الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم سنة أم بدعة
التاريخ: 2009-03-13

الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم سنة أم بدعة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • لو كان هناك احتفال بميلاد نبي لاحتفل محمد عليه السلام بميلاد سيدنا إبراهيم عليه السلام
  • علينا أن نذكر سيرة الرسول عليه السلام في يوم ميلاده والتأسي بها
  • الابتعاد عن المشايخ وافتاءاتهم الضالة البعيدة عن أسوة النبي

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

قبل يومين أو ثلاثة مرّ الثاني عشر من ربيع الأول وهو تاريخ ميلاد النبي . إن عددًا كبيرًا من المسلمين في العالم يحتفلون بهذا اليوم بمنتهى الحماس، كما يولي بعض المسلمين في باكستان -بل في شبه القارة الهندية كلها- هذا اليومَ اهتماما خاصا. يكتب إلي بعض معارضي الجماعة، كما يسألون أفرادَ الجماعة، معترضين: لم لا يحتفل الأحمديون بهذا اليوم باهتمام؟ لذلك أردت أن أحدثكم اليوم حول هذا الموضوع وسأخبركم ماذا قال المسيح الموعود في هذا الخصوص، وبالتالي سيتبين بوضوح أن المسلمين الأحمديين وحدهم يعرفون مكانة هذا اليوم المبارك.

ولكن قبل أن أقرأ عليكم قولاً من كلام المسيح الموعود أود أن أخبركم متى بدأَت الاحتفالات بمولد النبي وما تاريخها.

من المعلوم أن بعض الفِرق الإسلامية أيضا لا تحتفل بمولد النبي   ، وكان الناس في القرون الثلاثة الأولى -التي هي خير القرون في تاريخ الإسلام- يحبون النبي حبا عظيما، لأنهم كانوا يدركون حق الإدراك ما هي سنة النبي   ، وكانوا أحرص الناس على العمل بشريعة النبي وسنته؛ ورغم ذلك يفيدنا التاريخ أنه لم تكن في زمن الصحابة أو التابعين الذين عاصروا الصحابة أيةُّ فكرة عن الاحتفال بمولد النبي   ، بل يقال إن “عبد الله بن محمد بن عبد الله القداح” هو من بدأ هذه الاحتفالات. إن أتباعه يُسمَّوْن فاطميين وينتسبون إلى سلالة سيدنا علي ، وقد حكموا مصر في عام 362 الهجري. ويُعتبر هذا الرجل من مؤسسي المذهب الباطني. والمذهب الباطني يقول إن جوانب من الشريعة تكون ظاهرة بيّنة وبعض جوانبها تكون خفية. وهم يفسرون هذه الجوانب الخفية حسبما يحلو لهم، فيباح عندهم قتل المعارضين خداعا. وهناك أمور أخرى وبدعات ومستحدثات كثيرة أدخلوها في الإسلام.

يقال إن “عبد الله بن محمد بن عبد الله القداح” هو من بدأ هذه الاحتفالات. إن أتباعه يُسمَّوْن فاطميين وينتسبون إلى سلالة سيدنا علي ، وقد حكموا مصر في عام 362 الهجري. ويُعتبر هذا الرجل من مؤسسي المذهب الباطني. والمذهب الباطني يقول إن جوانب من الشريعة تكون ظاهرة بيّنة وبعض جوانبها تكون خفية.

إذًا فأول من بدأ الاحتفال بمولد النبي هم أتباع المذهب الباطني. ولا شك أن الطريقة التي بدأوا بها هذا الاحتفال بدعةٌ. كانوا يحتفلون بأيام وأعياد كثيرة، منها يوم عاشوراء وميلاد النبي وميلاد علي وميلاد الحسن وميلاد الحسين وميلاد السيدة فاطمة الزهراء y، كما يحتفلون بأول ليلة من شهر رجب وبليلة النصف منه، وأول ليلة من شعبان، ثم ليلة الختم (أي ختم القرآن). كما أن هناك احتفالات كثيرة في رمضان وغيره كانوا ابتدعوها في الإسلام وكانوا يحتفلون بها.

هناك مجموعة من الفرق الإسلامية التي لا تحتفل بمولد النبي أبدا، بل يعتبرونه بدعة، بينما تطرّفَ الآخرون وبالغوا في الأمر إلى أقصى حد.

والآن سنرى ماذا قال بهذا الخصوص إمامُ هذا العصر الذي أرسله الله حَكَمًا عَدْلاً؛ لقد سئل المسيح الموعود عن الاحتفال بمولد النبي فقال:

إن ذكر سيرة النبي أمر رائع، بل قد ثبت من الحديث أن رحمة الله تنـزل بذكر الأنبياء والأولياء، كما حث الله تعالى بنفسه على ذكر الأنبياء، لكن إذا أضيفت إلى هذا الذكر بدعات تخالف وحدانية الله تعالى فلا يجوز هذا الاحتفال. عليكم أن تُنْزِلوا اللهَ منـزلته، وتنـزلوا الرسول منـزلته. إن كلام مشايخ العصر يحتوي على بدعات كثيرة تعارض مشيئة الله . ولكن إذا لم يكن في الكلام أية بدعة فإنه مجرد وعظ. إذا تحدّث المرء في احتفال عن بعثة النبي وولادته ووفاته فهذا مجلبة للثواب. لا يحق لنا أن نخترع من عندنا شريعة أو كتابا.

إذًا فإن هؤلاء القوم قد أحدثوا أمورا كثيرة في هذه المسألة. إذا كان قصدهم من هذه الاحتفالات بيانَ سيرة النبي فقط فلا شك أنه أمر حسن، لكن الذي يحدث على أرض الواقع في باكستان والهند في هذا العصر هو أنهم، بدلاً من بيان سيرة النبي في هذه الاحتفالات، يُضفُون عليها صبغة سياسية أو يتخذونها وسيلة للإساءة إلى الخصوم، ولا يكتفي هؤلاء المشايخ، في هذه الاحتفالات التي يقيمونها في باكستان، ببيان السيرة فقط، بل في كل مكان يتحدثون ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية وضد شخص المسيح الموعود بمنتهى الوقاحة والاستهزاء. ففي الأيام الماضية أقام المشايخ مثل هذا الاحتفال في ربوة، ثم خرجوا في تظاهرة، وتؤكد التقارير الواردة أنهم أقاموا هذا الاجتماع لأغراض سياسية وإظهارا للبغض والحقد ضد المسلمين الأحمديين. ومثل هذه الاحتفالات لا تجدي أي نفع. إن النبي قد أُرسلَ رحمةً للعالمين، ونعلم من أُسوته أنه كان يدعو الله تعالى للأعداء باكيا. يروي أحد الصحابة: لقد سنحتْ لي الفرصة لأقوم مع النبي ليلا، فرأيت أنه ظلَّ يدعو الله أن يغفر لهؤلاء القوم ويلهمهم الرشد والصواب. أما مشايخ هذا العصر فيستخدمون أقبح الكلمات ضد “القاديانيين” – كما يسموننا نحن المسلمين الأحمديين- ويتهموننا بأشنع التهم، بدلاً من أن يعملوا بسنة النبي هذه ويتأسوا بأسوته. نجد في أسوة النبي أن أحد الصحابة تمكّن من كافر أثناء الحرب وقتله حتى بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فقال له النبي : هلا شققت عن قلبه؟ فَمَا زَالَ يكرّر ذَلِكَ حَتَّى تمنى ذلك الصحابي أن لا يكون قد أسلم قبل ذلك اليوم. أما هؤلاء المشايخ فأعمالهم وتصرفاتهم تنافي هذه الأسوة النبوية تماما.

فهذا هو مقامه الرفيع الذي حققه باستغراقه في حب الله من قمة الرأس إلى أخمص قدميه. لم يكن يطمح في جاه وشرف ماديين بل كان همّه إقامة ملكوت الله الأحد في الأرض.

على كل حال، هذه أعمالهم، فليفعلوا ما يحلو لهم.

أقدم لكم الآن ما قاله المسيح الموعود :

إن ذكر النبي أمر رائع، ولا شك أنه يزيد المرء حبًّا به، ويحمّسه لاتّباعه . هناك في القرآن الكريم ذِكر لبعض الأنبياء، حيث قال تعالى:

  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ (مريم: 42)،

 ولكن إذا أضيفَ البدع إلى هذا الذكر أصبح حراما.

ثم يقول حضرته :

اعلموا أن الهدف الحقيقي للإسلام هو التوحيد، بينما نجد أن الذين يعقدون الاحتفالات بمولد النبي في العصر الراهن قد استحدثوا فيها أمورا كثيرة، الأمر الذي جعل هذا العمل المباح الجالب لرحمة الله أمرًا سيئًا. لا شك أن ذكر النبي رحمةٌ، لكن الأمور غير الشرعية والمستحدثات تنافي مشيئة الله. ليس من حقنا أن نؤسس شريعة جديدة، ولكن هذا ما يحدث في هذه الأيام، فإن كل إنسان يريد أن يصوغ الشريعة بحيث تتفق مع أفكاره وميوله، فكأنه بنفسه يضع شريعة جديدة. لقد مال الناس إلى الإفراط والتفريط في هذه المسألة أيضا، إذ يقول البعض لجهلهم إن ذكر النبي حرام أصلا. هذا حمقهم، لأن تحريمهم ذكر النبي جسارة كبيرة. الواقع أن الاتّباع الحقيقي للنبي يجعل الإنسان محبوبَ الله، والذكر يحمّس للاتّباع ويرغّب فيه، فمَن أحب شيئا أكثرَ ذكره. غير أن الذين يقفون قائمين أثناء الاحتفال بمولد النبي إيمانًا منهم بأنه قد حضر مجلسهم فهذه جسارة منهم.

(علمًا أن إحدى البدع التي يأتونها في هذه الاحتفالات أنهم في أثناء خطاب بعض الخطباء يقفون من مقامهم ويقولون: ها قد حضر النبي ، فعن هؤلاء يقول حضرته إن ظنهم هذا جسارة كبيرة منهم)

وقد لوحظ أنه يحضر هذه المجالس بكثرة أناس يتركون الصلاة ويأكلون الربا ويشربون الخمر، (أي يحضر فيه أناس لا يؤدون الصلوات الخمس، أو بعضهم لا يصلونها مطلقا، ولا يحضرون المسجد إلا في صلاة العيد) فما علاقة النبي بمثل هذه الاحتفالات؟ والحق أن هؤلاء لا يحضرون هذه المجالس إلا للتفرج.  لذا فمثل هذه الأفكار لغو ليس إلا. فالذي يصبح وهابيا جافّا ولا يرسي عظمةَ النبي في قلبه فلا دين له. إن الأنبياء -عليهم السلام- هم بمثابة غيث، يجمعون في أنفسهم أنوارًا ومحاسن وبركات لأهل الدنيا، فمن الظلم اعتبارهم كأناس عاديين. والمرء يزداد إيمانًا بإنشائه علاقات الحب مع الأنبياء والأولياء، حيث ورد في الحديث أن رسول الله قال مرة إن الجنة مكانًا ساميًا وسأكون فيه، فلما سمعه صحابي كان يحبه كثيرا بدأ يبكى وقال له: يا سيدي إني أحبك. فقال النبي : ستكون معي.

(ولعله خطر ببال هذا الصحابي أنه قد لا يكون مع النبي في هذه الجنة، فقال له النبي إذا كنت تحبني فستكون معي هناك.) يقول المسيح الموعود :

أما الفئة الثانية التي اتخذت أساليب الشرك فهي الأخرى خالية من الروحانية، فليس في نصيبهم إلا عبادة القبور. أرى أن ذكر النبي ليس حراما كما يزعم الوهابيون، بل إنه طريق جميل للحث على اتّباعه ، وإنما تحرم البدع الوثنية التي يبتدعها الناس.

وكذلك أملى حضرته ردًا على أحد المتسائلين فقال: في رأيي أنه إذا لم يكن هناك بدعات، بل  عُقد حفل لبيان سيرة النبي وإلقاء القصائد في مدحه بصوت جميل فلا بأس بمثل هذه الحفلات، بل هي جيدة جدا ويجب أن تقام.

أما كيف كان المسيح الموعود يطمح في إقامة حفلاتٍ زينتها حب النبي وعشقه، أو كيف كان يريد أن يتكلم في هذا المجال، فيقول حضرته مشيرا إلى قوله تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني :

هل قرأ النبي القرآن على طعام كما يفعل المشايخ في العصر الراهن حيث يعقدون احتفالات مليئة بالبدع، ويقرأون القرآن على أرغفة تُوزَّع على الحضور إيمانًا منهم أن هذا الخبز مبارك جدا لأنه قد وُزِّع بمناسبة مولد النبي . بينما يقول الله تعالى إذا كنتم تبغون حبه تعالى فاتّبِعوا الرسول . إذا كان هؤلاء يريدون اتّباع النبي فهل بوسعهم أن يثبتوا لنا من سنته أنه قرأ القرآن مثلهم على أرغفة قط؟ لو كان النبي قد قرأ القرآن على رغيف واحد لقرأناه على ألف رغيف اتّباعا له . كلا، بل لقد كان النبي يسمع القرآن ممن له صوت جميل، وقد بكى مرة حين سمع من شخص قول الله تعالى: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا .

لا شك أن النبي كان يسمع القرآن من الصحابة، وقد بكى حين سمع هذه الآية نتيجة تواضعه العظيم وحبه الكبير لله تعالى الذي منحه هذه المكانة المرموقة.

يقول سيدنا المسيح الموعود :

“حين سمع هذه الآية بكى وقال للصحابي كفى! لا أستطيع أن أسمع أكثر من هذا. وأغلب الظن أنه بكى لأنه فكّر أن سيكون شهيدا على هؤلاء. أنا أيضا أتمنى دائما أن أسمع القرآن ممن يحفظه ويقرأه بصوت جميل”.

هكذا يكون اتّباع النبي .

ثم يقول حضرته : “لقد قدم لنا رسول الله أسوة في جميع مناحي الحياة، ويجب أن نتأسى بها، ويكفي المؤمنَ الصادق أن يتأكد ما إذا كان النبي قد قام بالعمل أم لا، أو أمر به أم لا إذا لم يكن قد عمل به . فمثلاً كان إبراهيم الجد الأكبر للنبي وكان جديرا بالتعظيم، فلأي سبب لم يحتفل بمولده ؟

وخلاصة القول إن عقد جلسة أو إقامة حفلة بمناسبة يوم ميلاد النبي ليس ممنوعا بشرط أن لا تمارَس فيها أي نوع من البدع، إنما ينبغي أن تُذكر فيها سيرة النبي . ولا يكفي أن يخصَّص لمثل هذه الاحتفالات يوم واحد في السنة، بل يمكن أن تُعقد مثل هذه الاجتماعات طوال العام لبيان سيرة حبيبنا . وهذا ما تقوم به الجماعة الإسلامية الأحمدية حيث لا تكتفي بيوم واحد لبيان سيرة النبي بل تقيم هذه الحفلات على مدار السنة. وإذا خُصص يوم معين لعقد اجتماع لبيان سيرة النبي في البلد كله وفي العالم بأسره فلا حرج فيه أيضا، بشرط ألا تمارَس أية مستحدثات، وألا يكون هناك اعتقاد بأننا قد حصلنا من هذه الجلسة من البركات ما فيه الكفاية، وأنه لا حاجة لنا لكسب المزيد من الحسنات كما يزعم البعض. فينبغي ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط.

وفي ضوء هذه التوجيهات للمسيح الموعود سأتناول الآن في بقية الوقت بعض جوانب سيرة النبي ، لنسعى نحن أيضا لتصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وعندها فقط يمكن أن نفوز بحب الله تعالى باتباع النبي – كما قال الله في القرآن الكريم – وعندها ستُغفر لنا ذنوبنا، وعندئذ فقط تستجاب أدعيتنا.

يسأل البعض هل يجوز اتخاذ النبي وسيلةً أثناء الدعاء فأقول: إن اتباع سنته وإنشاء علاقة الحب معه هي الوسيلة للفوز برضا الله تعالى. وقد عُلّمنا في الدعاء بعد الأذان أن نطلب له الوسيلة. والآية التي قرأتها والتي اقتبس المسيح الموعود جزءا منها هي كالآتي:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران 32)

فتعالوا نر ما هي السنة التي سنَّها لنا رسول الله والتي يجب أن نتبعها، وما هي أعماله التي قام بها أمام الصحابة ووصلتْ إلينا بالروايات. إن أهل الدنيا يتهمونه أنه – والعياذ بالله- شنَّ الحروب طمعًا في السلطة، فكان يستولي على منطقة ويفرض عليها سيطرته. ثم هناك أقاويل شتى تُنشَر عن أزواجه المطهرات وتؤلَّف كتبٌ مليئة بأمور لا يطيق قراءتها أيُّ شريف ونبيل، بل قد علَّق أحد المسيحيين في الولايات المتحدة الأمريكية على كتاب صدر حديثا فقال إنه كتاب وقح لا تطاق قراءتُه. فكل هذه التهم التي تُلصق بالنبي ليست بجديدة بل قد رُمي بها على مر العصور. فحين أعلن النبوة زعم الكفار أنه قد قام بهذه الدعوى طمعًا في الدنيا، فأرسلوا إليه بواسطة عمه أن يكفّ عن ذكر أوثانهم بسوء وعن تبليغ دينه وإذا فعل ذلك فهم مستعدون أن يقبلوا سيادته عليهم، ويعطوه من الأموال ما شاء، ويزوِّجوه من أجمل فتاة في العرب. فردَّ عليهم قائلا: وَاللهِ لَوْ وَضَعُتم الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ. وقال إنما بُعثت لأكشف عليهم مساوئهم وعيوبهم وأهديهم إلى الصراط المستقيم، ولو تطلب ذلك موتي فأنا أقبل الموت عن طيب خاطر. إن حياتي وقف في هذا السبيل ولا يمنعني من ذلك خوف، ولن يصرفني عن ذلك طمع. إذًا فقد اعتبر أهل الدنيا.. على مر العصور.. المهمة التي كان النبي ينجزها من أجل الله وبأمر الله هدفا دنيويا ماديا. وقد قدّم الكفار له عروضا هائلة فرفضها، وبذلك برهن على أنه لا يريد جاه الدنيا وأموالها، وإنما بُعث من رب السماوات والأرض، وأنه هو النبي الأخير الذي سيرفع في العالم كله راية الإله القادر القوي الأحد الفرد. وقد أعلن الله هذا الأمر -على لسانه- حيث أمره

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام: 163)

فهذا هو مقامه الرفيع الذي حققه باستغراقه في حب الله من قمة الرأس إلى أخمص قدميه. لم يكن يطمح في جاه وشرف ماديين بل كان همّه إقامة ملكوت الله الأحد في الأرض. وقد تحمل في هذا السبيل كل أذى، وقال للناس إذا كنتم تريدون الحياة الأبدية فاتبعوني، واسعوا جاهدين لأداء حق الصلاة وبلوغ المستويات العليا فيها التي حددتها لكم. فالاستغراق في العبادة يمثل ضمانا للحياة. وبتقديم التضحيات موتوا قبل أن تموتوا الموت الحقيقي.. ذلك الموتَ الذي ضربتُ لكم أسمى الأمثلة له. وإذا أصابكم الموت في هذه الحالة فستبدأ الحياة الأبدية التي تمكِّنكم من الفوز برضا الله . فقد بلغ النبي الدرجات العلى في صلواته وتضحياته وعباداته، مما كشف له مفاهيم جديدة للحياة والموت.

وقد أمره الله تعالى أن يعلن للناس: ما لي ولهذه المطامع الدنيوية. أنا لا أبالي بتخويفكم، فإن كل عمل من أعمالي صار لوجه الله تعالى. ومَن كان كلُّه لله فإن الحياة الدنيا والموت لديه سيّانِ.

وبهذا الإعلان قد وجّه النبيُّ أنظارنا إلى أسوته الحسنة، وعلينا أن نسعى للتأسي بها عملا بقوله تعالى: فاتّبعوني يحبِبْكم الله . هناك محاولات تتم في كثير من بلاد العالم لتخويف أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية بالمخاوف المذكورة أعلاه. هذه الظاهرة منتشرة في باكستان على نطاق واسع، حيث تقع مثل هذه الأحداث هنا وهناك من حين لآخر. وكذلك يُضطَهد المسلمون الأحمديون في الهند أيضا في مناطق يكثر فيها المسلمون غير الأحمديين، وأكثر من يتعرض لتخويفهم وترهيبهم هم المنضمون الجدد إلى الجماعة. ولقد حدث ذلك في بعض البلاد الأوربية أيضا، إذ قد جاء في التقرير الوارد من بلغاريا أن المسلمين الأحمديين هناك قد تعرضوا للتخويف والترهيب بناء على تحريض مفتي المنطقة التي يكثر فيها المسلمون غير الأحمديين، فاعتقلت الشرطة 7 أو 8 من المسلمين الأحمدين بناء على تحريض المفتي المذكور، وعاملتْهم بقسوة شديدة، ولكنهم ثابتون كلهم على الإيمان بفضل الله تعالى.

فعلى كل أحمدي أن ينظر دائما إلى ما تعرَّض له النبي وأصحابه من تعذيب واضطهاد. والحق أننا لم نتعرض بعدُ لعُشْرِ مِعشار ما لقيه أولئك القوم. ولو فهمنا هذا الأمر جيدا وجعلنا عباداتنا وتضحياتنا خالصة لوجه الله تعالى متمسكين بمبدأ أن حياتنا ومماتنا لله رب العالمين، لنال كل واحد منا الحياة الأبدية، وتمكّنَ من إحياء آلاف النفوس الميتة.

فأولاً وقبل كل شيء يجب على كل أحمدي أن يركِّز على الدعاء، ويعيش في الدنيا متأسيا بأسوة النبي . فإذا كانت أعمالنا صالحة وتأسَّينا بأسوة النبي ، عندها فقط نتمكن من إحياء بقية أهل الدنيا، إضافة إلى حياتنا نحن. فلا بد لنا من أن نرفع مستوى عباداتنا متأسين بالأسوة الحسنة التي تركها لنا النبي .

ولكن ما هي تلك المعايير التي وضعها النبي لنا بهذا الصدد؟ هناك رواية عن السيدة عائشة رضي الله عنها – وقبل ذكرها أود أن أوضح هنا أن الكتاب الذي أشرت إليه قبل قليل (أنه طُبع في أمريكا) قد تمتْ فيه محاولات مشينة للإساءة إلى النبي استنادا إلى بعض المرويات المنسوبة إلى عائشة رضي الله عنها- ففي هذه الرواية تخبرنا السيدة عائشة مَن كان المحبوب الحقيقي للنبي . صحيح أن رسول الله كان يحبّها لكونها زوجة له، ولكن مَن كان محبوبه الحقيقي؟ تروي السيدة عائشة في هذا الصدد: كان النبي في بيتي في ليلتي – علمًا أن هذه الليلة كانت تأتي بعد تسعة أيام- وحين استيقظْتُ لم أجد النبي على الفراش، فخرجت مذعورة إلى باحة الدار، وإذ بالنبي في السجود وهو يقول: اللهم سَجَدَ لك روحي وقلبي.

هكذا كان النبي يتضرع أمام محبوبه الحقيقي. وهذا هو الرد على هؤلاء الذين يرمونه بتهم شنيعة.

ثم يقول النبي في وصف حالة نومه:

 “إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي”. (البخاري، باب قيام النبي بالليل)..

 أي أنّ قلبه يظل متيقِّظا. ثم ماذا كان يشتغل به في حالة يقظة القلب؟ إنما كان يذكر الله تعالى دائما، وكلما تقلب في فراشه ذكر الله تعالى.

والأدعية التي دعا النبي بها في مختلف الحالات والمناسبات وعلّمنا إياها بأسوته العملية.. أيضا تبين لنا أن ذكر الله وعبادته كان شعاره ودثاره . هذا هو المبدأ الذي علّمنا النبي إياه.. أي أن كل حركة للمؤمن وكل سَكَنَة يمكن أن تتحول إلى عبادة الله تعالى شريطة أن تكون خالصة لوجه الله تعالى وتدفعه إلى ذكره ، وأن تصدر إيمانًا منه أنها ستكون ذريعة لقرب الله . فمثلا، ذهب النبي ذات مرة إلى بيت بعض أصحابه الذي كان قد بنى بيتا جديدا، فرأى فيه نافذة، فسأله: لماذا وضعتَ هذه النافذة – الواضح أنه وجّه إليه هذا السؤال من أجل تربيته وتعليمه إذ كان يعرف لماذا توضع النوافذ في البيوت- فقال الصحابي: لكي يدخل منها الهواءُ والضوءُ. فقال : هذا صحيح تماما، ولكن لو قصدت بها سماع الأذان أيضا لِتذهب للصلاة لحقّقتَ حتمًا الهدفينِ اللذين ذكرتهما، كما نلت الأجر والثواب أيضا.

وفي رواية أخرى أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ (البخاري، كتاب الإيمان). ليس المراد من ذلك الحث على وضع اللقمة فقط في فم الزوجة، بل المراد ضرورة عناية المرء بأهله وأولاده وسد حاجاتهم. من المعلوم أنه من واجب الرجل أن يتحمل مسؤوليات البيت كلها، ولكنه لو أداها آخذًا في الحسبان أن الله تعالى هو الذي حمّله هذه المسؤولية وعليه أن يؤدي لوجهه تعالى حقّ الزوجة التي جاءت إلى بيته تاركةً بيت أهلها.. ويؤدي حق الأولاد، لنال على عمله هذا أجرا وثوابا كما صار عمله هذا عبادة. والحق أنه لو وضع كل واحد من المسلمين الأحمديين هذه الأفكار في الحسبان لاختفت كل أنواع الشجارات العائلية تلقائيا، إذ تنتبه الزوجة أيضًا إلى أداء مسؤولياتها وتقول في نفسها: إن الله تعالى قد حمّلني مسؤولية خدمة زوجي وأداء حقوقه الأخرى. فقد بشّر النبي كلا الفريقين أنهما لو فعلا ذلك لوجه الله لنالا رضا الله تعالى وأُثيبا عليه. لذا فعلى الإنسان أن يتنبّه إلى هذه الأمور وإن كانت صغيرة في الظاهر، فإنها هي التي تجعل البيت نموذجا للجنة.

هناك رواية أخرى عن عائشة -رضي الله عنها- عن عبادة النبي تقول: رأيت النبي في إحدى الليالي يدعو الله تعالى ساجدا في صلاة التهجد بهذه الكلمات: “سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي، رب هذه يدي وما جَنَيْتُ بها على نفسي. يا عظيم يرجى لكل عظيم، يا عظيم اغفِرِ الذنب العظيم.”

قالت: فرفع رأسه… فقال: إن جبريل أتاني فأمرني أن أقول هذه الكلمات التي سمعتِ، فقوليها في سجودك. (مسند أبي يعلى، مسند سعيد بن سنان)

انظروا كيف يُعبر عبدُ الله الكاملُ عن عبوديتِهِ الكاملة له، ذلك العبدُ الكاملُ الذي أمره الله تعالى أن يعلن للناس إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، فأعلَنَ بين الناس أنه ليس هناك عملٌ أقوم به برغبتي أو لنفسي ومصلحتي الشخصية، بل إن كل ما أقوم به إنما هو لله تعالى. فيدعو النبي بكل تواضع وخشية ويقول: رب قد ظلمت نفسي فاغفرْ لي ذنوبي.

الحق أن هذه الأمثلة قد ضُربت من أجلنا نحن لنستفيد منها، وألا نفتخر بأي عمل حسن نقوم به. يجب ألا نصاب بالعُجْب والغرور بل يجب أن نكون عباد الله المتواضعين، نخضع له ونطلب منه رحمته دائما.

أي أن كل حركة للمؤمن وكل سَكَنَة يمكن أن تتحول إلى عبادة الله تعالى شريطة أن تكون خالصة لوجه الله تعالى وتدفعه إلى ذكره ، وأن تصدر إيمانًا منه أنها ستكون ذريعة لقرب الله .

ثم هناك جانب آخر من سيرته أتناوله الآن، وهذا الجانب يتعلق بالعدل والمساواة. يقول النبي : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ارتكب فِيهِمُ الشَّرِيفُ جريمة تَرَكُوهُ، وَإِذَا ارتكبها فِيهِمُ الضَّعِيفُ عاقبوه، وهذا يجب ألا يحدث في أمتي.

لو أمعنا النظر فيما يحدث اليوم لوجدنا هذه الظاهرة شائعة على نطاق واسع.

ولكن اليوم أصبحت عدم المساواة ظاهرة منتشرة بين المسلمين. في زمن النبي سرقتْ امرأةٌ من قبيلة شريفة وكانت تُدعى فاطمة، فأمر النبي بتنفيذ حد السرقة عليها. فأراد الصحابة إنقاذها ولكن لم يتشجع أحد منهم ليكلِّم النبيَّ في شأنها، فأرسلوا أسامة بن زيد ليشفع لها. فلما شفع لها احمرّ وجه النبي وقال: لو سرقتْ بنتي فاطمةُ لأقمتُ عليها الحد نفسه. هذا هو معيار العدل والقسط الذي أقامه النبي .

يقول أبو ذر الغفاري: ذهبت بِفَتَيَيْن إلى النبي وقلت: إنهما يريان أنهما يصلحان لجمع أموال الزكاة، وأنا أزكّيهما أيضا. فقال النبي : يا أبا ذر، لا نعطي أحدا الإمارة عن مسألة، لأنه إذا أعطى الله تعالى أحدا الإمارة أعانه عليها.. أي إذا وُكِّل أحدٌ بخدمة دون مسألة وفَّقه لأدائها على أحسن وجه وأعانه عليها وبارك في عمله، وإِنْ أُوتِيَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلَ إِلَيْهَا. وكأن الله تعالى يقول إنك طلبتَ هذا المنصب ظنا منك أنك أهل له ورغبةً منك فيه، والآن يجب أن تتحمل كل المسؤوليات المنوطة به وسأرى كيف تقوم به حق الأداء. إذن، فإن الرغبة في الحصول على منصب راجعة إلى الاعتداد بالنفس. والله تعالى لا يحب أن يقدم الإنسان نفسه لمنصب. نرى أحيانا في بعض فروع الجماعة التي تفتقر إلى التربية الكافية أن بعض الناس يرغبون في المناصب لعدم علمهم بنظام الجماعة، وفي بعض الأحيان يصوّتون لأنفسهم أيضا في أثناء انتخابات المسؤولين. لقد أصبح الإخوة مطلعين على نظام الجماعة وقواعدها المتعلقة بالانتخاب إلى حد كبير بفضل الله تعالى إلا ما شذ وندر، والمعلوم أن الجماعة تمنع بناءً على القول السالف للنبي مِن أن يصوِّت الإنسان لنفسه، لأنه إذا أدلى بصوته لنفسه فكأنه يقول إني أنا الأنسب لهذا المنصب، فلا بد أن أتولّاه. وفي بعض الأحيان لا يُدلي مثل هؤلاء الناس صوتهم لأنفسهم، لأن نظام الجماعة لا يسمح لهم بذلك، غير أنهم لا يدلونه في حق غيرهم أيضا. والحق أن عدم إدلاء الصوت أيضا يدل على أن صاحبه يحسب نفسه أحق للمنصب دون غيره، وإن كان لا يستطيع أن يصوت لنفسه بسبب صرامة النظام غير أنه لا يدلي بصوته في حق أي شخص آخر أيضا. فيجب أن يتجنب الإنسان هذا التصرف أيضا، ولا بد من أخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار من منطلق التربية. فإذا كان أحد يتحلى بشيء من الكفاءة – سواء كانت علمية أو مهنية أو غيرها –  فيمكنه استغلالها من خلال مساعدته لأصحاب المناصب، ويمكنه أن يخدم الجماعة بدون تقلد أي منصب أيضا. فإذا كان أحد يريد خدمة الجماعة ابتغاء رضا الله تعالى فلا يهمه تولّي منصب مطلقا. لذا فيجب على جميع الأحمديين، بمن فيهم المبايعون الجدد وغيرهم من الشباب والكبار في السن والقدامى أيضا، أن يتقيدوا بهذه المبادئ. ولقد رأيت أن بعض الأحمديين القدامى يتجاوزون الحدود أحيانا ظنًّا منهم أنهم أكثرُ خبرة من غيرهم، فيجب أن ينتبه جميع المسؤولين في الجماعة إلى ما قلت جيدا ويجرّدوا أنفسهم بوجه خاص من كل أنواع الأنانية ليس بالاسم فقط بل يجب أن يكونوا بعيدين من الأنانية في الحقيقة، وعليهم أن يتذكروا دائما قول النبي إن صاحب المنصب إنما هو خادم القوم. وفي موضع آخر قال النبي مخاطبا أبا ذر الغفاري: المنصب أمانة، وهذه الأمانة موكولة من قِبل الله تعالى، والإنسان ضعيف بطبيعته. فإذا لم تؤدوا حق الأمانة فسوف تُسألون عند الله تعالى. فحاولوا أداء حق هذه المسؤولية والخدمة بكل تواضع وبكل ما أوتيتم من قوة وقدرة، فقد قال النبي إن صاحب المنصب خادم القوم، فعليه أن يخدم القوم ويدعو الله تعالى دائما أن يعينه في كل أمر وفي كل لحظة وعند كل خطوة، عندها يمكن أن يؤدي أصحاب المناصب حق المنصب والخدمة على أحسن وجه. يأتيني بعض الأحمديين أحيانا وعند استفساري يذكرون مجال خدمتهم في الجماعة، فأصحح أخطاء الشباب عادة الذين يقولون: عندي منصب كذا وكذا في هذه الأيام، فأقول لهم: ليس عندكم منصب بل قد كُلِّفتم بالخدمة. فلو نشأت عندكم فكرة الخدمة لاستطعتم القيام بها على ما يرام.

إن الأمثلة التي ضربتُها لكم قبل قليل من أسوة النبي وأمرِه لنا عن الخدمة والعدل والمساواة والبساطة، نرى كل ذلك متحققا في حياته كل حين وآن. فمثلا، كلّما خرج النبي للسفر ووُزِّعت المطايا القليلة على الصحابة وكان لاثنين – مثلا – مطية واحدة، واشترك صحابي مع النبي في مطية فحتى لو كان صغير السن فكان النبي يعطيه حق الركوب، مثلما كان يأخذه لنفسه.. أي كان يُركِب صاحبه ويترجل بالتناوب. هذا هو العدل والمساواة التي أقامها النبي .

يقول الله تعالى:

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (المائدة:9)

  انظروا كيف قدّم النبي أسوته المثالية في هذا الصدد. أضرب لكم مثالا واحدا بهذا الشأن. عندما فُتحت خيبر التي كانت حصنًا مشهورا لليهود، وزِّعت أراضيها على الغزاة المسلمين الذين اشتركوا في الحرب – والمعلوم أن أراضيها خصبة وبها بساتين نخيل – وحين وصل الأمر إلى تقسيم المحاصيل بعد حصادها جاء عبد الله بن سهيل مع ابن عمه مَحِيصَة، ولكنهما افترقا لبعض الوقت، فوجد بعضهم عبدَ الله بن سهيل وحيدا فقتله ورمى بجثته في حفرة. وكانت هناك قرائن قوية تشير إلى أن يهودا قد قتلوه لأنهم أهل المنطقة وقد أُخذت منهم أراضيهم، ومن ناحية ثانية لم تكن ثمة إمكانية أن يقتله أي مسلم لعدم وجود أية عداوة بينه وبين أي مسلم آخر. فلما عُرض الأمر على النبي – ورغم أنه كانت هناك قرائن قوية لاتهام اليهود بالجريمة كما قلت من قبل، وقد اتُّهِموا بها فعلا- فقال النَّبِيُّ لمحيصة: هل لك أن تحلف أن يهوديًّا قتله؟ فقال يا رَسُولَ اللهِ: أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ بعيني وبالتالي لا أستطيع أن أحلف. فقَالَ : إذن فليحلف اليهود ليبرِّئوا ساحتهم من قتله. قال محيصة: يَا رَسُولَ اللهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ يمكنهم أن يحلفوا زورًا مئة مرة. ولكن لما كان الأمر يتعلق بالعدل قال النبي : لو حلفوا لخلَّينا سبيلَهم. فحلفوا ولم يتعرّض لهم النبي قط، ودُفعت الدية لقتل عبد الله بن سهيل من بيت مال المسلمين.

هذا هو العدل، وهذه هي الأسوة التي تركها النبي . لم يترك النبي جانبا من جوانب الحياة إلا وقدم لنا فيه أسوته. خذوا أي جانب من جوانب الحياة تجدوا فيه أسوته الحسنة.

لقد ضربت لكم مثالا على عدله ، ولكن لو ألقيتم نظرة على سيرة كبار المشايخ في هذا العصر لوجدتم أنهم يعقدون بمناسبة مولد النبي حفلات ضخمة لن تجدوا فيها إلا السباب والشتائم الموجهة إلى المسلمين الأحمديين. يتشدقون كثيرا باسم ختم النبوة ولكن ينتهي بهم الأمر إلى التطاول بلغة بذيئة ضد المسيح الموعود . ولكن انظروا إلى التربية الحسنة التي ربى بها صحابته، فمع أن الأحداث كانت تشهد والقرائن تشير بكل جلاء أن اليهود هم الذين قتلوا ذلك المسلم، إلا أن محيصة لم يحلف يمينا كاذبة إذ لم ير الحادث بعينيه. أما كبار المشايخ المزعومين.. في هذا العصر.. الذين يدّعون بأنهم حملة راية الإسلام فإنهم يحلفون كذبا وزورا، ويرفعون ضد المسلمين الأحمديين قضايا زائفة بناء على كذباتهم. يذهبون إلى مخافر الشرطة ويحلفون كذبًا ويسجلون القضايا ضد الأحمديين بتهم بذيئة وسخيفة جدا. ثم هناك من يدلون بشهاداتهم مؤيدين لهم، ولا يخافون الله أدنى خوف. لو كانوا متأسِّين بأسوة النبي لخافوا الله تعالى حتما.

لقد قال محيصةُ إن اليهود سيحلفون كذبًا. وفكِّروا الآن وانظروا من ذا الذي ينطبق عليه هذا الكلام اليوم. رحم الله المسلمين البسطاء الذين صاروا ألعوبة في أيدي هؤلاء المشايخ المزعومين ويتورطون في تصرفات غير لائقة مخدوعين بأقوالهم، ولا يعرفون كم من العائلات والبيوت قد تعرضت للتشرد والهلاك.

فالاستغراق في العبادة يمثل ضمانا للحياة. وبتقديم التضحيات موتوا قبل أن تموتوا الموت الحقيقي.. ذلك الموتَ الذي ضربتُ لكم أسمى الأمثلة له. وإذا أصابكم الموت في هذه الحالة فستبدأ الحياة الأبدية التي تمكِّنكم من الفوز برضا الله

لقد حرَّم الله تعالى بكل شدة أن يسفك مسلم دمَ مسلم، ومَن فعَل ذلك عاقبه الله في هذه الدنيا وكتب له العذابَ في الآخرة. بينما صار دم المسلم في هذه الأيام أرخص من دم الحيوانات أيضا بالنسبة لهؤلاء القوم.

إن النصيحة الأخيرة التي أسداها النبي يوم حجة الوداع هي: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. وهكذا قد جعل النبي المسلمين مسؤولين عن حماية أعراض وأموال بعضهم بعضا. ولكن ماذا يحدث في هذه الأيام؟ ففي باكستان مثلا ينهب بعضُهم بعضا، ويتعرض هناك المسلمون الأحمديون للسرقة والنهب باسم الله، في حين أن النبي قال إن الذي ينطق بالشهادة فهو مسلم. رحم الله المسلمين ووفَّقهم أن يتأسوا بالأسوة الحقيقية التي قدَّمها مَن كان رحمة للعالمين، فيرثوا رحمة الله تعالى. وفَّقنا الله نحن أيضا أن نتأسى بأسوته  الحسنة ونصبِّغ حياتنا بصبغته، آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك