خواطر ملتاع لأقدس البقاع

خواطر ملتاع لأقدس البقاع

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • ما دلالة كون الحج ركن من أركان الدين؟
  • ما دلالة وجود نظر الحج الإسلامي في سائر الأديان الأخرى؟
  • كيف يتجلى تكامل أركان الدين في ركن الحج؟

___

 الحج وتكامل الأركان

الحج عنوان لموسم روحي اجتماعي، يتفاعل معه جميع المسلمين، الذين يربو عددهم الآن على المليار نسمة، في مختلف أنحاء العالم. وصحيح أن من يشارك فعلًا في مناسك الحج في حدود المليوني شخص ينتمون لمختلف الأعراق والشعوب والمجتمعات الإسلامية، كما أن أنظار جميع المسلمين في هذا الموسم، يولون وجوههم وقلوبهم شطر تلك البقاع المقدسة، حتى إنه يمكننا القول إن كل مسلم في ذلك الموسم يحج قلبه، وإن لم يطف بالكعبة جسدُه.

والحج كركن من أركان الدين الحنيف مظهر جسدي لذلك السفر الروحاني الذي نسعى جميعًا إلى قطعه واجتيازه، يقوم به الإنسان المسلم، بروحه وجسده وأفكاره وأحاسيسه، مجتازًا مسافات المكان والزمان، ليتعلق بأستار الكعبة أول بيت وضع للناس، مستلمًا الحجر الأسود الذي هو يمين الله تعالى في الأرض، بما تحمله هذه العبارة من دلالة عميقة.

وجاء في كتاب

«التوقيف في مهمات التعاريف» للمُناوي، وهو واحد من معاجم المصطلحات العربية الموضوعة في القرن السابع عشر الميلادي، جاء فيه عن الحج أنه «ترداد القصد إلى ما يراد خيره وبره، أو هو القصد إلى معظَّم، وشرع قصد الكعبة بصفة مخصوصة في زمن مخصوص بشروط مخصوصة»(1).

ويستطرد المناوي فيعرف «الحجة» بالضم فيذكر أنها «الدلالة المبينة للحجة أي المقصد المستقيم الذي يقتضي أحد النقيضين، ومنه

فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ .

والمحجة بفتح الميم جادة الطريق. وقيل: الحجة كلام ينشأ عن مقدمات يقينية مركبة تركيبًا صحيحًا».(2) وإلى هنا يفرغ المناوي من تعريف مصطلح الحج ومجانِساته اللفظية، والتي تشير علاقة الجناس الناقص البلاغية بينها إلى اشتراك دلالي ما، نتوقع أن يكون كامنًا في «الحجة» والتي هي كلام ينشأ عن مقدمات يقينية مركبة تركيبًا صحيحًا، ألا نعتقد أن الأركان السابقة للحج بدءا من الشهادتين حتى صيام رمضان، أنها كلها مقدمات صحيحة تصب في المحصلة في ركن الحج بالضرورة؟! أوليس ركن الحج هو الركن الجامع الذي تجتمع فيه كل ما سبقه من أركان؟ ففيه الإقرار بالوحدانية ممثلًا في التلبية، وفيه الصلاة من حيث استقبال القبلة والصلاة نفسها بحركاتها المخصوصة وأقوالها المخصوصة وميقاتها المخصوص، وفيه الزكاة كتضحية مالية، وفيه الصيام كذلك من حيث الإمساك عن بعض الطيبات..

ومما روي عن سيدنا المسيح الموعود من تحليله للعبادة وفلسفتها وشعائرها، ومنها الصلاة والحج، قوله: «كان للعبادة جزءان: الأول أن يخشى الإنسانُ الله تعالى كما هو حق الخشية، والجزء الثاني للعبادة هو أن يحبّ الإنسان اللهَ كما هو حق المحبة. هذان حقّان يطلبهما الله تعالى لنفسه من الإنسان. ولأدائهما جعل الإسلام أولًا الصلاةَ التي وُضع فيها جانب الخوف، وأما لإظهار الحبّ فقد جعل الحج….. وُجد في الحج جميع أركان الحب التي يتولد منها العشق الذي هو نوع من الجنون. الحاصل أن المثل الذي يجب أن يكون في زيّ الحب يكون موجودًا في الحج، إذ يُحلق الرأس ويُسعى، والقُبْلة في الحب أيضًا موجودةٌ في الحج كما كانت موجودة في جميع الشرائع بشكل صوري، ثم بدأ كمال العشق في الأضحية أيضًا. إن الإسلام علّمنا تكميل هذه الحقوق بأكمل وجه».(3)

إن المرء بإقامته كافة الأركان السالفة كما هو حقها، ثم تتويج تلك الأركان بالركن الجامع والأخير، والذي هو الحج، هذا الأمر يمثل حجة يقدمها العبد المسلم بين يدي مولاه عز وجل، قائلا بلسان الحال أن يا ربّ لقد أديت ما عليَّ، فهلا أنجزت لي ما وعدت؟! وقد تمثل الوعد الإلهي بهذا الصدد في قول حضرة خاتم النبيين :

«مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».(4)

فشعائر الحج حين يقيمها الحاج كما هو حقها أشبه ما تكون بعملية ضبط المصنع Factory Reset، والتي نجريها على الأجهزة الإلكترونية للتخلص من أي عيب تقني حادث أو محتمل!

أركان الدين، بل الأديان!

الحج ركن من أركان الدين كما أسلفنا، ومعنى كونه ركنًا أي أنه أساس ينبني عليه الدين، وهناك ملاحظة غريبة تستحق التوقف عندها مليًّا، ومفادها أن ما يعرفه المسلمون بأركان الإسلام، هو في حقيقة الأمر ظواهر مشتركة في كافة الأديان، وكل دين خلا يعتبر تلك الظواهر من أركانه أيضًا، فالشهادتان في الإسلام، هي البند الرئيس في العقد الذي يبرمه العبد مع ربه سبحانه وتعالى، ولها في سائر الأديان نظائرها الخاصة..

للعبادة جزءان: الأول أن يخشى الإنسانُ الله تعالى كما هو حق الخشية، والجزء الثاني للعبادة هو أن يحبّ الإنسان اللهَ كما هو حق المحبة. هذان حقّان يطلبهما الله تعالى لنفسه من الإنسان. ولأدائهما جعل الإسلام أولًا الصلاةَ التي وُضع فيها جانب الخوف، وأما لإظهار الحبّ فقد جعل الحج

والصلاة لا شك أنها ركن كائن في سائر الأديان بهيئات خاصة كذلك، أضف إلى ذلك كلا من الزكاة والصيام، والّذَين هما صورتان من صور التطهر الروحي، تتعلقان بالترفع عن الحاجات المالية والجسدية.. إن هذا التشابه العجيب والذي يبلغ مبلغ التطابق الكمي على الأقل، قد حدى بعض الباحثين من ذوي الميل الإلحادي إلى القول بتوفيقية الأديان، أي اقتباس مادة الدين اللاحق من مادة دين سابق، هكذا كيفما اتفق، دون أن يكون للأمر علاقة بمصدر الدين الأول، إن أصحاب وجهة النظر هذه هم من يدعون الآن أن القرآن مقتبس من أساطير الهند وفارس ومصر القديمة! والواقع أن هذه المزاعم ليست جديدة، فقد كانت مثار نقاش قديم زمن نزول القرآن نفسه، وقد عرضها القرآن وأردفها بالرد المفحم، فقال:

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (5)..

أما عقيدتنا نحن المسلمين إزاء ذلك التشابه بين الأديان في الأركان الأساسية، فمرجعه عندنا إلى وحدة المصدر، الله عز وجل، الذي هو رب الخلق جميعًا، والذي تنزَّه عن العنصرية، فلم يخاطب قومًا دون سائر الأقوام.

والآن نأتي على ذكر الحج كركن كائن في كافة الأديان الخالية، فإنه في الأساس من الظواهر الدينية العامة والقديمة، تقول الموسوعة العربية الميسرة: عرف الحج منذ القدم، ودعت إليه الأديان السماوية الثلاثة، وكذلك عرف في سائر الديانات كالديانة الهندوسية التي من طقوسها الدينية الحج إلى نهر الغانج بوصفه نهرًا مقدسًا..

الحج في الإسلام، وتذكار السلام

كما يعايِن الإنسان التاريخ العريق في كافة أروقة المعارض والمتاحف، فإنه كذلك يرى أبرز معاني الإسلام في كافة أركانه المعروفة، بدءا بالشهادتين ومرورًا بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، ثم وصولًا إلى حج البيت من استطاع إليه سبيلًا. ومن أبرز معاني الإسلام التي نعنيها في هذا المقام نشر السلام وإفشائه بين خلق الله جميعًا على اختلاف أديانهم وألوانهم وقومياتهم ومشاربهم السياسية والثقافية. وكلمة «سَلِم» العربية التي تعني نجا وعاش في سكينة، يفوقها جمالًا كلمة «أسلم»، والتي لا يقتصر مدلولها على الاستمتاع بالطمأنينة والسلام، وإنما يتعداه إلى جعل الآخرين من الأقارب والأباعد يستمتعون بالشعور ذاته، ذلك بأن المسلم الحقيقي هو من يعمل جاهدًا على إفشاء السلام بين الخلق، ففلاحه منوط بحبه وتحببه إلى إخوانه الذين هم كلهم خلق الله تعالى.

ومن طبيعة النفس الإنسانية أنها تميل إلى المؤانسة والمسالمة، فالبغض ليس من فطرتها، وإنما هو وازع شيطاني دُعيت الإنسانية إلى رجمه ونبذه خلال تلك الأيام على الأقل، وذلك في مشهد مهيب ترمى فيه الجمرات إعلانًا من الحجيج عن رغبتهم في استعادة فطرتهم الأولى واستعاذتهم بربهم الأعلى من نزغات الشيطان.

حج المسلمين الأحمديين وقِبلتهم

من ضمن حلقات مسلسل الافتراءات الممل، ذلك الافتراء الأحمق، والقائل بحج المسلمين الأحمديين إلى قاديان دار الأمان، كيف يبتدع المسيح الموعود تشريعًا جديدًا بالحج إلى بقعة أخرى غير مكة البلد الحرام، وهو الذي نفى عن الشريعة الإسلامية شبهة النسخ إلى الأبد؟! إن هذه الفرية هناك من هُم أجدر بها، وهم كل القائلين بالنسخ في القرآن، أما المسلمون الأحمديون، فكفاهم اعتزازًا أن هناك من يكفرهم لنفيهم النسخ وأي تغيير في الشريعة كبيرًا كان أم صغيرًا.

الهوامش:

  1. المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، تعريف «الحج»
  2. المرجع السابق
  3. الملفوظات حضرة مرزا غلام الحمد القادياني، الإمام المهدي والمسيح الموعود مجلد 3 صفحة 299
  4. (صحيح البخاري، كتاب الحج)
  5. (الفرقان: 6-7)
Share via
تابعونا على الفايس بوك