- المدعي والمدعي الكاذب
- سُبل المعاندين
- لا سبيل للمعاندين
- توكل المؤمنين
- بصيرة الإيمان وعمى الكفر
- جلاء البيان النبوي
التفسير:
ما أرَوَعَه مِن بيانٍ، حيث يخبرنا الله تعالى أن المدّعي الكاذب يكون أظلم القوم، وأن المفترين موصومةٌ وجوههم بلعنة من عند الله تعالى، فليس صعبًا في الواقع التمييزُ بين الصادقين وبين الكاذبين ممن يدّعون النبوءة، بل يُعرف المتنبئون منهم بما يظهر على وجوههم من آثار الكذب والزور واللعنة. ولذلك سيقول الأنبياء الصادقون يوم القيامة لمنكريهم وهم يشيرون إلى أولئك المتنبئين الكاذبين: انظروا إليهم، هكذا تكون وجوه الكاذبين، فلا شك أنكم كذّبتمونا لخبث باطنكم.
شرح الكلمات:
عِوَجًا: العِوَج: اسمٌ مِن عَوِجَ ضدُّ استقام أي انحنى. العَوَج في الأجساد، والعِوج في المعاني (الأقرب).
التفسـير:
يمكن تفسير قوله تعالى ويبغونها عِوجًا بطريقين: الأول: أنهم يريدون لسبيل الله تعالى عِوجًا وفسادا، يقال: بغيتك الشرَّ أي طلبتُ لك الشر (فتح البيان)، والمراد: أنهم لا يكتفون بصدّ الناس عن سبيل الله تعالى، بل يسعون جاهدين لكيلا يطَّلع الناس على ما فيه من خير، ويَعرِضونه عليهم عرضًا بحيث لا يرونَ فيه إلا المساوئ والعيوب. وهذه مكيدة يلجأ إليها أعداء الحق دائما، إذ يسـعون دومًا لإخفاء جمال الحق وأن يطـفئوا نوره، وينسجوا حوله من الأكـاذيب والأباطيل ما يجعل الناس يرون ما فيه من حُسن وجمال قُبحًا وعيبًا ونقصانًا.
والثاني: هو أنهم يبغون للذين يطلبون سواء السبيل عوجًا أي أنهم يتمنون للسائرين في سبيل الحق أن يضلوا عنه وينحرفوا، بل وإنهم يبغـون إيذاءَهم.
التفسـير:
كلمة الأرض تعني الكرة الأرضية عمومًا، ولكنها إذا ذُكرت مقرونةً بالحديث عن قوم فيُراد بها بلدهم وملكهم. يقول الله تعالى: إن المفترين لا يمكن لهم أن يحققوا الغلبة في البلاد أبدًا، بمعنى أنه لا يُكتب لمكائدهم النجاح، وإنما يبقون متعثرين بما نسجوه من مكر وكيد، حيث لا يلقون أي نصر من عند الله تعالى، كما لا يجدون لهم صديقًا مُعينًا من الناس لافترائهم على الله ومخالفة سبيله. ولا يعني ذلك أنهم لا يجدون أي صديق ولا وليّ على الإطلاق وإنما المراد أنهم لا يجدون صديقًا يغني عنهم شيئًا ويساعدهم على تحقيق مراميهم.
كما وليس المراد من قوله تعالى وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ أن الله تعالى هو يكون وليّهم ولا أحد غيره، بل المعنى أنهم سيُحرَمون من ولاية الله لافترائهم عليه، ثم إنه – لغضب الله عليهم – لن يستطيع أصدقاؤهم الذين هم على شاكلتهم أن ينصروهم على الله أبدًا.
وأما قوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ فاعلم أن الضِعف يأتي بمفهومين: بمعنى الضِعفين أو بمعنى الزيادة مطلقًا. ونظرًا إلى المعنى الأول تعني الجملة: أن الله سوف يعذّبهم بعذابين، عذاب على معاصيهم، وعذاب على ذنوب من أضلّوهم. والمعنى الثاني لها: أنه تعالى سوف يزيد عذابهم باستمرار، ذلك لأنهم قد بذروا بذرة السوء التي لا تزال تنمو بنفسها وتُنبت سيئات أخرى.
وأما قوله تعالى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ فهو استغراب من حالة المفترين، بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون.. أي لقد مضى قبلهم كل من الصادقين والكاذبين من مدّعي النبوة، ولكن العجب من هؤلاء أنهم لا يستمعون إلى أخبار الأوائل ولا يعتبرون بمصيرهم!
شرح الكلمات:
خسروا: خَسِرَ: ضدُّ ربِح؛ ضلّ؛ هلَكَ (الأقرب).
وبهذه المناسبة أذكر أني بحثت في المعاجم والقواميس عن فعل “خسر” فلم أجده يستعمل إلا لازمًا، ولكن العجيب أن جميع المفسرين فسروا كلمة “خسروا أنفسهم” متعدية بمعنى “أُهلكوا”. أما صاحب “التاج” فيقول: “لا يُستعمل هذا الباب إلاّ لازمًا كما صرح به أئمة التصريف”. ثم يقول: “إن هؤلاء الأئمة أخطأوا حين ظنوا أن القرآن استخدم هذا الفعل متعديا”.
الواقع أن الفعل لازم، ولكن المؤسف أن قواميسنا متأثرة بالدين حتى جعلوا اللغة أيضا تحت تأثير التفاسير، وهذا لم يخدم الإسلام شيئا وإنما أضر به إذ اختفت بسبب هذا التصرف الكثيرُ من معارف القرآن عن أعين الناس. ليت هناك من يشمّر عن ساعد الهمة والجد ويصنف قاموسًا لغويًا يكون متحررًا تمامًا من تأثيرات التفاسير الدينية، حتى يخرج الناس من هذا القيد الضاغط المجافي للحق.. فيسهل عليهم فهم القرآن الكريم!
فمثلاً في قضية “خسر” لو أننا لم نخضع لرُعب التفاسير والتزمنا بقواعد اللغة.. لحللنا هذه المسألة بدون اللجوء إلى مخالفة القواعد لجَعْلِه متعدياً. فيمكن أن نعامله معاملتنا لفعل “سَفِهَ” كما في قوله تعالى (سَفِهَ نَفْسَه).. بتقدير حرف جر محذوف تقديره (في)، أي سفه في نفسه؛ أو نعتبر كلمة (نفس) تمييزاً يأتي أيضاً معرفةً كشاذ. كذلك في (خسروا أنفسهم) يجوز تقدير المعنى: خسروا في أنفسهم، أو اعتبار (أنفسهم) تمييزًا.
لا جَرَمَ: مِن جَرَمَ يجرِم جَرمًا: قَطَعَ. قال الفرّاء: هي كلمة كانت في الأصل بمنـزلة “لا بدّ” “ولا محالة”، فجَرَت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القَسَم وصارت بمنـزلة حقًّا، وهو مأخوذ من معنى القطع (الأقرب).
التفسـير:
أي لا شك أن هؤلاء ينجحون إلى حد ما في مكائدهم في الدنيا ويُلحقون بأنبيائنا بعض الأذى، ولكنهم في الآخرة لن يلقوا إلا خسرانًا مبينًا.
شرح الكلمات:
أخبتوا: أخبتَ القومُ: صاروا في الخَبتِ وهو ما اطمأن واتّسع من الأرض؛ وأخبَتَ إلى الله: اطمأنّ إليه وتخشّع أمامه (المنجد). وكأنما أشار باستخدام هذه الكلمة إلى أنهم يجدون في إنابتهم وخشوعهم أمام ربهم السكنيةَ والطمأنينة، فينقطعون إليه عما سواه، كما يجد الإنسان الراحة في المشي في الأرض الواسعة المستوية.
التفسـير:
يتضح من الآية أنه لا يكفي الإنسان في سبيل نيل الكمال الروحاني أن يطمئن بالإيمان وصالح الأعمال فحسب، بل يتطلب ذلك منه أن يتصف أيضا بالتوكل الكامل والاطمئنان البالغ والحب الجمّ لله عز وجل. فكما أن الرضيع لا ينعم بالراحة إلا في حضن أمه، كذلك لا بدَّ لمن يريد إحراز الرقي الروحاني أن يكون محباً لله حُبًّا جَمًّا واثقًا به، منيبًا إليه جل شأنه، وإلا فلن يحظى بقرب الله أبدا.
شرح الكلمات:
الفريقين: الفريق: الطائفةُ من الناس أكثر من الفِرقة، وربما أُطلق الفريق على الجماعة قَلّت أو كثُرت. (الأقرب)
التفسـير:
لقد قام القرآن هنا بالمقارنة بين الإيمان والكفر، معتبرًا المؤمن بصيرًا وسميعًا، والكافر أعمى وأصمَّ. مع العلم أن القرآن الكريم لا يريد سبّ أحد بإطلاق هذه الكلمات عليه، وإنما يريد بها بيان الواقع. فلا يظنّنّ أحد أنه تعالى يصف الكافرين هنا بالعمى والصَمَم عبثًا ودون هدفٍ أو قصد، بل إنه يبيّن عن طريق هذا المَثل حقيقة الكفر. ولكي ندرك المراد القرآني هنا يجب علينا أن ننظر إلى ما يميّز البصير السميع عن الأعمى والأصم.
ولنأخذ أولاً البصير والأعمى. إن أول ما يمتاز به البصير عن الأعمى أن الأول يستطيع رؤية النور بينما لا يقدر الأخير على رؤيته.
والفارق الآخر بينهما أن هذا يصل إلى غايته المنشودة بسرعة، ولكن الأعمى لا يصل إليها بسرعة وإنما ببطء، متحسّسًا هنا ومتعثرًا هناك.
والفارق الثالث بينهما أن البصير يقدر على التمييز بين صديقه وعدوه، فلا يهاجم إلا عدوه، ولكن الأعمى غير قادر على ذلك، فمن المحتمل تماما أن يضرب الصديق وهو ينوي ضرب العدو.
هذا هو حال المؤمن بالدين الحق وبين الكافر. فالذي يحب الله يستطيع أن يعرف الكلام النازل من عنده تعالى في حين أن الذي لا يكنّ لله حبًّا حقيقيًا يُحرم من القدرة على معرفة كلامه تعالى. فالمؤمن يكون دائم الوعي للمشيئة الإلهية التي هي بمثابة النور الذي يهدي إلى السبل الروحانية، بينما المنكر للحق يكون أعور العين الروحانية، فيبقى محرومًا من إدراك المشيئة الإلهية.
فالخلاصة أن الدين الحق يستجمع في نفسه كلَّ ما هو حق وحسن، ولكن الديانات الباطلة تميل إلى التعصب والعناد.
ثم إن المؤمن الحقيقي لا يزال ينشد من الله الهدى والإلهام في مسيرة الحياة، فلا يتعرض للتعثر والسقوط وإنما يصل إلى هدفه دون عائق، ولكن الذين يعتمدون على عقولهم فقط قد يصلون إلى الحق، ولكن بعد آلاف الزلات والعثرات. وأضرب مثلاً واضحًا على ذلك هو تحريم الخمر، فلقد حرّمها الإسلام دفعة واحدة قبل ثلاثة عشر قرنا، فامتنع المسلمون عن تعاطيها على الفور دونما تردد، في حين أن العالم الآخر لم يقتنع بمضار الخمر إلا مؤخرًا وذلك بعد تعرضه للعثرات والمعاناة طوال هذه المدة.
والفارق الثالث بين الفريقين واضح وجليّ أيضا، فالمؤمنون بالحق يتمسكون بمبدأ موحَّد واضح دون أن يُحدث ذلك أي تعارض بين عقيدة لهم أو أخرى، ولكن أهل الباطل لا يزالون متخبطين، لا يعرفون موقفهم بالضبط، ويعميهم التعصب لدرجة أنهم يهاجمون أحيانًا معتقداتهم أنفسهم وهم يحاولون إبطال ما يؤمن به أهل الحق. ومن أجل ذلك نبّه الإسلام معارضيه مرارًا وتكرارًا إلى أن يكونوا حذرين أثناء هجومهم على المسلمين، إذ إن هجومهم يكون في بعض الأحيان موجّهًا في الحقيقة إلى عقائدهم هم من حيث لا يشعرون.
والتشبيه الآخر هو عن السميع والأصم، فنجد أن الأول يمتاز عن الآخر بأنه يستفيد من خبرة الآخرين، ولكن الأصم محروم من هذه الميزة، إذ لا يسمع فلا يستطيع الاطلاع على خبرات الآخرين وأفكارهم. وهذا هو الفارق بين الإسلام والديانات الأخرى. إن الإسلام أو المسلم يستوعب في نفسه كل ما هو حق أيًا كان مصدره، ولكن معارضي الإسلام يكتفون بما عندهم من أفكار بالية تافهة، متغافلين عما عند غيرهم من حقائق ومحاسن. ولقد قال النبي مشيرًا إلى نفس هذا الفارق:”كلمة الحكمة ضالة المؤمن أخذها حيثما وجدهًا” (الترمذي، العلم).
فالخلاصة أن الدين الحق يستجمع في نفسه كلَّ ما هو حق وحسن، ولكن الديانات الباطلة تميل إلى التعصب والعناد.
إنه لممّا يدعو إلى العجب أن ما يعرضه العدو كعيب في الإسلام يعتبره القرآن فضيلة وميزة. مثلاً يقول المعترضون بأن الإسلام قد انتحل حقائق ومحاسن الديانات السابقة، فيرد عليهم القرآن بأن هذا ليس منقصة ولا عيبًا، بل هو دليل على فضل الإسلام ونزاهته، فهو ليس كالأصم الذي يبقى على ما عنده من خصوصيات وفضائل، بل إنه كالسميع الذي يستوعب في نفسه علوم الآخرين ومعارفهم، ويزيد عليها ويطورها ليكون علمه كاملاً، ولذلك استجمع الإسلام في ذاته كل ما لدى الديانات الأخرى جمعاء من تعليم حسن أو حكمة نافعة، إلى جانب الحقائق الأخرى الخاصة به دون أي دين آخر.
هذا وإنه تعالى قد أشار بضرب مِثال البصير والأعمى أو السميع والأصم إلى ميزة أخرى ينفرد بها الإسلام عن غيره ألا وهي استمرار ظهور الآيات السماوية والمعجزات الإلهية ونزول الوحي والإلهام في الإسلام. ذلك أن العين المبصرة إنما هي تلك التي ترى آيات الله المتجددة باستمرار، أما التي تُحرم من رؤية تلك الآيات فهي عمياء. كذلك الأمر بالنسبة للأُذن فليست الأذن النافعة إلا التي تسمع نداء الله تعالى، لأن هذه هي الوظيفة الطبيعية للأذن، أما التي لا تسمع نداءه فإنها في الواقع صمّاء عاجزة.
التفسـير:
لقد بيّن القرآن الكريم من قبل أن المتنبئين أو أتباعهم لا يتعظون بمصير الصادقين ومصير الكاذبين ممن ادّعوا النبوة في الذين خلوا من قبل، كما أنهم لا يستمعون لأخبارهم وأحوالهم. وقد ضرب لبيان حال الفريقين مثال البصير والأعمى والسميع والأصم. أما الآن فأخذ القرآن يوضح هذه الحقيقة بتقديم أمثلة من التاريخ، حيث اختار منها أولاً مثال سيدنا نوح وقومه فقال: انظروا إلى أحوال نوح الذي كان من أنبيائنا الصادقين والذي قد أخبر قومه بأنه لهم نذير مبين.
إنه لمن البراهين الساطعة على صدق كل نبي صادق أنه يعلن على الملأ أنه (نذير مبين). ولهذه الجملة مفهومان:
الأول: أنه لا يُخفي على الناس تعليمه الحقيقي أبدًا ولا يُسرّ من أعماله شيئًا، بل يقدّم لهم كل ما يؤمر به شاءوا أم أبَوا. بينما يحاول المتنبئون إخفاء تعاليمهم الحقيقية سعيًا لضمّ الناس إلى صفهم، وخوفًا من أن ينصرفوا عنهم. خذوا مثلاً البهائيين الذين يسعون اليوم جاهدين لإخفاء تعاليم البهاء والباب عن العالم، ولا يسمحون للناس بالاطلاع على مؤلفاتهما، حتى إنهم جمعوا بعض ما كتبه البهاء وقاموا بإتلافه.. (كتاب نقطة الكاف ص 247).
والمعنى الثاني: أنّ إنذار النبي الصادق يكون إنذارًا مُبينًا، بمعنى أنه لا ينذرهم عبثًا ولغوًا، بل يكون إنذاره مبنيًا على الأدلّة والبراهين، لذلك فإن إنذاره القومَ لا يبعث على القنوط واليأس فيُسْلِمهم للهلاك والدمار بل إنه يزيدهم يقظةً وصحوةً ونهوضًا. ولكن المتنبئين الكاذبين يُنذرون القوم عبثاً وهم يقلّدون الأنبياء الصادقين، فيزيد إنذارهم الطينَ بلة، ويُسْلِم القوم إلى اليأس والهلاك. وهذا الأمر لا يخصّ المتنبئين فقط، بل هذا هو دأب الجهّال كافةً، فلا يكون إنذارهم إلا عبثاً لا جدوى منه، إذ لا يعلمون أن التحذير والوعيد لا يجديان نفعًا في كل الظروف بل ربما تكون النتيجة على عكس ما يتوقعونه.
فكما أن الرضيع لا ينعم بالراحة إلا في حضن أمه، كذلك لا بدَّ لمن يريد إحراز الرقي الروحاني أن يكون محباً لله حُبًّا جَمًّا واثقًا به، منيبًا إليه جل شأنه، وإلا فلن يحظى بقرب الله أبدا.
لقد أشار النبي إلى مثل هذا الإنذار الخاطئ المدمر بقوله: “إذا قال الرجل هلكَ الناس فقد أهلكهم” (مسلم، البرّ): أي أن الذي لا يزال يردِّد بين القوم أن الناس قد هلكوا وأصبحوا بلا دين ولا إيمان فهو الذي يتسبب في الواقع في دمارهم وهلاكهم وضعف إيمانهم وانحراف سيرتهم. ذلك أن مثل هذه الأقاويل تبعث القوم على الاستهانة بالفسوق واللادينية وتُوقعهم في حضيض اليأس والقنوط. فما لم يغيّر الله بنفسه النظام القديم السائد في الناس بنظام سماوي جديد يجب أن لا يتولد لدى القوم الإحساس بأن الجميع قد فسدوا ولم يبقَ بينهم ولا صالح واحد، وإلا فسوف يفقدون الهمة وينهارون نهائيًا. نعم، إذا جاء نبي من عند الله تعالى بنظام سماوي جديد فلا بأس عندئذ في إنذار عام، لأن حالة القوم حينذاك تكون في الواقع سيئة وفاسدة، ولكن العلاج يكون متوفرًا لديهم في شخص النبي المرسل.
فها هو نوح عليه السلام يعلن للقوم بأنني (نذير مبين).. أي أنني أحذركم بناءً على أدلة وبراهين، ولم آتِ لأعيث الفساد أو أبث اليأس بينكم، بل جئتكم لأنبهكم إلى الأمر الواقع.
كما أن قوله (نذير مبين) يعني أن النبي لا يكتفي بالإنذار فحسب، بل يخبر القوم عن سبيل النجاة من العذاب، ولذلك أردف بقوله (ألاّ تعبدوا إلا الله).. أي أنكم ستنجون من العذاب إذا امتنعتم عن الإشراك بالله تعالى. وكأنما أكد بقوله هذا على كونه (نذيرا مبينا).
واعلم أن الملوك الطغاة والمنافقين والمُغرضين أيضًا يمثلون إنذارًا للبلاد وأهلها، ولكنّ أيًا من هؤلاء لا يكون (نذيرا مبينا)، لأنهم لا يدّعون بأنهم منذرون، بل يخفون نواياهم الخطيرة مدّعين بأنهم لا يريدون للقوم إلا خيرًا وبركة، بينما تكون أعمالهم نذير شؤمٍ ونحسٍ للناس.
كما أن هذا الإنذار لا يكون مدعّمًا بالإلهام الإلهي، وإنما يكون مبنيًا على القياس بأنه ما دام هذا الحاكم طاغية فلا بد أن يهلك أهل البلد، أو أنه ما دام قد كثر في القوم أهل السوء والفساد فلا بد أن يهلكوا.
وبالاختصار، لا يكون الإنذار المبين إلا على يد المبعوث من عند الله تعالى، لأنه لا يتسبب في هلاك القوم، بل يحذرهم منه ويعمل على نجاتهم، لأن إنذاره يكون يقينيًا مبنيًا على الوحي من عند الله. أما إنذار الآخرين فليس أساسه إلا مجرد القياس.