غاية خلق الإنسان
  • الحشر مقتضى التكليف
  • لماذا خُلق الإنسان من صلصال
  • بداية المادة الحيوانية
  • الخلق الترابي والخلق التناسلي
  • مراحل الخلق الإنساني

__

“تتمة” أعود مرة أخرى إلى ما كنت بصدده وهو التأكيد أن القرآن قد ذكر الحشر قبل الحديث عن آدم في كل مرة، وهذا يدل صراحةً على أن بين الموضوعين صلة وثيقة، وهي كالآتي:

أولاً: إن قضية حشر الأجساد والجزاء منوطةٌ تماماً بخلق آدم. ذلك أنه لو لم يكن هناك كائن عاقل قادر حر في أعماله لما كانت هناك مِن إمكانية للحشر والثواب والعقاب. فالحيوانات مثلاً لا تعمل وفق أية شريعة، لأنها لا تملك عقلاً، وبالتالي لا تستحق أي ثواب أو عقاب، ومن ثم لا تحتاج إلى أي حشر حقيقي. كذلك الملائكة لا تستحق أي جزاء على أفعالها، لأنها لا تملك حرية ولا إرادة، وإنما جُبِلتْ على فعل الخير فحسب، كما صرّح الله بذلك قائلا: ويفعلون ما يُؤمَرون (النحل: 51). أما الشيطان فهو أيضًا لا يستوجب العقاب، لأنه يؤدّي واجبه، شأنه شأن الأشياء الرديئة الأخرى التي لا تستوجب العقاب لأنها رديئة في حد ذاتها. وأما الشياطين من الناس فلا جرم أنهم يستحقّون العقاب على أعمالهم، لأن الحشر لن يقوم إلا لحساب الإنسان.. هذا الكائن الذي يملك الإرادة والحرية في أعماله. فثبت أن خلق الإنسان هو السبب لوقوع الحشر، ومن أجل ذلك كلما تحدث القرآن عن خلق آدم ذكَر قبله الحشر، وذلك تدليلاً على أن الخلق الإنساني يتطلب حشرًا، وأن الحشر يقتضي نزول شريعة، إذ لا منطق في أن يعاقَب أو يثاب أحد على عمله من دون أن تقام عليه الحجة.

الإنسان لم يُخلَق من العَلَقة مباشرةً، بل تحوّلت العلقة إلى المضغة التي مرّت بمرحلتين أيضًا: المضغة الكاملة وغير الكاملة.

وثانيًا: إن خلق الإنسان دليل على وجود الحشر وإليكم بعض الأدلة على ذلك:

1. لقد اكتمل خلق الإنسان عبر عملية التطور من أدنى حالات الخلق. وهذا يشكل دليلاً على وجود دار الجزاء، إذ لو أن الإنسان خُلق هذه الخِلقة الكاملة مرة واحدة لأمكن القول بأنه خُلق صدفة، شأنه شأن الأشياء الأخرى التي أيضًا خُلقت بالصدفة نتيجة التغيرات الطبيعية. ولكن كون الإنسان قد تطورَ من أدنى حالات الخلق مرورًا بكثير من المراحل والتقلبات، ثم توقّفَ تطوره بعد اكتمال خلقه في الصورة الحالية ولم يصبح مخلوقًا آخر.. كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الخلق الإنساني تم بحسب تخطيط معين، وأن الإنسان هو الغاية من خلق الكون كله.

2. هناك قوتان في الدنيا: قوة الخير وقوة الشر، والإنسان مزود بكلتيهما وقادر على التصرف بأيتهما شاء، مما يدل أنه خُلق ليحكم الدنيا؛ فلزم أن تكون نتيجة حياته أكثرَ من عمله، وهذا لا يتحقق إلا بوجود يوم الحشر والجزاء.

3. الرقي المادي متوقف على اتباع السنن الطبيعية، لا على المُثل الأخلاقية والروحانية، ولكننا نجد أن الأخلاق النبيلة والأحوال الروحانية تشكّل الجزء الأكبر من كيان الإنسان؛ فلا يمكن إذًا أن يكون الرقي المادي هو الغاية التي يصبو إليها الإنسان، بل لا بد من مكان آخر ينال فيه الإنسان الجزاءَ على ما يقدّمه من تضحيات أخلاقية وروحانية.

أما قولـه تعالى مِن حمأ مسنون فبيّن فيه أن الإنسان مخلوق من الماء والتراب، لأن الحمأ يعني خليطًا من الماء والتراب. وقد ذكر الله كل واحد من هذين العنصرين منفصلاً في أماكن أخرى، فقال في موضع: وجَعَلْنا من الماء كـلَّ شيء حيٍّ (الأنبياء: 31)، وقال في موضع آخر: إنّ مَثَلَ عيسى عند الله كمَثلِ آدمَ خـلَقه مِن تُرابٍ ثم قال له كُنْ فيكون (آل عمران: 60).

وأما هنا في سورة الحجر فأشار إليهما معًا بكلمة حمأ فقال: مِن صلصال مِن حمأ مسنون .. أي خلقنا الإنسان من خليط الماء والتراب الذي أُفرغ في صورة معينة ليكون قادرًا على إحداث الصوت. فكلمة صلصال تشير صراحةً إلى قوة النطق التي يمتاز بها الإنسان عن سائر الحيوانات الأخرى، وكأنه قال: إن الكائنات الحية كلها مخلوقة من حمأ مسنون ، ولكن الإنسان تغلب عليه الصفة الصلصالية، ومن أجل ذلك نجد الحديث الشريف – الذي مر ذكره في شرح الكلمات – يسمّي الناسَ: (الحمير الصالّة)، وهي كلمة مشابهة للصلصال.

هذا، وإن كلمة صلصال تشير أيضًا إلى أن نطق الإنسان متوقف على إرادة الله ، لأن لفظ (صل) أو (صلصل) يدل على صوت يحدُث بالضرب. وهذه هي حقيقة الإنسان تمامًا، إذ لا يصدر عنه الصوت الذي هو مخلوق من أجله ما لم يضربه الله تعالى.. بمعنى أنه تعالى يشرّفه بكلامه بعد اختباره بإلقائه في المحن والمصائب.

وقولـه تعالى مِن حمأ مسنون لا يعني أن الإنسان خُلق من تراب لا حياة فيه. كلا، إنما المراد منه البيان أن المادة الحيوانية لا يمكن أن تتطور بدون الجسم، والجسم يتكون من التراب؛ وإنما استُخدم هذا التعبير ليعرف الإنسان كيف كانت بدايته.

علمًا أن ادعاء العلماء بأن المادة الحيوانية لا تتولد إلا من حيوان لزعمٌ يفتقر إلى البحث والتحقيق؛ ذلك أن دليلهم الوحيد هو مشاهدتهم الحالية؛ ولكن من البديهي أن هناك بونًا شاسعًا جدًّا بين الظروف السائدة الآن وبين ما كان عليه الكون لدى خلق هذه المادة الحيوانية الأولى. ثم إن هؤلاء العلماء أنفسهم يعترفون بأن المادة الحيوانية الأولى نفسها لم تزل تتطور حتى أصبحت في وقت من الأوقات إنسانًا، بيد أن هذا لا يحدث الآن؛ مما يوضح أن هناك تفاوتًا كبيرًا جدًّا بين الظروف الحالية وبين ما كان عليه الكون عند بداية خلقه. كانت الأحوال آنذاك مواتيةً جدًّا لخلق الحياة بسرعة هائلة، ولكن الأمر ليس كذلك الآن. فمن المحتمل أن تكون الذرات الخالية من أي حياة تنقلب عندئذ إلى ذرات حية بسبب بعض التقلبات، ولكن الظروف لم تعد كذلك بعد أن اكتسبت الأرض الكمال. إذًا فليس من العلم في شيء أن يقيس هؤلاء الظروفَ المتفاوتة المختلفة بمقياس واحد.

كما أن هذه الآية لا تعني أن الإنسان صار إنسانًا فجأةً، فإن القرآن الكريم ينصّ مرارًا أن الكون قد خُلق تدريجيًّا. وأخبر أن الخلق الإنساني نوعان: الخلق الترابي والخلق التناسلي، كما قال الله تعالى الله يبدأ الخلق ثم يعيده (يونس: 35). ونجد أن الخلق التناسلي يتم تدريجيًّا حيث لا يولد المولود فور اجتماع الزوجين؛ فلماذا لا نسلّم إذًا بأن الخلق الترابي قد تم كذلك تدريجيًّا؟

فالحق أن هذه الآية تشير فقط إلى تلك المرحلة من الخلق الإنساني التي تطورت فيها قواه الحيوانية وزُوِّد بالقوى الإنسانية التي ميّزته عن الحيوانات الأخرى، وهي المرحلة الصلصالية للحمأ المسنون، التي زُوِّد فيها الإنسان بصلاحية تلقّي الوحي. أو أن الآية مجرد إشارة إلى تلك المرحلة من خلقه حين دبّت فيه الحياة.

ولو قيل: لماذا نسلّم بأن هذه الآية تشير إلى بداية المرحلة الإنسانية أو الحيوانية من الخلق البشري، ولماذا لا نقول إنما تعني أن الله تعالى بدأ خلق البشر بأن صنع تمثالاً من الطين ونفَخ فيه الروح، فصار إنسانًا؟ فالجواب أن القرآن الكريم نفسه ينفي كون هذه الآية تتحدث عن بداية الخلق الإنساني، والدليل على ذلك هو قول الله تعالى وَمِنْ آياتِه أَنْ خَلَقَكم مِن تُرَاب ثم إِذا أنتم بَشَرٌ تَنتشِرُونَ (الروم:21). فهناك تعارض في الظاهر بين هذه الآية وبين التي نحن بصدد تفسيرها، لأن هذه تذكر خلق الإنسان من تراب، بينما الآية التي نحن بصدد تفسيرها تعلن عن خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون. فثبت أن الله تعالى قد أشار بكلمة (تراب) في سورة الروم إلى المرحلة البدائية من الخلق الإنساني، بينما في سورة الحجر لم يذكر الله المرحلة الأولى الترابية، وإنما اكتفى بذكر المرحلة التالية لها باستخدام كلمة حمأ مسنون .

هذا، ونجد في موضع آخر فرقًا أكبر حيث يقول الله تعالى وَالله خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثم مِن نُطْفةٍ (فاطر: 12).. فهنا حذَف ذكر الحلقة الثانية أي الصلصالية من الخلق الإنساني، مكتفيًا بذكر الحلقة الأولى الترابية، ومشيرًا إلى حلقة أخرى وهي مرحلة النطفة.

كما نجد في مكان آخر ذكرًا مختلفًا عن ذلك أيضًا حيث يعلن الله هو الذي خَلَقَكم مِن تُراب ثم مِنْ نُطفةٍ ثم مِن عَلَقةٍ ثم يُخرِجُكم طِفلا (غافر:68). فبيّن أن الإنسان لم يُخلَق من النطفة فجأة، وإنما صار من النطفة علقةً، ثم طفلاً.

إذا تآكل الحديد فلا يتم تلحيمه إلا بقطعة حديدية، لأن أي شيء آخر لن يقوم مقامه. فبما أن غذاء الإنسان إنما يتركب من عناصر التراب فلا شك أنه خُلق أيضًا من العناصر التي تركَّبَ منها التراب.

ولكن في موضع آخر أضاف الله إلى الحلقات التالية للنطفة حلقة أخرى إذ قال يا أيها الناس إِنْ كنتم في رَيب مِن البَعْثِ فإنّا خَلَقْناكم من تُراب ثم من نُطْفة ثم من عَلَقة ثم من مُضْغة مُخلَّقة وغيرِ مُخلَّقة (الحج: 6).. أي أن الإنسان لم يُخلَق من العَلَقة مباشرةً، بل تحوّلت العلقة إلى المضغة التي مرّت بمرحلتين أيضًا: المضغة الكاملة وغير الكاملة.ثم في سورة المؤمنون ذكر الله حلقاتٍ إضافية أخرى فقال ولقد خَلَقْنا الإنسانَ من سُلالة من طين* ثم جَعَلْناه نُطْفةً في قَرارٍ مَكِين* ثم خلَقْنا النطفةَ عَلَقةً فخلَقْنا العَلَقةَ مُضْغةً فخَلَقْنا المضغةَ عِظامًا فكسَونا العِظامَ لَحْمًا ثم أَنشَأْناه خَلْقًا آخَرَ فتَبارَكَ االله أحسنُ الخالقين (الآيات: 13- 15).فهنا ذكر ثلاث حلقات إضافية تكون بعد المضغة: خلقُ العظام، ثم تغطيتها باللحم، ثم خلقٌ آخر حيث تدبّ الحياة في هذه المواد غير الحية في الظاهر.ندرك بالتدبر في هذه الآيات أن القرآن الكريم لا يذكر أحيانًا بعض الحلقات من الخلق الإنساني، مما يبطل ظن العامة أن الله صنَع تمثالاً من الطين، ونفخ فيه الروح، فصار إنسانًا. الحق أن القرآن الكريم يعلّمنا أن الخَلق الإنساني اكتمل مرورًا بمراحل مختلفة، وأن كلمة “التراب” لا تقصد إلا الإشارة إلى أن بداية الخلق الإنساني كان من التراب. وهذا أمر ثابت مؤكد، لأن الإنسان ما زال إلى اليوم يستمد غذاءه من التراب نفسه، وإنما يؤخذ غذاء أي شيء مما صُنع منه، وإلا لن يكون غذاءً مناسبًا له. فمثلاً إذا تآكل الحديد فلا يتم تلحيمه إلا بقطعة حديدية، لأن أي شيء آخر لن يقوم مقامه. فبما أن غذاء الإنسان إنما يتركب من عناصر التراب فلا شك أنه خُلق أيضًا من العناصر التي تركَّبَ منها التراب.

والإنسان آخر حلقة متطورة من حلقات خلق هذا الكون، ولم يأت من الخارج. ولستُ هنا بصدد الحديث حول الخلق الإنساني، وإنما المكان المناسب لهذا البحث هو في سورة البقرة أو سورة الأعراف.

Share via
تابعونا على الفايس بوك