- الخلافة هي أمر روحاني من الله تعالى
- الخلافة نجت المسلمين والاسلام من الفتن
__
أيها الناظر في هذا الكتاب.. إن كنتَ من عشاق الحق والصواب، فكفاك آية الاستخلاف لتحصيل ترياق الحق ودفع الذعاف، فإن فيها برهانا قويا للمنصفين. فلا تحسب الأخيار كأهل فساد، ولا تُلحق هُودًا بِعَاد، وتَفكَّرْ لساعة كالمحققين. وأنت تعلم أن الأنباء المستقبلة من الله الرحمن تكون كقضاة لقضايا أهل الحق وأهل العدوان، أو كجنود الله لفتح بلاد البغي والطغيان، فتُفرِّج ضيق المشكلات بِكرّاتِها، حتى يُرى ما كان ضنكًا رحيبًا بقوة صِلاتها. فتبارز هذه الأنباءُ كل مناضل برمح خضيب، حتى تقود إلى اليقين كل مرتاب ومريب، وتقطع معاذير المعترضين. وكذلك وقعت آية الاستخلاف، فإنها تَدُعّ كل طاعن حتى ينثني عن موقف الطعن والمصافّ، وتُظهر الحق على الأعداء ولو كانوا كارهين. فإن الآية تُبشر الناس بأيام الأمن والاطمئنان بعد زمن الخوف من أهل الاعتساف والعدوان، ولا يصلح لِمِصْداقيّتها إلا خلافة الصدّيق كما لا يخفى على أهل التحقيق. فإن خلافة عليّ المرتضى ما كان مصداق هذا العروج والعُلى والفوز الأجلى، بل لم يزل تبتزّها عِداها ما فيه من قوة وحِدّة مداها، وأسقطوها في هوّة وتركوا حق أُخوّة، حتى أصاروها كبيتٍ أوهنَ من بيت العنكبوت، وتركوا أهلها كالمتحير المبهوت. ولا شك أن عليّا كان نُجعةَ الرُوّاد وقدوة الأجواد، وحجة الله على العباد، وخيرَ الناس من أهل الزمان، ونورَ الله لإنارة البلدان، ولكن أيام خلافته ما كان زمن الأمن والأمان، بل زمان صراصر الفتن والعدوان. وكان الناس يختلفون في خلافته وخلافة ابن أبي سفيان، وكانوا ينتظرون إليهما كحيران، وبعضهم حسبوهما كفَرْقَدَي سماءٍ وكزَنْدَينِ في وِعاءٍ. والحق أن الحق كان مع المرتضى، ومَن قاتَلَه في وقته فبغى وطغى، ولكن خلافته ما كان مصداق الأمن المبشَّر به من الرحمن، بل أوذي المرتضى من الأقران، ودِيستْ خلافته تحت أنواع الفتن وأصناف الافتنان، وكان فضل الله عليه عظيما، ولكن عاش محزونا وأليما، وما قدر على أن يشيع الدين ويرجم الشياطين كالخلفاء الأولين، بل ما فرغ عن أسنّة القوم، ومُنع من كل القصد والرَّوْم. وما ألّبوه بل أضبُّوا على إكثار الجور، وما عَدَّوا عن الأذى بل زاحموه وقعدوا في المَور، وكان صبورا ومن الصالحين. فلا يمكن أن نجعل خلافته مصداق هذه البشارة، فإن خلافته كانت في أيام الفساد والبغي والخسارة، وما ظهر الأمن في ذلك الزمن، بل ظهر الخوف بعد الأمن، وبدأت الفتن، وتواترت المحن، وظهرت اختلالات في نظام الإسلام، واختلافات في أُمّة خير الأنام، وفُتحت أبواب الفتن، وسُدِّدَ الحقد والضغن، وكان في كل يوم جديد نزاعُ قوم جديد، وكثرت فتن الزمن، وطارت طيور الأمن، وكانت المفاسد هائجة، والفتن مائجة، حتى قتل الحسين سيد المظلومين.
ومن تظنّى أن الخلافة كان أمرًا روحانيا من الله رب العالمين، وكان مصداقه المرتضى من أول الحين، ولكنه أنِف واستحى أن يُجادل قومًا ظالمين، فهذا عذر قبيح، وما يتلفظ به إلا وقيح. بل الحق الذي يجب أن يُقبَل والصدق الذي لزم أن يُتقبل أن مصداق نبأ الاستخلاف هو الذي كان جامِعَ هذه الأوصاف، وثبت فيه أنه فتح على المسلمين أبواب أمن وصواب، ونجّاهم من فتن وعذاب، وفلَّ عن الإسلام حدَّ كل ناب، وشمّر تشمير من لا يألو جهدًا، وما لغب وما وهن حتى سوّى غورًا ونجدًا، وأعاد الله على يديه الأمن المفقود، والإقبال الموؤود، فكان الناس بعد خوفهم آمنين. والأنباء المستقبلة إذا ظهرت على صورها الظاهرة فصرفُها إلى معنى آخر ظلمٌ وفسق بعد المشاهدة، فإن الظهور يشفي الصدور، ويهب اليقين ويلين الصخور، وإن في فطرة الإنسان أنه يُقدّم المشهود على غيره من البيان، وهذا هو المعيار لذوي العرفان. فانظُرْ مَن أماط عن الإسلام وعثاءه، وأعاده إلى نضرته وأزال ضرّاءه، وأهلك المفسدين، وأباد المرتدين. ودعا إلى دين الله كل فارّ، وأراهم الحق بأنوار، حتى اكتظت المساجد بالراجعين، وأحيا الأرض بعد موتها بإذن رب العالمين، وأزال حُمّى الناس مع رحضائه، ورحض درن البغي مع خيلائه بماء معين.
ورحم الله الصدّيق، أحيا الإسلام وقتل الزناديق، وفاض بمعروفه إلى يوم الدين. وكان بَكّاءً ومن المتبتلين. وكان من عادته التضرع والدعاء والاطّراح بين يدي المولى والبكاء والتذلّل على بابه، والاعتصام بأعتابه. وكان يجتهد في الدعاء في السجدة، ويبكي عند التلاوة، ولا شك أنه فخر الإسلام والمرسلين. وكان جوهره قريبًا من جوهر خير البريّة، وكان أول المستعدّين لقبول نفحات النبوة، وكان أول الذين رأوا حشرا روحانيا مِن حاشرٍ مثيلِ القيامة، وبدّلوا الجلابيب المتدنسة بالملاحف المطهرة، وضاهى الأنبياء في أكثر سير النبيين.
ولا نجد في القرآن ذكر أحد من دون ذكره قطعا ويقينا إلا ظن الظانين، والظن لا يُغني من الحق شيئا ولا يروي قومًا طالبين. ومن عاداه فبينه وبين الحق باب مسدود، لا ينفتح أبدًا إلا بعد رجوعه إلى سيِّد الصدِّيقين. ولأجل ذلك لا نرى في الشيعة رجلا من الأولياء، ولا أحدًا من زمر الأتقياء، فإنهم على أعمال غير مرضية عند الله، وإنهم يُعادون الصالحين.