هل تحتاج أوروبا إلى استلهام نموذج المؤاخاة؟

هل تحتاج أوروبا إلى استلهام نموذج المؤاخاة؟

محمد ظفر إقبال

  • ماذا كان منهج النبي (ص) في التعامل مع قضية دمج اللاجئين المسلمين في المجتمع المدني التعددي؟
  • وهل يمكن القول بأن المؤاخاة التي أجراها النبي بين المسلمين بالأمس هي الحل لمشكلة أوروبا مع المهاجرين اليوم؟

 ___

مستويات المعاملة الإنسانية الثلاثة

لأن دين الإسلام منهج الحياة، فلقد علّم أتباعه تعليماً ولا أرقى في التعامل مع الآخر، فقال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ (1)،

والعدل معروف بمعروف مثله، والإحسان معروف أحسن من معروف أُسديَ إليك، وإيتاء ذي القربى معروف دون أدنى معروف تناله ولا أي جزاء تنتظره، كالأم مع أبنائها، وينهى عن كل سوء ولو كان سراً ولم يسبب إيذاءً لمخلوق، فضلا عن الإساءة في العلن وإيقاع الظلم على الأبرياء الغافلين، فمن كان هذا حاله فهو المسلم الذي يجب أن يرى الآخرون الإسلام من خلاله، ومن لم يكن حاله كذلك فمن الظلم البيّن أن نحيل سلوكه إلى الإسلام وندينه به والإسلام منه بريء.

ليس كل من اسمه «محمد» يمثل الإسلام

هناك في فرنسا، وتحديداً في ولاية «نيس» يعيش «محمد لحويج بوهلال» الثلاثينيّ تونسيّ الأصل مع زوجة وثلاثة أبناء، والذي يعمل سائق شاحنة، وأثناء احتفال أهالي الولاية بيوم «الباستيل» وهو اليوم الوطني لفرنسا في الرابع عشر من يوليو الماضي هاجم بشاحنته العملاقة والتي تزن تسعة عشر طنا جمعا غفيرا من المحتفلين بلا رحمة ولا رأفة مما أسفر عن مقتل أربعة وثمانين نفساً وإصابة ثلاثمئة آخرين بلا ذنب ولا جريرة، فلم يُؤذِ واحد منهم «محمد لحويج بوهلال» ولا امرأته ولا واحداً من أطفاله، والغريب في الأمر أن تنظيم داعش قد وصفه أنه «من جنود الإسلام» مما أضفى على الحادث سمة دينية وكأنه نوع من الجهاد الإسلاميّ، وهو من ذلك بعيد بُعد المشرقين، وبالرغم من أنه قد ثبت لكبرى الصحف العالمية أنه «كان يتعاطى المخدرات ويستخدم مواقع التواصل لمواعدة الرجال والنساء»2. وبالرغم من شهادة أبيه أن ابنه «لم يكن يصلي ولا يصوم، وكان يشرب الكحول ويتعاطى المخدرات أيضاً» وبالرغم من أنه قد تبيّن من التحريات الرسمية أنه لم يكن يبدو عليه أنه مسلم أصلاً كما وصفه جيرانه ومعارفه في مسقط رأسه، إلا أن الموقف الرسمي للمسؤولين الفرنسيين قد صنفوا الحادث على أنه من قبيل «الإسلام المتطرف» مما أدى إلى حملات تشويهية علنية  للإسلام والمسلمين.

انتهازية ماكرة!

لقد كتب أكبر أحمد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية، في تحليل رائع للوضع في فرنسا ما يلي: «لقد كثر عدد الذين يسمون أنفسهم خبراء مكافحة الإرهاب» ونسلوا من كل حدب وصوب، وجعلوا رزقهم أنهم يَكْذبون، ويشوهون الإسلام تشويها متعمداً، ويشيعون أن آيات القرآن الكريم هي التي تحض المسلمين على الإرهاب!».

إنهم يحاولون القضاء على داعش من خلال قصف الشرق الأوسط وتدميره، ولكن هذا لن يكون مفيداً بالمرة، بل ضره أكبر من نفعه، أما الحل الأنجع لتلك المعضلة فهو دمج المسلمين الذين يعيشون هناك مع أفراد المجتمع واعتبارهم جزءاً من نسيجه.

إن سر نجاح دمج المسلمين في أوروبا يكمن في تطوير التفاهم المتبادل ونشر المحبة والرحمة بين السكان المحليين والمهاجرين، بدلاً من تأجيج الانقسامات والاختلافات وزرع الفتن، ومن أراد أن يتعلم فليعد لزمن الرسول ليرى كيف تم دمج المهاجرين بالأنصار في تجربة فريدة وعجيبة

وفي القوم رجل رشيد

في معرض طرح الأراء  حول قضية الهجرة إلى أوروبا، كان «خافيير سولانا» الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا والرئيس الحالي لمركز ESADE للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، قد تلخص رأيه فيما يلي: «إن المهاجرين عرضة للتأثر بالمنظمات الإرهابية، لأن المواطَنة الأوروبية لم تتطور بالشكل اللائق نحو الدمج الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الوافدين، وإن التفاوت المتزايد والذي يتفاقم  لتلك الأسباب يزيد المشكلة سوءاً». ويضيف:

«الناس بحاجة إلى الأمل والشعور بالأمن والإيمان برؤية مجتمعية مبشرة تقوم على المواطنة نحو مستقبل أفضل، لقد نجحت البلدان الأوروبية ذات يوم في غرس هذا الشعور في مواطنيها، لكن  ضعف استجابة المسؤولين استبدلت الأمل بالإحباط وخيبة الأمل»(3).

والآن نتساءل: هل من الممكن أن تصل تعاليم الإسلام إلى أوروبا نقية شفافة حتى يتغنى بها أهلها ويعرفوا قدرها وقدر النبي محمد الذي كان أول من طبق تلك التعاليم على نفسه؟ ففي وقت من الأوقات وما أشبه الليلة بالبارحة، وقبل الهجرة إلى المدينة المنورة كان النبيّ يطمح إلى تبليغ رسالة الإسلام خارج مكة، فأرض مكة لم تعد أرضاً صالحة إنبات بذور الدعوة وإثمارها، فهيأ الله له بيعة العقبة الأولى والثانية، التي أعلن أصحابها أنهم على استعداد تام أن يستقبلوا إخوانهم المسلمين المستضعفين في بلادهم، بل تاقوا إلى استقبال النبي نفسه في أرضهم، على أن يحموه ويدفعوا عنه ما يدفعونه عن أنفسهم وأعزتهم.

الإسلام وحده يقدم الحلول

لقد عاش المسلمون وعلى رأسهم النبيّ سلم في ظروف  صعبة يعجز اللسان على وصفها طوال ثلاثة عشر عاماً في مكة حتى أذن الله لهم بالهجرة إلى يثرب، ولقد نجح النبيّ في إقامة مجتمع مدنيٍّ يقوم على المواطنة مهما اختلفت الأعراق والجنسيات والديانات، وآخى بين من هاجر معه من مكة ومن ناصروه في المدينة كأخوّة الدم بل هي أكبر، ولِمَ لا وهو القائل:

«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». وشبك بين أصابعه»(4).

وفي موضع آخر قال :

«والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(5).

إن سر نجاح دمج المسلمين في أوروبا يكمن في تطوير التفاهم المتبادل ونشر المحبة والرحمة بين السكان المحليين والمهاجرين، بدلاً من تأجيج الانقسامات والاختلافات وزرع الفتن، ومن أراد أن يتعلم فليعد لزمن الرسول ليرى كيف تم دمج المهاجرين بالأنصار في تجربة فريدة وعجيبة، حيث كان المهاجرون ذوي فقر مُدقع، حتى أولئك الذين كانوا أثرياء في مكة المكرمة إلا أنهم لما هاجروا مُنعوا من أخذ أموالهم، ومنهم من تركها طوعاً ليتسنى له اللحاق بالرسول سلم وصحبه وصُحبتهم، وهناك تمت أول عملية دمج في التاريخ بين سكان أصليين ووافدين بكل سرور وحبور من كافة الأطراف، فصار كل مهاجر أخاً لأنصاريٍّ، له ما للأخ من الدم وعليه ما عليه، وهكذا، عرض الأنصار على إخوانهم المهاجرين مشاركتهم كل ما يملكون، حتى تمكّن المهاجرون من إقامة أعمالهم، والاعتماد على أنفسهم، ولم يعودوا في حاجة إلى عون من إخوانهم الأنصار، فكفاهم ما تحملوه في سبيل إرضائهم وإسعادهم على مدى عامين كاملين، وهكذا بدأوا يشعرون بأنهم في وطنهم، وأقيمت رابطة عاطفية قوية بينهم وبين إخوانهم في المدينة المنورة، مما عزز اللحمة بينهم في مجتمع واحد متعاون.

وفي إطار تناوله سيرة حضرة خاتم النبيين قدم حضرة مرزا بشير أحمد وصفا رائعاً للعلاقة بين الأنصار والمهاجرين وأكد أن الأنصار كانوا على استعداد تام أن تظل أيديهم ممدودة بالعون لإخوانهم المهاجرين أبد الدهر ما داموا أحياء، إلا أن المهاجرين أرادوا أن يعتمدوا على أنفسهم، فليسوا من أولئك الذين يعيشون عالة ولو على إخوانهم، فنقرأ شيا بهذا الصدد قال فيه:

«لقد آخى النبي بين تسعين صحابياً من المهاجرين والأنصار آنذاك، أخوةً يخجل منها اليوم من هم أشقاء من الدم، حيث أظهر الطرفان من الحب والإخلاص والولاء نموذجا فريداً لا نظير له، وكأن كل واحد منهما النصف الآخر لأخيه المؤمن، ورغم أن المهاجرين لم تكن لديهم أية خبرة في الزراعة التي كانت النشاط الأساسي عند أهل المدينة، إلا أن الأنصار كانوا يقتسمون معهم محاصيلهم كأنهم إخوتهم في الحقيقة ولهم عليهم حقوق، ومن بين الذين آخى بينهم الرسول عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الذي وضع بين يديه كل ثروته، وطلب منه أن يأخذ منها حتى يكتفي بلا أدنى حساب، كذلك قال أن له زوجتين، وطلب منه أن يختار أيتهما يشاء فيطلقها، حتى إذا أوفت عدتها تزوجها، ولكن عبد الرحمن دعا له أن يبارك له الله في ماله وأزواجه، وقال له: فقط، دلني على السوق، وفي وقت قصير استطاع أن يؤسس لنفسه تجارة واسعة بذكائه وحكمته، حتى ازدهرت ونمت وصار أكثر ثراء مما كان في مكة»(6)

المؤاخاة هي الحل لمشكلات المهاجرين اليوم

إن هذه التجربة الفذة التي ابتكرها محمد رسول الله   لهي نبراس للبشرية تستضيء به في ظلمات الجهالة التي تعم أركان العالم في هذه الأيام، فلقد غدا العالم كقرية واحدة، وأصبح الوافدون على السكان الأصليين من مناطق شتى من العالم يفوقونهم عدداً، وبات التعايش بينهم قدرا مقدوراً، حتى إن هناك ما يفوق أربعين مليوناً من المسلمين اليوم يعيشون في أوروبا معيشة دائمة، ذلك خلاف ملايين السائحين على مدار العام، مما يحتم على المسؤولين إيجاد وسيلة دمج حقيقية بينهم، ولن يجد هؤلاء ما هو خير من نموذج المؤاخاة الذي قدمه الرسول ، بما يضمن إزالة كل المخاوف من قلوب كلا الجانبين تجاه الآخر، وزرع معاني الأخوة الحقيقية بينهم، وأن يشعر الجميع أن هذا الوطن ليس حكراً على أحد، ولا هو ملك لأحد دون أحد، وليس هناك مواطنون من درجات عليا وآخرون من درجات دنيا، بل يجب أن يشعر الجميع أنهم أمام الحقوق والواجبات سواء، هنا يتجلى الشعور بالأمن والمساواة والعدالة الذي من شأنه أن يخلق المعجزات.

ربما لم يقرأ «خافيير سولانا» عن تلك التجربة المشرقة في المدينة المنورة قبل حوالي 1400 عام من الآن، لكنه يقترح بعض الحلول المماثلة، فيقول:  « ربما كان من الأهمية بمكان أن تقوم أجهزة الاستخبارات وقوات الشرطة بدرء الهجمات العدائية، لكن فهم دوافع تلك الحركات هو الأهم، ويتعين على الدول الغربية ألا تتوقف عند الدفاع عن حرية التعبير والتنسيق بين رجال الشرطة، بل عليها إيجاد حلول دائمة تعالج التهميش الاقتصادي والاجتماعي للأفراد، وخصوصاً الوافدين من بلاد أخرى، حيث إنه ليس من الصواب أن تعاملهم بالقمع وكبت الحريات وادعاء العجرفة والتفوق الثقافي والتركيز على إثبات دونية الشعوب الأخرى.

والأهم من ذلك أن هذه الحلول تتطلب الجمع بين إتاحة كافة الحريات وتوفير كافة وسائل الأمن أيضاً، إذ إن المخاوف الأمنية عندما تطغى على الحقوق والحريات الأساسية، فإن التعصب وحده يكون سيد الموقف؛ ويحدث الشيء نفسه إذا تزايدت العبارات المناهضة للإسلام والأجانب عموماً»(7).

الهوامش:

  1. النحل 91
  2. صحيفة تلجراف ـ المملكة المتحدة
  3. مجلة Project Syndicate 2015.
  4. صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم، (3/ 129) برقم: (2446)
  5. (صحيح البخاري، كتاب الإيمان)
  6. مرزا بشير أحمد، سيرة خاتم النبيين
  7. صحيفة ’راب نيوز
Share via
تابعونا على الفايس بوك