الدولة الإسلامية أم الجماعة الإسلاميّة

الدولة الإسلامية أم الجماعة الإسلاميّة

تميم أبو دقة

كاتب وشاعر

هل جاء الإسلام لإنشاء الدولة الإسلاميّة أم الجماعة الإسلامية؟

قد يعتقد الكثيرون أن إنشاء الدولة الإسلاميّة هو غاية الدين الإسلامي، وأنّ الإسلام إنّما جاء ليجمع معتنقيه ويوحِّدهم ويُنشئ دولةً تضمُّهم وتقوم هذه الدولة بعد ذلك بالسعي للتوسع في الدول المجاورة وتحاول ضمَّها بالسلم أو بالحرب، ويستدلُّون باعتقادهم هذا بالتاريخ ويقولون إنّ هذا ما حصل في صدر الإسلام، وكما أن من يقول بذلك من المسلمين يعتقدون أن مجد الإسلام مرتبطٌ بتحقيق هذه الغاية العُظمى وإنّ الحال السيئة التي يعيشها المسلمون حاليًا ما هي إلا نتيجة غياب هذه الدولة وعدم السعي لإقامتها.

إنّ هذا الاعتقاد إنّما هو نتيجة استقراءٍ مغلوطٍ للتاريخ ولعدم فهمٍ صحيح لمضمون الرسالة الإسلاميّة، وإنّ نظرةً متفحصةً في الإسلام وفي تاريخه ستتكفلُ بكشف الغطاء عن هذا الأمر الذي ألحقَ ضررًا كبيرًا بالإسلام والمسلمين واتُّخِذَ ذريعةً من قِبَلِ أعدائه لشنّ الهجمات على المسلمين لسلب أراضيهم وخيراتهم، حيث نشأ في الغرب مفهوم “الخطر الإسلامي” الذي يتلخَّصُ بأنّ المسلمين إذا ما امتلكوا القوة فلن يدَّخروا وسعًا في مهاجمة من حولهم وضَمَّ أراضيهم إليهم وسلب خيراتهم، وفيما إذا قرَّروا الإبقاء على بعض الدول من حولهم فإنَّ ذلك يكون بشرط إخضاع هذه الدول وإرغامها على دفع الجزية. إنّ هذا التصوُّر الذي ساعد في تجسيده كثيرٌ من الحركات والأحزاب والزعماء المسلمين ألحقَ ضررًا  كبيرًا بهم وبالإسلام الذي غدا في أعيُن أعدائه وحشًا لن يلبث أن يبتلعهم إذا سنَحت له الفرصة.

ولقد قامت في كثيرٍ من البلاد الإسلامية حركاتٌ وأحزابٌ تدعو إلى اغتصاب السلطة في الدولة وإنشاء ما يدعونه بــــــــ “الدولة الإسلامية” ومن ثم بسط سلطان هذه الدولة على البلاد الإسلامية الأخرى، وسعت بعض هذه الحركات إلى امتلاك قوةٍ عسكرية وقامت بمحاربة نظام الحُكم وحدثت ويلاتٌ ومآسي شهِدناها جميعًا وما نزال، وأشاعت هذه الحروب حالاتٍ من الفوضى والاضطراب راح ضحيّتها كثيرٌ من الأبرياء حتى إنّه في بعض الحالات قد وصل القتلُ إلى مرحلةٍ لم يَعُدْ يُعرف فيها مَنْ قتلَ مَنْ ولماذا؟!، كلُّ ذلك أدّى إلى حالةٍ من الهَلع والخوف في صدور المسلمين من كل الحركات الدينيّة، وأدّى إلى حالةٍ مؤسفة جعلت كل من يُظهر تديُّنه في البلاد الإسلاميّة مثارَ شُبهةٍ وهدفًا للمضايقة من أجهزة الأمن خوفًا من أن يكون مُنتميًا إلى إحدى الجماعات المتطرِّفة.

إنّ هذا الواقع المؤسف لم ينشأ إلا نتيجة انحرافٍ خطير عن صلب الدين الإسلامي وروحه، وهذا الواقع المرير أدّى إلى دفع كثيرٍ من الأنظمة في العالَم الإسلامي إلى نبذ الدين وإقصائِه وإبطال أي دورٍ له في المجتمع لأنّ ضرره أصبح أقرب من نفعه بالنسبة لهم، وذلك لأنّ الفكر الديني عند معظم الجماعات يحوي مغالطاتٍ تدفع إلى إثارة العُنف والاضطراب. ونحن هنا لسنا في معرض إلقاء الضوء على هذه المفاهيم والمعتقدات المغلوطة العديدة واسعة الانتشار بين المسلمين التي تُعتبر ثوابتَ أساسية في فكر هذه الجماعات الذي يُشكل بيئةً ملائمة للعنف والتي تستقي منه هذه الجماعات شرعيّة أعمالها الوحشيّة كقتل المرتد وتكفير الناس لأتفه الأسباب وغير ذلك، وإنّما سنقتصر فقط على مناقشة جانب مفهوم النظام الذي يجب أن يحوي كلّ المسلمين والذي يعتقد الكثيرون أنّه الدولة الإسلاميّة ونحن بدورنا نؤكِّد أنّه الجماعة الإسلامية والفرق بين الاثنتين كبيرٌ وشاسع.

بادئ ذي بدء لِنَعُد إلى مصدر الإسلام ومنهله الصافي ألا وهو القرآن الكريم فإذا عُدنا إليه فإننا سنجد أنّه لم يدعُ إلى إنشاء دولةٍ إسلاميّة ولم يوصِ بنظام حُكمٍ معيّن، بل إنّه فيما يخصُّ هذا الموضوع قد حدّد قواعدَ وأخلاقيّات على المسلمين أن يلتزموها حاكمين أو محكومين، كما أنه لم يضع شريعةً تفصيليّة تنصُّ على كلّ صغيرةٍ وكبيرة وإنّما وضعَ دستورًا شاملاً لاستنباط القوانين بما يُراعي الحقَّ والعدلَ والظرف الموضوعي، وإن كان قد نصَّ على بعض الأحكام كأحكام الميراث وبعض العقوبات كعقوبة الزِنا والسرقة وذلك لأنّ الميراث أمرٌ هام له دور أساسي في النظام الاقتصادي الإسلامي وهو وسيلةٌ هامة للوصول إلى توازنٍ اقتصادي واجتماعي يُعطي لكلّ ذي حقٍّ حقّه ويكفل عدم حدوث خلافٍ كبير بين الورثة، وليس هنالك من مبررٍ لتعديل هذا الحكم إذا أنّه لا يختلف بتغيُّر الظروف، كما أن الزِنا والسرقة هما أمران متلازمان مع الجنس البشري لا يختلفان بتغيُّر الزمان والمكان وضررهما لا ينفكُّ يَفتِكُ بالمجتمعات ويُلحق بها أشدَّ الأضرار. وقُصارى القول إنّ القرآن الكريم أكبرُ وأجلُّ وأعظم من أن يكون دستور دولةٍ أو كتاب قوانين تفصيليّة وإنّما هو مصدرٌ ومنهلٌ عظيم يمكن أن نستنبط منه ومن روحه دساتير عديدة مختلفة وقوانين تتجدَّد في كل أوانٍ وزمان.

فإذا عُدنا إلى ما قاله القرآن الكريم حول نظام الحُكم فسنجد أنّه لا يوجد في القرآن الكريم أيُّ تحديدٍ لطبيعة نظام الحُكم الذي يجب أن يسود البلاد الإسلاميّة، وإنّما يوجد ذكرٌ لإطارٍ واسع يمكن أن تنطوي تحته كل أنظمة الحُكم التي عرفتها البشريّة أو ربما لم تعرفها حتى الآن، وهذا الإطار الذي يجب أن يُميّز هذه النُظم هو العدل المطلق والأمانة. فالحاكم المسلم سواءً كان ملكًا أو رئيسًا أو سُلطانًا أو زعيمًا يجب أن يتحلّى بالعدل والأمانة وبقدر ما يكون العدل شيمته والأمانة سجيّته بقدرِ ما يكون حُكمه إسلاميًّا، تقول الآية الكريمة:

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (النساء: 59).

ويجب علينا أن نلحظ أنّ الآية الكريمة تقبل وترضى بإمكانيّة عدم كون المسلمين حُكامًا حيث إنّها تقول “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” أي هنالك إمكانيةٌ لعدم كونكم حاكمين، بل إنّ هذه الآية توضِّح أيضًا بأنّه ليس من الواجب عليكم أينما كنتم أن تغتصبوا السُلطة وتكونوا حُكّامًا وإنما إذا أصبحتم حُكّامًا أن تحكموا بالعدل، كذلك فإنّ في هذه الآية إشارةً لطيفةً إلى أنّ انتقال السُلطة يجب ان يكون سلميًّا لأنّ الله تعالى يأمر في أول الآية بأداء الأمانات إلى أهلها أي ان تُعطوا من له أمانةٌ عندكم أمانته وأن تُسلِّموا الأمانة إلى من يستحقُّها. ويندرج ضمن مفهوم الأمانة أمانة الحُكم والمسؤوليّة فعليكم أن تُعطوها لمن يستحقُّها. أي يجب أن يكون جديرًا بها وأهلاً لها. ومن الطبيعي أنّ المغتصب للسُلطة يرى نفسه جديرًا بالسُلطة وأهلاً لها ولكن الناس لا يرونه كذلك، وإلا لَسَعوا إليه يطلبون منه أن يتسلم هذه الأمانة لأنهم يرونه مناسبًا لها وأهلاً لها. وهذا لا يتمُّ إلا إذا امتلك الناس حريّتهم وكانوا قادرين على اختيار حاكِمهم بأنفسهم، وهذا لا يتوفّر في ظل أنظمةٍ انقلابيّة مُغتصبة للسُلطة. إذن تطلب الآية السابقة من المسلمين إن كانوا حُكامًا أن يكونوا عادلين أُمناء وأن لا يَسعَوا إلى اغتصاب السلطة، لأنّ الحُكم بالعدل يعني بالإضافة إلى استخدام العدل في الحكم كذلك الوصول إلى الحُكم بالعدل أي بالحق وليس بالظلم، أي أن يكون العدل القسط وسيلةً للوصول إلى السلطة وكذلك وسيلته في ممارسته لها، وتطلب منهم إن كانوا محكومين أن يختاروا من هو أهلٌ للأمانة وأن يكونوا عادلين في اختيارهم لا يدفعهم إلى اختياره شيءٌ غير الحق والاستحقاق.

كذلك نجدُ أنّ القرآن الكريم يأمر المؤمنين أن يكونوا مُطيعين لمن يَلِي أمرهم فيقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (النساء: 60)

فالطاعة لله أولاً ثم للرسول ثم لأُولي الأمر، فعلى المسلم أن يُطيع القوانين في بلاده وعليه أن لا يخرِقها بحجّة أنّ من وضعها ليس بمسلم، لأنّ المرجع في الاختلاف هو الله والرسول، فإن كان فيما يأمر به وليُّ الأمر ما يُخالف الكتاب والسُنّة فيجب على المسلم أن لا يأخذ به، أما ما لا يتعارض مع الكتاب والسُنّة مما شرَّعه وليُّ الأمر فيجب على المسلم أن يأخذ به وأن يكون مُطيعًا لأنّ في ذلك طاعةً لله وللرسول. وبذلك تُقرِّر الآية أن المؤمن حقًّا والمطيع لله والرسول حقًّا هو من يُطيع ولي الأمر فيما لا يخالف الله ورسوله.

كذلك فقد حذَّر القرآن الكريم من بعض التصرُّفات التي تضرُّ بالحُكام والمحكومين على السواء كالرشوة التي تُدفع للحُكّام لظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل. وفي هذه الآية خطابٌ وتحذيرٌ للمسلمين بصفتهم محكومين وفيها إشارةٌ إلى مرضٍ خطير يُفسد الحُكم ويفسد المجتمع بأكمله:

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 189)

أما فيما يخصُّ الشريعة التي استُخدِمت في كثير من الأحيان كذريعةٍ تتذرَّعُ فيها بعض الجماعات الإسلاميّة في محاربة أنظمة الحُكم في بلادها، حيث إنّ هذه الجماعات تعتقد بأنّ القرآن يحتوي جملة قوانين شاملة وأنّ أنظمة الحُكم لا تستخدم هذه القوانين وإنّما تستخدم قوانين وضعيّة وضعها غير المسلمين، ويقولون إنهم لا يحكُمون بما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسِقون والكافرون والظالمون، لذلك فيجب مُحاربتهم وقتلهم كونهم كفارًا مرتدّين فاسقين ظالمين.

نقول أولاً إنّ من يدَّعي أن القرآن الكريم يحتوي نصوصًا وآياتٍ تفصيليّة تكون بمثابة قوانين يمكن الرجوع إليها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة مما يُصادف الناس ويستجدُّ في حياتهم بأنّ عليه أن يُشير إلى مكان هذه النصوص والآيات في القرآن الكريم، إن القرآن الكريم وضع أحكامًا محددة لبعض الأمور التي لا تتغيّر بتغيُّر الزمان واختلاف المجتمعات وأوصى المسلمين أن يحاولوا إنفاذَ هذه الأحكام كأحكام الميراث، ومن المعلوم ان القرآن الكريم قد أوصى المسلمين بترك الوصيّة وهذه الوصيّة يجب أن تتبع ما أوصى به الله في القسمة بين الورثة، وقد شدَّد القرآن الكريم على أن لا يُظلم موَّرِثٌ وريثًا ومن المعلوم أنّ معظم الدول الإسلاميّة تُطبِّقُ أحكام القرآن الكريم في قوانين الميراث، أما إذا كان المسلم خارج البلاد الإسلامية فعليه أن يُعِدَّ وصيةً يوصي بها بما شرَّع الله، فالقوانين في كل دول العالم تسمح للمورِّث أن يُوصي بما ترك لمن شاء كيفما يشاء، لذلك ليَخترَ هو مما حكمَ به الله في القرآن الكريم، وعندئذٍ يكون قد تحقَّق العدل وتمَّ إنفاذُ ما شرَّعه الله. كما نصَّ القرآن الكريم على عقوبة الزنا والسرقة وهاتان الجريمتان باقيتان بقاءَ الجنس البشري على الأرض وضررهما مستمرٌّ ودائمٌ كما أوضحنا سابقًا، وفيما دون ذلك فلقد دعا القرآن إلى توخّي أداء الأمانات إلى أهلها وإلى العدل بين الناس، أي أنّه أقرَّ بأنّ الناس يمكن أن يَسنُّوا الشرائع التي تلائم ظروفهم والتي تنبُع من روح العدل والأمانة وعند ذلك تكون هذه الأحكام أحكامًا إسلاميّة يُقرّها الإسلام ويرضى بها، وهذا في واقع الأمر إنّما هو جانبٌ مضيء في هذا الدين الحنيف الذي يتضَّح أنّه دينٌ للعالمـِين ولكل زمان ومكان، وبهذا يكون الإسلام مُكتسبًا قدرةً على هضم كل ما هو جيد ونافع للناس وطبعِهِ بطابَعِهِ، كما يُتيح كذلك للمسلمين اتِّباع أحسن الأمور والسعي دائمًا للرُّقي بحياتهم ومجتمعاتهم ومعالجة كل ما يطرأ بقوانين عصريّة مُلائمة.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه النظر في الآية التالية:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة: 34)

فما هو الحكم الذي تتضمَّنه هذه الآية أهو القتل أم الصلب؟ أم تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أم النفي من الأرض؟، إنّ هذه الآية إنّما تؤكِّد أن لديكم الخيار في اختيار الحُكم المناسب وفق ما يقتضيه الظرف وهذا الحُكم يتراوح بين أشدّ العقوبات وهي الإعدام وأدناها وهي النفي، أفلا ترونَ في ذلك دعوةً إلى استنباط القوانين وإلى الحُكم وفق ما يقتضيه الظرف بالعدل والأمانة؟.

فإذا عُدنا إلى ما قاله القرآن الكريم حول نظام الحُكم فسنجد أنّه لا يوجد في القرآن الكريم أيُّ تحديدٍ لطبيعة نظام الحُكم الذي يجب أن يسود البلاد الإسلاميّة، وإنّما يوجد ذكرٌ لإطارٍ واسع يمكن أن تنطوي تحته كل أنظمة الحُكم التي عرفتها البشريّة أو ربما لم تعرفها حتى الآن، وهذا الإطار الذي يجب أن يُميّز هذه النُظم هو العدل المطلق والأمانة.

أما المؤسسة التي أسَّسها الإسلام ودعا إلى الالتزام بها إنّما هي جماعة المسلمين التي يجب على كل المسلمين أن ينتموا لها وأن يحرصوا على أن لا ينحرفوا عنها قيد أُنملة لأنّ في ذلك هلاكًا لهم لا محالة وتشتيتًا لقواهم التي يجب أن تسعى لتحقيق الخير والسلام لهم وللبشريّة جمعاء. ولقد وضَّح الرسول أهمية هذه الجماعة وضرورة لزومها خاصةً في زمن الفتن حيث ورد في حديث حُذيفة بن اليمان أنه قال:

  كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المـُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.

فهل من المنطق أن يفعل المسلم هذا بأنّ يعضَّ على أصل شجرة حتى يموت؟!، إنّ ما أراده المصطفى هو أن يؤكِّد على المسلم أن يحرص على الانتماء إلى هذه الجماعة وإلا فالهلاك أفضل له لأنه هالكٌ إذا لم يكن منها، كذلك يؤكِّد المصطفى أنّ الجماعة لا بدَّ أن تكون موجودة وعلى المسلم أن يسعى السعي الحثيث ليجدها ويلتحق بها، وقد حدَّد النبي أيضًا وصفها واسمها وأنّه يكون لها إمام كما كانت الجماعة في زمنه حيث كان هو الإمام ثم جاء من بعده الأئمة الخلفاء الذين ساروا على نهجه.

ونجد في الحديث الشريف جملة أحاديث تدعو إلى الالتزام بالجماعة نذكر منها قوله :

“نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَحَمَلَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ فِيهِ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ”. (مسند الإمام أحمد – باقي مسند المكثرين)

  ونرى في هذا الحديث أنّ على المسلم أن يلزم الجماعة ولا يوجد أي حديث ما يشير إلى أنّه على المسلمين أن يسعوا إلى تأسيسها مما يُعطي هذه الجماعة ميّزة لا تتمتَّع بها جماعةٌ غيرها ألا وهي أن تأسيسها يكون بيد الله وبأعيُنه ويكون ذلك عمله هو جلا وعلّا، لذلك لا تحاولوا تأسيسها وإنّما ابحثوا عنها والتحقوا بها، أما الجماعات والأحزاب الأخرى إنما تؤسَّس بيد البشر وفي معظمها تكون نشأتها مرتبطة بظروف سياسيّة واجتماعيّة خاصةً بمجتمع دون غيره ومن المؤكّد أن نظرتها وفكرها سيكون محدودًا بمعالجة هذه الظروف، وما ادِّعاؤها الإسلام إلا ذريعةً لالتفاف الناس من حولها ولاكتساب تعاطف المسلمين.

كذلك فقد بيّن المصطفى في أحاديث كثيرة أن الفرقة الناجية من بين كل الفرق التي ستتجزأ إليها الأمة الإسلاميّة ستكون “الجماعة” وفي ذلك إشارة إلى اسمها كما ورد في الأحاديث التالية:

“إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَتَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ، الْجَمَاعَةُ” (مسند الإمام أحمد – باقي مسند المكثرين)

” افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ. (ابن ماجة – الفتن)

” إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ: الْجَمَاعَةُ” (ابن ماجة-الفتن)

ولقد شدَّد الإسلام على التآخي والتآلف بين المسلمين وأسَّس جماعة المسلمين أولاً بقيادة النبي ثم الخلفاء من بعده وأمر بأن يكون المسلمون كالبنيان المرصوص الذي يشدُّ بعضه بعضًا وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ونظر إلى جماعة المسلمين كملاذٍ أخير للحق والعدل وكمنبع ومصنع يمكن أن ينتج دولاً وحكّامًا ومواطنين صالحين يكونون نموذجًا للبشريّة.

إنّ الجماعة الإسلاميّة إنّما هي غاية الرسالة الإسلاميّة، وهي وسيلةٌ لإظهار جماله وجلاله ومزاياه الفريدة، فبدون الجماعة يبقى الإسلام مجرّد أفكار لا تجد إطارًا ماديًّا لتطبيقها ويصبح المسلمون مجرَّد أفراد لا يجمعهم إطار ولا يوحِّدهم توجّه فالجماعة هي الإطار والإمام هو القائد لتوحيد التوجُّه وتصحيح العقدية وتجديدها وصيانتها والمحافظة عليها.

والإسلام الذي جاء للناس كافة ولا يمكن أن نتصوَّر أنّه جاء لتأسيس كيان سياسي يجمع كل الناس في النهاية في قطرٍ واحد مترامي الأطراف، ومن الواضح أنّ القرآن الكريم والدين الإسلامي لم يُنصَّا على إقامة هذا الكيان ومن غير المعقول أن يتم تحجيم جماعة المسلمين ووضعها ضمن إطار قومي سياسي لأنَّ في ذلك حدًّا من دورها وتضييقًا له، فالإسلام هو دين الله الحق وهو ليس بحركةٍ سياسيّة تسعى لإنشاء نُظمٍ ودول لمصلحة أمةٍ بعينها أو مجموعةٍ من الأُمم المتحالفة، والجماعة الإسلاميّة أكبر وأجلُّ من أن تحدَّها حدود وهي أشبه ما تكون برحمٍ عُظمى يمكن أن تولِّدَ أنظمةً عادلة نافعةً للبشرية وتحقق النفع لكلّ أمة حسب ظروفها وتُعطيها ما يُناسبها، بينما لو قُيِّدت بكيانٍ سياسي أو دولة لما لعبت الجماعة هذا الدور المقدَّر لها، فإذا تصوَّرنا مثلاً نشوء هذا الكيان الديني السياسي فلو نشبَ خلافٌ بين هذا الكيان وبين دولةٍ أخرى تحوي الكثير من المسلمين فهل يجب على هذه الدولة أن تعتبر مواطنيها من المسلمين رعايا دولةٍ معادية؟ وهل على الدولة الإسلاميّة أن تطلب من هؤلاء المسلمين أن يُحاربوا دولتهم لأنّ انتماءهم الأساسي يجب أن يكون للدولة الإسلامية التي قائدها هو الخليفة ولا يمكن لمسلم أن يعصي أمر الخليفة الذي يُمثّل الرسول ؟ إنّ الجماعة الإسلامية يمكن أن تلعب دورًا هامًا في معالجة الخلافات بين فئتين أو دولتين مسلمتين وكون هذه الجماعة قاسمًا مشتركًا بين دول عديدة رعاياها من المسلمين فإنّها ستكون قادرة على إخماد الفتن وإطفاء الحروب بين الدول وهذا ما أوصى به الله في الآية الكريمة:

  وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الحجرات: 10)

فقد اشتملت هذه الآية على الأسس التي يجب أن يتبعها المؤمنون في معالجة الاقتتال بينهم، ونلاحظ أنّ هذه الآية تُخاطب المؤمنين وكأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الخطاب ليس موجّهًا إلى دولةٍ ثالثة ليست طرفًا في النزاع أو مجموعة دول وإنما إلى جماعة المؤمنين وخليفتهم الذي هو “أمير المؤمنين”، وإلا كان من الأجدر أن تقول هذه الآية “وإن طائفتان من المسلمين اقتتلوا” فلماذا تذكر صفة المؤمنين في موقفٍ لا تكون صفة الإيمان هي أبرز ما يمكن أن يتصف به طرفان متحاربان؟، إنّ في ذلك إشارة إلى أنّ جماعة المؤمنين وأمير المؤمنين إنما هم كيان ينتمي إليه كل المسلمين وهذه الجماعة لا تنتمي إلى فئةٍ معينة أو بلادٍ معينة وتكون في معزلٍ عن ذلك، وبذلك تؤدّي دورًا رائعًا وهامًا في الإصلاح بين كيانات وفئات من المسلمين قد يظلم بعضها بعضًا وعلى الجماعة أن تنصر المظلوم وتأخذ على يد الظالم، وفيما إذا قويت الجماعة ولعبت دورها المقدَّر لها فسيعمُّ السلام وستضع الحروب أوزارها، ولعل في ذلك إشارةً إلى أنّ الإمام المهدي والمسيح الموعود الذي سيؤسِّس جماعة المسلمين بأمرٍ من الله سينجح في ذلك نجاحًا عظيمًا وستكون الجماعة قادرةً على وضع الحرب مصداقًا لما أخبر به الرسول الكريم.

وإذا عُدنا إلى سيرة الأنبياء السابقين نجد أنهم لم يكونوا سلاطين دنيا ولم يسعوا إلى إنشاء دول حكومات وإنما كانوا سلاطين ممالك روحانيّة تعيش في ظلِّ نُظمٍ سياسيّة مختلفة وكانوا باستمرار يحاولون الارتقاء بحياة الناس الروحيّة وبأخلاقهم عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة ولم يحاولوا قلب نظام الحُكم ولم يكن ذلك من طموحاتهم، وإنّ دمج السلطان الدنيوي والروحيّ لم يتحقَّق إلا في حالاتٍ نادرة مثل حالة داود وسليمان عليهما السلام الذين كانا نبيّين وملكين وفي حالة المصطفى حيث طرأت بمجيئه تغيُّرات كبيرة على وجه الأرض استلزمت عظمة رسالته ولظروفٍ موضوعيّة عالميّة في تلك الفترة كانت تستلزم عدم جعل المسلمين الأوائل يقبعون تحت سلطان دولةٍ من دول العصور الوسطى في بداية الدعوة الإسلاميّة وفي مهد الإسلام وأرضه الأولى لكي يتسنّى للإسلام أن يظهر بمظهره الجلالي الذي يُثبت أنّه كفِكرة قادرٌ على أن يفعل الكثير، وأنّ أتباعه الذين كانوا في بادئ الأمر من قومٍ لا يقدرون على حُكم أنفسهم وتتنازعهم أطماع الدول الكُبرى في ذلك الوقت ويتقاتلون فيما بينهم لأتفه الأسباب ولا سبيل لخروجهم من هذا التنازع الذي أودى بحياة الكثيرين منهم، كل ذلك من التمزُّق وسوء الحال والتشرذم بعد اعتناقهم الإسلام جعلهم الإسلام في مقدمة الأُمم، وجعل منهم أئمةً استطاعوا أن يضربوا أروع الأمثلة للحاكم المسلم العادل بعد أن عاينت الدنيا أصنافًا من الحُكّام الذين ألحقوا الضرر بشعوبهم وبالأُمم الأخرى التي تليهم نتيجة أطماعهم الدنيويّة ونزواتهم في الاعتداء والاغتصاب وتوسيع الملك والسلطان.

وكثيراً ما أبرز التاريخ ما كان يترتب عليه دمج السلطة الدنيويّة والروحيّة من عواقب وخيمة على جماعات الأنبياء نتيجة طمع بعض الأتباع في السُلطان الدنيوي، فيَسعون إلى الحصول عليه وتثبيته بمحاولة الاستيلاء على السلطان الروحيّ، وكذلك يسعون في حالاتٍ كثيرة إلى تحريف التعاليم لتؤيِّد سلطتهم مما يقوِّض السلطة الروحيّة ويخرجها من مضمونها وبالتالي يؤدِّي ذلك في النهاية إلى تمزيق الكيان السياسي الذي استمدَّ سلطته من هذا النظام الروحيّ، لذلك فسُرعان ما ضعفت ثم سقطت دولة اليهود بعد سليمان، وسرعان ما تنافس المتنافسون على السُلطان المادي من المسلمين وقامت بعض الحروب بعد انتهاء الخلافة الراشدة واستولى بنو أميّة على الحُكم والخلافة ومن بعدهم بنو العباس ومن بعدهم الأتراك العُثمانيون الذين بسقوطهم تم إلغاء الخلافة حيث اعتبرها الأتراك سببًا في تخلُّفهم، وبانتهاء هذه الدول كان الإسلام في حالٍ يُرثى لها.

ويجب ألا يُفهم أننا ندعو المسلمين إلى عدم أخذ أسباب القوة أو إلى الخنوع وإنّما نحن في ذلك نوضِّح أنّه قد آن الأوان ليتجرَّد الدين من الأعباء والأطماع والشوائب الدنيويّة، وآن له أن يظهر في صورته الصحيحة التي شوَّهها التاريخ ودمَّر ملامحها

وعلى الرغم من قيام هذه الممالك بخدمةٍ جليلة للمسلمين من توفير مَنعةٍ واستقرار وأمنٍ في ديارهم على دينهم ونفوسهم وممتلكاتهم وما قامت به هذه الممالك من فتوحات إلا أنها تركت أثرًا بالغًا على الدين وأدّت إلى إضعافه في النفوس نتيجة استخدامه كوسيلةٍ للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، حيث إنّ الكثير من هؤلاء السلاطين كانوا طُلاب دنيا إلا من رحِمَ ربي.

لذلك أراد الله في هذا الزمان الذي شاء فيه أن يظهر الإسلام على الدين كله وأن ينتصر نصرًا مُؤزَّرًا أن يُعالج هذه النُقطة بفصل السُلطان الماديّ عن الروحي نهائيًّا، واقتضت حكمته تبارك وتعالى أن يُنشئ الجماعة الإسلاميّة بمعزلٍ عن الكيانات السياسيّة وعلى أُسسٍ روحيّة راسخة لا يشوبها شائبة دنيويّة، فأرسل الله الإمام المهدي الذي بشَّر به المصطفى وذكر بأنه لا يأخذ الجزية في إشارةٍ واضحة إلى أنّه لا يتمتّع بسلطانٍ دنيويّ وإنّما يكون إمام جماعة المسلمين والوريث الروحيّ للمصطفى فالجزية ضريبةٌ يأخذها حاكمٌ مسلم من رعاياه من غير المسلمين كمساهمةٍ في مصاريف الدولة بصفتهم مواطنين فيها ومقابل توفير الحماية والرعاية لهم وهي حكمٌ أنزله الله لا يمكن أن يُلغيه أيُّ خليفة أو حاكم، لذلك فيقتضي عدم أخذها من قِبَل الإمام المهدي عدم كونه حاكمًا ماديًّا بالضرورة.

إنّ المنطق يفرض في هذا الزمان أن يكون إمام الجماعة الإسلاميّة ليس بحاكم دنيوي وإنّه وإن كان قد حدث ذلك في فترةٍ معينة وهي فترةٌ هامة من تاريخ الإسلام فيجب النظر إلى هذه الحالة على أنها حالةٌ خاصة اقتضتها ظروفٌ معيّنة، لأنّ الإسلام الذي جاء للناس كافة لا يمكن أن يكون نظام دولةٍ واحدة كلُّ من دخل الإسلام يجب أن يكون مواطنًا فيها، وإنّما يفترض في كل من دخل الإسلام أن يتّبع إمامًا روحيًّا وبذلك يكون من جماعة المسلمين، ويكون من هذه الجماعة ملوكٌ وحُكام ومواطنون من شتّى الأُمم يحكمون بالعدل ويعملون لمصلحة البشريّة جمعاء فيحلُّ السلام في الأرض وتُملأ عدلاً بعد أن مُلِئت ظلمًا وجورًا وتُشرق الأرض بنور ربِّها، أما النُظم السياسيّة التي تقوم على أُسسٍ دنيويّة ومن قِبَل أشخاصٍ وجماعاتٍ دنيويّة فهي تُحقِّق ازدهارًا لأمةٍ على حساب أُممٍ أخرى الأمر الذي لا يمكن أن يكون في دين الله الحق الذي لا يُفرِّق بين الناس والذي يسعى لخير البشريّة جمعاء.

ويجب ألا يُفهم أننا ندعو المسلمين إلى عدم أخذ أسباب القوة أو إلى الخنوع وإنّما نحن في ذلك نوضِّح أنّه قد آن الأوان ليتجرَّد الدين من الأعباء والأطماع والشوائب الدنيويّة، وآن له أن يظهر في صورته الصحيحة التي شوَّهها التاريخ ودمَّر ملامحها، ولقد ولّى زمانُ امتطاء الدين وتذليله ليكون وسيلةً للحصول على السلطات الدنيويّة، ولَكَمْ مُنِيَ الذين حاولوا ذلك في هذا العصر استخدام الدين لغاياتهم الدنيوية بهزائم نكراء وبفشلٍ ذريع، وعلى من يطمح من المسلمين تأسيس كياناتٍ ودول منيعة وتحقيق حياةٍ أفضل لإخوانهم أن يلتحقوا بجماعة المسلمين وأن يلتزموا بما أمر به الله ورسوله وبما يأمر به إمام الجماعة من الحق والعدل والمعروف، وعندئذٍ سيتكفّل الله بإنجاح مقاصدهم وسيهديهم إلى سواء السبيل وإلى ما فيه الخير لهم وللمسلمين وسيساعدهم الله تعالى على اختيار نُظمٍ تُحقّق الحقّ والعدل وتجلب الازدهار والرفاهية، فكثيرًا ما خُدِع الناس بالأمثلة التاريخيّة للدول في صدر الإسلام والمتصفح للتاريخ يُدرك بأنّ هذه الدول إنّما كانت ممالك وراثيّة حدث أن سَفَكت دماء بعض المسلمين المعارضين واستخدمت العنف والقمع معهم، بينما لم يكن ذلك في زمن الخلفاء الراشدين الذين كانوا رضي الله عنهم أئمة جماعة المسلمين وحُكّامًا، حيث كان العدل والتقوى والزهد سِمَتهم وسِمة عصورهم.

ونحن في هذا الزمان الذي تشتت فيه المسلمون وذاقوا ويلاتٍ على يد أعدائهم، وأصبحوا غُثاءً كغُثاء السيل، قد أكرمنا الله ببعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود وأنشأ الله تعالى جماعة المسلمين من جديد، وانتشرت الجماعة في كل أقطار الأرض ولا تزال تنتشر بوتيرةٍ عالية وسرعةٍ مذهلة بفضل الله، ويا حبَّذا لو يشهد الناس الاجتماع السنوي للجماعة الإسلامية الأحمدية حيث يلتقي أفراد الجماعة من كل مكان كلٌّ يرتدي لباسه القومي يُكبِّرون الله ويصلُّون ويُسلِّمون على رسول الله، ويُردِّدون البيعة مع إمامهم أمير المؤمنين كلٌّ بلغته ليُظهروا صورة الجماعة التي أرادها الله والتي على يدها بإذن الله سيظهر الإسلام على الدين كله وإنّ ذلك لَقريبٌ إن شاء الله.

ولا يظُننَّ أحدٌ بأن جماعة المسلمين في هذه الصورة دون دولةٍ وجيشٍ قوي إنّما هي حركةٌ ضعيفة لا تلبث أن تتبدَّد ومن السهل أن تُدمَّر من قِبَل أعدائِها، فهذا غير صحيح مُطلقًا لأسبابٍ عدّة، من أهمها أنّ الله الذي أنشأ هذه الجماعة قادرٌ على حمايتها وصونها من أعدائِها بوسائل وآيات سماويّة شهِدنا منها الكثير وإن كان كثيرٌ من الناس عن آياتِ ربّهم لغافلين، وهذا مِصداقٌ لما أخبر به المصطفى من أنّ الإمام المهدي مزوَّدٌ بحربةٍ سماويّة، وهذه الحربة ليست إلا الوسائل السماويّة للنُصرةِ التي خصَّهُ الله بها، كذلك فإنّ التركيب العضوي للجماعة يجعل من استئصالها أمرًا مستحيلاً إذ لو أراد أعداؤها القضاء عليها في دولةٍ أو مجموعةٍ من الدول فإنّ أرض الله واسعةٌ وأفراد الجماعة في كل مكان مستعدون لتقديم المساعدة لإخوانهم المهاجرين، كما أنّ العالَم يتمتّع الآن بقدرٍ لا بأس به من حرية الاعتقاد التي تُتيح للناس اعتناق ما يشاءون من الأديان والمذاهب، بينما نرى أن الدول يمكن القضاء عليها قضاءً مُبرمًا، وكثيرًا ما قامت ممالكٌ على ممالك ودولٌ على دولٍ وكثيرٌ ما اختفت عن وجه الأرض ممالكٌ عظيمة ولم يبقَ لها أثرٌ بعد سنواتٍ وعقودٍ من المجد والازدهار.

فماذا يريد المسلمون أكثر من أن تكون لهم جماعةٌ تضمُّهم وتجعلهم يدًا واحدة قوية مؤيَّدة من الله القدير الذي كان ولا يزال ينصر عِباده المؤمنين، وإنّ الله تعالى كان في كل مرة يدافع عن الجماعة التي أنشأها بيده ويُحقِّق وعده بالنصر والأمن، وعلى المسلمين أن يعلموا بأن هذه هي الفرقة الناجية فعليهم أن يلتحقوا بها، وعليهم أن لا يُشتِّتوا جهودهم ويستنفدوا قواهم في سُبلٍ لن تعود بالنفع عليهم، هذا ما أراده الله، وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن تكون لهم الخِيرةُ من أمرهم فإن كنتم تُحِبُّون الله فاتّبِعوا ما أنزلَ الله يُحبِبْكُم الله ويغفر لكم من ذنوبكم وعلى الله فتوكَّلوا إنّه نِعمَ المولى ونِعمَ النصير.

Share via
تابعونا على الفايس بوك