قال الله تعالى في القرآن الكريم:
وقوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يعني آمنوا بما أنزلت من الكلام الذي يصدِّق ما عندكم.. أي أن هذا الكلام يحقق نبأ موسى الوارد في سفر (تثنية 18:18)، وكذلك أنباء الأنبياء الآخرين من بني إسرائيل. فالتصديق بهذا الكلام ومن نزل عليه يكون تصديقا لأسفاركم السابقة وعملا بها؛ وتكذيبه يعتبر تكذيبا ورفضا لها. فكأن الذي يؤمن بما يقدمه له محمد رسول الله من وحي قرآني.. يؤمن بموسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل لأنهم الذين أنبأوا بمجيئه، ومن رفض الكلام المنـزل على محمد فكـأنما رفض موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل، لأنه يرفض تحقق كلامهم.. فلن يستحق النعمة المترتبة على التصديق والإيمان بهم.
ولغير المسلم أن يسأل: هل لموسى ومَن بعده مِن الأنبياء نبأ بمجيء نبي تحقّقَ ببعثة محمد ؟ والجواب أن كل أمة من الدنيا قد أُخبرت بمجيء نبي آخر الزمان، مع بيان بعض علاماته التي تحققت في شخص محمد رسول الله ، وخاصة أنباء أنبياء بني إسرائيل التي تواترت بكثرة بحيث يمكن للإنسان أن يصنف كتابا ضخما عنها. وحيث إن هذه الآية لم تتناول ذكر نبوءات جميع الأنبياء والأديان، لذلك لن أتناولها، وإنما أكتفي بذكر نبوءات أنبياء بني إسرائيل ذكرا موجزا في ضوء قوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ .
التصديق الأول
القرآن الكريم ونبينا محمد يمثلان تصديقا لإبراهيم الذي أنبأ بازدهار بني إسماعيل، فلو لم يبعث محمد رسول الله ولم يأت بما نزل عليه من الوحي القرآني لعُدَّ إبراهيم كاذبا. قال إبراهيم إن الله تعالى سمع لدعائه في إسماعيل وقال له:
يتبين من هذا النبأ أنه كما كان هناك وعد في بني إسحاق بأن الله تعالى سوف يكثرهم ويباركهم ويجعلهم أمة كبيرة.. كذلك كان نفس الوعد في حق بني إسماعيل. وإذا كانت التوراة تقول بأن عهد الكثرة والبركة هذا سيتحقق عن طريق بني إسحاق فحسب.. فذلك لأن القلم كان في يدهم فقالوا كما يشتهون، وإلا فإن كل ما قيل في إسحاق قيل بعينه في إسماعيل؛ فلا معنى أبدا لتخصيص إسحاق بهذا.
وبحسب ما جاء في التوراة فقد نزل كلام الله على السيدة هاجر أيضًا وكان فيه نبأ عن إسماعيل يقول:
ومع أن هذا الوحي قد نزل على السيدة هاجر إلا أنه وضع في سفر من كتاب موسى.. مما يشهد ويؤكد أنه وحي من الله. لذلك صار حجة على بني إسرائيل، بمثل ما صار نبأ إبراهيم حجة عليهم. وهذا الوحي يتضمن الأمور التالية:
- أن نسل إسماعيل سيكثرون كنسل إسحاق كثرة تفوق العدَّ والإحصاء.
- أنهم يحرزون مجدا عظيما بحيث يحسدهم كل العالم.
- أنهم برغم معاداة العالم لهم لن تلين قناتهم أمامهم؛ بل يعيشون عيشة العز والشرف.
عندما جاء رسولنا محمد أعلن أنه سيحرز مجدا تحسده عليه العالمُ، وخاصة بنو إسحاق، وأن الله تعالى سيكتب له الغلبة على الدنيا كلها. وكأنه بهذا الإعلان أعلن أنه مُصدِّق لأنباء إبراهيم وهاجر. ولو لم يحدث ذلك ما تحقق نبأ إبراهيم ولا نبأ هاجر المتعلقان بنسل إسماعيل. ولكن ببعثته تحقق النبأ وصار القرآن مصدّقا للتوراة أي محققا لأنبائها.
وأما ما ورد في التوراة عن أن سيدنا إسحاق هو الذي سيحقق الوعد الإبراهيمي، فقد سبق الجواب عليه بأن التوراة لم تكن مصونة من عبث المحرفين. كان بنو إسحاق يعادون بني إسماعيل عداوة شديدة، وكان الكتاب في أيديهم أيام عصر الجهل لزمن طويل، والله تعالى أعلم كم أدخلوا فيه من التحريف. وبدون الذهاب بعيدا فإن نسخ التوراة المكتوبة في زمن النبي عزرا، وهو عصر التأريخ، تختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا. فهناك اختلافات بين نسخ اليهود ونسخ السامريين ونسخ النصارى. وعلى الرغم من أنهم متفقون في الأساس، ولكن بينهم اختلاف كبير. فإذا كان هذا هو الحال في عصر التدوين والتأريخ، فالله أعلم بما ارتكبه اليهود من التحريف في كتبهم قبل هذا العصر.
ولو أغمضنا النظر عن هذا العبث والتحريف، فإني أقول بأنه نظرا إلى ما يوجد إلى اليوم من أنباء في شأن إسماعيل يحق لنا القول بأن ما ورد في التوراة:
إنما يعني أن بداية تحقيق هذا الوعد تكون بنسل إسحاق. وهذا هو ما حدث فعلا، إذ لم يزل هذا الوعد يتحقق لمدة طويلة عن طريق بني إسحاق، ثم نقله الله تعالى إلى بني إسماعيل.
أما السؤال عن سبب تحقيق الوعد ببني إسحاق أولا مع أنه الأخ الأصغر لإسماعيل.. فجوابه أنه كان مقدرا لنسل إسماعيل أن ينالوا النبوة التي لن تُنسخ أبدا، فلو تحقق هذا الوعد عن طريقهم أولا لحُرم بنو إسحاق من هذه النعمة تماما. وهكذا أعطى الله تعالى بني إسحاق نعمة النبوة لمدة، ثم بعث في بني إسماعيل نبيا كان خاتم النبيين الذي لن تَنسخ شريعته أية شريعة أخرى.. بل تبقى إلى يوم القيامة.
ومما يدل دلالة قطعية على أن بني إسماعيل كانوا شركاء في العهد الذي أوتيه إبراهيم في أولاده هو أنه كما كانت العلامة الظاهرية للعهد من جانب الناس هي الختان، كذلك كانت العلامة الظاهرية عليه من لدن الله تعالى هي إعطاء أرض كنعان.. فقد ورد:
يتضح من هذا أن هذا العهد الإلهي كان له شقان ماديان: شق يتعلق بالله بأن يعطي ملك كنعان لنسل إبراهيم؛ وشق يتعلق بنسل إبراهيم وهو أن يختتنوا. ووفى الله عهده وأعطاهم أرض كنعان. ثم جاء زمن أخذ الله فيه أرض كنعان من اليهود وأعطاها للنصارى، ولما كان عيسى ابن مريم نبيا إسرائيليا فما زال العهد قائما بحاله، وبقيت أرض كنعان في قبضة نسل إبراهيم. ولكن بداية من وفاة النبي محمد مباشرة وحتى سنة 1918م بقيت هذه الأرض تحت حكم المسلمين المنتمين إلى بني إسماعيل. فإذا كان بنو إسماعيل غير مشاركين في الوعد الإبراهيمي، ومع ذلك بقيت هذه الأرض في ملكهم لثلاثة عشر قرنا تقريبا.. أفلا يجرّنا هذا إلى القول بأن نبأ إبراهيم كان باطلا تماما؟ ولكن قوله تعالى لا يمكن أن يكون باطلا أبدا.. فثبت أن بني إسماعيل كانوا شركاء بني إسحاق على قدم المساواة في العهد الإبراهيمي.
ويجدر أن نتذكر بأنه إذا كانت الشهادة الواقعية الإلهية تثبت أن بني إسماعيل كانوا شركاء في العهد الإبراهيمي ولذلك بقيت كنعان تحت حكمهم تحقيقا لهذا الوعد الإلهي، فلا بد من التسليم أيضًا بأن الجانب الروحاني للعهد أي إعطاء النبوة من لدن الله تعالى واختتان القلب من قبل العبد، لا بد أن يتحقق في حق بني إسماعيل. وقد تم هذا فيهم في شخص الرسول محمد . وإلا فقدِّموا لنا شخصا واحدًا من بني إسماعيل تحقق فيه هذا الوعد حسب النبأ.
التصديق الثاني
كان هذا التصديق لنبأ موسى عليه السلام الوارد في التوراة يقول:
يتضمن هذا النبأ الأمور التالية:
- أنه سيقام نبي من بني إسماعيل، إخوة بني إسرائيل.
- سيكون هذا النبي مثيلا لموسى، أي صاحب شريعة، وتكون أحواله مشابهة لأحوال مثيله.
- سوف يجري كلام الله تعالى على لسانه، أي أن وحيه كله سيكون بكلمات إلهية، فلن يتلو أحكام الله تعالى بكلمات من عنده.
- سوف يبلّغ الناس كل لفظ من كلام الله غير متهيب ولا وَجِلٍ.
- سوف يتلو ما نزل عليه من وحي إلهي باسم الله تعالى. وسيكون هذا النبي حربا على الشرك.
- سوف يتعرض مكذبوه لعذاب الله تعالى.
- إذا ادعى أحد بالباطل أنه مصداق هذا النبأ الموسوي فإن الله تعالى مهلكه.
وتحقيقا لكل هذه الأمور الواردة في النبأ كان محمد رسول الله متصفا بما يلي:
- ظهر من بني إسماعيل إخوة بني إسحاق.
- أعلن أنه مثيل لموسى كما قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (المزمل: 16). فكان مثل موسى صاحب شريعة، وكانت أحواله مشابهة إلى حد كبير بأحواله. فقد وعد مثلَ موسى بظهور المجددين في أمته ظهورًا متواترا. وكما كان عيسى بن مريم آخر خلفاء موسى عليهما السلام، كذلك وعد النبي بظهور خليفة له على نفس الفترة الزمنية، وسماه مسيحا. وقد ظهر هذا المسيح الموعود فعلا في شخص مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية وبعد نفس الفاصل الزمني.
- أعلن أن كلام الله تعالى يجري على لسانه، أي أن كلمات وحيه التي يتلوها على الناس هي عينها الكلمات التي تتنزل على قلبه وحيا من الله تعالى. اقرءوا كتب الأنبياء السابقين جميعًا تجدوا فيها كلام الله أقل من كلام البشر. وربما لا تجدون في الأناجيل كلها أكثر من جملتين من خالص كلام الله تعالى، أما الباقي فكله كلام المسيح وقصص كتَّاب الأناجيل. والقرآن المجيد هو الكتاب الوحيد الذي لا تشوبه كلمة واحدة من كلام البشر، بل هو كلام الله تعالى من أوله إلى آخره.
فالمراد من عبارة “أجعل كلامي في فمه”.. أن كلام الوحي الذي كان ينزل على الأنبياء السابقين لم يكن كله وحيا لفظيا، وإنما كان ينزل أكثره على قلوبهم معنى أو كانوا يرون كشوفا فيعبرون عنها بألفاظ من عندهم، ولكن هذا النبأ يذكر خصوصية للرسول .. فهو لن يبين مراد الله تعالى بكلمات من عنده، وإنما يبلغ مراد الله تعالى بكلمات توحى منه عز وجل. كان الوحي الإلهي ينزل على قلب الأنبياء السابقين، فإذا وصل إلى لسانهم خرج بألفاظهم، أما الوحي القرآني النازل على قلب محمد رسول الله فقد خرج من فمه كما نزل بلفظه ومعناه. وإلى ذلك تشير الآية القرآنية: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (النجم: 4-5).. أي أنه لا يقدم مشيئة الله تعالى في قالب ألفاظ من عنده، ولكن ينطق بوحي الله تعالى في قالب كلمات محددة أنزلها على قلبه .
- أنه بلّغ وحي الله تعالى غير هيّاب ولا وجل، وأبلغ الناس كل حرف منه. والقرآن نفسه خير شاهد على هذه الحقيقة. لقد واجه معارضة شديدة، وأغراه الكفار بكل طريق ليحذف أو يخفف من الوحي القرآني ما يعيب به آلهتهم، ولكنه لم يبال بهم مطلقا، وبلغهم كلام الله تعالى كله، وفي صورته الأصلية. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر في قوله: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (هود: 13). أي يطمع مخالفوك أن ينزل بك ضيق من ظلمهم فتترك شيئا مما أوحينا به إليك، أو ربما يضيق صدرك باعتراضهم عليك أنه لم ينزل معه كنز أو ملك من السماء يؤيده.. فتترك شيئا من هذا الوحي.. ولكن هذا لن يحدث لأنك نذير، وكيف يخاف النذير ممن أخبره الله بهلاكهم.. والله تعالى وكيل على كل شيء، فكيف يخرج أحد من نطاق حكمه وسلطانه.
ولقد شهد النبي نفسه على هذا الأمر، وجعل الناس يشهدون معه أنه أبلغهم كل كلام الله تعالى. ففي حجة الوداع، عندما نزل عليه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (المائدة: 4).. قام بين الحجيج وذكّرهم بواجباتهم، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ أي أيها الناس أستحلفكم بالله أن تشهدوا: هل أبلغت العالم كل ما أوحاه الله لي حق البلاغ؟ فقال الصحابة بلسان واحد: اللهم، نعم! فقال : اللهم، فاشهد! (السيرة النبوية لابن هشام).
كما يمكن أن يكون المراد من هذا النبأ أن النبي الموعود كان من المقدر أن يكون خاتم النبيين، فاقتضى ذلك أن يبلغ الوحي الديني المنزل عليه للناس بكامله لكي لا يبقى شيء من الدين ناقصا. أما الأنبياء السابقون فلم يكن حالهم هكذا.. فقد كانت تكشف عليهم أسرار من الدين، ولم يكن مسموحا لهم بكشف بعضها للناس لأن عقلية الناس في عصرهم لم تكن قادرة على استيعابها، وإن كان عقل النبي من الرقي بحيث يدركها. فنبأ التوراة بأن النبي الموعود يُبَلِّغ الناس كل ما يوحى إليه يعني أن العقل البشري في زمنه يكون قد اكتمل ونضج، ومن ثم يُعطى آخر الشرائع وأكملها.. التي تشمل كل الأسرار الروحانية، وسيؤمر بتعليمها كلها لأمته.. لأنهم أهل لتعلمها وإدراكها.
ونجد إشارة لهذا المعنى في الإنجيل حيث ورد قول المسيح بن مريم عليه السلام:
تبين هذه العبارة أن المسيح لم يبلغ الناس كل ما أوحي إليه لأن فيه ما كان خاصا به، ولم تكن أمته قادرة على فهمه، ولكنه أخبرهم بأنه سيأتي بعده “روح الحق” فيخبر الناس بكل شيء لأنهم في وقته سيكونون قادرين على استيعابه. وكأن روح الحق هذا يكون على مقام “خاتم النبيين”.
- وتحقق النبأ الوارد في عبارة “كلامي الذي يتكلم باسمي” بابتداء كل سورة من القرآن الكريم بآية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
- وأما النبأ الخاص بهلاك منكريه فقد تحقق للنبي محمد تحققا اعترف به المخالفون أيضًا.. ومع أنهم يعزون هلاك أعدائه إلى أسباب دنيوية، ولكن الحق أن قولهم هذا خلاف للعقل والواقع.
- أما النبأ بأن الله مهلك كل من يدعي كاذبا أنه مصداق لهذا النبأ فقد تحقق هذا أروع تحقق.
فبالرغم من أن محمدا رسول الله كان وحيدا، ولم يأل أعداؤه جهدا للقضاء عليه، إلا أنه خرج فائزا في كل موطن، ولم يصبه أحد بضرر.. ولا يمكن أن يكون هذا كله محض صدفة، وإنما أخبر الله تعالى رسوله بذلك من قبل وأمره أن يعلن على العالم: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: 68). وعِصْمَتُه من المكائد والمؤامرات بصورة غير عادية لآية كانت وحدها سببا لاهتداء كثير من أعدائه. فمن أحداث التاريخ الشهيرة أن هند زوجة أبي سفيان عندما جاءت ضمن النساء للبيعة على الإسلام يوم فتح مكة، وكن يبايعن الرسول على ألا يشركن بالله، فلم تملك هند نفسها من شدة الحماس وقالت: أبعد هذا كله نشرك بالله؟ وقد رأينا بأم أعيننا أنك كنت وحيدا وكنا نحن عصبة قوية، بذلنا كل ما في وسعنا للقضاء عليك فلم نفلح في ذلك. فلو كان في الأصنام قوة لقدرنا عليك، ولكننا هلكنا وخرجت فائزا.
فانظروا، إذا لم يظهر نبي كمثل موسى من بني إسماعيل بشريعة، وإذا لم يجعل الله كلامه في فمه، وإذا لم يبلغ الناس كلام الله، ولم يبلغهم جميع كلامه عز وجل، وإذا لم يهلك أعداؤه، وإذا لم يفز رغم قوة الأعداء وشدة معارضتهم.. فكيف كان من الممكن تحقق نبأ موسى، وكيف يتبين صدقه ؟ فالوحي النازل على رسول الله برَّأ موسى عليه السلام من الكذب، وصدَّقه.
التصديق الثالث
هناك نبأ آخر لموسى يقول فيه:
يذكر هذا النبأ ثلاث آيات سماوية: الآية الأولى تخص التجلي الإلهي في سيناء، وهو إشارة إلى ظهور موسى عليه السلام، والثانية تخص التجلي الإلهي من سعير، وهو خبر بظهور عيسى ابن مريم عليه السلام من منطقة سعير، والثالثة تخص التجلي الإلهي من منطقة جبل فاران. وقد ذكر هذا التجلي الثالث بتفصيل أكثر من السابقين.. مما يدل على أن ذكر هذا التجلي هو المقصود الحقيقي هنا. فأولا يكون مقام هذا التجلي هو فاران.. وثانيا أنه يأتي بصحبة عشرة آلاف من القدوسيين.. وثالثا أن هذا الذي سيكون مظهرا للتجلي الإلهي سيكون في يمينه شريعة نارية. وهذه العلامات الثلاث بتمامها وكمالها متوفرة في شخص محمد رسول الله . فعندما انتصر الرسول على كفار مكة ودخلها حسب أنباء قرآنية واضحة، دخلها من جهة “فاران”، ووادي فاران هذا واقع بين مكة والمدينة. وعندما فتح مكة كان معه جيش من عشرة آلاف من أصاحبه القدوسيين. كما أنه أتى الدنيا بشريعة نارية، تحرق بنار حب الله تعالى آثامَ الناس ومعاصيهم، وإنها لا تَعِد المؤمنين بنعم الله تعالى فقط، بل ينذر المكفرين والأشرار بعذاب النار.
فلو لم يظهر محمد رسول الله ، ولم يهاجر إلى المدينة المنورة، ولم ينصره ربه على أعدائه، ولم يمكِّنه من فتح مكة بصحبة عشرة آلاف من الصحابة القدوسيين، ولم تكن معه شريعة كاملة تبشر المؤمنين بالفلاح والازدهار، وتنذر أعداء الحق بعقاب النار.. فكيف يتحقق نبأ التوراة هذا؟ وكيف يصدُق وحيُ موسى؟ فكان الوحي النازل على رسول الله محققا لهذا النبأ ومصدقا له.. طبقا لقوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ .
التصديق الرابع
هناك إلهام لسليمان عليه السلام يقول:
في هذا النبأ أخبر سليمان عن لون النبي أنه أحمر أبيض. وهذا ما يثبته التاريخ. ثم صوَّر مشهدا لفتح مكة بأنه يرجع لبلده منتصرًا في صحبة عشرة آلاف من الناس، هم صحابته القدوسيون الوارد ذكرهم في نبأ (تثنية 33: 2). وفي آخر النبأ ذكر اسمه : محمد. ولإخفاء هذا الاسم من النبأ قام مترجمو التوراة في العصر الحديث بتحريف كلمة “محمديم” الواردة في النبأ واستبدلوا بها كلمة “مشتهيات”. ولكن الكلمات الأصلية في العبرية هي “محمديم”، وإضافة “يم” إلى كلمة “محمد” صيغة الاحترام في العبرية.. مثلما يفعلون مع كلمة “ألوه” أي الرب فيكتبونها “ألوهيم”. فمعنى محمديم أي “محمد الموقر”. ونتيجة لهذا الاسم الوارد في النبأ كان الناس شرعوا يسمون أولادهم باسم “محمد” عندما رأوا علامات قرب ظهور الموعود. فكان في المدينة عدة أشخاص سماهم آباؤهم محمدا ومنهم محمد بن أحيحة الصحابي “أسد الغابة”.
فلقد حقق الوحي النازل على محمد رسول الله هذا النبأ أيضًا، ولولا ذلك لصار نبأ سليمان باطلا.
التصديق الخامس
ورد في التوراة:
ويظهر من النبأ الأمور التالية:
أولا: أن كلام الله في زمن من الأزمان سوف ينزل لقوم حرموا من لبن الوحي، وفصلوا عن أمهم، أي من النبوة بعد أن كانت فيهم، وقد ظهر محمد رسول الله في زمن كانت النبوة منقطعة لزمن طويل، وخاطب أيضًا بني إسرائيل المحرومين من لبن الوحي المفصولين عن ثدي النبوة. قال القرآن الكريم:
فقوله عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ تشير إلى ما جاء في النبأ: “للمفطومين عن اللبن، للمفصولين عن الثدي”.
ثانيا: الكلام الذي سوف ينزل لتلك الأمة لن ينزل دفعة واحدة، ولا في بلد واحد؛ بل يكون تَنَزُّله أمرا على أمر، وفرضا على فرض، هنا قليلا، وهناك قليلا. وهكذا بالضبط نزل القرآن المجيد شيئا فشيئا؛ بعضه في مكة وبعضه في المدينة وبعضه في الأسفار، حتى اعترض الكفار وقالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان: 33). ولا يزال نقاد النصارى يكررون نفس الاعتراض رغم وجود هذا النبأ في كتابهم سفر إشعياء، وبالتالي يقدمون بأقلامهم دليلا على أن محمدا رسول الله كان مصداقا لهذا النبأ.
وثالثا: أن هذا الوحي سوف يتلى عليهم بلسان شخص عربي، وبلغة أجنبية أي عربية؛ ذلك لأنه وردت في بعض الترجمات، كالأردية مثلا، عبارة “بشفةِ وحشيٍّ” بدلا من “شفةٍ لَكْناءَ”. وكلمة وحشي تدل على العرب كما سبق أن ذكرنا أن الله تعالى عندما بشر السيدة هاجرَ بمولود إسماعيل عليهما السلام قال لها: “وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا” (تكوين 16: 12). وقد اختار كُتّاب التوراة هذه التسمية بسبب كراهيتهم لبني إسماعيل، وإلا فهي تعني عندهم إنسان عربيا. ومادة “ع ر ب” في اللغة العربية تعني البيان، والعرب يسمون عربا لأنهم كانوا يعيشون في الخيام، وكانوا مولعين بالأدب، ويتكلمون كلاما بليغا فصيحا، وكان أعداؤهم يسمون أهل الخيام والبداوة “وحشيين”. وقد اختارت التوراة نفس الطريق، فكلما ذكرت إسماعيل سمته “وحشيا”. وعندما ذكرت النبي المبعوث في أولاده وصفته بأنه سوف يتكلم بشفاه وحشي.. بدلا من القول بأنه من أولاد إسماعيل. والقرآن لسانه عربي وهو أمر معروف لا حاجة لذكره، ولكن إشارة لنبأ إشعياء هذا يقول الله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الأحقاف: 13). لقد ذكرت هذه الآية القرآنية أن كون القرآن بلسان عربي تصديق للتوراة.. أي لنبأ التثنية 16: 12، ولنبأ التثنية 18:18.. حيث جاء أن وحي الشريعة لن ينزل في المستقبل على أحد من بني إسحاق، بل ينزل على إخوتهم بني إسماعيل. وكذلك تشير هذه الآية ضمنًا إلى نبأ إشعياء الذي نحن بصدده، والذي هو مزيد من التوضيح لنبأ موسى.
ورابعا: سيقول ذلك النبي الموعود لليهود إن دار إقامته هي دار أمن وراحة وسكون.. فأريحوا المتعَبين المجهَدين تجدوا الراحة والسكون.. ولكنهم لن يسمعوا لقوله ولن يدعوا ذلك المكان مكان أمن وسكينة، بل سوف يؤذون المجهدين المتعبين. وهذا أيضًا يصدق على الرسول محمد ، فإنه أعلن أنّ المدينة المنـــــــــورة -حيث كان اليهود أيضًا يعيشون معه- دار أمن وحرمة مثل مكة المكرمة، كما عقد معاهدة اتفق فيها مع اليهود لإقرار الأمن فيها (السيرة الحلبية). ولكنهم لم يدعوا المتعَبين أي المهاجرين الذين تركوا أوطانهم وممتلكاتهم في مكة وجاءوا من سفر بعيد شاق.. ينعمون بالراحة هناك. وكانت النتيجة أن اليهود أنفسهم لم يجدوا الراحة فيها أيضًا.
خامسا: في النبأ أنه سينزل عليهم “أمر على أمر لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء وينكسروا ويصطادوا فيؤخذوا”.. وقد تحقق في الرسول تماما. فإن اليهود عندما دأبوا على حرمان المتعبين “المهاجرين” من الراحة كانت النتيجة أنهم أنفسهم راحوا وذهبوا.. أي أُجلي بعضهم من المدينة، وقُتل بعضهم، وهزموا وألقوا السلاح أمام الرسول وصِيدوا وقِيدوا، وأُخذ بعضهم عبيدًا.
ألا ما أشد هذا النبأ وضوحا وتحققا ببعث النبي محمد ! ولو لم يبعث نبينا محمد رسول الله ، ولم ينزل عليه هذا الكتاب العربي المبين.. لم يتيسر تصديق نبأ إشعياء النبي وعُدَّ من الكاذبين.
التصديق السادس
قال النبي إشعياء:
وقال النبي داود:
وكذلك هنالك إلهام في هذا الشأن للنبي دانيال يفيد أن الملك الفارسي نبوخذ نصر رأى حلما ولكنه نسيه، فذكر ذلك للمنجمين، ولكنهم اعتذروا عن قدرتهم على تفسير حلمٍ مَنسيٍّ، فأمر الملك بقتلهم. وكان النبي دانيال من أسرى السبي الذين أتى بهم الملك من أورشليم إلى بلده. فلما سمع بذلك ابتهل إلى الله تعالى ليخبره بحلم الملك وتعبيره، ففعل. ثم استأذن الملك ليدله على الحلم وتعبيره وقال له:
“أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَلِكُ مُلُوكٍ، لأَنَّ إِلهَ السَّمَاوَاتِ أَعْطَاكَ مَمْلَكَةً وَاقْتِدَارًا وَسُلْطَانًا وَفَخْرًا. وَحَيْثُمَا يَسْكُنُ بَنُو الْبَشَرِ وَوُحُوشُ الْبَرِّ وَطُيُورُ السَّمَاءِ دَفَعَهَا لِيَدِكَ وَسَلَّطَكَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا. فَأَنْتَ هذَا الرَّأْسُ مِنْ ذَهَبٍ. وَبَعْدَكَ تَقُومُ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى أَصْغَرُ مِنْكَ وَمَمْلَكَةٌ ثَالِثَةٌ أُخْرَى مِنْ نُحَاسٍ فَتَتَسَلَّطُ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ. وَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ صَلْبَةٌ كَالْحَدِيدِ، لأَنَّ الْحَدِيدَ يَدُقُّ وَيَسْحَقُ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَالْحَدِيدِ الَّذِي يُكَسِّرُ تَسْحَقُ وَتُكَسِّرُ كُلَّ هؤُلاَءِ. وَبِمَا رَأَيْتَ الْقَدَمَيْنِ وَالأَصَابِعَ بَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ وَالْبَعْضُ مِنْ حَدِيدٍ، فَالْمَمْلَكَةُ تَكُونُ مُنْقَسِمَةً، وَيَكُونُ فِيهَا قُوَّةُ الْحَدِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّكَ رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ. وَأَصَابِعُ الْقَدَمَيْنِ بَعْضُهَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ، فَبَعْضُ الْمَمْلَكَةِ يَكُونُ قَوِيًّا وَالْبَعْضُ قَصِمًا. وَبِمَا رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِطُونَ بِنَسْلِ النَّاسِ، وَلكِنْ لاَ يَتَلاَصَقُ هذَا بِذَاكَ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ لاَ يَخْتَلِطُ بِالْخَزَفِ. وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّكَ رَأَيْتَ أَنَّهُ قَدْ قُطِعَ حَجَرٌ مِنْ جَبَل لاَ بِيَدَيْنِ، فَسَحَقَ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ. اَللهُ الْعَظِيمُ قَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ هذَا. اَلْحُلْمُ حَقٌّ وَتَعْبِيرُهُ يَقِينٌ” (دَانِيآل 2 : 31-45).
يتبين من أنباء هؤلاء النبيين الثلاثة أنه كان من المقدر ظهور مَلِك روحاني يكون بمثابة حجر الزاوية أي يكون حلقة أخيرة من السلسة الروحانية، وسيكون ذلك الحجر ثمينا جدا وقويا، من آمن به كان وقورا جلدا صبورا، وهو حجر رفضه البناءون، ولسوف يسحق الملوك الشداد.. حجر لم تنحته يد إنسان.
وقد ذكر المسيح بن مريم هذا النبأ فقال:
في هذه العبارة ضرب المسيح مثلا، وبيّن أن بني إسرائيل قد رفضوا أنبياء كثيرين. فأرسل الله تعالى نبيًّا سُمي ابن الله، أي المسيح نفسه، ولكن بني إسرائيل يرفضونه أيضًا، ويقتلونه، أي يحاولون قتله. فيرسل الله نبيًّا يُعَدُّ ظهورا وتجليًا لله تعالى.. ويكون حجر الزاوية، وعند مجيئه يُعاقَب بنو إسرائيل عقابا تاما، ويُسلّم ملكوت الله لقوم يعطون لله تعالى أثماره في وقتها.. أي يؤدون واجبات الله حق الأداء. ويكون ذلك الحجر من العظمة والشأن بحيث يسحق كل من يصطدم به، ويهلك كل من يقع عليه.
هذه الأنباء من أربعة أنبياء: داود، إشعياء، دانيال، والمسيح عليهم السلام.. تصدُق كلها على الرسول بوضوح وجلاء تامّيْن.. بحيث لا ينكرها إلا من أعماه التعصب. كان من بني إسماعيل، الذين رفضهم بنو إسحاق باستمرار، وحاولوا حرمانهم من البركات الإبراهيمية دائما. وقد أعلن النبي بنفسه أنه حجر الزاوية فيقول: “مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله. فجعل الناس يطوفون به ويقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا هذه اللبنة. فكنت أنا تلك اللبنة” (مسلم، كتاب الفضائل). كان وجوده بالغ القيمة، وكان أساسه متينًا، وكما أكدت الأحداث لم يزعزعه أحد من مكانه رغم معارضة شديدة امتدت ثلاث عشرة سنة، ولم يكن صحابته متعجلين قليلي الصبر كحواريي المسيح، بل كانوا ذوي وقار وثبات. إن حواريي المسيح تبرأوا منه وتخلوا عنه هاربين عندما ألقى جنود الرومان القبض عليه. (متى 26: 56 و70-84)، لكن صحابة الرسول قالوا له في أحلك الظروف: يا رسول الله، سنقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ولن يخلص إليك العدو إلا على جثثنا.
وقد ذكر القرآن الكريم شأنهم هذا فقال:
إن عباد الله المؤمنين بمحمد رسول الله يمشون على الأرض بكل سكينة، ولا يتصرفون في أمورهم باستعجال. وعندما يتعرضون لسب من الجهال لا يردون السبّ بالسبّ غيظًا وغضبًا، بل يقولون لهم إنما نريد لكم السلام.
وكذلك وصفهم القرآن: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان: 73).. أي أنهم إذا مروا بأماكن اللهو واللعب لا يشتركون فيه ميلا إلى الملذات الدنيوية، كما فعلت أمة المسيح حين نسيت ذكر الله تعالى واشتغلت بالرقص والغناء والموسيقى. ولكن صحابة محمد يملكون نفوسهم ويمرون معرضين عن المتع الدنيوية الفارغة إلى ما ينفعهم في أُخراهم التي لا تنقطع ثمارها.
وجاء في وصف حجر الزاوية هذا أن مجيئه يكون بمثابة قدوم الله تعالى، وأنه سيأتي باسم الله. وقد زاد المسيح عليه السلام هذا الأمر وضوحا عندما قال إن هذا القادم باسم الله سوف يجيء بعد من يُسمى ابن الله. فجاء محمد رسول الله بعد المسيح، وكان قدومه بمثابة قدوم الله تعالى. وقد أشار القرآن إلى هذه الصفة للرسول فقال:
وجملة “متى جاء صاحب الكرم”، التي تعني أن قدومه بمثابة قدوم الله تعالى، إشارةٌ إلى أنه سيكون مثيلا لموسى، إذ ورد في حق موسى أنه كان الرب، حيث جاء: “فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلهًا لِفِرْعَوْنَ” (اَلْخُرُوجُ 7 : 1). فتمثيل قدوم هذا النبي الموعود بقدوم الله تعالى يعني أنه يأتي مثيلا لموسى. وبذلك أشار أيضًا إلى نبأ موسى الوارد في سفر التثنية 18:18.
ثم ذكر النبأ أن هذا الحجر يسحق من يسقط عليه، ومن سقط عليه يترضض.. وهذا ما حدث مع الرسول .. فرغم فقره وضعفه الشديدين حاربه قومه فانتصر عليهم. لقد صوّر المسيح الناصري غزوات الرسول أروع تصوير فقال: “من سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه”.. أي أنه يهاجمه أعداؤه أولا فتلحقهم من جراء ذلك أضرار فادحة؛ ثم إذا كرّ هو عليهم قضى عليهم. وهذا ما حدث بالفعل، فلم يزل أعداؤه يهاجمون ويتضررون وينكسرون، ولما هاجمهم بدوره كسر شوكتهم تمامًا.
وقد أخبر النبي دانيال أن حروبه لن تكون ضد قومه فقط، بل سوف يشتبك مع حكومات قوية، وسيقضي عليها بيده. وبحسب هذا النبأ كانت حربه مع قيصر الروم الذي قضى المسلمون على إمبراطوريته.
وقد أشار النبي دانيال إلى دين هذه الإمبراطورية فقال: “وَبِمَا رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِطُونَ بِنَسْلِ النَّاسِ، وَلكِنْ لاَ يَتَلاَصَقُ هذَا بِذَاكَ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ لاَ يَخْتَلِطُ بِالْخَزَفِ” (دَانِيآل 2 : 43)”. وفي هذا إشارة إلى أن أهل تلك الإمبراطورية يحاولون الانتساب إلى دين لا حقّ لهم في الدخول فيه. فعبارة “يختلطون بنسل الناس” لا تعني أنهم ليسوا أناسا كسائر الناس، وإنما المعنى أنهم سيحاولون إلحاق أنفسهم بابن الإنسان.. أي المسيح عيسى، ولكن دعواهم هذه باطلة لأن ابن الإنسان هذا لم يأت إلا “لخراف بني إسرائيل الضالة” فقط، ولا إذْنَ هناك للأقوام الأخرى بالدخول في دينه. يقول المسيح نفسه: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ” (إِنْجِيلُ مَتَّى 15 : 24). وعندما بعث الحواريين مبشرين أمرهم بقوله: “إلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا” (إِنْجِيلُ مَتَّى 10 : 5). فالرومان الذين ادعوا بكونهم من أهل المسيحية.. مَثَلُهم كَمَثَل الذي ينسب نفسه إلى نسل لا حق له في الانتساب إليه.
وأما ما قلته بأن المراد من “نسل الناس” أو بعبارة أخرى “ابن الإنسان” هو المسيح، فدليله أن هذا الاسم يتردد كثيرا في صفحات الإنجيل.. منها على سبيل المثال: “لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ، هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ” (إِنْجِيلُ مَتَّى 24 : 27).
ثم إن وصف هذا الحجر أنه “قُطع من جبل ولم تقطعه أو تنحته يد إنسان” يشير إلى أن هذا النبي الموعود سيكون أمّيًّا لم يتعلم على يد بشر. وكان الرسول أمّيًّا بالفعل، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النبأ في قوله:
تعلن هذه الآية أن التوراة والإنجيل وَصَفا محمدا رسول الله بثلاثة أسماء: رسول، نبي، أمّيّ. وكما ذكرنا فإن التوراة تصفه بأنه حجر لم تنحته يد إنسان، وقد صدق الإنجيل هذا النبأ، وكأنه أخبر بذلك أن النبي يكون أمّيًّا غير متعلم على يد بشر.
ولقد حاول البعض لجهلهم تطبيق هذا النبأ على المسيح ابن مريم، ولكنهم لا يدركون أن المسيح لم يكن أمّيًّا غير متعلم، بل كان له معلمون من البشر.. فقد ورد: “حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه” (متى 3: 13). وجاء أيضًا: “فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ” (إِنْجِيلُ مَتَّى 3 : 16)”. وهذا يدل على أن المسيح احتاج للتتلمذ على يد النبي يحيى لينال تعليما روحانيا. فلا يمكن والحال هذه أن يسمى أمّيًّا. ثم إنه لم يوصف بكونه “من سقط عليه يترضض، ومن يسقط هو عليه يسحقه”، بل بالعكس سقط عليه الناس وآذوه إيذاء شديدا، ولم يتيسر له السقوط على الآخرين.
والآن، لو لم تتحقق هذه الأنباء بوجود النبي لعدّ كل من داود وإشعياء ودانيال والمسيح عليهم السلام من الكاذبين. فالقرآن الكريم صدق كلام هؤلاء الأنبياء جميعا بتحقق تلك الأنباء.
التصديق السابع
جاء في الإنجيل؛
ورد هذا النبأ في سفر أعمال الرسل، ولكن لا بد أن يكون المسيح نفسه قد تنبأ به، لأن الحواريين كانوا ينقلون أقواله، ويعتقد النصارى أن كل ما قاله الحواريون قالوه تحت تأثير روحي للمسيح، لأجل ذلك أعطوا الأعمال وأقوال الحواريين مكانا في كتبهم المقدسة، واعتبروها أسفارا من الكتاب المقدس، وعلاوة على ذلك فإن المسيح قد أخبر بهذا النبأ بكلمات أخرى ذكرناها في “التصديق السادس” آنفا. ومن ثم فبِوُسعنا الجزم بأن هذا النبأ الوارد في سفر الأعمال هو من أقوال المسيح نفسه. ولقد ورد في هذا النبأ ما يلي من أمور:
- لن ينزل المسيح مرة أخرى إلى الدنيا ما لم يتحقق ما أنبأ به موسى بأن الله تعالى سوف يبعث نبيًّا مثله من إخوة بني إسرائيل.
- لقد أنبأ بمجيء هذا الموعود أيضًا كل الأنبياء من بعد موسى بدءا من النبي صموئيل.
- كان مجيء المسيح بمثابة بشارة بمجيء ذلك النبي الموعود.. لأنه قال: لقد أرسل الله فتاه يسوع أولا ليرد كل واحد منهم عن شروره. ولقد أثبتُّ فيما سبق أن النبي المثيل لموسى، أو بتعبير الإنجيل “ذلك النبي”، كان نبينا محمد . فهذا النبأ الذي يقول ببقاء المسيح في السماء إلى “أزمنة ردِّ كل شيء” أي إلى أن تتحقق كل الأنباء، وخاصة نبأ ظهور مثيل لموسى عليه السلام.. فيه بشارة ببعث نبينا محمد . كما ذُكر فيه أن البعث الأول للمسيح الناصري كان تمهيدا لمجيء ذلك النبي الموعود، لكي يطهر قلوب الناس من الشرور، ويزيل عنهم ما غلب على قلوب اليهود من جفاء وتحجر.. فيتمكنوا من الإيمان به عند مبعثه. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله:
فالقرآن أيضًا يصدق بأن المسيح جاء قبل النبي محمد بحسب هذا النبأ، وطهّر قلوب الكثيرين من الشر، وباركهم حتى صاروا أهلا لتصديق النبي المثيل لموسى.
فجاء نبينا محمد تحقيقا لهذا النبأ، وهكذا صار مصدِّقا للمسيح والأنبياء الآخرين منذ صموئيل. ولو لم يأت لعُدَّ جميعهم من الكاذبين.
وكثيرة هي الأنباء التي تحققت في شخص الرسول ، وكان مصدِّقا لكلام كثير من الأنبياء السابقين، ولكنني أكتفي بهذا القدر من الأمثلة هنا، التي يدرك بها كل منصف خال من التعصب مدى صدق القرآن الكريم في قوله لبني إسرائيل: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ . لقد حقق القرآن أنباء كتب بني إسرائيل، فمن أنكره منهم وكفر به.. فإنما يكفر بكتبه التي أنبأت بنزوله.
لقد أساء بعض كتَّاب النصارى فهم هذه الآية، فظنوا أنها إعلان من القرآن بأنه يصدق كل ما جاء في كتبهم. وبناء على هذا الفهم الخاطئ يعترضون قائلين بأنه ما دام كتابهم المقدس صحيحا بحسب اعتراف القرآن.. فقد ثبت بذلك بطلان القرآن، لأن مضامينه تخالف الكتاب المقدس.
لا أفهم أبدا هذه العقلية القائلة أن زيدا يصدق بكرا.. فلا بد أن يكون زيدٌ على الباطل! أهكذا يكون جزاء الإحسان؟! وكما ذكرت من قبل، فإن هذه الآية لا تعني أبدا ما حاول القساوسة استنتاجه منها. لقد انخدعوا بكلمة مُصَدِّقًا مع أن التصديق له مدلولان: الأول نسبة الصدق إلى القائل، والثاني: تحقيق نبأ سابق.. أي أن يكون مطابقا ومصدقا لما قيل. والمعنى الثاني هو المراد ها هنا.
يقول القرآن المجيد في موضع آخر:
ويتبين من هذا أن القرآن يقول إن جميع الأنبياء أخبروا بمجيء نبي يصدِّق وَحْيَهم جميعًا.. ويكون الإيمان به ضروريا لكل الأمم. ونقرأ في القرآن أنه يقول عن الأنبياء:
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (فاطر: 32).
إذا قرنَّا هاتين الآيتين مع الآية السابقة وصلنا إلى نتيجة أن الأنبياء بُعثوا في كل قطر وفي كل شعب؛ وأن النبي الموعود في هذه الآية يُصدِّق كتاب كل نبي وأنه يجب أن يؤمن به أتباع كل نبي، أو بعبارة أخرى إن تصديق القرآن الكريم للتوراة والإنجيل هو كتصديقه للكتب الأخرى مثل “الفيد” و”الزندأفستا” وسائر كتب الأنبياء حيثما بُعثوا في أقطار الأرض. ولكننا نرى أن هذه الكتب كلها في شكلها الحالي تختلف أشد الاختلاف فيما بينها. ولو قبلنا بصحتها وهي في شكلها الحالي، مع كونها يكذب بعضها بعضا.. لانهار صرح الدين وما بقي منه شيء. ولو سميناها كتب الله بصورتها الحالية فكأننا بأنفسنا نكذب هؤلاء الأنبياء الذين تُنسب إليهم هذه الكتب. وعلى سبيل المثال: هل يمكن القول بأن كل التوراة في شكلها الحالي هي الوحي الذي نزل على سيدنا موسى .. مع أنها تقول:
يتضح من هذه الفقرات جليًّا أنها كتبت بعد وفاة سيدنا موسى عليه السلام بفترة طويلة، بل في وقت انمحى فيه أثر قبره وبعد مجيء كثير من الأنبياء، لأن العبارة تقول: “وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى”. فهل من عاقل يسلم بأن موسى عليه السلام عاد إلى الدنيا بعد وفاته بمئات السنين وأضاف هذه العبارة إلى كتابه؟ وإذا كان الأمر غير ذلك فالواقع أن يدًا أخرى أضافتها إلى كتاب موسى بعد قرون من وفاته. ومن يدري ماذا أضيف غير ذلك؟ فأيَّ الفقرات يصدقها القرآن وأيّها لا يصدق؟ وكيف نميّز -مِن هذا الكتاب المحرَّف والذي يعترف علماء الكتاب المقدس أنه أُلِّف بأيد كثيرة وفي أزمنة مختلفة- بين كلام الله حتى نصدقه، وبين كلام البشر حتى نرفضه؟
وورد في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين:
ولكن الواقع أن كلهم ماتوا، وماتت بعدهم أجيال وأجيال.. وإلى الآن لم ير أحد منهم ابن الإنسان آتيا في ملكوته بحسب اعتقادهم ولو قيل إن المراد بمجيء المسيح ازدهار قومه.. فهذا تأويل خاطئ أيضًا، لأن النصارى نالوا الازدهار والرقي بعد حادثة الصليب بثلاثة قرون، ولم يكن عندئذ أحد حيًّا ممن عاصر المسيح. فليخبرنا القساوسة المحترمون الذين يقولون بأن المراد بالتصديق هو صحة كتبهم.. كيف يمكن للقرآن أن يصدق هذه الأمور؟
تعتقد النصارى أن الأناجيل تتضمن مسألة ألوهية المسيح والأقانيم الثلاثة، ولكن القرآن يقول:
تبين هذه الآية وكثير مثلها، أن القرآن لا يصدِّق أبدا ذلك الإنجيل الذي بين أيدي النصارى اليوم؛ بل إن القرآن لا يصدق مطلقا ذلك المفهوم الذي يقدمه النصارى للإنجيل بعد كل ما ذكرنا. فماذا يغني النصارى هذا التأويل لمعنى التصديق؟
الحق أن تصديق الناس يتم بطريقين: إما أن نقول للمرء أنك صادق فيما تقول، أو نثبت صدق قول قاله، وهذا يكون باللسان أو بالفعل.. فمثلا نقول باللسان: فلان صادق فيما يقول. وأما بالفعل فمثاله أن يقول زيد عن عمرو إنه سيسافر إلى بلد ما، فإذا سافر عمرو فإنه بفعله صدّق زيدا. ولكن تصديق الكتب السماوية يكون بثلاثة طرق:
- القول بأن الكتاب كله حق،
- القول بأن بعض أجزائه حق،
- القول بأنه في أصل بدايته كان حقا. أي أنه في البداية نزل من الله تعالى، ومن جاء به كان صادقا، ولكن الناس حرفوه فيما بعد.
لقد أثبتُ من قبل أن التصديق التام للكتب السابقة محالٌ، كما لا يليق بالقرآن أن يفعل هذا.. إنه محال لأن الموجود منها اليوم قليل معدوم، ولا يليق بالقرآن تصديقها لأنه يبين أخطاءها فلا يمكن أن يصدقها تماما. فلم يبق إلا طريقان للتصديق: التصديق ببعض أجزائها، أو التصديق بحالتها الابتدائية، والقرآن يصدق الكتب الموجودة بهذين الطريقين: أي أولا يصدق بعض ما فيها من مسائل، ويثبت صدق بعض ما ورد فيها من أنباء بتحقيقها في وجوده؛ ثانيا: يعلن أن كل الكتب السماوية كانت صحيحة تماما عندما نزلت للعالم أول الأمر، فيعلن صدق الوحي الذي نزل على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكرشنا ورام وزرادشت وغيرهم من أنبياء الله تعالى الذين بعثوا بين وقت وآخر وفي أقطار مختلفة من الدنيا وإلى أقوام شتى.. سواء عرفنا أسماءهم أم لا.
يقول القرآن الكريم
وتبين هذه الآية أن الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم ليسوا وحدهم الأنبياء؛ وإنما هناك أيضًا أنبياء آخرون بعثهم الله تعالى.
ثم أثار القرآن سؤالاً: كيف نعرف صِدْق مَن لم يرد اسمه فيه من الأنبياء؟ وقد بين علامة صدقهم بأنهم يأتون بالآيات، ولا يمكن لأحد أن يأتي بالآيات بدون إذن الله ومعونته تعالى، فمن أتى منهم بآية فهو نبي صادق يقينًا.
ثم إن كثيرًا من الآيات تتطلب شهود عيان وعلمًا تفصيليًّا للواقعات.. ولا علم لنا بالأحوال التفصيلية للكثير من الأنبياء المعتبرين عند بعض الأمم؛ فكيف نعرف صدقهم؟ أجاب القرآن على ذلك بأن هناك آية مشتركة بين جميع الأنبياء.. ولا بد أن أقوامهم قد شهدوها فعلاً.. تلك هي هلاك مكذبي النبي وبقاء اسمه في الدنيا وغلبة أتباعه. فإذا رأيتم هذه الآية لأي مدع للوحي فاستيقنوا أن الله تعالى معه وليس كاذبًا.
ويتضح من هذه الآية أن القرآن لا يصدق الأنبياء المذكورين فيه فقط، وإنما يصدق أيضًا مَن لم يذكر أسماءهم. وإذا كان مصدقًا لهؤلاء فهو مصدق لوحيهم أيضًا. ولا يكون التصديق لهذا الوحي الغائب إلا أن نؤمن بصدقه إيمانًا إجماليًّا. فيكون المعنى الآخر للتصديق هو الإيمان الإجمالي.. أي أن وحيهم كان من الله تعالى. وبمثل هذا التصديق نفسه يصدق القرآن الكريم كتب اليهود والنصارى. فالظلم الفادح إذن أن يستنتج أحدٌ من قوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أن القرآن يعلن بذلك صحة كتبهم في صورتها الراهنة. هذا، وإن الآيات الأخرى من القرآن، والواقعات، والشهادات الداخلية لكتبهم تبطل هذا الزعم.
وهناك لطيفة أخرى جديرة بالذكر.. فقوله تعالى مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ لا يذكر أنه مصدقٌ للتوراة والإنجيل، بل يقول لِمَا مَعَكُمْ . والآن، لو فهمنا عبارة لِمَا مَعَكُمْ بمعناها الواسع لكان مدلولها أن القرآن يصدّق قصصهم وأساطيرهم أيضًا، ولكن هذا باطل بالبداهة. فلا بدّ أن يقيد مدلولها بقيود معقولة. فمثلا نقول أولا، إنه مصدقٌ لما ورد في كتبهم عن مسألة معينة.. أي أن التعاليم التي يقدمها القرآن في مسألة معينة هي نفس التعاليم الموجودة في كتبكم. فكأن التصديق صار خاصًّا غير مطلق. وبهذا المفهوم نفسه فسّرت قوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ، وقلت إن القرآن الكريم يصدق الأنباء الواردة في كتبكم..أي يحققها بوجوده.
ويكون المعنى الآخر لِمَا مَعَكُمْ بأن القرآن يصدق (لما معكم من وحي الله الخالص). ولا يصح الاعتراض على هذا المعنى. فأي شك في أن مِن واجب كل وحي سماوي أن يصدِّق ما في الكتب السابقة من كلام إلهي خالص. ولكن هذا التصديق لا يعني أبدا أن كل ما في كتبهم هو بالضرورة وحي الله تعالى.
(مقتبس من التفسير الكبير)
ä الكلمات التي تحتها الخط هي بحسب ما ورد في الطبعة الأردية، إذ قد حرّفوها في بعض الطبعات الحديثة حيث ترجموها في الطبعة العربية كالآتي: “وأتى من ربوات القدس”. (الناشر)