احذروا الدجال يجتاح العالم (3)
لاشكّ في أنّ القرآن الكريم يفيض بالنبوءات المتعلقة بمستقبل الإنسان وأيامه ومصيره. ومن جملة ما تنبّأ به أنّ الإنسان سيتوقّف عن استخدام النوق والعشار وأمثالها كوسائط أساسية للنقل، وسيستخدم وسائط أخرى بديلاً منها، مما سييسّر الله له اختراعه، قال تعالى:
والعشار هي النوق التي كانت تُعدّ من أهمّ وسائط النقل التي كان الناس يستخدمونها زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن باستطاعة أحد في ذلك الوقت أن يتخيّل إمكانية أن يستغني عنها أحد من الناس بحال من الأحوال.
كما تنبّأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك استخدام القلاص (النوق) كوسائط للنقل فقال:
وبيّن لنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنّ ترك السّعي على هذه الدواب كوسائط للنقل، إنما سيكون بسبب ما قَدّر اللهُ للإنسان من اختراع وسائل بديلة تماثل هذه الدواب من حيث كونها وسائط للنقل أيضًا، فقال تعالى:
وجاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليها وسلّم نبوءات مذهلة تتعلّق بواسطة النقل التي سيستخدمها الدجّال عند ظهوره، وقد أطلق على هذه الواسطة اسم “حمار الدجّال” وبيّن أنّ المسيح الدجّال يأتي على هذا الحمار الهائل الذي يأكل النار في أحشائه، وله فتحة يُخرج منها النار والدخان وينطلق في سرعات هائلة برًّا وبحرًا وجوًّا، لونه أقمر شديد البياض، أهلب لا شعر له، وطول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعًا، وعرض ما بين أذنيه سبعون ذراعًا، وما بين حافره إلى حافره مسيرة يوم وليلة. تُطوى له الأرض منهلاً منهلاً، يسبق الشمس إلى مغيبها. طوله في الأرض ستّون خطوة ولونه أحمر[1]، طعامه الحجارة وله فتحة يُخرج منها نارًا ودخانًا، لا يُدرى قُبله من دُبُره يتقدّمه جبل من دخان. يخوض البحر لا يغرق ولا يبلغ الماءُ حقويه، وسرعته كالغيث إذا استدبرته الريح. له سروج وفروج ودويّ يملأ ما بين الخافقين، ويدعو الناس للركوب فيه.
هذا هـو حمـار الدجّـال في النبـوءات المذهلة لسيّدنا خاتم النبيين، محمد رسـول الله صلى الله عليه وآله وسـلم.
وأمّـا عن نبوءاتـه المتعلّقة بالمسـيح الدجّال نفسه، فقد قال إنّ الدجّال أجعد الشّعر أعور العين اليمنى وعينه اليسرى كأنّها عنبة طافئة، وفي رواية: كأنها كوكب درّي؛ وله قدرات خارقة بحيث أنّه يسيطر على الأرض والناس برًّا وبحرًا وجوًّا فيأمر السماءَ فتُمطر، ويأمر الأرض فِتَنبت وتُخرج كنوزها وتتبعه كيعاسيب النحل. وكذلك يسيطر على مياه الأنهار فيأمر الماء أن يرتدّ فيرتد، وأن يجري فيجري، ويأمره أن ييبس فييبس. ويسيطر على البحار والمحيطات فيطوف فوق مائها ويجتازها بسرعات كبيرة ويُخرج من كنوزها وحيتانها ما يشاء. ويُغني أقوامًا -إذا ما انصاعوا له وقبلوا دعوته- فيجعل أراضيهم جنات خضراء مثمرة ومواشيهم مسمّنة باللحم وممتلئة الضروع باللبن. ويحاصر الأقوام التي ترفض دعوته والانصـياع له فيُحاصرهم ويفقرهم ويجعـل أراضيهم ممحلة ومواشـيهم معروقة وأيديهم فارغة.
كما يسيطر على طيور السماء فيتناولها من الجو ويشويها في الشـمس شـيًّا. ويمعـن في خوارقـه فيحيي الموتى ويشـقّ الإنسـان نصفين ثم يعود فيضمّه ويحييه من جديد فيأتي يتهلّل وجهه يضحك!
ويأتي الدجّال بمثل الجنة والنار، ويكون معه جبال من لحم وخبز وأنهار من ثريد تتقدمه النار في حين يكون من ورائه جنة وجبل أخضر.
أمّا عن زمن الدجّال العجيب، فإنّه يختلف اختلافًا كبيرًا عن المألوف حيث يجعل الدجّالُ الزمنَ يتقارب فتصير السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كضرمة النار. كما أنّ المدن في زمانه تتوسع وتنمو.
وتختلف أحوال الغذاء بالنسبة إلى المؤمنين فيصير التهليل والتسبيح والتكبير بمثابة الغذاء لهم. وأما بعد القضاء على الدجّال وانتشار العدل في الأرض، فتختلـف الغرائـز والنفـوس الحيوانيـة؛ إذ يصـير الذئب في الغنـم ككلبـها، وتمشــي الناس بـين الوحــوش الضـارية فـلا تؤذيـهم، ويـُدخِل الأولاد أيديهم في أفواه الأفاعي السّامة فلا تلدغهم، وتمرّ الغنم بالحقول فلا تمسّ السنابل ولا تأكلها ولا تكسر أعواد الزّروع.
وهكذا تَطرح أحاديثُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم[2] المتعلّقة بظهور الدجّال الكثيرَ من الغرائب والعجائب التي يصرّ المشايخ على الأخذ بحرفيتها، باعتبار أنها أحاديث صحيحة مسندة متواترة ثبتت وصحّت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحيلونها بذلك إلى ما يُشبه الخرافات والأساطير!
ولا شكّ في أنّ هذه الأحاديث صحيحة متواترة، ولكنّ الأخذ بحرفيتها يتنافى ويتناقض مع العقل والعلم والمنطق الإنساني السليم، والأهمّ من ذلك أنهّ يتنافى ويتناقض مع المنطق الإيماني في القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما سنبرهن في الفصول القادمة. ولكنّ فهم هذه الأحاديث على ضوء البيان والتعليم القرآني الكريم سوف يُبدي أنها آيات إعجازية مذهلة تشهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته للعالمين كما نَوّهنا آنفًا.
وبما أنّ الأحـاديث الشـريفة التي ذَكرت الدجّـال وفِتَنه كثيرة جـدًا، كان لابدّ من ذكر بعضها فقط مما يُساعد على بيان حقيقة الدجّال دون إسهاب أو إطناب؛ ولذلك فإننا سنعرض الأحاديث التالية، ثم نعمد إلى مناقشة كل واحد منها في محلّه بعد أن نبيّن الهَدي القرآني المتعلّق بفهم النبوءات التي يُظهر الله عليها أنبياءه، وكيف يجب على العلماء والفاهمين أن يؤوّلوها ويفهموها:
* الأحاديث الصحيحة المتعلّقة بظهور المسيح الدجّال
عن عليّ رضي الله عنه، عن رسول الله ، قال:
وأورد الإمام المقدسي في كتابه (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ص 276 الحديث التالي:
(يخرج -الدجّال- على حمار مطموس العين، مكسور الطرف، يخرج منه الحيّات، محدودب الظهر، قد صُوّر كلّ السلاح في يديه، حتى الرمـح والقوس، يخوض البحار إلى كعبيه). ذكره الإمام أبو الحسن محمد بن عبيد الله الكسائي في قصص الأنبياء
وعن علـيّ بن أبي طـالب رضـي الله عنه، في قصّة الدجّال: (.. له حمار أحمر طوله ستون خطوة ..). (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ص: 274
وجاء في رواية أنّ حمار الدجّال طوله ستون ذراعًا لا يُدرى قبله من دبـره يتقدّمـه جبـل من دخـان. كما ورد أنّ طعـامه الحجـارة ولـه فتحـة يُخرج منها النار، وله دويّ يملأ ما بين الخافقين.
وعن حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله :
(.. يركب –الدجّالُ- حمارًا أبتر بين أذنيه أربعون ذراعًا، يستظلّ تحت أذنيه سبعون ألفًا من اليهود).
وروى أبو نعيم عن حذيفة رضي الله عنه في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ حمار الدجّال:
(.. يخوض البحر لا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيبلغ قعره فيُخرج من الحيتان ما يشاء). وفي رواية: (فيمدّ يده الطويلة فيُخرج … ما يشاء).
وفي حديث رواه المنادي عن عليّ كرّم الله وجهه أنّ الدجّال:
(.. يتناول السحاب بيمينه ويسبق الشمس إلى مغيبها، يخوض البحر إلى كعبيه، أمامه جبل من دخان وخلفه جبل أخضر، ينادي بصوت يسمع له ما بين الخافقين: إليّ أوليائي، إليّ أوليائي، إليّ أحبابي إليّ أحبابي، فأنا الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، وأنا ربكم الأعلى. كذبَ عدو الله ..)
وورد في حديث رواه الحاكم وابن عساكر عن ابن عمران أنّ الدجّال:
(يسـيح الأرض كلّهـا في أربعين يومًا، ومـا من بلـد إلاّ وسيطؤها إلاّ مكة والمدينة، ويتناول الطير من الجو، ويشويه في الشمس شيًّا).
وجاء في كتاب (الإشاعة لأشراط الساعة للإمام البرزنجي) من حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال:
(… يأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجـع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس). رواه نعيم بن حمّاد، ص: 125 ، 129
وروى الحاكم وابن عساكر عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في الدجّال: (… يسـير معه جبلان، أحدهمـا فيه أشـجار وثمـار ومـاء، وأحدهما فيه دخان ونار، فيقول هذه الجنة وهذه النار).
وروى نعيم وحذيفة عن ابن عمر في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجّال أنّ معه:
(جبل من ثريد ونهر ماء).
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله ، قال:
وجاء عن حُذيفة أنّ رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال:
وفي رواية عن أبي الودّاك:
وعن بن سمعان في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
وعن راشد بن سعد أن رسول الله قال عن الدجّال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدجّال:
(إنما أحدّثكم هذا لتعقـلوه، وتفهموه، وتفقهوه، وتعوه. فاعملوا عليه وحدّثوا به من خلفكم، وليحدّث الآخرُ الآخرَ، إنه أشدّ الفِتَن). نعيم بن حماد ( الإشاعة لأشراط الساعة) للإمام البرزنجي ص: 128
هذه باقة من الأحاديث الشريفة التي يصرّ أصحاب التعصّب الحرفي علـى الأخـذ بحرفيـتها؛ الأمـر الـذي يبدو بُطلانـه واضـحًا من الوهلـة الأولى.
وسنبحث في الفصـل القـادم في الأساس القـرآني الذي لابدّ أن نبـني عليه أسـلوب الفهـم والأخـذ، كي لا نُحيل إعجازَ الرسول الكريـم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى خرافات وأساطير بجهلنا وطيشنا وقلّة تفهمنا وتدبّرنا.
لا يضطرب اللفظ إلاّ لأن معناه مضطرب في نفس صاحبه، ولا يغمض إلا لأن معناه غامض في نفسه، ومحال لأن يعجز الفاهم عن الإفهام، ولا المتأثر عن التأثير، ولا المقتنع عن الإقناع، وما البيان إلا المرآة التي ترتسم فيها صورة النفس، فحيث تكون جميلة فهو جميل، و قبيحة فهو قبيح، أو مضيئة فهو مضيء، أو مظلمة فهو مظلم، فإذا استطعنا أن نتصور مرآة تكذب في تمثيل الصورة الماثلة أمامها، استطعنا أن نتصور بيانًا يختلف في وصفه عن وصف نفس صاحبه.
(مصطفى لطفي المنفلوطي، اللفظ والمعنى ص123، الجزء الثالث)