إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

الإغراق

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعًا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارئ اليوم بعضًا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

 

بين الإغراق في المدح والإغراق في الذم تموت الحقيقة موتًا لا حياة لها من بعده إلى يوم يبعثون. يسمع السامع أن زيدًا ملك كريم، ثم يسمع أنه شيطان رجيم، فيخرج منه صفر اليدين، لا يعلم أين مكانه من هذين الطرفين. يقولون إن المشعوذين إذا أرادوا أن يسحروا أعين الناس علقوا في سقف من السقوف قطعة من المغناطيس ووضعوا مقابلها في الأرض قطعة أخرى ثم يتركون في الفضاء قطعة من الحديد لا تزال تضطرب بين هذين الجاذبين.

هكذا تضطرب الحقيقة في أيدي المغرقين اضطراب الحديد في أيدي المشعوذين. الحقيقة بين الكاذب والكاذب، كالحبل بين الجاذب والجاذب، كلاهما ينتهي به الأمر إلى الانقطاع. لو علم الذي ينصب نفسه للموازنة بين الأشخاص أنه جالس على كرسي القضاء، وأن الناس سيأسلونه عما قال، كما يسألون القاضي عما حكم، ما طاش سهمه في حكمه، ولا ركب متن الغلو في تقديره.

كما أنه يجب على القاضي أن يقدر لكل جريمة ما يناسبها من العقوبة، كذلك يجب على الكاتب أن يضع كل شخص في المنزلة التي وضعته فطرته فيها، وأن لا يعلو به فوق قدره، ولا ينزل به دون منزلته. ليس بين كُتّاب هذا العصر من لم يقرأ في التاريخ القديم متناقضات الحكم على الأشخاص، وليس بينهم من لم يتمن أن يكون في موضع أولئك المؤرخين المتطرفين، حتى لا يغلو غلوهم، ولا يتطرف تطرفهم في أحكامهم.

أيها الكُتّاب المحزونون: لا يحزنكم ما كان، فقضى ذلك الزمان بخيره وشره، ولا سبيل إلى رجوعه، ولئن فاتكم أن تكونوا مؤرخي العصرالماضي، فلن يفوتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الحاضر، وكما أن للماضي مستقبلاً وهو حاضركم هذا، فسيكون لهذا الحاضر مستقبل آت يحاسبكم فيه رجاله على إغراقكم في أحكامكم، كما تحاسبون اليوم رجال الماضي على غلوهم في أحكامهم، وتطرفهم في آرائهم. إن من المتناقض بين أقوالكم وأعمالكم أن تنقموا من المؤرخين المتقدمين ما أنتم فاعلون اليوم، وتأخذوا عليهم ما أنتم به آخذون. كل كاتب عندكم أكتب الكُتَّاب وكل شاعر أشعر الشعراء، وكل مؤلف أعلم العلماء، وكل خطيب رئيس الأمة؛ وكل فقيه إمام الدين، فأين الفاضل والمفضول؟ وأين الرئيس والمرؤوس، وكيف يكون زيد اليوم أفضل من عمرو، ويكون عمرو غدًا أفضل منه؛ وأين ملكة التمييز التي وهبكم الله إياها لتميزوا بها بين درجات الناس ومنازلهم؟ وهل بلغ التفاوت بينكم في عقولكم وأذواقكم أن يكون الرجل الواحد في نظر بعضكم خير الناس وفي نظر البعض الآخر شر الناس؟! إني حبست الآن قلمي عن الكتابة لأتجرد من نفسي ساعة من الزمان، فتخيلت كأني رجل من رجال العصور الآتية، وأني ذهبت إلى دار من دور الكتب القديمة لأراجع تاريخ أحد عظماء عصركم هذا، فقرأت ما كتبتموه عنه في كتبكم وجرائدكم، فرأيته تارة عظيمًا وأخرى حقيرًا، ومرة شريفًا، ومرة وضيعًا، ورأيته عالمـًا وجاهلاً، وذكيًّا وغبيًّا، وعاقلاً وممرورًا* في آن واحد فخرجت أضل مما دخلت، لا أعرف من تاريخ الرجل أكثر من أنه رجل، أي أنه ذكر بالغ من بني آدم!

أيها القوم: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا رجالاً عادلين في أحكامكم وآرائكم، إلا إذا أصلحتم نفوسكم أولاً، وتعلمتم كيف تستطيعون أن تتجردوا من أهوائكم وأغراضكم قبل أن تتناولوا أقلامكم.

أيها القوم: إن عجزتم عن أن تكونوا عادلين، فكونوا راحمين؛ فارحموا أنفسكم واعفوها من الدخول في مآزق أنتم عاجزون عنها، وارحمونا فقد ضاقت صدورنا بهذه المتناقضات، وسئمت نفوسنا تلك المبالغات.

*الممرور: المصاب بخبل في عقله.

(النظرات، الجزء الثاني)

Share via
تابعونا على الفايس بوك