سر الخلافة (8)
  • رباه الله تعالى وأنشأه ليكون الخليفة الصديق
  • علي فتى الله الحنان كان شجاعا في القتال ويعرف أنواع الأسلحة ولديه فهم للقرآن لم يسبقه به أحد

__

كلام موجز في فضائل أبي بكر الصّديق

 رضي الله عنه وأرضاه

كان عارفا تامَّ المعرفة، حليم الخلق رحيم الفطرة، وكان يعيش في زيّ الانكسار والغربة، وكان كثير العفو والشفقة والرحمة، وكان يُعرف بنور الجبهة. وكان شديد التعلق بالمصطفى، والتصقت روحه بروح خير الورى، وغشيه من النور ما غشّى مقتداه محبوب المولى، واختفى تحت شعشعان نور الرسول وفيوضه العظمى. وكان ممتازًا من سائر الناس في فهم القرآن وفي محبة سيد الرسل وفخر نوع الإنسان. ولما تجلى له النشأة الأخروية والأسرار الإلهية، نفَض التعلقات الدنيوية، ونبَذ العُلق الجسمانية، وانصبغ بصبغ المحبوب، وترك كل مُراد للواحد المطلوب، وتجردت نفسه عن كدورات الجسد، وتلونت بلون الحق الأحد، وغابت في مرضاة ربّ العالمين. وإذا تمكن الحبُّ الصادق الإلهي من جميع عروق نفسه، وجذر قلبه وذرات وجوده، وظهرت أنواره في أفعاله وأقواله وقيامه وقعوده، سُمّي صدّيقًا وأُعطي علمًا غضا طريّا وعميقا، من حضرة خير الواهبين. فكان الصدق له ملكة مستقرة وعادة طبعية، وبدت فيه آثاره وأنواره في كل قول وفعل، وحركة وسكون، وحواس وأنفاس، وأُدخل في المنعمين عليهم من رب السماوات والأرضين. وإنه كان نُسخة إجمالية من كتاب النبوة، وكان إمام أرباب الفضل والفتوة، ومن بقية طين النبيين.

ولا تحسب قولنا هذا نوعًا من المبالغة ولا من قبيل المسامحة والتجوز، ولا من فور عين المحبة، بل هو الحقيقة التي ظهرت عليَّ من حضرة العزة. وكان مشربه التوكل على رب الأرباب، وقلة الالتفات إلى الأسباب، وكان كظلٍ لرسولنا وسيدنا في جميع الآداب، وكانت له مناسبة أزلية بحضرة خير البرية، ولذلك حصل له من الفيض في الساعة الواحدة ما لم يحصل للآخرين في الأزمنة المتطاولة والأقطار المتباعدة. واعلم أن الفيوض لا تتوجه إلى أحد إلا بالمناسبات، وكذلك جرت عادة الله في الكائنات، فالذي لم يُعطه القسّام ذرة مناسبة بالأولياء والأصفياء، فهذا الحرمان هو الذي يُعبَّر بالشقوة والشقاوة عند حضرة الكبرياء. والسعيد الأتم الأكمل هو الذي أحاط عادات الحبيب حتى ضاهاه في الألفاظ والكلمات والأساليب. والأشقياء لا يفهمون هذا الكمال كالأكمه الذي لا يرى الألوان والأشكال، ولا حظ للشقي إلا من تجليات العظموت والهيبة، فإن فطرته لا ترى آيات الرحمة، ولا تشم ريح الجذبات والمحبة، ولا تدري ما المصافاة والصلاح، والأنس والانشراح، فإنها ممتلئة بظلمات، فكيف تنـزل بها أنوار بركات؟ بل نفس الشقي تتموج تموُّجَ الريح العاصفة، وتشغله جذباتها عن رؤية الحق والحقيقة، فلا يجيء كأهل السعادة راغبا في المعرفة. وأما الصدّيق فقد خُلق متوجّها إلى مبدأ الفيضان، ومقبِلا على رسول الرحمن، فلذلك كان أحق الناس بحلول صفات النبوة، وأولى بأن يكون خليفة لحضرة خير البرية، ويتحد مع متبوعه ويوافقه بأتم الوفاق، ويكون له مظهرًا في جميع الأخلاق والسير والعادة وترك تعلقات الأنفس والآفاق، ولا يطرأ عليه الانفكاك بالسيوف والأسنة، ويكون مستقرا على تلك الحالة ولا يزعجه شيء من المصائب والتخويفات واللوم واللعنة، ويكون الداخل في جوهر روحه صدقا وصفاء وثباتا واتقاء، ولو ارتد العالم كلّه لا يُباليهم ولا يتأخر بل يقدم قدمه كل حين.

ولأجل ذلك قَفَّى الله ذِكر الصدّيقين بعد النبيين، وقال: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين *. وفي ذلك إشارات إلى الصدّيق وتفضيله على الآخرين، فإن النبي ما سمى أحدًا من الصحابة صدّيقًا إلا إياه، ليُظهر مقامه ورَيّاه، فانظر كالمتدبرين.

وفي الآية إشارة عظيمة إلى مراتب الكمال وأهلها لقوم سالكين. وإنا إذا تدبرنا هذه الآية، وبلّغنا الفكر إلى النهاية، فانكشف أن هذه الآية أكبر شواهد كمالات الصدّيق، وفيها سرّ عميق ينكشف على كل من يتمايل على التحقيق. فإن أبا بكر سُمّي صدّيقًا على لسان الرسول المقبول، والفرقان أَلْحقَ الصدّيقين بالأنبياء كما لا يخفى على ذوي العقول، ولا نجد إطلاق هذا اللقب والخطاب على أحد من الأصحاب، فثبت فضيلة الصدّيق الأمين، فإن اسمه ذُكر بعد النبيين.

فانظر بالإنابة وفارِقْ غشاوة الاسترابة، فإن الأسرار الخفية مطويّة في إشارات القرآن، ومن قرأ القرآن فابتلع كل المعارف، ولو ما أحستها بحاسةٍ الوجدانُ. وتنكشف هذه الحقائق متجردةً عن الألبسة على نفوس ذوي العرفان، فإن أهل المعرفة يسقطون بحضرة العزة، فتمسّ روحهم دقائقَ لا تمسّها أحدٌ من العالمين. فكلماتهم كلمات، ومن دونها خرافات، ولكنهم يتكلمون بأعلى الإشارة حتى يتجاوزون نظر النظّارة، فيُكفّرهم كل غبي من عدم فهم العبارة. فإنهم قوم منقطعون لا يُشابههم أحدٌ ولا يُشابهون أحدًا، ولا يعبدون إلا أحدًا، ولا ينظرون إلى المتلاعبين. كفَلهم الله كرجل كفَل يتيما، ففوّضه إلى مرضعة حتى صار فطيما، ثم ربّاه وعلّمه تعليما، ثم جعله وارث ورثائه، ومنَّ عليه منّا عظيما، فتبارك الله خير المحسنين.

في فضائل علي

 اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه

كان تقيًّا نقيًّا مِن الذين هم أحب الناس إلى الرحمن، ومِن نخب الجيل وسادات الزمان. أسد الله الغالب وفتى الله الحنّان، نديّ الكف طيب الجنان. وكان شجاعا وحيدًا لا يُزايل مركزه في الميدان ولو قابله فوج من أهل العدوان. أنفد العمر بعيش أنكد وبلغ النهاية في زهادة نوع الإنسان. وكان أول الرجال في إعطاء النشب وإماطة الشجب وتفقُّد اليتامى والمساكين والجيران. وكان يجلّي أنواع بسالة في معارك وكان مظهر العجائب في هيجاء السيف والسنان. ومع ذلك كان عذب البيان فصيح اللسان. وكان يُدخل بيانه في جذر القلوب ويجلو به صدأ الأذهان، ويجلي مطلعه بنور البرهان. وكان قادرًا على أنواع الأسلوب، ومن ناضله فيها فاعتذر إليه اعتذار المغلوب. وكان كاملا في كل خير وفي طرق البلاغة والفصاحة، ومن أنكر كماله فقد سلك مسلك الوقاحة. وكان يندب إلى مواساة المضطرّ، ويأمر بإطعام القانع والمعترّ، وكان من عباد الله المقربين.

ومع ذلك كان من السابقين في ارتضاع كأس الفرقان، وأُعطَي له فهم عجيب لإدراك دقائق القرآن. وإني رأيته وأنا يقظان لا في المنام، فأعطاني تفسير كتاب الله العلام، وقال: هذا تفسيري، والآن أُولِيْتَ فَهُنّيتَ بما أُوتِيتَ. فبسّطتُ يدي وأخذت التفسير، وشكرت الله المعطي القدير. ووجدتُه ذا خَلْقٍ قويم وخُلقٍ صميم، ومتواضعا منكسرا ومتهلّلاً منوّرا. وأقول حلفًا إنه لاقاني حُبًّا وأُلْفًا، وأُلقي في روعي أنه يعرفني وعقيدتي، ويعلم ما أخالف الشيعة في مسلكي ومشربي، ولكن ما شمخ بأنفه عُنفًا، وما نأى بجانبه أنفًا، بل وافاني وصافاني كالمحبين المخلصين، وأظهر المحبة كالمصافين الصادقين. وكان معه الحسين بل الحسنينِ وسيد الرسل خاتم النبيين، وكانت معهم فتاة جميلة صالحة جليلة مباركة مطهّرة معظّمة مُوَقرة باهرة السفور ظاهرة النور، ووجدتها ممتلئة من الحزن ولكن كانت كاتمة، وأُلقي في روعي أنها الزهراء فاطمة. فجاءتني وأنا مضطجع فقعدت ووضعت رأسي على فخذها وتلطفت، ورأيتُ أنها لبعض أحزاني تحزن وتضجر وتتحنن وتقلق كأمّهات عند مصائب البنين. فعُلّمتُ أني نزلتُ منها بمنـزلة الابن في عُلَق الدين، وخطر في قلبي أن حزنها إشارة إلى ما سأرى ظلما من القوم وأهل الوطن المعادين. ثم جاءني الحسنان، وكانا يبديان المحبة كالإخوان، ووافياني كالمواسين. وكان هذا كشفًا من كشوف اليقظة، وقد مضت عليه بُرْهة من سنين.

ولي مناسبة لطيفة بعليّ والحسين، ولا يعلم سرّها إلا رب المشرقين والمغربين. وإني أحبّ عليا وابناه، وأعادي من عاداه، ومع ذلك لستُ من الجائرين المتعسفين. وما كان لي أن أعرض عما كشف الله عليَّ، وما كنت من المعتدين. وإن لم تقبلوا فلي عملي ولكم عملكم، وسيحكم الله بيننا وبينكم، وهو أحكم الحاكمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك