إذا ألقينا نظرة فاحصة على أوضاع العالم وما آل إليه حاله اليوم، لأدركنا مدى ترديه في حضيض المآسي. إن المشاهد المؤلمة منتشرة في كل بقعة من بقاع المعمورة، وليس ثمة قطر من أقطارها إلا وهو عرضة للفواجع والرزايا. باتت الأحداث والأزمات تلم بالإنسان في كل مكان، وتعرض له الخطوب والعاديات وهو يرضخ تحت هذه المصائب مبهور الأنفاس دون أن يجد صدرًا حنونًا يبكي عليه، ولا يدًا عطوفًا تمسح دموعه. أفليس قاسيًا ألا يجد المرء إنسانًا يأنس إليه، ويبثه لواعج قلبه، وما يعاني من عذابات الدنيا.
ـ فهل تلاشت الرحمة والمؤاساة وروح التعاون والمساعدة، وخلع العالم هذه الحلل الجميلة الناصعة البياض وغرق في السواد حتى أذنيه؟
ـ أم إن القلوب تحجرت فلا تحس بشيء مهما طرقتها يد الأحداث، ولا تلين مهما شاهدت العيون من المآسي؟
ـ أم إن الناس قد اعتادوا هذه الحوادث فأصبحوا لا يقيمون لها وزنًا، ولا يعيرونها أدنى اهتمام وإنما يمرون بها مر الكرام؟
ولكن عزيزي القارئ، ألا تعتقد أن هؤلاء البؤساء والمنكوبين يستحقون اهتمامنا؟ ألم تر إلى أعينهم وهي تجول في الفضاء باحثة عمن يضع بلسمًا على جروحهم، لكنها تنقلب إليهم خاسئة وهي حسيرة. أرأيت صورة طفل سوداني في الجريدة اليومية؟ كأنه هيكل بدون كسوة اللحم والشحم. إن الجوع قد نهشه نهشًا، وتركه عظامًا مخيفة. فم فارغ يعشعشه الذباب، وعينان غائرتين كادتا تفقدان نورهما في انتظار كسرة خبز لم تعهدها منذ أيام خلت.
هل رأيت صورة أم بوسنية أو كوسوفية فقدت جميع أولادها في الحرب المدمرة التي فرضت على بلدها مؤخرًا؟ كم كان حزنها كبيرًا! أما شاهدت الدموع تتناثر من عينيها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سِمطه. وكيف لا تبكي فقد وارت أفلاذ كبدها تحت الثرى بيديها المغضّنتين اللتين طالما ألقمتهم بهما وغذتهم، حتى خشنهما عذاب السنين، وساورهما الارتعاش، فلما احتاجت إلى من يكون لها سندًا في هذا الجزء من العمر، ومن يتفقدها ويرعاها، تجد نفسها وحيدة تحت أثقال من الآلام. هل لك أن تقدر فوران تلك الثورة التي تحتدم في داخلها، والمرجل الذي يغلي في جنبيها. فإلى من تنفض ما يعتمل في نفسها؟..
أفرأيت عجوزًا عراقيًا بزي زري، وهو واقف مهيض الجناح، مكدود العينين على أنقاض بيته الذي دمره القصف الصاروخي. وجه يسوده الوجوم وتجاعيده تفيض بالشجون. كأن أحلامه الحسان التي طالما رسمها في تلافيف ذهنه، قد دُفنت تحت هذه الأنقاض، وكأن مستقبل أولاده تشتت مثل أحجار بيته الخاوي على عروشه. ألا تقرأ سؤالاً ترسمه الدموع التي تعلقت بأهدابه المغبرة؟ إن أولاده كانوا يتضورون جوعًا، لكنهم منذ الآن سيفتقرون إلى ملجأ أيضًا. فأين سيلجؤون في الحر القائظ والبرد القارس؟
أرأيت صورة جماعية لسكان سيراليون حيث لا تزال المنايا تصافح النفوس. إن المجازر تقام يوميًا وقد تلطخت الأرض بدماء أهاليها، ولا يزال الظلم هناك سيد الموقف، والإنسانية تئن تحت أبشع صور القسوة التي عرفتها البشرية. فهناك من قُطعت رجله، والآخر بُترت ذراعه. هذا جُدع أنفه وذاك فقئت عينه. ينهال عليهم كل هذا وهم لا يجدون شيئًا يقتاتونه، ولا دواء يتعالجون به.
عزيزي القارئ! إن مثل هذه الصور منتشرة حولك. والعالم يعج بها اليوم أكثر من أي وقت مضى. فإذا كانت المجاعة تكتسح مناطق هنا، فهناك حروب أهلية تخلف أوضاعًا ترق لها القلوب وتدمع العيون. إذا كان هؤلاء يعيشون في أحضان البؤس وجنح الأسى، فأولئك يعانون من كابوس يتهادى ثقيلاً فوق كل جسد بأحلك ألوانه.
ـ فكيف يطيب لك طعام والناس حولك يتضورون جوعًا؟
أما قرأت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ وكيف يسيغ لك شراب والناس حولك يتجرعون الغصص ويشربون من مستنقع الموت؟
لا شك أنهم بلسان حالهم يستطعمونك ويستسقونك. أوَلا يُذكّرك هذا حديثًا قدسيًّا، حيث يقول الله عز وجل:
ـ وكيف تنام قرير العين في سرير وثير، والناس حولك يقبعون في العراء، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ويرتدون ثياب التشرد، لأنه لا مأوى لهم. فلنتذكر حديث خير الأنام حيث قال:
فلنعمل معًا من أجل تخفيف آلام العالم. لنمد يد العون للمعوزين والمحتاجين، لنوزّع الأفراح بين الواجمين، لنرسم الابتسامات على الشفاه المطبقات. ألا نستطيع أن نعيش على وجبة واحدة لكي نعطي الثانية لمن لم يشم رائحة الطعام منذ أيام؟ ألا نستطيع أن نوفر مبلغًا من المال ولو قترًا على أنفسنا، لنقدمه إلى الذين توالت عليهم الكوارث، والذين طال ليلهم البهيم، ضرير النجم، شديد القر، فلربما يشترون به شمعة يضيئون بها ظلام حياتهم، ولربما يشترون بها جمرة يستدفئون بها.