أَسقام المجتمعِ الغربِي والحاجة إِلى الأُسوة المحمدية

أَسقام المجتمعِ الغربِي والحاجة إِلى الأُسوة المحمدية

طارق هوبش

كاتب وباحث
  • لتحقيق الذات وجهان، محمود ومذموم، فكيف يُعدُّ تحقيق الذات مكرُمة بين منقصتين؟!
  • ما مدى تورط وسائل التواصل الاجتماعي في التسبب في العديد من الأمراض النفسية في المجتمع الغربي خصوصا؟! 
  • نموذج الحرية في الإسلام مقابل نموذج الحرية في الغرب.     

__

قبل شروع القارئ الكريم في مطالعة هذه السطور، ننوه إلى أنها تتمة لمقال منشور في عدد أكتوبر المنصرم، والذي كان بعنوان «الحُرِّيَّةُ وَتَحْقِيقُ الذَّاتِ فِي الإِسْلامِ».

الحاجة إلى الأسوة
الحقيقة الغائبة عن المجتمع الغربيّ هي أننا نحن البشر لسنا إلا مرآةً لبيئاتنا التي تؤثر في أنفسنا حتى الأعماق، وبمقدورها أن تقودها نحو التسامي أو التهاوي حيثما أرادت، ولكن، كيف للإنسان أن يأمن ذلك التأثير من بيئته؟ وكيف له أن يتيقن من محيطه يحرره ويأخذ بيده بحق إلى تحقيق ذاته، أو أنه يزجّ به في سجن أفكاره، ويختزله إلى مخلوق سليب الطاقات والقدرات التي كان الله تعالى أودعها فيه، والتي كان من شأنها أن تأخذ بيده إلى التطور والترقي؟ ولكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نلقي نظرة على الأسلوب الذي تحدده البيئة لنمط حياة جيد وناجح، وفي سبيل تحقيق ذلك، فإنه من البديهي أن يحتاج الإنسان إلى أسوة يتأسى بها، وقدوةً يقتدي بها، فأرسل سبحانه وتعالى إلينا الأنبياء ليكونوا هم تلك النماذج، وجعل كل نبيٍّ شاهدا على أمته، وإماما لهم يهتدون به، وكان ذروتهم «محمد» خاتم النبيين عليه أزكى الصلوات والتسليم، فقال عنه سبحانه،

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (1)

وقال أيضا:

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (2)

فلا شك أن كل فرد يسعى لتحقيق باقة من الأهداف والغايات، ويسعى في سبيل ذلك لأن يقتدي بمن يعظمه المجتمع ويوقره.

وبالتالي فإنه الحماس الذي يأخذ صاحبه من نفسه، ويلقي به في أجيج التنافس المحموم، من أجل تحقيق الذات ولو على جثث الآخرين، مما يقتل في النفس التراحم والإشفاق، ويولِّد فيها الكبر والزهو والتعجرف.

فعلى الإنسان في المجتمع الغربي وقد مر عبر تلك المؤسسات التي ساهمت في تشكيل وعيه، وخاض غمار هذه الخبرات وتلك التجارب، أن يتساءل: ما غايتي التي أسعى جاهدا من أجل تحقيقها؟ هل هي الحصول على رفه العيش؟ أم أنني أبغي الثراء؟ هل هي وظيفة ذات راتب مُغْرٍ؟ ولو أنه أطال التفكير وأجاله من أجل أن يجد أجوبة لتساؤلاته تلك لتوصَّل إلى أن كل مجتمع يخلق دينه وإيمانه، وتأسيس عقائده، وربما نحت أصنامه بيده، أو صنعها من عجوة، فأكلها إذا ما استبد به الجوع والخواء، وإن كان دائم التغني بأنه مجتمع متحررٌ لا يؤمن بأي دين، إن ذلك الدين الذي يدين به الغرب تم بناؤه على تصور أن الإنسان قادر على أن يحيا حياة طيبة هانئةً، كلما استطاع أن يكون ناجحا ثريا، غير أن هذا التصور بحد ذاته هو السبيل لتقييد حرية الإنسان، والذي ينجم عنه استعباد للنفس البشرية، ويقوده بالتالي إلى المعاناة بدلا من الراحة، وإلى عبادة أصنام من الشهوة والشهرة والثراء والملذات، في الوقت الذي يتهم فيه الوثنيين الذين يعبدون أوثانا من حجارة بالضعف العقليّ وانعدام الفهم.

كيف نتخلص من الإثم؟!
المبدأ الأساسي لتحقيق إثبات الذات في تلك المجتمعات قائم على الرأسمالية المسيطرة، التي ترسخت في كل جنبات الوعي الإنسانيّ عند تلك الشعوب، والتي يصعب إدراكها أو التحكم فيها، كما هو اعتقاد علماء الاجتماع الغربيين، إضافةً إلى المبادئ التوجيهية التي يتلقاها الأفراد من مربيهم على النسق ذاته، فلا يتم تربيتهم على أن يكونوا رحماء محسنين مشفقين، وإنما على السعي الدؤوب نحو الترقي في المناصب والثراء والتفوق على الآخرين، ليصل الإنسان إلى مرتبة الحكام وأرباب الأمر والنَّهي، ويأنف أن يبقى ضمن الطبقات الدنيا من المحكومين الذين لا يجدر بهم إلا أن يطيعوا ويأتمروا، وبالتالي فإنه الحماس الذي يأخذ صاحبه من نفسه، ويلقي به في أجيج التنافس المحموم، من أجل تحقيق الذات ولو على جثث الآخرين، مما يقتل في النفس التراحم والإشفاق، ويولِّد فيها الكبر والزهو والتعجرف.
يتولد من الحالة السابقة ما يسميه الإسلام (الإثم) وهو ذاته ذلك الكبر والزهو والغرور، الذي يجعل الإنسان أعمى إلا من رؤية نفسه، وأصمَّ إلا من الاستماع لصوته، والذي يُعرِّفه الإسلام بأنه كل عمل يُبعد الإنسانَ عن ربه، ويتسبب في العديد من الأضرار والمعاناة للفرد والمجتمع من حوله، ويستعبدهم ويقيّد حرياتهم، ولا يصل بهم إلى السعادة والنجاح الذي كانوا يأملون، إنه الكبر الذي حذرت الكتب السماوية منه أيما تحذير، وتناولته الأدبيات الإسلامية بالذم والتحقير، وضرب الله له إبليس مثلاً، ومآله لا يخفى على العارفين، فقد صار مذموما ومن الملعونين، إذ وظَّف سائر قواه وقدراته لإلقاء داء الكبر الذي أهلكه في قلوب بني آدم ليهلكهم، ليكونوا له في الجحيم رفقاء، ولا يكون وحده من الهالكين، لكن الله تعالى قد أكد لنا أن مساعيه إلى بوار، ما أعرض عنه الإنسان وتجنب.

فالنار التي يدخلها المذنب في الآخرة ما هي إلا امتداد لنار كانت تغشاه في حياته الأولى، أما في الآخرة فسوف تغشاه بصورة تامة وكاملة…

مراد الله لعباده
إن كل مراد الله لعباده أن يصطبغوا بصبغته، ويتحلوا بصفاته، ويَسِمُوا أنفسهم بِسِماته، ولكن الشيطان يحاول جاهدا أن يضع العراقيل في سبيل تحقيق ذلك الكمال الإنسانيّ، ويأبى إلا أن يكون كل واحد من الناس إبليسا متكبرا، من رحمة الله طريدا مدحورا، وقد تناول المسيح الموعود تلك الجزئية بالشرح والتفصيل، في كتاب فلسفة تعاليم الإسلام، في شرحه لطعام أهل النار الذي هو من شجرة الزقوم، والذي صوره حضرته بالكِبر والزهو الذي كلما تمكن من الإنسان قتله وأهلكه، كما أن طريح النار كلما أكل من ثمرة الزقوم كان كمن يُلقي في أحشائه نُحاسا مذابا يغلي غليان الماء في قِدر تحته نار مستعرة لا يفتر أزيزها، إنها

نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (3)

بسبب العصيان وارتكاب الآثام والكبر والغرور، وإن لهيبها يطّلع على القلوب، أي أنه يصيبها أول ما يصيب، نظرا إلى ما يصيب تلك القلوب من همٍّ وغمٍّ وفزعٍ وظلمة في النفس، منشؤها آلام روحيةٌ تصيب القلب أولاً، ثم تنتقل إلى الجسد والأعضاء، وذلك كله في الدنيا، وليس فقط في الآخرة، فالنار التي يدخلها المذنب في الآخرة ما هي إلا امتداد لنار كانت تغشاه في حياته الأولى، أما في الآخرة فسوف تغشاه بصورة تامة وكاملة

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (4)

تحقيق الذات، والمكرُمة بين المنقصتين
وسعي المرء لإثبات نفسه هدف مشروع في حد ذاته ما لم يتضخم ويؤول إلى رغبة جارفة يهون إزاءها كل شيء، فتتحول إلى كِبر وازدهاء بالنفس، ونار متأججة تحرق كل ما من شأنه اعتراض طريقها. وقد بين النَّبِيِّ تلك الشعرة الدقيقة بين التحقيق المحمود للذات وبين الكبر والعُجب فقَالَ:

 «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ: رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» (5)

ويروى:

أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ حُبِّبَ إِلَيَّ الْجَمَالُ وَأُعْطِيتُ مِنْهُ مَا تَرَى حَتَّى مَا أُحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ إِمَّا قَالَ بِشِرَاكِ نَعْلِي وَإِمَّا قَالَ بِشِسْعِ نَعْلِي أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ» (6)

ولكن تحقيق الذات قد يتضخم ليستحيل لهاثا مَرَضِيّا فيجعل البشر مقيدين تحت ضغوط نفسانية ينجم عنها حزمة من العُقد بالشعور الدائم بالنقص، والذي يتسبب في النهاية في أمراض نفسية مزمنة، كالاحتراق النفسيّ والكبت والاكتئاب والفصام، فيشغل الإنسان نفسه بما يتكلم به عنه الآخرون، وكيف يرونه، فتجده يُجهد نفسه للظهور أمامهم بمظهر خفيف الظل، الوسيم، الثريّ الذكيّ، محاولاً أن يكون الصورة الكاملة المصطنعة التي يرضاها المجتمع، مما يحبسه قسرا في الصورة التي يريدها المجتمع، لا ما يريدها المرء لنفسه في الحقيقة، مصداقا للمقولة الشهيرة للفيلسوف جان جاك روسو: «خُلق الإنسان حرا، غير أنك تراه دائما مقرَّنا في الأصفاد»، فترى الثريّ لا يحدّ رغبتَه في مزيد من الثراء حدّ، وأصحاب الجاه والسلطان والشهرة وذيوع الصيت، ما زالوا يتعاطون المخدرات حتى الإدمان الذي أسكنهم المشافي، وكانت نهاياتهم مأساويةً لأنهم ولوا وجوههم وقواهم جميعها نحو تحقيق أهداف فارغة، خاوية من أي هدف سامٍ ومضمون راقٍ، وهذا ما اختصره الخليفة الرابع (رحمه الله) حينما قال «وليس محض الصدفة كذلك أن نعيش في مجتمع وصلت فيه أعداد المكتئبين إلى أرقام قياسية».
وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالأمراض النفسية
قبل سنوات حذَّر حضرة الخليفة الخامس (أيده الله) أفراد جماعته من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما «فيسبوك» وهو ما أكده فيما بعد مقال منشور في إحدى الصحف، والذي كان عنوانه «الفيسبوك يسبب الاكتئاب» وبعد مطالعة المقال قد تبيَّن أن ذلك سببه الاطلاع على أنماط حياتية رفيعة المستوى، ليس بمقدور الفرد العادي أن يحققها، هذا نفسه الذي يقود المرء إلى الشك في الذات، والشعور بمركبات النقص في داخله، وأنه تافه وأقل أهميةً من آخرين وجهاء أثرياء محظوظين. ولتلاشي الوقوع في براثن تلك المظاهر المؤدية إلى المهلكات، أكد حضرة المسيح الموعود عليه السلام في شروط البيعة على أن يتخلى المبايع عن الزهو والكبر وكافة المظاهر الفارغة والتقاليد الزائفة، فليس هناك داعٍ لحفل زفاف ضخم يكلفك آلاف الجنيهات، التي ربما استدنتها لتحقيق مظهر زائف ينم عن الغنى والترف، وربما كانت صلاة العريس بالعروس ركعتين مُتَقبَّلَتَين، خيرا من عُرس فاخر يشكل عليهما ضغوطا نفسية مدمرة، وقد منحنا الله تعالى الحصول على تلك السلوكيات من التأسي بأسوة الرسول الكريم واتباعه في مسالكه، حيث قال تعالى:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ (7)

وقد شرح المصلح الموعود هذه الآية بما مفهومه أن التقاليد الاجتماعية تشكل عبئا يحمله الإنسان مكرها، خوفا من الاستهزاء به، وتلك التقاليد الاجتماعية تُرغم الناس على ارتكاب الآثام في سعيهم لتحقيق عزة نفس تجعلهم متساوين مع الآخرين أو يفوقونهم، مما يدمر نفوسهم من أجل الحفاظ على مظاهر خارجية تافهة، إن ذلك من شأنه أن يقود المرءَ إلى الشرك، وتقديس النفس، ليجد نفسه في سجنٍ قضبانُه من الكبر والزهو، ونحن من زَججْنا بأنفسنا خلف قضبانه تبعاً لإرادات الناس لا إراداتنا، وبالتالي فإن ما يصوره الغرب حريةً، ما هو إلا الافتقار إلى الحرية في الحقيقة، فما هي الحرية التي تسعى الفطرة الإنسانية لتحقيقها؟

الحرية في الإسلام
عندما أراد المسيح الموعود أن يضع تعريفا للحرية قال «هي أن تكون عبدا لله» وقد يبدو هذا التعريف متناقضا في الظاهر، لكنه في الحقيقة ذو مغزى عميق، وخصوصا إذا أدركنا الهدف الذي وضعه الإسلام نصب أعيننا، والذي يرسم لنا خارطة الطريق الواضحة نحو تحقيق الذات بصورة رائعة، ولكي نفهم ذلك ربما كان على الواحد منا أن يطرح على نفسه عدة تساؤلات، منها: ما هو الشيء الأعظم الذي يمكن للإنسان أن يحققه في حياته؟ هل هو حياةٌ هادئة في أسرة ودودة، هل هي حياة الترف والثراء والمتعة؟ هل هي الشهرة أم السلطة أم الجنس أم المخدرات، التي تجعل الإنسان يعيش في عالم خيالي خالٍ من الضغوط النفسانية، التي يرزح تحت وطأتها في حياته الواقعية؟ كلا، ليس شيئا من ذلك كله، إنما أجلّ الغايات التي يمكن للإنسان نوالها هي التوحد مع خالقه، والتواصل معه، وشهود آياته، فيحسّ تربُّعَ ربه في أدقّ عصب من أعصاب فؤاده، ويشعر بتوحُّد محامد الجمال والجلال في ذات عظيمة ليس كمثله شيء، ويدرك أنه هو الكائن الوحيد في هذا العالم الذي مهد الله له الطريق ليلتقيه، ويتشبه به، فيشعر بمكانته الرفيعة المميزة في هذا العالم، ومن هنا تأتيه الثقة، ويملأه الرضا، وتحفه السكينة، وترفرف عليه الطمأنينة أنه كائن ذو قيمة حقيقية، وليس سقط متاع أو كمّا مهملا كما صورت له نظم المجتمعات المدنية الحديثة، وذلك هو الغرض الذي من أجله خُلق الإنسان، فقال تعالى ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ (9) فإذا استشعر الإنسان هذا التكريم لمعت في نفسه بقعة ضوء كانت خافتة، فكانت شرارة متوهجةً ولَّدت فيه شغفا دؤوبا بالحب والطاعة والرضا والتسليم، والتي تكون بدورها قادرةً على محو كافة الشهوات والرغبات الدنيئة من داخله، تماما كالثمرة إذا نضجت قطعت كل العلائق القديمة وتركتها، مقبلة على نشأة أخرى في طور جديد، لتصبح كل بذرة من بذورها شجرةً تثمر ملايين الثمرات أمثالها، فتكون نفعا خالصا لكل كائن حيٍّ وغير حيّ.

فتجده يُجهد نفسه للظهور أمامهم بمظهر خفيف الظل، الوسيم، الثريّ الذكيّ، محاولاً أن يكون الصورة الكاملة المصطنعة التي يرضاها المجتمع، مما يحبسه قسرا في الصورة التي يريدها المجتمع، لا ما يريدها المرء لنفسه في الحقيقة، مصداقا للمقولة الشهيرة للفيلسوف جان جاك روسو: «خُلق الإنسان حرا، غير أنك تراه دائما مقرَّنا في الأصفاد»،

لمحة من حياة المسيح الموعود
الحق أن تلك اللمحة تقدم صورة حية لتصوُّر الحياة، فإن حضرته كان مهموماً منذ نعومة أظفاره بالقضايا الإسلامية الإيمانية، وكان يشعر أنه يقع عليه عبء كبير في بيان محاسن الإسلام، وجواهره المكنونة عن أعين العالم، الذي لم يعد يرى إلا الذهب والترف وحياة الرفاهة واللهاث خلف متاع الحياة، فكان يسعى جاهدا لأن يتسلح بأسلحة العلم والتقوى، ليواجه بهما غول المادية الذي ألقى بظلاله على العوالم كلها، وينقذ البشرية من براثن المادية الموغلة في تحطيم كل قيم الجمال والجلال التي أودعها الله فيها، ورغم جلال تلك الغاية التي انشغل بها المسيح الموعود ، إلا أنه لم يعوِّل على السبل التي تُيسِّر له أداء مهامه، ولم يؤمِّن لنفسه النفقات التي تعينه على القيام بالأعباء التي ألزم بها نفسه، وكان اعتماده في ذلك كله على والده الذي كان يكفله، ولكن، بدأ شبح الموت يحوم حول والده، مما أقلق حضرته بشأن احتمال انقطاع تلك النفقات عنه، وبالتالي عرقلة مشروعه التنموي العالمي الذي نذر نفسه له، وشغله هذا الهاجس، واستبدت به الأفكار، حتى ثقل همُّه، وكاد أن يُنقض ظهرُه، لكن الله أدركه فوضع عنه وزره، وشرح له صدره، وقال له في إلهام يجسد معنى التحرر الحقيقي الذي حُرمت منه المجتمعات المادية، والذي يضعه الإسلام كحد فاصل بين الاستعباد الخبيث الذي تفرضه الحياة المادية، والعبودية لله الواحد الخالق، تلك العبودية التي تكمن فيها الحرية الحقيقية، هذا الإلهام ربما يعرفه الجميع، ويحملونه نقشا على خاتم يزينون به أصابعهم، إنه إلهام «أليس الله بكافٍ عبده» إنه اليقين في الله، وقطع العلائق مع كل الأسباب الأرضية، وكأن الله تعالى يقول له: عندما تحررْت من كافة القيود والمظاهر التي يفرضها عليك المجتمع المحيط، فلم تكن تعتقد ما اعتقدوا، ولا تدين بما دانوا، ولا سلَّمت بما سلموا به، ولم يكن لك أن تقول قولهم (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) لكنك وهبت نفسك بفطرتك النقية في سبيلي ومرضاتي، لذا فبإمكاني أن أسخِّر لك الدنيا بأسرها لتكون لك خادمة، كأنها أعضاؤك التي ليس بوسعها أن تعصيك، أو تكون لها مرادات خلاف مراداتك، تلك ثمرات الحرية الحقيقية التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (8)

من هنا نخلص إلى أن الحرية في الإسلام هي أن يحرر المرء نفسه من طباع البشرية المنحطة، وقيودها الحيوانية الرذيلة، ويحاول جاهدا الوصول بذاته إلى الوجود الرباني الطاهر، بذلك يتحرر الإنسان من الضغوط المجتمعية، ويجعل اللهَ هو المصدر الوحيد للهداية في حياته، وليس صحيحا ما يحاول البعض الترويج له بأن الإسلام دين التحريم، وأنه يجعل من كل متعة يمكن للإنسان أن يستمتع بها جُرما يعاقَب عليه، صحيح أن الإسلام دين أوامر ونواهٍ، لكنها هي التي من شأنها أن تُصلح الحياة لا أن تفسدها، وتصل بالمرء إلى المتعة الحقيقية من خلال إدراك ذاته، والوقوف على قيمته، والتيقن من كونه الركن الركين الذي يقوم عليه هذا الكون، فلولاه ما كان كائن، وأن تلك المخلوقات كلها إنما هي مسخَّرة له، لتكون له عونا على أداء مهامه في الحياة، وهي لقاء ربه، والفناء فيه، ومحاولة التشبه به غاية ما يكون التشبه، وتلك هي قمة التطور والترقي التي يمكن أن ينالها بشر، وما تلك التحريمات التي فرضها الإسلام إلا نوع من التدابير الاحترازية، التي يلتزم بها المزارع حفاظا على بذرته، لتنمو، وتورق، وتزهر، وتثمر، ودفعا للآفات التي يمكن أن تضيع سعيه كله سُدى.

من هنا نخلص إلى أن الحرية في الإسلام هي أن يحرر المرء نفسه من طباع البشرية المنحطة، وقيودها الحيوانية الرذيلة، ويحاول جاهدا الوصول بذاته إلى الوجود الرباني الطاهر…

وأخيرا دعونا نقص عليكم قصةً من واقع حياة المسيح الموعود ، يُري من خلالها حضرة المسيح الموعود أسوة والتي تشرح بكل بساطة الهدف الذي من أجله خلق الله البشرية، والغايات التي لتحقيقها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وخلاصتها أن حضرته قد تجهز من أجل رحلة مع بعض صحابته الكرام عليهم رضوان الله، فجهزوا له عربةً يركبها، وكان التقليد الشائع آنذاك أنه حينما يكون هناك شخص موقر ذو مكانة رفيعة، ويحظى بتقدير كبير في مجتمعه، أن يجر عربته عصبةٌ من الشبان الأقوياء، بدلاً من الخيول، إجلالاً له، وتقديراً لمكانته، ولِمَ لا وهو مبعوث السماء؟ ولِم لا وليس أحدٌ أرفع منه مكانةً وأجلّ قدراً؟ لكنه لَما رأى الشبان معلَّقين في السُّرج مكان الخيول عافت نفسُه الشريفة هذا المنظر، واستنكر هذا الحال، ورفض أن يستقل العربة إلا أن يخلع الشبان عنهم تلك السُّرج، ويربطوا الخيول مكانهم، فتلك هي القسمة العادلة الحقيقية، وذلك وضع الشيء في محله، فليس من شيمه إهدار كرامة الإنسان ولو كان لإظهار جلالة قدره، وسمو مكانته، فقال قولةً شهيرة ليت البشرية تنصت إليها: «لم أُبعَث لأجعل الناس بهائم، وإنما لأجعل البهائم أناساً». هذا هو الإسلام الذي يحرر الإنسان من مخالب البهيمية، ليجعل منه إنسانا مكرَّما حرا.

1. (الأحزاب 22) 2. (البقرة 149)
3. الهمزة 7-8
4. عبس 41-42
5. صحيح مسلم, كتاب الإيمان
6. سنن أبي داوود،كتاب اللباس
7. الأَعراف 158
8. الذاريات 57

9. الإسراء 71

Share via
تابعونا على الفايس بوك