الجن.. بين الحقيقة والخرافة (9)
لننظر في الاستعمال النبوي لهذه الكلمات كما جاءت في الأحاديث النبوية، أو تلك المنسوبة إلى النبي .
أُوْلى هذه الروايات ما جاء في الصحيحين أن النبي قال:
قال ابن عقيل: الجن داخلون في مسمى الناس لغةً. وقال الراغب: الناس جماعة حيوان ذي فكرٍ ورَويّة، والجن لهم فكر وروية. وقال الجوهري: الناس قد تكون من الإنس والجن.
ومعنى قولهم هذا إن كلمة (الناس) على إطلاقها تعني الجن والإنس.. ويقول إن الجن في الاستعمال القرآني صنف من الناس. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (بُعثتُ إلى الأحمر والأسود) أي الإنس والجن. وفي رواية ثالثة: (أرسلت إلى الجن والإنس).
وقال الإمام ابن تيمية: أرسل الله محمدًا إلى جميع الثَقَلين: الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان بما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما أحل الله ورسوله، ويحرموا ما حرَّم الله ورسوله، ويحبوا ما أحبَّ الله ورسوله، ويكرهوا ما كره الله ورسوله.
وإذا تأملنا في قول الإمام ابن تيمية تبين لنا أن تحليل ما أحل الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، يقتضي أن تقوم الجن بكل ما كُلِّفَ به الإنس.. ولا يتأتَّى هذا إلا كان الفريقان من جنس واحد هو الجنس البشري.. والفرق بينهما هو الوضع الاجتماعي أو الوظيفي. وإلا.. فلماذا لم يخرج الجن المؤمن مع المسلمين للقتال والجهاد؟ وأين كان الجن المؤمن في غزوة أُحُد حين هُزِم المسلمون؟ أم أن القتال قد كُلِّف به البشر فقط؟! ثم هناك الحديث الذي أورده البخاري عن أبي هريرة :
وفي رواية أخرى:
ومع أن هذا الحديث وارد في صحيح البخاري إلا أنه فيما أحسب يثير علامة استفهام محيرة. ولا مناص لصحته من أن يكون الذي تعرض له أحد شياطين البشر الذي لم يتعرف النبي على شخصيته لِتَخَفيه وتنكُّره، فسمّاه شيطانا أو عفريتًا من الجن. وربما كان الأمر من قبيل الكشف رآه النبي فحكاه لبعض الصحابة. أما أن يكون المعترض كائنًا من الكائنات الأسطورية المزعومة فماذا يكون الجواب على ما يلي:
شيطان الرسول قد أسلم فلا يأمره بِشرٍّ، فكيف يحاول إفساد صلاته؟ هل الشياطين والعفاريت تتعرض للبشر هكذا جهرة.. أم تتسلل وتوسوس؟ وهل كانت هذه الكائنات -حسب زعمهم- مما تُغَالَب بَدَنيًّا، وتُقَيَّدُ بالحبال، وتراها العيون البشرية؟
وهل دعوة سليمان تمنع النبي من تأديب العفريت، أم كان هذا وقفًا على سليمان وحده؟ وهل من عمل النبي أن يحفظ لسليمان دعوته بنفسه أم أن الله تعالى هو الذي لم يمكّنه من فعل ما اعتزمه؟ وألا يجب علينا بناء على ذلك أن نمتنع عن استخدام الريح والطير لأنها تدخل في دعوة سليمان وكانت فعلاً مسخَّرةً له؟
ولا بد من استبعاد هذا الفهم السخيف احترامًا لمكانة النبي أولاً، ثم لأنه يخالف العقل والواقع وسُنن الحياة.
ثم هناك الحديث الذي أخرجه أبو نعيم عن ابن الحارث ويتلخص فيما يلي:
خرج النبي لحاجته، فأتاه راوي الحديث بماء للوضوء، فسمع عنده لَغَطًا، فسأله: يا رسول الله سمعت عندك خصومةَ رجال ولغطًا ما سمعت أحَدَّ من ألسنتهم! قال : اختصم عندي الجن المسلمون والجن المشركون، سألوني أن أسكنهم، فأسكنت المسلمين الجلس “أي المرتفع الغليظ من الأرض”، وأسكنت المشركين الغور “أي المنحدر من الأرض”.
ومثل هذا الحديث لا يصمد للعقل السليم. ففيم اختصام الجن والصحراء أمامهم تمتد واسعة مترامية الأطراف تَسعُ الملايين منهم؟ وعلى أي أساس يحكم النبي بينهم في مشكلة المسكن؟ هل يعرف متطلبات حياتهم وما يلزمهم للسكن؟ ولماذا يفضّل فريقا منهما على الآخر ولم يوزع بينهم الأرض بالتساوي؟ وهل يكون الاحتكام والحكم في مثل هذا الموضوع والظرف؟ وهل هم يتحدثون بأصوات ويحدثون لغطًا كالإنس، حيث يسمع الناس لغطهم؟ وهل يعني هذا أن الناس إذا لم يسمعوا لغط الجن فإنه لا يكون لهم وجود؟ وما الذي يُلزم المشركين منهم بقبول حكم النبي ؟ اللهم إن كل المواصفات التي وردت في الحديث تجعل منهم بشرًا مثل كل البشر، ولكن الغرابة في تسميتهم بالجن دون ما سبب واضح!! ولماذا لم يبادر راوي الحديث بالدخول إلى موضع اللغط ليستجلي الأمر ويدفع عن النبي إذا لزم الأمر؟!
وهناك الحديث الذي رواه البيهقي عن ابن مسعود قال:
(استتبعني رسول الله فقال: إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني أخوة وبني عم.. يأتونني الليلة سأقرأ عليهم القرآن.. فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد. فخط لي خطًّا وأجلسني فقال: لا تخرج من هذا. فبِتُّ فيه حتى أتاني رسول الله مع السَّحَر، في يده عظم حائل وروثة وحممة (خشب محترق) فقال: إذا ذهبت الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء. قال: فلما أصبحتُ علمتُ حيث كان رسول ، قال: فذهبتُ فرأيتُ موضعَ مبرَكِ ستين بعيرًا).
ولا بد من استبعاد هذا الفهم السخيف احترامًا لمكانة النبي أولاً، ثم لأنه يخالف العقل والواقع وسُنن الحياة.
وهذا الحديث دليل أيضًا على أن النفر الذين قابلوا النبي من إحدى القبائل التي كانت مارة بمكة، وأرادوا لقاء النبي بعيدًا عن العيون التي كانت ترصد حركات النبي وتحول بينه وبين الناس، فضربوا له موعدًا في غسق الليل خارج شعاب مكة. واصطحب النبي ابن مسعود ليراقب الطريق ويحذر الجميع إذا لزم الأمر. ومن المعلوم أن البشر وحدهم هم الذين يركبون الجمال المعروفة التي تترك آثار سيرها وبروكها في الأرض. ولو كان النفر من الجن الأسطوري ما ركبوا بعيرًا، ولو كان لهم بعير لكان من الجن أيضًا! ولما ترك أثر روث يُرَى على الأرض. ولقد كنّى النبي عن النفر باسم الجن حتى لا يتعرف عليهم أحد، ولا يتسرب خبرهم عن طريق الخطأ إلى المشركين. ولقد صدق النبي في إطلاق اسم الجن عليهم لأن القوم كانوا مستترين عن أنظار قريش بظلمة الليل. ولعل النبي ذهب إلى الخلاء بعد اللقاء، وبحث عن أحجار ليستنجي بها فوجد معها بعض العظم والروث والخشب المحترق، وهي أشياء لا تصلح لهذا الغرض، فوجدها فرصة لتعليم الصحابي حتى يتجنب استعمالها فتُلوّث بدنه بدلاً من أن تزيل عنه الخبث.
ولقد أدى الخلط بين واقعة لقاء الجن وتعليم النبي بشأن المواد التي لا تصلح للاستنجاء إلى خلط أشد فيما يتعلق بمسألة الجن فقد أورَدَ أبو داود حديثًا منسوبًا إلى عبد الله ابن مسعود قال فيه:
وفَهِمُوا من هذا القول.. أن الجن المكلفين بعبادة الله، المأمورين بذكره، يأكلون هذه الأشياء.. وهو لأمر مُغرق في الخرافة والسخف. أولاً لأنه طعام مادي لا يستقيم أن تأكله المخلوقات غير المادية وتبقى بعد ذلك مستترة. وثانيًا لأنه يشتمل على نجاسات ونفايات محرمة على المسلمين بحكم القرآن نفسه الذي يقول:
والجن يحرم عليهم ما يحرم على الإنس. فكيف يتطهر الجن ويتوضأ ويصلي وفي جوفه الروث والنفايات. وكيف يأمرهم الله أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم. فيأكلون العظم الذي ترمم وروث البهائم الملوث بالنجاسات؟! ويمن الله على الجن بعض نعمه من فاكهة وريحان ولحم وحب ورمان، وما إلى ذلك من الطيبات فهل يستبدلون به الروث ؟ وما دخلُ النبي بطعامهم وهم (كما تقول التفاسير الأسطورية) القادرون على الانتقال من اليمن إلى الشام يحملون عرش بلقيس في طرفة عين ويصعدون إلى السماء الدنيا ليتسمعوا على الملأ الأعلى.. هل يعجزون عن إحضار طعام لهم من أي مكان على الأرض حتى يطلبوا الطعام من النبي .. وهم القادرون على الإتيان به من أقصى الأرض- حسب قول الذين يعتقدون بأن الجن خلق مختلف وخارق القدرة؟ أوليس من الغريب أن يقضي المسلمون الأوائل ثلاث سنوات في حصار بمكة، يقاطعهم المشركون ويمنعون عنهم الطعام حتى جف اللبن في أثداء المؤمنات فلا يجدن ما يرضعن به أطفالهن.. ثم لا يمنحهم النبي هذه التسهيلات الغذائية وهم في أشد الحاجة إليها، ثم يسارع إلى منحها لوفد الجن القادرين على التصرف بيسر؟ لو كان الأمر كذلك لكان الأطفال الرضع والعجائز أولى من الجن بذلك.
لا شك أن الرواة خلطوا بين واقعتين مختلفتين: الأولى لقاء النبي بالقوم الذين سماهم الجن، والثانية هي توجيه النبي للصحابي بتجنب استعمال الأشياء الملوثة والنجسة في الاستنجاء. ويبدو أن الواقعتين كانتا متقاربتين فرواهما الصحابي في مقالة واحدة، فاختلط الأمر على من نقلهما وربط بينهما في هذا المزيج المتنافر. وقد أدى الأمر بعد ذلك إلى سوء فهم أو تحريف لأحاديث أخرى. فمثلاً هناك روايات تقول:
“بينما أنا مع النبي يمشي جاءت حية فقامت إلى جنبه، فأدنت فاها من أذنه كأنها تناجيه أو نحو هذا. فقال النبي : نعم. فانصرفت. فلما سأله جابر أخبره أنه رجل من الجن وأنه قال: مُرْ أُمَّتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة، فإن الله جعل لنا في ذلك رزقًا” (رواه ابن العربي).
وعن ابن مسعود “قال : أتاني داعي الجن، فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.. قال: فانطلِق بنا فأرِنا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد..إلخ الحديث” (رواه الشيخان).
فيلاحظ في تلك الروايات أن الجن الذين قرأ الرسول عليهم القرآن كانت لهم آثار بشرية عادية. أما موضوع الزاد فهو خلط بين النهي عن استعمال القاذورات النجسة في إزالة النجاسة وبين مقابلة الجن. كما أن الجن لو كان طعامهم حقًا هو الروث..فلن يضيرهم أن يزداد الروث بعض فضلات آدمية، وما نظن أن روث البهائم أنظف وأكثر فائدة للجن من فضلات الآدمي!!
أما عن الحية التي تطلب من الرسول أن ينهى أمته عن فعل شيء.. فما نعتقد أن النبي يتلقى التشريع من الحيات وغيرها! ولو أنه نهى عن شيء لكان ذلك بأمر إلهي.. حتى لا يتطاول سفيه ويقول إن نبيكم يُشرع لكم من همسات الأفاعي!!
أما حديث أبي داود، إذا صح عن النبي ، فيمكن أن يكون كشفًا له رأى فيه تلك المخلوقات الخفية الضارة التي تؤذي الإنسان -والتي نعرفها اليوم باسم الميكروبات والفطريات والبكتريا- والتي تتغذى وتتنفس وتجد حياتها في تلك الرمم والنفايات، وحق له أن يسميها الجن بسبب استتارها عن أعين البشر. ونهى عن استعمال هذه الأشياء تجنبًا لضررها، وتطهرًا من دنسها. وفي مثل هذا الكشف الغيبي إعجاز عظيم لنبي الطهر والنقاء.
وهناك شاهد لهذا المعنى في كشف ثان للنبي قال فيه: “الطاعون وَخْزُ أعدائكم من الجن” (رواه أحمد في مسنده) ولا شك أننا نعرف اليوم أن الطاعون يصيب الإنسان بوخز من حشرة البرغوث فتنتقل إلى جسمه جراثيم المرض. وكل هذه من الكائنات المستترة عن النظر الآدمي. أرأيتم عظمة الخبر النبوي وأنبائه الغيبية الرائعة!
وهناك الحديث الذي أورده البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: “قرأ رسول الله سورة (الرحمن) حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتًا؟ الجن كانوا أحسن منكم ردًّا.. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة -يعني: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ – إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد”.
والحديث الشريف يبين أن النفر الذين استمعوا إلى النبي يتلو سورة (الرحمن) كانوا ممن صفت نفوسهم وصدقت قلوبهم، فاعترفوا لله تعالى بكل نعمة منَّها عليهم في السورة. ولعل الأنسب عند سماع الاستفهام التقريري أن يعلن السامع إقراره بالحق. ولو تأملنا النعم التي وردت في سورة (الرحمن) لوجدنا أنها كلها نعم تتعلق بالبشر الذين يعيشون على الأرض حياة البشر المألوفة، وليس منها ما يخص قومًا من غير البشر المخلوقين من لحم وعظم.
وهناك رواية أخرجها الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله لم يقرأ على الجن ولا رآهم، وإنما لما حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، واُرسِلت عليهم الشهب، بحثوا في الأرض ليعرفوا السبب، حتى لقي جماعة منهم رسول الله وهو يصلي بجماعة من أصحابه.
وهذه الرواية تفسير لآيات سورة (الجن) بحسب فهم ابن عباس أو بحسب ما اختار أنه المناسب لمن فسرها له. ويبدو أنه أراد بيان أن الرسول لم يقابل ذلك الصنف من الكائنات التي كان العرب يسمونها جنّا. ومع ذلك فليس كل ما ورد عن ابن عباس قاله ابن عباس، وليس كل ما نُسب إلى ابن عباس لا بد وأن يكون حجة أو صوابًا. ثم إن الشهب سُنة كونية أزلية.