- رمضان منحة إلهية للناس
- حال عموم المسلمين في رمضان
- غاية الصوم
__
يمن الله علينا في هذه الحياة بأوقات مباركة، تنقلنا إلى أجواء روحانية نتمنى أن يبقى أثرها معنا إلى أن تأتي بإذن الله مرة أخرى، ومن أجمل هذه الأوقات شهر رمضان الفضيل الذي قيل ويقال عنه الكثير، ولكن رغم كل ما يقال وما قيل، يبقى له رونق خاص من الصعب وصفه، وحنين إليه لا يمكن مقاومته، ولعل ذلك لأنه الشهر الذي نزل فيه كلام الله الذي لا يمكننا وصف جماله أو الإحاطة بكماله، كما لا نستطيع الوقوف على عجائبه التي لا تفنى ولا تنقضي!
ويعتبر شهر رمضان المبارك منحة من الله غالية، يجب علينا اغتنامها لتظل روحانيتنا على مدار الشهور التالية حاضرة وعالية، فنحن نستحضر تلقائياً معاني من شأنها أن تسمو بنا وتقربنا من الله في هذا الشهر الفضيل، ومنها الصبر والإخلاص والعفة والبر والرحمة، وغيرها من تلك المعاني التي تتشكل وتنبع من التقوى التي هي الهدف من الصيام، ذلك لأن هذه العبادة التي اختص بها الشهر الذي نزل فيه القرآن، هى عبادة إن كان في ظاهرها ترك الحلال لوقت معلوم، فإن الغاية منها تلخصها هذه الآية الكريمة التي تقول:
فالصيام هو الطريق إلى التقوى التي بالترقي إليها يُعتق العبد من النار، فهو كما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام “جنة وحصن حصين من النار” (رواه أحمد).
وبالصيام يرتفع الإنسان ليكون لله عبداً خالصاً، وعلى نفسه سيداً حاكماً، فحين يطيع ربه وينهى نفسه عن الهوى فإنه يسمو ويصبح من الربانيين، أما حين يعصيه ويؤثر الحياة الدنيا فإنه ينحط إلى أسفل سافلين، فجاء الصيام ليصل بالعبد إلى عليين، من خلال ترويض النفس على التحلي دائماً بالضمير الحي والتخلق بالخلق القويم.
ويحضرني هنا قول المصلح الموعود عن شهر رمضان الكريم:
ومن هنا فإن هناك تساؤلاً يطرح نفسه وهو: هل حقاً يتسلق المسلمون هذا الحبل ليصلوا به إلى الله، أم أن منهم من لا يمسك بطرفه بالمرة؟! وهل حقاً يدرك جميع المسلمين الغاية من عبادة الصيام، أم أن الكثيرين لا حظ لهم من بركاتها، ومن ثَم قَل أن تؤتي تلك العبادة السامية في مجتمعاتنا الإسلامية ثمراتها؟!
وعلى هذا التساؤل يجيب الواقع المؤسف المشهود، الذي رغم أنه لا يخفى على المسلمين إلا أنهم لا يسعون إلى تغييره بالعمل على تحقيق هدف الصوم المنشود.. فمن يُنكر أن كثيرًا من المسلمين في رمضان يكونون أشبه بالمتسابقين في رياضات الجري أو سباقات الحواجز، فنجدهم يتسابقون في فعل الخيرات والصلاة جماعة في المساجد، كما يكثرون من العبادات ومن ختم القرآن عدة مرات، وقد يتحلون بالصبر لاجتياز ما يحول دون تقبل صيامهم من عقبات.. ولكن ذلك فقط أثناء الشهر، ولكنهم فور انتهائه يصبح حالهم كحال المتسابقين عند الوصول إلى خط النهاية، فتهبط عزيمتهم وتقل همتهم، ويعودون إلى سابق عهدهم، وكأن رمضان لم يأتِ عليهم، وكأنه منذ البداية لم يكن!
وهؤلاء رغم حالهم هذا أفضل حالاً من غيرهم، فبعض الناس ينقلب عليهم صيامهم، وهم الذين لا يراعون من حرمة شهر رمضان سوى ترك الطعام إلى وقت الإفطار، ولكنهم عوضا عن ترك لحوم الأغنام فإنهم يأكلون لحوم البشر أثناء الصيام باغتيابهم، أو ينامون طيلة النهار ولا يستيقظون إلا لتناول إفطارهم، وبشتى ألوان الطعام والشراب ينشغلون بملء بطونهم! هذا وقد يقترفون من الحرام ما لا يقترفونه في غير رمضان، وكأن بإمساكهم عن الحلال في نهاره قد فاض بهم الكيل، فيرغبون بتعويض أنفسهم في الليل، وذلك بإسرافهم في الملذات، والسهر حتى مطلع الفجر أمام الفضائيات، فيحرمون أنفسهم من تزكية النفس والاطلاع على الكشف ومن التأثير الروحاني المرجو من الصيام الذي يقول عنه المسيح الموعود : (ليس الصوم أن يبقى الإنسان جائعًا وعطشانًا فقط، بل لـه حقيقته وتأثيره اللذانِ يطّلِع عليهما الإنسانُ من خلال التجربة. ومن طبيعة الإنسان أنه كُلّما أكل قليلا حصلت لـه تزكية النفس، وازدادت قواه الكشفية) (الملفوظات ج9 ص 123)
وهكذا فإن الصيام عند كثير من المسلمين فاقد لمعناه، ولا يحقق أكثرهم مبتغاه، فلا عجب أننا لا نرى الثمار الطيبة لهذه العبادة في بلادنا، وعوضا عن ذلك نرى كثيرًا من الخبائث تحدث في مجتمعاتنا!
فلو كان الصيام كما ينبغي ولو تحققت بالفعل مقاصده، لما وجدنا مسلمين يدَعون طعامهم وشرابهم في رمضان، ولا يدَعون قول الزور ويجهلون على الناس!
ولو تحققت الغاية من الصيام لما نُزعت الرحمة من قلوب قوم يحرصون على الصيام والقيام في هذا الشهر الكريم، ومع ذلك يكرهون ويقتلون غيرهم باسم الدين!
ولو ترك الصيام أثره عاما بعد عام على كل من صام، لما وجدنا مسلما مصرا على ارتكاب المعاصي، ومتكاسلا عن القيام بالطاعات!
ولو كانت قراءة القرآن في شهر رمضان بتدبر وإمعان، لاهتدى به المسلمون إلى سبل السلام، وترقت أخلاقهم به ليصبحوا للعالم عنواناً للرحمة والأمان، ولآمنوا من خلال أخباره بمبعوث السماء في آخر الزمان، ولما وجدنا أكثرهم لا يفهمون معانيه، ويعصون أوامره ولا يجتنبون نواهيه، ولما رأينا في مجتمعاتنا هذا السباق في الهمز واللمز والسخرية والتنابز بالألقاب، واستباحة الكثيرين للسب والقذف والخوض في الأعراض، وكل ذلك رغم حرصهم على ختم القرآن في شهر رمضان مرات ومرات! فعلى كل مسلم أن يتساءل هل بالفعل يغتنم رمضان، وهل يعمل بما يقرأ مراراً من آيات؟! فحري بنا ألا نكون فتنة للذين كفروا ولا للذين آمنوا، ولنتساءل أسفاً: أين التقوى عند قوم يصومون في كل عام أياماً معدودات؟!
فبدلا من سيل الفتاوى التي تتدفق إلى أسماعنا عن الصيام في مثل هذا الوقت من كل عام، مثل ما حكم دخول قطرة من الماء في الفم بغير قصد عند الاستحمام- يجدر بنا جميعا كمسلمين أعزنا الله بالإسلام وأكرمنا بالقرآن وخصنا بشهر رمضان أن نتساءل: أين الثمرات المرجوة من الصيام في أخلاقنا؟! أين أثر هذه العبادة الراقية على مجتمعاتنا؟! أين الصبر من قوم لا يملكون أنفسهم عند الغضب، وأين الضمير من انتشار الغش والنفاق والكذب، وأين العفة في ما نراه من فجور وعري وفحش، وأين البر في ما نراه من حسد وحقد وبغض، وأين الرحمة ممن يستحلون التفجير والقتل والإفساد في الأرض، وأين الإخلاص في هذه العبادة التي بين الله والعبد- من رياء التكفيريين والإرهابيين وتجار الدين، الذين يُراءون ويزايدون بإسلامهم على الناس..ألا يجدر أن تخلو مجتمعاتنا من هذه المظاهر الفاسدة إن كان السواد الأعظم من المسلمين يُدركون بالفعل مقاصد هذا الشهر الكريم؟!
يجدر بنا جميعا كمسلمين أعزنا الله بالإسلام وأكرمنا بالقرآن وخصنا بشهر رمضان أن نتساءل: أين الثمرات المرجوة من الصيام في أخلاقنا؟! أين أثر هذه العبادة الراقية على مجتمعاتنا؟!
فلا عجب ألا يستجيب الله لأدعية ملايين الصائمين القائمين لنهضة الأمة ونصرة الدين، وهو القائل ادعوني استجب لكم! فالله لا يستجيب لقوم يقولون آمنا ولكنهم لا يعملون بدينه كما ينبغي!
فالحق أنه لو تحققت المقاصد من الصيام لتنعمت بلادنا بالرخاء وعم فيها السلام، ولساد بين أفرادها المودة والإخاء وازدادوا سموا عاماً بعد عام، ولاختفت من بينهم مظاهر الكراهية والفساد والنفاق، وما أصابهم هذا الوضع المزري من العوز والتدني والافتراق..
فما بال أقوام يصومون نهار رمضان وليس لهم حظ من صيامه إلا الجوع والعطش، ويقومون ليله وليس لهم من قيامه إلى السهر والتعب!
أسأل الله أن يدرك جميع المسلمين الحكمة من الصيام، حتى تتمتع بلادنا ببركات شهر رمضان، ويجزينا الله يوم القيامة بدخول جنته من باب الريان، الذي لا يدخل منه إلا من اغتنم بحق هذا الشهر الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.