “المملكة الربانية” في شبه القارة الهندية. واستمرت بعده سلسلة بعثات من القساوسة والأساقفة تفد إلى المناطق الهندية. وفي سنة 1888م استمد حاكم البنجاب من هذا الفوز حماسًا، وقال في خطابه:

” كما يزداد سكان الهند في تعدادهم، كذلك تنتشر المسيحية بينهم أربعة أو خمسة أضعاف. وقد وصل عدد المسيحيين الهنود حوالي مليون نسمة حتى الآن” (The Mission by R. Clark – London. P234.)

وفي سنة 1897م دُعي الدكتور جان هنري بيرو القسيس الشهير من الولايات المتحدة إلى الهند. فألقى محاضرات عديدة خلال جولته الشبيهة بالعاصفة في الهند، تحدث فيها بأسلوب مشوِّق عن المملكة المسيحية وهيمنتها وتفوقها وتقدمها خاصة في الدول الإسلامية، ثم قال:

“أود أن أتحدث الآن عن انتصار المسيحية في الدول الإسلامية. وبسبب هذا الانتصار، يبرق لبنان من بريق الصليب ولمعانه من جهة، ومن جهة ثانية تبرق القمم الفارسية وماء البوسفوروس من نوره. وهذا الوضع مقدمة لذلك الانقلاب حينما تصبح مدن القاهرة ودمشق وطهران معمورة من خدام الرب يسوع المسيح، قاطعًا صحراء العرب إلى مكة حتى يدخل حرم الكعبة، وفي نهاية المطاف يعلن هناك إعلان الحق: أن عليهم أن يعرفوك الإله الأحد، ويسوع المسيح المبعوث من قبلك، وهذه هي الحياة الأبدية”. (المرجع السابق ص 236).

وفي الحقيقة كانت شبه القارة الهندية وقتئذ ساحة للصراعات تتصارع فيها بكل حماس أديان العالم، وخاصة الديانات الهندوسية والمسيحية والإسلام، وكانت كل واحدة منها تحاول إثبات تفوقها الديني على غيرها. وكانت تخرج بعض الأحيان من نطاق الاحترام والشرف وتتهجم على مؤسسي الأديان هجومًا سافلاً. فكان يُعتبر هذا نجاحًا لدين المتهجم!

وكما أسلفتُ كانت شبه القارة الهندية  وقتئذ تحت الحكم البريطاني، بحيث أن نُسميه السلطة المسيحية، وكانت تلك البيئة ملائمة للمسيحيين. والأوضاع بالنسبة للمسلمين كانت عسيرة جدًّا فقد فرضت عليهم شريعتهم القرآن الكريم الإيمان بجميع الأنبياء والرسل المبعوثين إلى شعوبهم في الماضي وأمرتهم باحترامهم، وأنهم كانوا معصومين من المعاصي. فلأجل ذلك كان من الصعب أن يتحملوا إهانة أي نبي ورسول، حتى إنهم كانوا يحسبون من المعاصي لو تفوّه أحد كلمة خفيفة بحق أي نبي ورسول.

ولكن الأمر بالنسبة للمسيحيين كان على العكس من ذلك. إذ ليس من الضروري لديهم أن يؤمنوا بنبي آخر بعد المسيح حسب كتابهم المقدس. فلأجل ذلك كانت للقساوسة حرية تامة أن يتهجموا وينتقدوا ويطيلوا ألسنتهم على الإسلام وعلى مؤسسه سيد المرسلين وخاتم الأنبياء محمد المصطفى ، حتى تجاوزوا حدود الاحترام، ولم يحترموه حتى كرجل عادي. ونُشِرت ووزعت مئات ألوف من الكتب النشرات في شبه القارة الهندية، وكانت مليئة بانتقادات شنيعة وسافلة على سيدنا محمد المصطفى . ويستطيع القارئ أن يدرك مدى سفالة تلك الكتب من أنه حينما نشر القسيس عماد الدين كتابه المسمى (هدية المسلمين) المليء بالكلمات المهينة للنبي ، لامه المسيحيون أنفسهم بسبب البذاءة والطعن الذي استعمله في كتابه حتى كتبت صحيفة (شمس الأخبار، تحت إشراف القسيس كريون، في عددها بتاريخ 15 أكتوبر”تشرين الأول” 1875) ما يلي:

“ليس مثيل المؤلفات القسيس عماد التي لم تكتب فيها إلا الشتائم. وإذا انفجرت ثورة مثل ثورة 1857 فسيكون سببها طعنه وبذاءته” (محاضرات بيروز ص 42).

علاوة على الكتاب المذكور، كانت هناك كتب عديدة تدل على السفالة التي خرجت من أقلام القساوسة ضد سيدنا محمد المصطفى منها:

  1. دافع البهتان، للقسيس رانكلين.
  2. المسيح الدجال لماستر رام جندر المسيحي.
  3. أندورنه بائييل لدبتي عبد الله آتم.
  4. محمد كي تواريخ كا اجمال للقسيس وليم.
  5. ريفيو براهين أحمدية للقسيس تاكر داس.
  6. سوانح عمري محمد صاحب، لأورنغ واشنطن.
  7. جريدة نور أفشان، مطبعة البعثة الأمريكية في لودهيانة.
  8. تفتيش الإسلام، للقسيس روجرس.
  9. نبي معصوم، مطبعة البعثة الأمريكية في لودهيانة
  10. سيرة المسيح ومحمد، القسيس تاكر داس.

كان القساوسة يحسبون أن الحكومة الإنجليزية منحتهم الحماية وحرية التعبير، فعلينا أن نستغلها كما نشاء، وهذا الزعم شحّذ أقلامهم وألسنتهم للطعن بسيدنا المصطفى . بإمكان القارئ أن يشعر ألم المسلمين في تلك الظروف بالنظر إلى الألم الذي سببه كتاب سلمان رشدي قبل عامين، الذي شعر المسلمون منه بجراجٍ عميقة بأفئدتهم، وثارت حميتهم حينئذ.

وحينما كان المسلم يشاهد تلك الأوضاع والطعن بالنبي كان قلبه يتقطع، ولكنه لم يكن أمامه غير الصبر، وكان يشعر بفشله. لم تكن لديه أية وسيلة يدافع بها عن كرامة سيدنا محمد المصطفى . فقد كان مقيدًا في عقائده ومجتمعه، ولم يستطع أن يخرج من نطاقها. فإذا هو استُعمل ضد المسيح الناصري نفس الأسلوب الذي استعمل ضد سيدنا محمد المصطفى ، خرج من حظيرة التعليمات الإسلامية. فماذا عليه أن يعمل؟

في هذا الوضع المقلق اختار علماء المسلمين أسلوبًا أخر ردًّا على سفالة القساوسة، لإخراج المسلمين من ظلمة اليأس والقنوط الذي كان مخيمًا عليهم. فتدبّروا في القرآن المجيد والأناجيل ووجدوا أن الأناجيل تقدم أمامنا سيرة يسوع مختلفة تمامًا عن سيرته المذكورة في القرآن المجيد. فمن خلال مطالعة القرآن الكريم ندرك أن عيسى كان نبيًا عظيمًا ومبعوثا فقط إلى بني إسرائيل، ولكن الأناجيل تتحدث عن رجل آخر لا تتلاءم سيرته مع القرآن المجيد، وإنما يظهر وكأنه مسيح آخر، ليس حقيقيًا ولكنه مسيح خيالي، وليس هو ذلك المسيح الذي بعث إلى بني إسرائيل فقط ونبي الله وعبده ولكن يقال عنه إنه هو الرب وأنه ابن الله.

فبدأ المسلمون هجومًا على شخصية يسوع المذكورة في الأناجيل واستعرضوا أمام المسيحيين الوقائع والقصص المدونة في الأناجيل، لكي يعرّفوا المسيحيون منها حقيقة يسوعهم الرب المزعوم. بمشاهدة صورته في مرآة الأناجيل وعلى ضوئها. اختار المسلمون هذه الوسيلة لكي يتعظ المسيحيون ويمتنعوا عن الطعن بسيدنا محمد المصطفى . واضطر المسلمون لاختيار هذه الوسيلة، لأنه لم يبق أمامهم وسيلة أخرى لإفحام المسيحيين وإيقافهم عن الطعن.

وإذا طعن بعض علماء المسلمين بسيرة يسوع المذكور في الأناجيل دفاعًا عن كرامة سيدنا محمد المصطفى وسيرته، فهل يجوز أو يليق بأي محب وعاشق صادقًا لسيدنا محمد المصطفى أن يطعن بهؤلاء العلماء المسلمين قائلاً بأنهم لم يحترموا المسيح ، وأنهم أساءوا إلى كرامته. إذا تكلم أحد مثل هذا الكلام فإنما يخنق العدل والإنصاف ويبتعد عنه تمامًا، ولا يريد إلا إثارة الفتنة والشر بين صفوف المسلمين. وكما أسلفنا فإن علماء المسلمين لم يجعلوا سيدنا عيسى المذكور في القرآن المجيد محل طعنهم، بل جعلوا يسوع وسيرته المذكورين في الأناجيل هدف هجومهم، وهذه السيرة متناقضة مع سيرته الواردة في القرآن المجيد.

ونرى من المناسب أن نورد هنا مقتبسات من مؤلفات كبار علماء المسلمين في الهند:

لقد كتب الشيخ رحمة الله مهاجر المكي في كتابه “إزالة الأوهام” منتقدًا سيرة يسوع المذكورة في الأناجيل:

(لا يجوز أن يقال عن أغلب المعجزات العيسوية بأنها كانت حقيقة، إذ أن السّحرة أيضا يأتوا بمثل هذه الأعمال. فلأجل ذلك ما كان اليهود يقبلونه بل كانوا يعتبرون معجزاته من أعمال السحرة) (إزالة الأوهام ص 129).

وأضاف قائلا:

“يقول المسيح بنفسه بأن يحي كان يقيم في الصحراء، وما كان يختلط بالنساء ولم يخمر، ولكن المسيح كان يشرب الخمر، وكانت تمشي معه بعض السيدات، وكان يأكل من أموالهن، وقبّلت نساء خاطئات قدمي المسيح. وكانت (مارثا) و(مريم) صديقتين له. وكان يشرب الخمر بنفسه ويقدمها للآخرين للشرب” (المرجع السابق، ص 370).

كما كتب:

“ارتكب يهودي الزنا مع زوجة ابنه، وأصبحت حبلى من الزنا، وخلفت ولدا فدُعي (فارص). وكان هذا من أجداد سيدنا سليمان وعيسى عليهما السلام”. (ص 405)

إن كتاب الشيخ رحمة الله المهاجر المكي “إزالة الأوهام” هذا مملوء بمثل هذه المقتبسات. ولقد ألفه، كما أسلفت ردًا على المسيحيين وإفحامًا لهم بسبب طعنهم بسيدنا محمد المصطفى .

وكتب السيد المولوي آل حسن العالم الشهير من أهل السنة والجماعة في كتابه (الاستفسار) وهو تعليق على هوامش (إزالة الأوهام) ما يلي:

“أيها المسيحيون، عليكم أن تنظروا إلى ما في جعبتكم. ألا تقرأون فيما كتبتم كون (تامار وأوريا) امرأتين خاطئتين في شجرة نسب أم المسيح، معاذ الله” (الاستفسار ص 72).

“كان المسيح يقول لمعارضيه أنهم كلابٌ. فلو نقول أيضًا لمعارضيه أنهم كلاب فهذا لن يكون ضد الأخلاق العيسوية، بل يكون مطابقًا لها تمامًا”. (المرجع السابق ص 98).

“إن عيسى بن مريم أصبح عاجزا في النهاية وتوفي”. (المرجع السابق ص 232)

“إن العقلاء يعرفون أن أنواعا عديدة من المعجزات تشبه السحر، وخاصة المعجزات الموسوية والعيسوية”. (المرجع السابق ص 336)

“قال يسوع مرة: مالي موضع أسند إليه رأسي. ولقد بالغ المسيح بقوله هذا مقلدا كلام الشعراء. والذي يشتكي من ابتلاءات الدنيا فهو نفسه يرتكب خطأ كبيرًا”. (المرجع السابق ص 34).

“إن خلاصة دين القساوسة وإيمانهم هو أن (الرب) استقر جنينًا في رحم مريم بضعة أشهر، وكان يتغذى حيضًا، ثم تحول من علقة إلى مضغة ومن مضغة إلى لحم وعظام. وولد من مخرجها المعلوم. وكان يتبرز ويتبول. وشب، وتتلمذ من عبده يحي. وفي نهاية المطاف صار ملعونًا، ومكث في جهنم ثلاثة أيام”. (المرجع السابق ص 350 و 351)

“ويتبين من إنجيل متى 19:11، أن المسيح كان رجلاً أكولا وشريب خمر”. (المرجع السابق ص 353).

“توجد بعض نبوءات لأشعياء وعيسى عليهما السلام كمعميات وألغاز أو كأحلام تنطبق على من تشاء، ولو نأخذها حسب مفاهيمها الظاهرية، فإنها ليست إلا افتراء وكذبًا، أو تشبه بكلام يوحنا، الذي ليس إلا خرافات المجانين. ولكننا لا نجد نبوءات مثلها في القرآن بتاتا”.(المرجع السابق ص 366)

“فثبت أن بيان حضرة عيسى كان كذبا، معاذ الله. ولو تحققت بعض كراماته على سبيل الافتراض فإنها لم تكن إلا مشابهة للكرامات التي تظهر من المسيح الدجال”. (المرجع السابق ص 369).

“يبدو من إنجيل لوقا 2:8 و3 أن بعض النساء الخاطئات كن يخدمن حضرة عيسى من أموالهن. فلو قال أحد من اليهود على سبيل الخبث، إن عيسى كان شابًا جميلاً، لأجل ذلك كانت تعيش معه النساء الخاطئات لارتكاب الفحش، ولأجل ذلك لم يتزوج، وكان يقول للناس إني لا أرغب في النساء خداعًا لهم، فماذا يكون الجواب لدى المسيحيين؟”

“كما نجد في إنجيل متى 19:11 أنه وافق رأي معارضيه وقال: (جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب. فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر). وليس من المستبعد أن يأخذ عنه أحد فكرة سيئة بسبب عاداته المذكورة ويقول أنه لم يجتهد في العبادات، بل كان يحب الراحة لجسمه”. (ص 390، 391)

وكتب مؤسس الفرقة البريلوية الشيخ شاه أحمد رضا خان في كتابه “العطايا النبوية في الفتاوى الرضوية”، المجلد الأول:

(نعم، نعم، إن رب المسيحيين هرب إلى أبيه خوفا من ضرب المخلوق. وهناك نال جزاء مظلوميته، وأُدخل في جهنم، وبقي هناك ثلاثة أيام. كان يأكل خبزا ولحمًا. وحينما كان يعود من سفر تُغسل رجلاه. وينام تحت ظل الشجرة، وكانت الشجرة فوق والرب تحتها..).

“إن المسيح كان يتأسف ويتحسّر على ما فات، ويشعر بالكلل والتعب. وكانت عنده امرأتان خاطئتان، وكان يأكل من أموالهما كأنها أموال زكية”. (كتاب الطهارة، باب التيمم ص 470و 471، الناشر: شيخ غلام علي وبنوه، لاهور)

وكتبت صحيفة (أهل الحديث) في عددها 31 مارس “آذار” 1939 يوم الجمعة، وهي الصحيفة التي كانت تصدر تحت إشراف الشيخ ثناء الله  الأمرتسري العالم الشهير لفرقة أهل الحديث (في الهند):

“يظهر جليًا اعتراف المسيح أنه لم يكن رجلا صالحًا. وربما يقول قائل بأن اعترافه كان نوعًا من التواضع، فنقول له: إن المسيحيين يعتقدون أن بشرية المسيح كانت أفضل من جميع الناس، ولم يكن فيها أثر للآثام والمعاصي. وما لم يبق فيه أي نقص أو إثم، فلماذا رفض كونه رجلا صالحًا.. فعلى سبيل المثال إن الناس العاديين مهما وصلوا إلى مقام رفيع في الصالحية، فبما أنه يبقى النقص في بشريتهم فلذلك يقول أحدهم: أنا رجل ناقص، ولكن يصح قول المسيح: إنه ليس رجلا صالحًا، مع أن بشريته كانت نزيهة من الآثام والمعاصي. فثبت أن اعترافه واعتذاره لم يكونا مبنيين على التواضع إذ رفض كونه رجلا صالحًا. فمن البديهي أنه أصبح مثل الناس الآخرين.

وإذا درسنا الإنجيل أدركنا أن المسيح كان يسمح للنساء الأجنبيات أن يمسحن رأسه بطيب، كما ورد: تقدمت إليه امرأة معها قارورة طِيب كثير الثمن. فسكبته على رأسه وهو متكئ. فأخذت مريم من طِيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي المسيح، ومسحت قدميه بشعرها”. (متى7:26، ومرقس 3:14، ويوحنا 3:12)

وورد في إنجيل لوقا 37:7 و38: “وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذا علمت أنه متكئ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طِيب ووقفت عند قدميه”.

ليس من الاحتياط أنْ يسمح المسيح لامرأة خاطئة. أن تدهن رأسه وقدميه بشعرها. ­فعمله هذا مناقض للشريعة الإلهية. فقد ورد في الكتاب المقدس العهد القديم:

“لأَنَّ الزَّانِيَةَ هُوَّةٌ عَمِيقَةٌ، وَالأَجْنَبِيَّةُ حُفْرَةٌ ضَيِّقَة، هِيَ أَيْضًا كَلِصٍّ تَكْمُنُ وَتَزِيدُ الْغَادِرِينَ بَيْنَ النَّاسِ” (أمثال: 23: 27 و28).

ويبدو من الأناجيل أن المسيح كان يصنع خمرًا كمعجزة لإظهار عظمته، كما ورد في إنجيل يوحنا  2 :1 إلى 9.

“وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك. ودُعِيَ أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر. قال لها يسوع: مالي ولك يا امرأة. لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام: مهما قال لكم فافعلوه. وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة. قال لهم يسوع: املأوا الأجران ماءً. فملأوها إلى فوق. ثم قال لهم: استقوا الآن، وقدِّموا إلى رئيس المتكأ. فقدموا، فلما ذاق الرئيس المتكأ الماءَ المتحولَ خمرا ولم يكن يعلم من أين هي”.

ولكن وردت في العهد القديم تعليمات ضد الخمر حيث جاء:

** “وَيْلٌ لِلأَبْطَالِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلِذَوِي الْقُدْرَةِ عَلَى مَزْجِ الْمُسْكِرِ” (أشعياء 5: 22)

** “اّلزِّنَى وَالْخَمْرُ وَالسُّلاَفَةُ تَخْلِبُ الْقَلْبَ” (هوشع 4: 11)

وقال دانيال عن الخمر بأنها نجس:

“أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ، فَطَلَبَ مِنْ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ أَنْ لاَ يَتَنَجَّسَ” (دانيال: 1: 8)

فرغم أنه يوجد في العهد العتيق أمر عن حرمة الخمر والامتناع عنها، ولكن المسيح صنع الخمر بآيته، وشارك في مجلس الخمر مع والدته. مع أنه من جهة أخرى يقول بنفسه: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاء. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (متى 5: 17)، فثبت جليا أن آيته في صنع الخمر كانت ضد الشريعة.

ثم إننا نعلم من دراسة الإنجيل أن الكذب كان مسموحا عند المسيح. فذات مرة جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ، وَنَظَرَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ، قَالَ لَهُمْ: «تَنَحَّوْا، فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا، فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ” (إِنْجِيلُ مَتَّى 9 : 23-25)

يقول المسيحيون بأن الصبية المذكورة كانت ميتة، وأن آية المسيح أعاد لها حياتها. وكلام لوقا يؤيدهم حيث قال: “لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ”. فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ. فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ خَارِجًا، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً: “يَا صَبِيَّةُ، قُومِي!”. فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي الْحَالِ”. (إِنْجِيلُ لُوقَا 8 : 52-55)، بأن المسيح لم يكن صادقا في كلامه، حتى وقال عنها كلاما غير حقيقي.

­ومن جهة ثانية نجد في الإنجيل وصيته لتلاميذه:

“لا تَزْنِ، لا تقتلْ، لا تسرِقْ، ولا تشهَدْ بالزور” (مرقس 10: 19).

وجاء في العهد القديم بهذا الشأن:

“شَاهِدُ الزُّورِ لاَ يَتَبَرَّأُ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالأَكَاذِيبِ لاَ يَنْجُو”. (أَمْثَالٌ 19 : 5)

كذلك ورد في إنجيل يوحنا ما يلي:

“اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ”. قَالَ لَهُمْ هذَا وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ. وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الْعِيدِ، لاَ ظَاهِرًا بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ.” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 7 : 8-10). رأيتم أن المسيح رفض الذهاب إلى العيد، ثم ذهب خفية.

ويبدو من إنجيل متى أن المسيح سمح للحواريين كتمان الحق حيث قال: “حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ” (متى 16: 20). وقد ورد في نفس المعنى في إنجيل لوقا ومرقس أيضا من البديهي أنه حينما أوصى المسيح تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه سَمَحَ لهم أن يكتموا الحق. ولقد أصبح واضحا ومكشوفا مدى حقيقة تعليم الصدق والكذب من القصة المذكورة”. (جريدة أهل الحديث 31 مارس1939، ص 8 و9، الصادرة في أمرتسار، الهند).

ليس من العسير للقارئ أن يستنتج من المقتبسات السالفة، أن علماء المسلمين وكبارهم جعلوا بها رب المسيحيين يسوع عرضةَ لهجومهم مستهدفين مكافحة قساوسة المسيحيين.

لقد بُعث سيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حسب أحاديث ونبوءات سيدنا محمد المصطفى أيضا لإصلاح المسيحيين والمسيحية، فلأجل ذلك بذل كل جهد لإصلاح عقائد المسيحيين، ودعاهم إلى التوحيد الخاص والإيمان بسيدنا محمد حسب وصية المسيح الناصري الحقيقي . ولكنهم تمادوا في الهجوم على الإسلام. وفي هذه المرحلة الحساسة جاهد حضرته ضدهم جهادا كبيرا بالأسلحة الروحانية والعلمانية المتواجدة في القرآن المجيد وأحاديث سيدنا محمد المصطفى ، وفي الكتاب المقدس العهد القديم والجديد. واستغل في الجماد جميع الأدلة والبراهين اللازمة لمكافحة قساوسة المسيحيين المعتدين على الإسلام وعلى مؤسسه . ونال هذا القائد الأعلى في الجهاد نجاحا ملموسا، وحقق أهدافه المرجوة. ولقد اعترف مولانا أبو الكلام آزاد العالم الشهير والزعيم الديني والقومي في شبه القارة الهندية بنجاحه في مجال الدفاع عن الإسلام ومكافحته لقساوسة المسيحيين بالكلمات التالية الواضحة، حيث قال:

“لا يُمحى من لوح القلب ذلك الوقت الرهيب حينما كان الإسلام هدفًا لهجوم أعدائه. والمسلمون الذين كانوا مسئولين من المحافظ الحقيقي (أي من الله تعالى) أن يستغلوا جميع الأسباب المتوفرة لديهم لحماية الإسلام لم تكن في مقدورهم، للأسف الشديد، حمايته، وكانوا يتحملون عواقب تقصيراتهم. وكانوا متألمين أشد الألم، لافتقارهم للقدرة على حماية الإسلام ودعمه. فمن جهة شن العالم المسيحي هجوما عنيفا على العالم الإسلامي لإطفاء نوره، زاعما بأنه حجر عثرة في مشواره، وكانت تسانده القوى العظمى المتفوقة في الأموال والدهاء. ومن جهة ثانية كان وضع المسلمين متدهورا جدا في المعركة، ولم تكن في حوزتهم سهام ولا نبال للمقاومة، أو بالأحرى لم يكن هنالك شيء اسمه “المقاومة” أو “الدفاع”.. وبعد مرور فترة طويلة بدأت المقاومة من قبل المسلمين، وساهم فيها حضرة الميرزا مساهمة عظيمة. لقد دافع عن الإسلام دفاعا رائعًا، وقد حطم تلك القوة السحرية التي كانت تحظى بها المسيحية تحت ظلال الحكومة الإنجليزية، وتبخرت روح تقدمها، التي حصلت لهم تحت ظل الحكومة، وأُنقذ ملايين المسلمين من هجوم المسيحيين الخطير، وذلك حين كان المسيحيون على وشك النجاح في تحقيق هدفهم.

وستظل الأجيال المقبلة مدينةً لحضرة الميرزا بسب خدماته الجلية. وفي الحقيقة إنه وقف في الأول مع المجاهدين الذين حاربوا بالقلم ودافعوا عن الإسلام. وبعد وفاته ترك حضرته المؤلفات القيمة ذكرى له، وستظل منارًا لهدي المسلمين في المستقبل، طالما يجري في عروقهم الدم الحي الغيور وتبقى حماية الإسلام عنوانا لشعارهم القومي”. (صحيفة وكيل مايو “آيار” 1908، نقلاً عن صحيفة “البدر” 18،6، 1908).

وخلاصة القول فإن سيدنا ميزرا غلام أحمد القادياني مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ساهم في هذا الجهاد إسهامًا عظيمًا بأساليب شتى ومنها:

أولا: نصح حضرته علماء الأديان والمذاهب المختلفة بأن لا يطعن أحد في دين الآخر طعنًا بشعًا، بل على كل واحد منهم أن يستعرض أمام الجمهور حسنات دينه وفضائله.

ثانيا: عندما تقتضي الظروف أن يرد أحد على دين آخر، فعليه أن يستعرض البراهين والأدلة من مؤلفات الفريق الثاني المسلم بها لديه، ولا يخرج من نطاق تلك الكتب والمؤلفات أبدًا.

ثالثا: التجنب كليًا عن الطعن بمؤسسي الأديان، بل من المحبذ أن تذكر حسناتهم وصفاتهم الحسنة.

ولقد حظيت هذه الاقتراحات بقبولية حارة لدى محبي الإسلام والمهتدين. ولكن القساوسة وللأسف الشديد لم يقبلوا هذه الاقتراحات، بل استمروا في الطعن في سيدنا محمد المصطفى وفي أزواجه المطهرات رضوان الله عليهن.

وفي نفس الفترة ألف أحمد شاه المسيحي كتابه المسمى “أمهات المؤمنين”، واستعمل فيه لغة بذيئة عن زوجات سيدنا محمد المصطفى . فتألم منه كل مسلم ألمـًا شديدًا، وفارت حميته، وطلب المسلمون من المحكومة أن تصدر الأوامر بمصادرته. وجاء هذا الطلب بعد توزيع الكتاب على نطاق واسع. فنصح سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بأن الكتاب البذيء قد وصل إلى أيدي عدد كبير من الناس، وأخذ أغلب القراء فكرة سلبية عن أمهات المؤمنين. ولن تُجنى أية فائدة من أمر الحكومة قيودًا على الكتاب البذيء، وأيضا على الردّ. والذي واجبنا أن نكتب ردًا مفحمًا ونبذل كل جهد لإزالة مضاعفاته السلبية من أفئدة الناس، وقال حضرته:

“ما زالت على اقتراحي بأن المفروض علينا أن نكتب ردا مفحمًا ولينًا ومعقولا ومحكمًا على صاحب الكتاب المعتدي الطاعن. وعليكم أن تخلوا قلوبكم من فكرة مطالبة الحكومة معاقبة فرقة ما. لقد أصبح من الضروري أن يُظهر أتباع الأديان أخلاقًا عالية. وليس من المناسب أن تظهروا غضبكم في كل مناسبة ومناسبة، فعملكم هذا يخرب سمعة الدين” (البلاغ، الخزائن الروحانية مجلد 13 ص 402).

كما أرسل سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية رسالة إلى الحكومة واقترح فيها:

“لإيقاف الفتنة التي تثيرها المؤلفات البذيئة، على الحكومة أن تختار اقتراحًا واحدا من اثنين، عليها إصدار التعليمات لكل فريق إما ألا يرفع قلما معترضًا على فريق آخر، اللهم إلا أن يقتبس من مؤلفات الفريق الثاني، بل يبين كل واحد حسنات دينه وفضائله” (البلاغ، الخزائن الروحانية مجلد 13 ص 402 و403). ­

ثم ردّ حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية على هجومهم البذيء ردًا قويا مفحمًا من القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية ومن التوراة ومن الأناجيل ومن كتب التاريخ والطب والمنطق، وساق الأدلة المعقولة، وكذلك عزّز الأدلة من قوانين القدرة الإلهية التي كانت شاهدة على صدق براهينه. ومن جهة ثانية فإن الله وهبه نصرًا بآياته المؤيدة له. واستعمل حضرته خلال هذه المعركة الحاسمة الوسائل الروحانية المتنوعة، واستغل دراسته العميقة والدقيقة ردًا على المهاجمين. وهذه الردود القوية جعلتهم يتراجعون منهزمين. فرد حضرته عليهم تارة بالبراهين العلمية وتارة أخرى اختار أسلوبًا هجوميًا عليهم. وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء، بأنهم يشعرون في مؤلفاته التي أُلِّفت خلال تلك المعركة الحاسمة تفوقه في الصدق والحكمة والأدلة المعقولة. ولقد استعرض على المسيحيين معظم الأدلة والبراهين من كتبهم المسلّم بها والمعترف بها لديهم.

وعندما شعر القساوسة بهزيمتهم وفشلهم، قاموا بمحاولة بشعة لحط منزلته واحترامه، وبدأوا يقولون بأنه أهان سيدنا يسوع المسيخ. فرد سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية على هذا الاتهام الباطل مخاطبًا القسيس آثم في المباحثة التي عقدت بينهما في سنة 1893م في مدينة أمرتسار (الهند): “أما قولك بأنني استعملت كلمة “الشتم” في حق المسيح وكأنني لم أحترمه، فهذا ليس إلا سوء فهمك. إنني أومن بأن حضرة المسيح كان نبيًا وعبدا محبوبا عند الله . وأما الذي كتبته فكان هجومًا مرتدا عليكم وطبق مشربكم (أي حسب كتبكم)، والاتهام المذكور يقع عليكم وليس عليَّ” (جنك مقدس، الخزائن الروحانية مجلد 6 ص 180).

ثم قال حضرته:

“عندما يجرح المسيحيون أفئدتنا بشتى الهجمات الفظيعة على شخصية الرسول نرد عليهم هجومًا من كتبهم المقدسة والمسلم بها لديهم، لكي يتنبهوا ويتوقفوا عن أسلوبهم.. عليهم أن يعرضوا أمام الناس من مؤلفاتنا ردا هجوميا على سيدنا عيسى لم يكن موجودا في الإنجيل. إنه لمن المستحيل أن نسمع إهانة سيدنا محمد المصطفى ونسكت عليها” (الملفوظات: مجموعة أقوال سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، ص 479).

خلال تلك الفترة الرهيبة استغل المسيحيون بعض علماء المسلمين الذين كانوا يمشون وراء مصالحهم الشخصية، وأثاروا نفس الاتهام أمامهم بشدة. فرد سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية على ذلك بإعلان نُشر بتاريخ 20 ديسمبر 1895، وأوضح حضرته فيه قائلا:

“أينما تطرقنا في كلامنا إلى يسوع” فالمراد به ذلك يسوع المفترض عند المسيحيين، وليس كلامنا القاسي ضد العبد المتواضع بن مريم، الذي كان نبيًا والذي ورد ذكره في القرآن الكريم. ولقد اخترنا هذا الأسلوب بعد أن سمعنا من القساوسة الشتائم والسباب طيلة أربعين سنة متتالية. إن بعض المشائخ ويقولون أن المسيحيين المساكين لا يتفوهون بشيء، ولا يهينون سيدنا محمدًا المصطفى . عليهم أن يدركوا جيدا أن قساوسة المسيحيين في الواقع يحتلون الدرجة الأولى في مجال التحقير والإهانة والسباب. وتوجد عندنا ذخيرة من كتبهم التي ملأوها بعبارات مليئة بالشتائم. ومن أراد من المشائخ أن يراها فَليأتِنا ويرها. وها إني أنبئكم بأنه إذا توقف القساوسة عن أسلوب الشتائم والسباب واختاروا أسلوب الأدب والاحترام، فنحن أيضا نختار نفس الأسلوب. إنهم بأسلوبهم الحالي يطعنون بيسوعهم ولا يمتنعون عن الأسلوب النابي المخجل الذي تعبنا من سماعه” (نور القرآن، الخزائن الروحانية مجلد 9 ص 374 و375).

كان هؤلاء العلماء السفهاء الحاقدون على مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية يعرضون مقتبسات من مؤلفاته لعامة الناس ليوهموهم بأنه أهان عيسى بن مريم (والعياذ بالله)، ولم يأخذ بعين الاعتبار مقامه الأسمى. وعلى سبيل المثال يقدمون الاقتباس التالي من مؤلفاته:

“لا يوجد هناك دليل بأن المسيح كان أكثر صلاحا من الصالحين الآخرين المعاصرين له، بل إن النبي يحي ( ) كان أفضل منه، لأنه لم يكن يشرب الخمر، ولم يُسمع عنه أبدًا بأن امرأة خاطئة تقدمت إليه ومَسَحت رأسه بعطرٍ اشترُته من أموالها، أو مسَّتْ بدنه بشعرها أو يدها، أو أن امرأة شابة أجنبية كانت تخدمه. فلأجل ذلك سمّاه الله تعالى في القرآن (حصُورًا). ولم يطلق هذا الاسم على المسيح؛ لأن مثل هذه القصص كانت مانعة من أن يطلق عليه مثل هذا اللقب. وعلاوة على ذلك فإن عيسى تاب عن آثامه على يد يحي ، الذي سُمِّي لدى المسحيين يوحنا، ثم بعد ذلك سُمي إيلياء أيضا، وانضم المسيح إلى أتباعه. فتثبتت فضيلة يحي عليه بالبداهة من هذه التوبة على يده، إذ ليس هناك ذكر بأن يحي أيضا بايع على يد أحد..” (دافع البلاء، الخزائن الروحانية ج 18 ص 220).

نقول للقارئ الكريم بأن نفاق هؤلاء العلماء والمشائخ أصبح مكشوفا واضحا بأسلوبهم هذا. فحينما كان المبشرون المسيحيون يهينون سيدنا ومولانا محمدًا ظلما وعدوانا، لم تكن غيرتهم وحميتهم تثور، ولم يكونوا يستفيقون من السبات والرقود. وإذا كان أحد يرد على إهانات المسيحيين ردا مفحما من كتبهم وأناجيلهم، فكان هؤلاء المشائخ يزاولون الصراخ ويقيمون القيامة ضده.

أيها القارئ الكريم، ليس من العسير أن تستنج من الاقتباس الذ عُرض من تأليف سيدنا أحمد ، بأنه أشار فيه إلى بيان الإنجيل، وأنه لم يتحدث عن سيدنا عيسى المذكور في القرآن المجيد، وإنما تحدث عن يسوع المذكور في الأناجيل. والدليل على ذلك بأن القرآن الكريم لم يذكر مثل هذه الحادثة عن عيسى .

وقد يسأل سائل لماذا استعمل اسمه المسيح أو عيسى؟ فنقول جوابًا للسائل بأن هذه القصة التي وردت في الأناجيل تدل بحد ذاتها على الحقيقة الواضحة بأنه كان يقصد يسوع الأناجيل، وليس عيسى نبي الله المذكور في القرآن المجيد، الذي كان رسولا إلى بني إسرائيل، وكان بريئا من هذه التهم الباطلة، وكان نبيا” وحقق هدفه بكل نجاح، وغادر الدنيا سالما، وحلّ السلام عليه حينما وُلد وحينما مات.

وقبل أن نتطرق إلى عقيدة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عن عيسى وحبه له، نرى من الضروري أن نوضح أمرا هاما. ليكُنْ واضحا بأنه حينما قارَن سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في الفقرة السالفة بين يحي وبين “يسوع الأناجيل” كردٍّ على المسيحيين ردًا إلزاميا، وشرح خلال الرد كلمة “حصورًا” الواردة ليحي في القرآن الكريم، فكان هذا الشرح طبقًا لما ورد في تفسير ابن جرير وتفسير جامع البيان وتفسير الكمالين وتفسير ترجمان القرآن حيث كتب هؤلاء المفسرون أن معنى “الحصور” الذي لا يقرب النساء أو الذي لا يأتي النساء.

وفي الحقيقية إنه لا توجد في الأناجيل قصة واحدة تشير إلى أن يحي كان يختلط بالنسوة، في حين توجد في الأناجيل ذاتها قصص عديدة تذكر بأن يسوع كان يختلط بالنساء. ولقد أشار إلى هذه القصص الإنجيلية شيخ هؤلاء المشائخ والعلماء المولوي رحمت الله المهاجر المكي في كتابة إزالة الأوهام كما يلي:

“لقد اعترف السيد المسيح بنفسه بأن يحي لم يكن يختلط بالنسوة ولم يكن يشرب الخمر، ولكنه كان يشرب وكان يمشي مع نساء عديدات، وكان يأكل من أموالهن. وذات مرت قبَّلت امرأة خاطئة قدمه. وكانت “مرتا” و “مريم” من صاحباته. وكان يشرب الخمر ويقدمه للآخرين” (إزالة الأوهام ص 370).

فانظُر أيها القارئ الكريم، لقد استعمل المولوي المهاجر المكي في هذا الاقتباس كلمة “المسيح” ولم يستعمل كلمة يسوع. ولكن هذه الأحداث بنفسها تشهد بأنه قصد من “المسيح” يسوعَ الإنجيل.. وليس عيسى الذي جاء ذكره في القرآن المجيد. ونفس الحال كان مع سيدنا أحمد المسيح الموعود ، فحينما استعمل كلمة عيسى أو المسيح فإنه استعملها “ليسوع الإنجيلي”. ومن هنا نقول لمعارضي الأحمدية بأن سيدنا أحمد كتب الاقتباس المذكور ردا على تهجم المسيحيين تمامًا كما كتب السيد المولوي المهاجر المكي الاقتباس المذكور. فأسلُوبها واحد كما كان هدفها واحدًا. فإذا اعترض المشائخ على اقتباسات سيدنا أحمد المسيح الموعود ، فهذا الاعتراض ليس موجها إليه فقط، بل أيضا إلى شيخهم المولوي رحمة الله المهاجر المكي وإلى المفسرين الكبار السالفين.

والأسف كل الأسف كأن المشائخ والعلماء كانوا مستعدين بسبب عجزهم أو مصالحهم أن يتحملوا إهانة سيدنا محمد المصطفى مرة تلو مرة، ولكنهم لم يكونوا يتحملون إهانة يسوع الإنجيلي الذي لم يرد ذكره في القرآن المجيد. أما سيدنا أحمد المسيح الموعود عليه فقد ذكر اضطراره لكتابة هذه الكلمات في حق عيسى قائلاً:

“أيها الناظرون، عليكم أن تعرفوا تمامًا بأنا كنا مضطرين أن نختار نفس الأسلوب القاسي بعد أن اختاره القساوسة ضدنا. وفي الحقيقة إن المسيحيين لا يؤمنون بسيدنا المسيح القائل أنه عبد ونبي ومؤمن بصدق جميع الأنبياء السالفين، والذي كان مؤمنا من صميم قلبه بمجيء سيدنا محمد المصطفى ، وتنبأ عن بعثة سيدنا محمد . ولكنهم يؤمنون بشخص آخر يسمى يسوع، لا يوجد ذكره في القرآن أبدا. ويقولون بأن ذلك الشخص يسوع ادعى أنه هو الرب، وقال عن الذين جاءوا قبله أنه “سراق” و”لصوص”، وكان مكذبًا لسيدنا محمد المصطفى . وتنبأ بأنه لا يأتي بعده إلا المفترون. وتعرفون جيدا بأن القرآن الشريف لا يأمرنا بأن نؤمن بمثل هذا الشخص، بل قال لنا بالبداهة، بأن الذي يدعى كونه “ربَّا” يدخل في جهنم. ولهذا السبب لسنا ملزمين باحترام يسوع كرجل صادق. ولو لم يكن ذلك الرجل المذكور في الإنجيل فاقد البصر، ما قال بأنه لن يأتي بعده إلا المفترون. ولو كان ذلك الرجل صالحًا ومؤمنًا لما ادعى أنه هو الرب. وعلى القراء أن لا يستنجوا من كلماتنا القاسية أنها استعملت لسيدنا عيسى ، بل إنها استعملت لِيسوع الذي لا يوجد له ذكر في القرآن ولا في الأحاديث” (مجموعة الإعلانات مجلد 2 295 و296).

كانت هذه صورة يسوع الذي ورد ذكره في الأناجيل مفصلاً. وكما أسلفنا، فهنالك صورة أخرى في القرآن الكريم لِعيسى نبي الله وعبده. وتحدث سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عن مقامه الرفيع مرارًا وتكرارًا، وادّعى حضرته كونه مثيلاً لعيسى . وكتب عن درجته السامية في مواضع مختلفة، منها قوله:

“إن المسيح كان محبوبًا عند الله . وكان من عبادة الصالحين وأحبائه، ومن الذين زكاهم الله بنفسه. وترعرع تحت ظل نوره، ولكنه ليس إلهًا كما زُعم. لقد تقرب إلى الله وأصبح من الأبرار القليلين جدًا” (التحفة القيصرية، الخزائن الروحانية مجلد 12 ص 272).

ثم قال:

“إنا لا نريد أن نستمر في الأسلوب القاسي الذي اختاره القساوسة. ومفروض عليهم أن يحترموا حضرة عيسى كما هو مفروض علينا. ونحن نعلن بكل قوة وتأكيد بأن المنصب الإلهي متخصص فقط لله ولا لغيره بأي شكل من الأشكال. ونقول فيما عدا ذلك من الأمور المتبقية بأنه كان نبيًا صادقًا مستحقًا للاحترام” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية مجلد 13 ص 153).

ثم يقول:

“أنا أعظِّم المسيح ابن مريم جدًّا. كان حضرته خاتم الخلفاء للأمة الإسرائيلية كما أنا خاتم الخلفاء للأمة الإسلامية. وكما أنا المسيح الموعود في الأمة المحمدية كان ابن مريم المسيح الموعود في الأمة الموسوية. لذلك فإني أحترم ذلك الذي أنا سَميُّهٌ، ومُفسدٌ كذّابٌ مَن يزعم أني لا أحترمه. كلا بل إني أحترم المسيح كما أحترم إخوانه الأربعة أيضًا، لأنهم أبناء أم واحدة. بل فوق ذلك إني أعتبر شقيقتيه أيضا قديستين “(سفينة نوح ص24، الخزائن الروحانية مجلد 19 ص 17 و18).

ثم قال:

“أنا أحسبه واحدا من إخوتي. لقد رأيته مرارًا (في المنام وفي الحالة الكشفية). وذات مرة أكلت أنا وهو لحم البقر من صحن واحد. فلأجل ذلك أنا وهو قطعتان من جوهر واحد” (الملفوظات مجلد 3 ص 330).

كما قال حضرته:

“لقد كشف الله عليَّ أن حياتي مماثلة بالعيشة البدائية للمسيح في الغربة وفي التواضع وفي التوكل على الله وفي الإيثار والآيات والأنوار، ويوجد تشابه تام بين فطرتي وفطرة المسيح، وكأننا جزءان من جوهر واحد، أو ثمرتان من شجرة فواحدة. وتوجد هناك في الظاهر مشابهة أخرى أيضا؛ فإن المسيح كان تابعًا لنبي كامل عظيم موسى وخادمًا لدينه، وإنجيله كان فرعًا للتوراة، كذلك أنا العاجز أيضا من أحقر خدام ذلك النبي الجليل الشأن سيد الرسل وتاج المرسلين محمد المصطفى . فإذا كانوا (أي الأنبياء السابقون) هم حامدين فهو أحمد، وإذا كانوا هم محمودين فهو محمد ” (البراهين الأحمدية ، الخزائن الروحانية مجلد 1، ص 571 و572، هامش الهامش رقم 3).

وأضاف قائلا:

“إني رأيت عيسى مرارا في المنام ومرارا في الحالة الكشفية. وقد أكل معي على مائدة واحدة. ورأيته مرة واستفسرته عما وقع قومه فيه. فاستولى عليه الدهش، وذكر عظمة الله، وطفق يسبح ويقدس، وأشار إلى الأرض وقال: إنما أنا تُرابيُّ وبريء مما يقولون. فرأيته كالمنكسرين المتواضعين” (نور الحق، الجزء الأول، الخزائن الروحانية المجلد 8 ص 56 و57).

“إننا نكتشف للقراء، بأن عقيدتنا في المسيح سليمة جدا، وإننا نؤمن من أعماق قلوبنا بأنه كان نبيًا صادقًا من الله ، ومحبوبًا لديه، ونؤمن حسبما أنبأنا القرآن الكريم بأنه كان يؤمن بمجيء سيدنا ومولانا محمد المصطفى من صميم فؤاده وقلبه، وكان خادمًا مخلصًا من مئات خدام شريعة حضرة موسى . فنحن نكرمه حسب مقامه ونأخذه بعين الاعتبار دائمًا”. (نور الحق، الخزائن الروحانية، مجلد 9 ص 375).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد مِن رسله وقالوا سمِعنا وأطَعنا غفرانَك ربنا وإليك المصير.

Share via
تابعونا على الفايس بوك