إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

العلماء والجهلاء

 

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعًا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارئ اليوم بعضًا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

 

لا تحسبن أن الفلسفة الاصطلاحية مطلب من المطالب التي لا ترام، أو أن بين من نسميهم العلماء ومن نسميهم الجهلاء ذلك الفرق العظيم الذي يتصوره الناس عندما يرون التفريق بينهما، وإنزالهما منازلهما، فالعلماء والجهلاء -إن دققت النظر- سواء لا فرق بينهما إلا أن هؤلاء يعلمون المعلومات منظمة، وأولئك يعلمونها مبعثرة، وإن هؤلاء يحسنون البيان عنها وأولئك لا يبينون. ومن نظر إلى الأشياء نظرًا نافذًا وجد أن المعاني الصحيحة، والقضايا الكونية المتعلقة بالخير والشر والنفع والضرر، والمسائل المنوطة بالإنسان في حياتيه المادية والمعنوية، يشترك في العلم بها الناس جميعًا عامتهم وخاصتهم، كبارهم وصغارهم، من نشأ تحت سقوف الجامعات ومن عاش تحت سقوف السماوات، لأن العلم ينبوع يفور من الداخل، لا سيل يتدفق من الخارج، ولأن المعلومات كامنة في النفوس كمون النار في الزند، والقوة في المادة، وما وظيفة العلم الا استثارتها من مكانها، وبعثها من مرقدها. وآية ذلك أنك لا تجد حكمة من الحكم التي يفخر بها العلماء ويعدونها مظهر علمهم وآية فضلهم، إلا وترى في ألسنة العامة وشوارد أقوالها وأمثالها ما يرادفها ويشاكلها، كما أنك لا تجد قاعدة من قواعد الأدب، ولا قضية من قضايا الأخلاق التي تعدها من ذخائر الأسفار ونفائس الأعلاق، إلا وهي ملقاة تحت أقدام العامة، وذلة بين أيدي الغوغاء والأميين.

وعندي أنه لولا عجز العامة عن بيان ما يجول في خواطرهم ويهجس في ضمائرهم من المعلومات على صورة مرتبة منظمة لما خيل إليهم أنهم يسمعون من الخاصة كلامًا عجيبًا، أو معنى غريبًا.

ليس هذه الغبطة التي نراها تعلق بنفوسهم عندما يتلقون أحاديث الخاصة من أجل أنهم علموا ما لم يكونوا يعلمون، أو أدركوا ما لا عهد لهم به من قبل، بل لأنهم ظفروا بمن يترجم عن أفكارهم، ويجمع لهم شتات المعاني المبعثرة في أنحاء أدمغتهم، ولأنهم وجدوا في أنفسهم لذة الأنس بأفكار تشابه أفكارهم، وآراءهم.

ولا أخشى بأسًا إن قلت: أن علم العامة أفضل من علم الخاصة لأنه أولا علم خالص من شائبة التكلف والتعمل، حتى أنك لتجد في بعض الأحايين بين معلومات الخاصة ومذاهبهم وآرائهم ما يضحك الثكلى لغرابته وشذوذه، وما يترفع أضيق العامة ذهنًا وأضعفهم فهمًا أن يجعل له شأنًا، أو يقيم له وزنًا؛ وثانيًا:

لأنه يعلق بالنفس ويتغلغل بين أطوائها تغلغلاً تظهر آثاره على الجوارح، وكثيرًا ما تجد بين الجهلاء من تحجبك استقامته وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، وإن كان صحيحًا ما يقولون من أن العلم ما ينتفع به صاحبه فكثير من الجهلاء أعلم من كثير من العلماء.

فلا تبالغ في تقدير فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ولا تنظر إليهم نظرًا يملأ قلبك رهبة ولا تغل في احتقار الجهلاء وازدراء العامة والدهماء ولا تكن ممن يقضون حياتهم أسرى العناوين وعبيد الألقاب.

إن في اختلاف الحقائق الكونية وتنكرها، وضلال هذا العالم في مذاهبه ومراميه، وتفرقه مذاهب وشيعًا، وركوب كل فريق رأسه، وهيامه على وجهه، ووقوف طلاب الحقيقة في كل دهر وعصر في مفارق الطرق ورؤوس المسالك حيارى -ينشدون فلا يجدون ويجدون فلا يصلون- لدليلاً على أن الفلاسفة والحكماء والعلماء كلمات غير مفهومة وأسماء بلا مسميات، وأن حقائق الأشياء وأسرار الكائنات قد استأثر الله بعلمها واحتجنها من دون عباده، ولم يمنحهم إلا بلة تزيدهم وجدًا كلما وجدوا بردها وتملأ قلوبهم شوقًا كلما تذوقوا وجدًا كلما وجدوا بردها وتملأ قلوبهم شوقًا كلما تذوقوا طعمها:

ضريبك في بني الدنيا كثير وعز ربك من ضريب

وما العلماء والجهلاء إلا قريب حين تنظر من قريب

(النظرات، الجزء الثاني)

Share via
تابعونا على الفايس بوك