سِعة علم وفِراسة حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه
التاريخ: 2013-02-22

سِعة علم وفِراسة حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • الكنز العظيم الذي خلفه المصلح الموعود
  • حالات المضطر وكيف يجيب الله دعاءه
  • اليقين شرط إجابة الدعاء
  • الله الذي يبدل الأحوال

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

كنت أفكر بأن ألقي خطبة اليوم حول نبوءة المسيح الموعود عن سيدنا المصلح الموعود فخطر ببالي بأننا نبين عادة النبوءة ونوضحها ونذكر بالإجمال بعض الأعمال التي قام بها سيدنا المصلح الموعود ، فلا بد أن أتكلم اليوم بشيء من التفصيل عن سعة علمه. والحق أن العلم والذكاء والفراسة التي وهبها الله تعالى للمصلح الموعود لها عدة جوانب. إن كتاباته وخطاباته قبل توليه الخلافة أيضا زاخرة بالعلوم والمعارف. وإن كتبه ومقالاته وخطبه منشورة في عدة مجلدات بعنوان سلسلة “أنوار العلوم” وقد نشر حتى الآن 23 مجلدا منها، وكل مجلد يحتوي على أكثر من 600 صفحة، وهذه السلسلة لا تزال جارية وستُطبع مجلدات أخرى أيضا بفضل الله تعالى. كذلك خطبه للجمعة أيضا كثيرة العدد وقد نُشرت إلى الآن في 24 مجلد إلى عام 42 -1943 م وكل مجلد منها أيضا يقع في أكثر من 600 صفحة، وستُنشر مجلدات أخرى بإذن الله. إن مؤسسة “فضل عمر فاونديشن” التي أُنشئت لجمع خطبه وخطاباته تدبِّر ترجمتها في مختلف اللغات وستتوفر تراجم بعض الكتب باللغة الإنجليزية سريعا بإذن الله وبعضها مترجمة سلفا. ومنها ستُترجم إلى لغات أخرى، وقد تُرجم بعضها بالعربية وبعضها منشورة سلفا. أظن أنه قد عُمل في هذا المجال باللغة العربية أكثر من أية لغة أجنبية أخرى. ويترجمها طلاب جامعاتنا في مختلف البلاد إذ يكلَّفون بترجمة كتب الجماعة كرسالة يقدمونها لاجتياز امتحان “شاهد” عند التخرج من الجامعة. فهذا كنـز عظيم أعطاه المصلح الموعود للجماعة في عهد خلافته الممتد إلى 52 عاما. ولكن هذه الكتب تُطبع بالآلاف فقط. والذين يشترونها لا يُتوقع أنهم يقرأونها مفصلا. أما الآن فهناك مبايعون جدد وأجيال جديدة من الذين لا يستطيعون أن يقرأوا الأردية، لأنها ليست لغتهم ولا تتوفر لهم هذه الكتب في لغاتهم إلا قليلا جدا. وإن أكبر عدد من الجيل الحديث ليسوا ملمين بأسلوب كتابته وخطابه بالأردية فلا يدرون مدى علمه ومعرفته. بل الذين هم من جيلي، أو يكبرونني سنوات قليلة أيضا لا يستوعبون أسلوب خطابه وخطاباته. فبقراءتنا لهذه الكنوز نستطيع أن نقدّر سعته العلمية وحقيقة كونه مليئا بالعلوم الظاهرية والباطنية كما جاء في النبوءة عنه، ونستطيع أن نزداد علما ومعرفة.

معلوم أن البرامج السمعية والبصرية المتطورة لم تكن متوفرة في ذلك الزمن لذا فقد سُجِّل عدد قليل من خطاباته فقط على أجهزة بسيطة في السنوات الأخيرة من عهد خلافته. والصوت في تلك التسجيلات أيضا لم يعد جيدا بسبب مرور فترة طويلة عليها ولا يحمل في طياته العظمة والشوكة المعهودة في أسلوبه الخلاب في الخطابة.

فبقراءتنا لهذه الكنوز نستطيع أن نقدّر سعته العلمية وحقيقة كونه مليئا بالعلوم الظاهرية والباطنية كما جاء في النبوءة عنه

على أية حال، نشكر الله تعالى على أن الجزء الأكبر من كتاباته وخطبه وخطاباته لا يزال محفوظا. قلتُ “الجزء الأكبر” لأن المختزلين كانوا يكتبونها في تلك الأيام أثناء الخطاب لذا يبدو في بعض الأماكن أنهم لم يتمكنوا أحيانا من كتابة العبارة بكاملها في أثناء خطاباته أو خطبه، ونشعر بأن بعض الجمل لم تُكتب بصورة صحيحة وكاملة وفي بعض الأماكن نجد شيئا من النقص في الكلام. ففكرت أن أقرأ عليكم بعض المقتبسات من كلامه بدلا من البيان عن النبوءة المتعلقة به.

الخطبة التي اقتبست منها بعض المقتطفات للقراءة على مسامعكم تشمل مضمون أساليب الدعاء واليقين بالله وبأنه تعالى هو القادر على كل شيء ويفعل ما يريد. والسبب في اختياري هذا الموضوع هو أنه إذا أردنا أن نرى في حياتنا نتائج خارقة للعادة فلا بد أن ندرك هذا الموضوع جيدا ونعمل به. لقد ألقى حضرته هذه الخطبة في 10/4/1942م قال فيها ما مفاده: لقد سبق أن وجّهت أنظار الإخوة إلى المثابرة على الدعاء، ولكن يتبين لي من الرسائل التي أتلقاها بأن جزءا من الجماعة يدعون باستمرار نظرا إلى الفتن المعاصرة، ولكن دعاء جزء من الجماعة فقط لا يكفي. (أود أن أقول هنا بأن الحالة نفسها ملحوظة في هذه الأيام أيضا إذ لا أرى انتباها ملحوظا إلى الدعاء وإحداث التغير الطيب في الوضع كما يجب. على أية حال، يتابع سيدنا المصلح الموعود ويقول: فهناك حاجة لنُحدث تغييرا في أذهان الجميع بمن فيهم الرجال والنساء والصغار إلى الدعاء ونوجههم إليه. والسبيل الأمثل لإحداث هذا التغيُّر هو أن ينشأ اليقين والإيمان بالدعاء أولا. والذي يدعو بغير أن يكون لديه يقين بالدعاء لا يُجاب دعاؤه عند الله. وإذا أُجيب أحيانا سيكون ذلك على سبيل العيِّنة والمثال فقط ولخلق اليقين في قلبه. أما كقانون فيُجاب دعاء الذي يوقن في قرارة قلبه أن الله تعالى يجيب أدعيته. فيقول الله تعالى في القرآن الكريم: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ (النمل: 63) ثم يقول بأنه هو الذي يجيبه. من معاني المضطر المنقادُ والمدفوع إلى مكان معين. والذي يذهب إلى جهة معينة بعد أن يجد كل طريق مغلقا في وجهه يقال له المضطر الذي يرى النار في كل حدب وصوب، أي يتوجه إلى يمينه فيرى نارا ويتوجه إلى شماله فيرى نارا أيضا وينظر أمامه ووراءه ويرى نارا وينظر فوقه فيرى نارا وينظر تحته ويرى نارا. ولا تبقى أمامه إلا جهة واحدة أي جهة الله، أما ما عدا هذه الجهة فيرى النار في كل مكان، ولا يرى الأمنَ إلا في جهة واحدة فحسب، ومن هنا يمكنكم أن تفهموا أن موضوع المضطر لا بد أن يتضمن يقينًا كاملا من قبل الداعي. فليس المضطر من يكون قلقًا ومضطربًا فقط، ذلك لأن القلق يدفع الإنسان أحيانًا للاندفاع إلى أي جهة بدون أن يعلم يقينًا إن كان سيجد هناك أمانًا أم لا، بل قد يدفع القلقُ بعضَ الناس للجري إلى مكان الخطر نفسه فلا ينجو منه. فاضطراب القلب وقلقه ليس دليلا على الاضطرار، وإنما الاضطرار أن ييأس المرء من كل مأمن ومن كل معين في كل طرف إلا طرفًا واحدًا. وكأن الاضطرار ليس أن يرى المرء النارَ في كل جهة فحسب، بل أن يرى أيضًا في جهة ما سبيلاً للخلاص منها موقنًا بأنه مكان محفوظ من النار، فلو دعا في مثل هذه الحالة لقي القبول في حضرة الله تعالى لأن العبد يقوم بمثل هذا الدعاء ماثلاً أمام الله تعالى وموقنًا بأنه لا ملاذ له الآن إلا الله تعالى. وقد بيّن الرسول حالة الاضطرار هذه نفسها في دعائه: “اللهم لا ملجأَ ولا مَنْجَا منك إلا إليك” (البخاري: كتاب الوضوء، باب النوم على الشق الأيمن)؛ أي يا رب لا ملاذ من العذاب أو الابتلاءات التي تأتي من عندك إلا أن آتي إليك يائسًا من كل واحد ومغمضًا عينيّ من كل طرف وجانب. هذه هي حالة الاضطرار، والمراد من قوله تعالى:

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ

أن الذي يدعوه تعالى موقنًا أن لا ملجأ له ولا مأوى إلا عند الله تعالى، فهو المضطر ودعاؤه مُجاب حتمًا. ولقد أشير إلى حالة الاضطرار هذه في قوله تعالى:

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ .”

(بعد إلقاء الضوء على كلمة المضطر وشرحها ذَكرَ حضرته – وفق دأبه في الخطاب – حالات مختلفة للمضطر وقدم أمثلة وأحداثًا توضيحًا لها. تكثر مثل هذه الأحداث والأمثلة في جميع خطاباته. ثم يقول:)

هناك أنواع كثيرة للاضطرار في العالم لذلك استخدمت هنا كلمة: “المضطر” التي تجمع جميع أنواع المضطر، والحق أنه مع أن الله تعالى هو وحده علاج كل مضطر، إلا أن بعض عباده أيضًا يقدرون على إزالة اضطرار المضطرين بما أعطاهم الله من نِعَم. فمثلاً هناك شخص فقير يبلى ثوبه وليس عنده ما يشتري به ثوبًا جديدًا، فيراه أحد الأثرياء – وقد يكون هندوسيًا أو سيخيًّا أو مجوسيًّا أو ملحدًا- فيقول له: تعال أشترِ لك ثوبًا جديدًا. لا شك أننا نؤمن بأن الله تعالى هو الذي ألقى في روع الثري أن يشتري للفقير ثوبًا جديدًا، ولكن الذي لا يكون إيمانه كاملاً يقول: إن فلانًا ساعدني في اضطراري بدلاً من أن يقول إن الله تعالى أعانني. ولكن هذا الشخص الفقير لو أصيب بمرض شديد حتى لم يقدر على الأكل والشرب وتسوء صحته لدرجة لا يستطيع أن يتقبل الماء أيضا، ولا يقدر على الحركة من شدة الضعف، فلن يساعده الثري في هذه الحالة، بل سيساعده طبيب حاذق يترحم عليه برؤية حاله، فيقول: ليس عندك مال للعلاج، تعال إليّ فسأتولى علاجك ودواءك أيضًا مجانًا.

ففي حالته الاضطرارية هذه لم يستطع الثري مساعدته بل ساعده الطبيب.

وأحيانًا يؤخذ المرءُ في قضية مزورة يرفعها ضده بعضُ أعدائه الأقوياء الحاقدين عليه، فيجرّه إلى المحكمة دونما جريرة، ولكنه لا يملك مالاً لدفع أجرة المحامي، كما لا يقدر على الدفاع عن نفسه بنفسه، فيقع في ورطة من أمره، فيتقدم محامي رحيم ويقول له: أنا أتولى الدفاع عنك مجانًا. فلم يغنِ عنه هذه المرة إلا محامٍ.”

(ثم ضرب مثال الفلاح على الشاكلة نفسها، ثم قال:)

“فثبت أنه يمكن أن تأتي على الإنسان حالات اضطرار مختلفة، فيساعده فيها أشخاص دون أشخاص. ولكن الله تعالى يقول هنا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ؛ أي أنا الوحيد الذي يسد حاجة كل مضطرٍّ سواء كان جائعًا أو عاريًا أو ظامئًا أو مريضًا أو حامل ثقلٍ. فالله تعالى يقدر على سد كل حاجة لكل إنسان، وعلى مساعدة كل مضطر في أي ظرف كان.”

(ثم قال حضرته: وأتجاوز عن بعض الأمور هنا) إن الله تعالى يقدر على سد كل حاجات المضطرين كلِّهم، يمر المرء بآلاف من حالات الاضطرار، فأنَّى لبشر أن يساعده في كل هذه الحالات؟ بل لن يغني عنه عندها أحد الملوك أيضًا. فمثلاً لو مرض إنسان مرضًا شديدًا فلن يغني عنه قربُ الملِك ولا خزائنه ولا جنوده، إنما يغني عنه الله وحده الذي هو قادر على أن يكشف عنه كل نوع من السوء والمرض؛ أو لو كان المرء يسافر منفردًا في برية، فيهاجمه ذئب أو أسد مثلاً، فلن يغني عنه الملِك مهما كان مقرَّبًا إليه ولو كان ابنًا له، فلن يغني عنه إلا الله تعالى وحده في مثل هذه الحالة.

فثبت أن المرء لن يُعَدّ مضطرًّا ما لم يكن موقنًا بأن الله تعالى وحده قادر على أن يُغني عنه عند كل اضطرار.”

يقول مثالا على ذلك إن كثيرا من الشعوب الهندية الجبانة تخضع للإنجليز ولم يستطع الإنجليز أن يجعلوها شجاعة، وإنما قالوا بأنه ينبغي أن لا يُجنَّد أفرادها في الجيش. فبدلا من أن يتسبب الإنجليز في تقدُّمِها أبقَوها متردية في هوة الجبن، كما كانوا سلفا. لكن انظروا إلى الله الذي إذا أنشأ كبار الجبناء علاقتهم به أصبحوا شجعانا بواسل، وانخرطت الشعوب التي كانت تسودها الفوضى في نظام. فالشعوب التي يهبها الله التقدم والازدهار، يَحدث فيها الانقلابُ بحيث تتبدل قلوبهم نهائيا، ويزول ضعفُهم وجبنهم وتنشأ فيهم قوة وطاقة تحيِّر العالم. فانظروا إلى المسلمين مثلا، فالعرب لم يكونوا يحبون العيش خاضعين لملك ونظام معين، بل كان زعماء القبائل ينجزون الأعمال باستشارة الأفراد، وكل قبيلة كانت حرة، إلا أنه لم تكن لها مثل مكانةِ أصغرِ ولايةٍ اليوم. فإحدى القبائل كانت تضم ألف شخص وأخرى ألفي شخص وثالثة ثلاثة آلاف شخص، وكان عدد سكان مكة أيضا يقدر بعشرة آلاف نسمة إلى خمسة عشر ألف فقط موزعين على قبائل عدة، ولم يكن ينظمهم أي نظام، ولم تكن لديهم أي خزينة ولا شرطة ولا جيش رسمي منظم يجند له الجنود. باختصار كان العرب قوما يسودهم الفساد والفوضى، إذ لم يوجد فيهم أي طريقة أو نظام صحيح. ففي هذه الأوضاع بعث الله الرسول الكريم وآمن به عدد قليل جدا، فالباحثون يقدرون العدد الإجمالي للمؤمنين به في حياته المكية بمائة إنسان فقط، باختصار قد آمن بالنبي هذا العدد الضئيل جدا. كان سكان مكة يعدّون أولا حقيرين جدا في العالم ولم تكن لهم أي قوة وطاقة، وصحيح أنهم كانوا مقاتلين وكانوا يحفظون القبيلة إلا أنه لم تكن لهم أي قوة في العالم، فانضم إلى الإسلام أولئك الذين كانوا يعدّون ضعفاء، وكان المعروف عن أهل مكة سلفًا أنهم ضعفاء، ومع ذلك قد خلق الله في قلوبهم شجاعة وجعلهم يقدمون مشهد الانتظام في نظام رائع. فسكان مكة نفسها أو العرب لم يكونوا يتحملون الانقياد لأحد بل كانوا يعدّون الطاعة -التي تعد شعارا للشعوب المتحضرة- ذلة متناهية.

(ثم قدم حضرته قصة عربية مشهورة قديمة مثالا على هذا الأمر وقال):

فقد ورد في الكتب الأدبية العربية أن ملِكًا عربيًا اسمه عمرو بن هند كان يحكم منطقة في الجزيرة العربية ناحية العراق والشام، وقد بلغ أوج العز والمنعة بالنسبة للعرب، حتى خُيِّل إليه أن كل العرب يطيعونه. فقال لحاشيته ذات يوم أثناء الكلام: أتعلمون أحدًا من العرب يأبى الطاعة لي؟ فقالوا له: نعم، هناك شخص واحد اسمه عمرو بن كلثوم، وهو سيد قبيلته نرى أنه لن ينقاد لك. قال: حسنًا، سأدعوه للتأكد من ذلك. فأرسل الملك إلى عمرو بن كلثوم رسالة طلب منه الزيارة لأنه مشتاق لرؤيته، وأن يُحضر معه أُمّه وبعض الأقارب من قبيلته، فجاء الشاعر مع بعض أفراد قبيلته وأمِّه. وكان الملك عندها مقيمًا في رُواقه خارج المدينة، فحضر عمرو بن كلثوم مع أصحابه، وضرب خيامه قريبًا من خيام الملك بحسب العادة السائدة. وكان الملك قد طلب من أُمّه أن تستخدم أمَّ عمرو في قضاء أمر على مائدة الطعام لاختبار إبائها وحميّتها. ومع أنه كان ملكًا إلا أن أُمّه أخذت تخدم ابنها والضيوف على مائدة الطعام على عادة العرب، وهذا يعني أن أم الملك كانت تخدم عمرو بن كلثوم وأمَّه وأقاربه، ولو ساعدتْها أمُ عمرو في حاجة ما على المائدة لم يكن في ذلك ما ينال من عزتها وكرامتها لأن أم الملك أيضا كانت تعمل في الوقت نفسه. فلما كانت أم الملك نفسها تعمل فلم تكن مساعدةِ أمِّ الشاعر لها في أمر ما تشكِّل لها أي إساءة.

ولكن ما حدث هو أنه فيما كان الجميع يتناولون الطعام كان هناك صحن فقالت أمُّ الملك لأمِّ الشاعر يا سيدتي! ناوِليني ذلك الصحن، ولم تتجاسر على أن تطلب منها أي مساعدة أكثر من هذا؛ فقد وردت في الروايات أنه في اللحظة التي طلبتْ أمُّ الملك المساعدة من أمِّ الشاعر أخذت الأخيرة تصرخ وتستغيث قائلة: يا ويلَ أُمِّ عمرو بن كلثوم! وكان عمرو حينذاك يتناول الطعام مع الملك، وكان قد ترك سيفه في خيمته تكريمًا للملك، إلا أنه حيثما سمع صراخ أمه لم يسألها عن سبب الصراخ، ولا عن الإساءة التي واجهتْها، بل قام فزعًا ونظر في الخيمة، فوجد سيف الملك معلقًا هناك، فخطفه من غمده وقتل به الملكَ. ثم خرج من الخيمة وأمر قبيلته بالسلب والنهب. (تاريخ الأدب العربي للزيات ص 64، والشعر والشعراء المجلد الأول، عمرو بن كلثوم، ص 157)

فالعرب لم يكونوا يرضون بالرضوخ والخضوع لأحد، لكننا نرى كيف بدَّل الله قلوب أولئك العرب أنفسهم في زمن محمد رسول الله ؛ فذات يوم كان عبد الله بن مسعود وهو عاقل ومتعلم ونبيل قومه يمر من الزقاق وكان النبي يلقي الوعظ في المسجد وكان ذاهبا إلى المسجد للاستماع إلى الوعظ نفسه، فقال النبي في أثناء الوعظ للحضور أن يجلسوا، فلما كان عبد الله بن مسعود في الطريق جلس فور تناهي الصوت إلى سمْعه، وبدأ يتقدم جالسا إلى المسجد. وحين سأله أحد المارة من قريب يا عبد الله بن مسعود ما هذا التصرف المضحك؟! لماذا تتحرك جالسا، لماذا لا تمشي؟ فقال: الحقيقةُ أني سمعتُ قول النبي أن اجلسوا، فحدثتْني نفسي: من أدراك هل ستصل إلى المسجد حيا أم لا، وحذار أن تكون نهايتك في معصية النبي . لذا قد جلستُ هنا وبدأتُ أتحرك صوب المسجد جالسا. فالآن قارِنوا هذا الحادث مع حادث عمرو بن كلثوم إذ كان ذهب إلى دعوة الملك ولم تطلب أمُّ الملك من أمه عملا كبيرا بل طلبتْ منها مساعدة بسيطة جدا في العمل الذي كانت تنشغل فيه نفسُها، لكنها لم تتحمل ذلك أيضا فأخذتْ تصرخ وتستغيث بأنها قد أهينتْ فورَ أن طلبتْ منها أمُ الملك المساعدة. بينما سمع شخصٌ من الشعب نفسه قولَ النبي في الطريق وجلس فورا وقام بتصرف يُعدّ عادةً سخيفة في العالم، فمن المؤكد أنكم ستعدّونه مجنونا إلا أن الصحابة كانوا قد جَعلوا أنفسهم مجانين في طاعة النبي ، لأنهم كانوا يؤمنون بأن طاعة الله تكمن في طاعة النبي .

ثم يقول حضرة المصلح الموعود : ثم إن أهل المدينة كانوا يُعَدّون غير ملمين بفنون القتال والحرب، كما لا تُعَدّ بعض الشعوب في بلادنا أيضا مؤهلة للقتال، صحيح أن سكان المدينة كانوا أغنياء وكانوا مزارعين جيدين، لكنه كما تعد بعض الشعوب في بلادنا حقيرة بسبب أعمال خاصة كذلك كان أهل المدينة يُعَدّون أذلاءَ بسبب انشغالهم في الزراعة، فالعرب لم يكونوا يحبون الزراعة، فهم كانوا يفتخرون بأنهم يملكون كذا من الأحصنة والإبل وأنهم يقطعون الطرق ويهاجمون الناس، بينما كان أهل المدينة يعيشون في قرية ويشتغلون في الزراعة والحرث، فلم يكونوا يقطعون الطرق ولم يكونوا قادرين على تربية الإبل والخيول بكثرة، لأن تربية الخيول والإبل تكلِّف، لذا كانوا يُعَدون أدنى درجة في نظر العرب الآخرين، فالعرب كانوا يقولون عن أهل المدينة إنهم مزارعون، وأي شك في أن الذين يزرعون البساتين ويعملون في المزارع وينشغلون في جمع الأموال، لا يعرفون القتال فعملُهم الزراعة عبر الأجيال.

ثم يقول حضرته : كان العرب يَعُدّون أهل المدينة ضعفاءَ وكانوا يقولون عنهم بازدراء بأنهم مزارعون، لكن انظروا إلى ما ظهر فيهم من ثورة عظيمة بعد إنشائهم العلاقة بالنبي ، إذ أصبح المزارعون أنفسهم أفضل جنود العالم، ففي معركة بدر كان قد اجتمع كبار زعماء مكة، وكانوا يزعمون أنهم سيقضون على المسلمين قضاء مبرمًا. ففي ذلك اليوم كان قد اصطف ألفُ مقاتل بارع قد شهد عشرات المعارك -والذين كان شغلهم الشاغل ليل نهار المشاركة في القتال وإعمال السيف بالعدو- مقابل المسلمين الذين كان عددهم 313 فقط وقد ورد في بعض كتب التاريخ أن البعض من الـ 313 لم يكونوا يملكون السيوف بل كانوا يحملون العصي والهراوات، ففي هذه الحالة البئيسة حين انطلق النبي للمعركة أصر ولَدان من الأنصار أيضا على مرافقة الجيش، فأذن لهما النبي أخيرا بالخروج مع الجيش.

يقول عبد الرحمن بن عوف – أحد قادة المسلمين البارعين –: لم يكن في وسع أحد الاطلاع على الحماس في قلوبنا ذلك اليوم، إذ كنا نرى أن الله قد أذن لنا بالقتال، فسننتقم اليوم من أهل مكة على المظالم التي مارسوها علينا في مكة، لكن الحقيقة أن الجندي الجيد لا يتمكن من القتال جيدا إلا إذا كانت ميمنته وميسرته قويتين، وكان من فيهما مقاتلان جيدان، لكي يحميا ظهره من الهجوم إذا اقتحم صفوفَ جيش العدو لشن الهجوم. لذا هناك عادةٌ أن الجندي الشجاع يقف في الوسط حتى يتوفر الحرس له من اليمين واليسار ولكي يكون ظهرُه محفوظا أثناء تقدمه إلى صفوف العدو.

والذي يدعو بغير أن يكون لديه يقين بالدعاء لا يُجاب دعاؤه عند الله. وإذا أُجيب أحيانا سيكون ذلك على سبيل العيِّنة والمثال فقط ولخلق اليقين في قلبه. أما كقانون فيُجاب دعاء الذي يوقن في قرارة قلبه أن الله تعالى يجيب أدعيته.

يقول عبد الرحمن بن عوف : نظرتُ يمنة ويسرة بهذه الفكرة، فإذا بصبيّين أنصاريين يبلغان الخامسة عشر، فتيَقَّنْتُ أني لن أستطيع اليوم شفاء غليلي أثناء القتال، لأن معي صبيَين هما من ناحية من سكان المدينة الذين لا خبرة لهم بالقتال ومن ناحية أخرى لا يتجاوز عمراهما الخامسة عشر، فماذا عساهما يحميانني، فسيبقى حماس قلبي دفينا فيه ولن أتمكن من شفاء غليلي.

(باختصار، ألخص لكم هذه الحادثة. يقول:)

وبينما أنا في ذلك حتى غمزني الذي على يميني، فانصرفت إليه لأسمع منه ما يريد قوله لي فقال: يا عمّ، أَرِني أبا جهل الذي آذى رسول الله أذى شديدا، فإني أريد قتله. كنت على وشك الرد عليه، حتى غمزني الصبي الذي على يساري، فقال: يا عم، من هو أبو جهل الذي كان يؤذي رسول الله أذى شديدا، فإني أحب قتله اليوم. يقول (عبد الرحمن بن عوف): لم أتصور أني قادر على الوصول إلى أبي جهل وقتله إذ كان يقف وسط حلقة من جنوده الخبراء بفنون الحرب. فأشرتُ لهما بيدي وكان كل واحد من الصبيين يتمنى أن ينال هذه النعمة أي يتمكن من قتل أبي جهل. يقول سيدنا المصلح الموعود بأن عبد الرحمن بن عوف كان قلقا في نفسه، ولكنه لم يعرف أن الإيمان كان قد خلق العاطفة نفسها في قلبيهما. يقول عبد الرحمن بن عوف بأن سؤالهما تركني في حيرة من أمري واستغربت من قوة إيمانهما، فرفعتُ الإصبع لأقول لهما أن بُغيتهما مستحيلة التحقق لأن أبا جهل كان في قلب الجيش راكبا فرسا ومدججا بالسلاح من قمة الرأس إلى أخمص القدمين ويحرسه بَطلانِ بسيوف مسلولة. كان من بين الحرسَين عكرمة وقائد آخر. يقول عبد الرحمن بن عوف بأن عكرمة لم يكن شخصا عاديا بل كان من أشجع الجنود في العالم وكلاهما يحرس أبا جهل بسيوف مسلولة. فأشرتُ لهما إلى أبي جهل وكنت أقصد من ذلك أن يعْلما كم هي بُغيتهما مستحيلة المنال ولكن لم تكد يدي تهبط بعد الإشارة حتى انقضّ الصبيان نحو أبي جهل انقضاضَ الصقر على العصفور وأسقطاه جريحا قبل أن يشعر جيش الكفار بما حدث. قُطعت يد أحد الصبيينِ، ففصلها من جسده وتقدم إلى أبي جهل وأسقطه الصبيان صريعا. إذًا، هكذا تمت معركة بدر بدون قائد.

يتابع سيدنا المصلح الموعود بأن القوم الذين كانوا يُعدّون أذلاء مهانين ولم يُعتبر أحدهم قادرا على القتال أصلا قد حدث تغير عظيم فيهم بعد الإيمان بمحمد رسول الله لدرجة عندما مات أبو جهل مات والحسرة في قلبه أن صبيين من المدينة قتلاه. فقال بأني لا أبالي بالموت لأن الجنود يموتون في القتال على أية حال، ولكن منبع حسرتي أن صبيين من المدينة قتلاني.

فالذين لم تعدّهم العرب حتى جنودا عاديين عندما آمنوا بمحمد خلق الله تعالى -الذي بيده القلوب والذي يقدر على أن يقوي الضعفاء -القوة فيهم وجعلهم باسلين شجعانا لدرجة أن وفَّق صبيين أن يقوما بما كان القائد المحنك والمغوار يراه مستحيلا.

ثم كان العرب غيورين جدا لدرجة كانوا يستعدون للتضحية بكل شيء باسم الغيرة والشرف. ثم انظروا كيف غيّر الله قلوبهم حتى تلاشت أفكار الغيرة الزائفة نهائيا.

ثم يبين المصلح الموعود حادثا جاء فيه أن شابا أراد الزواج من فتاة فذهب إلى أبيها وقال أريد رؤيتها، ولكن الأب رفض ذلك فذهب الشاب إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، أريد أن أتزوج فتاة ولكن والدها لا يريد أن يُرينيها. قال النبي : هو مخطئ بل عليه أن يسمح لك برؤيتها. فعاد الشاب إلى والد الفتاة وقال بأنك رفضت أن تريني ابنتك فسألتُ رسول الله فقال: إن رؤية الفتاة قبل الزواج مسموحة. قال الأب: قد تكون مسموحة ولكني لن أريكها فلك أن تتزوج غيرها. كانت الفتاة تسمع الحوار داخل البيت وما إن سمعت هذا الكلام خرجت من البيت مكشوفة الوجه وقالت لأبيها: ماذا تقول؟ ما دام رسول الله يقول بأن رؤية الفتاة قبيل الزواج مسموحة فما السبب لرفضك ذلك؟ ثم قالت للفتى: ها أنا واقفة أمامك فانظُر إليَّ. قال الفتى: لم أعد بحاجة إلى رؤيتكِ الآن لأني أريد فتاة تطيع الله ورسوله مثلك.

فانظروا كيف جهّز النبي قلوب العرب للتضحية بعزتهم الدنيوية لدرجة لم يهتموا بأي شيء سوى طاعة أوامر الله ورسوله . لا توجد قوة في الدنيا تستطيع أن تغير القلوب بل الله وحده يُحدث التغيير فيها فيصبح الجبناء باسلين بأمر من الله ويتحول الشجعان إلى الجبناء بأمر منه، كما يتحول البخلاء إلى الأسخياء والأسخياءُ إلى البخلاء، ويتحول العلماء إلى الجهلاء والجهلاءُ إلى العلماء بأمره . عندما يقدّر الله تعالى هلاك قوم يتحول علماؤهم إلى جهلاء، وشجعانهم إلى جبناء وأسخياؤهم إلى بخلاء وأقوياؤهم إلى ضعفاء. أما إذا قدّر الله تنمية قوم يتحول ضعفاؤهم إلى أقوياء وجهلاؤهم إلى علماء وبخلاؤهم إلى أسخياء، وسفهاؤهم إلى عقلاء. ولقد رأينا في جماعتنا أمثلة كثيرة على هذه الظاهرة.

يقول حضرته: ولقد رأينا في جماعتنا أيضًا أن كل من ينضم إليها بإخلاص ينطلق لسانه وإن كان من قبل أُمّيًا لا يعلم شيئًا، فيهابه كبار المشايخ أيضًا ويهربون من نقاشه. وعلى عكس ذلك رأينا أيضا أن بعض الناس ينضمون وهم يدعون علماء ولكن بما أنهم لا ينضمون بإخلاص لذلك يبقون جهلاء بالعلم الحقيقي كما كانوا قبل دخولهم في الأحمدية، مما يكشف جليًا أن علمنا ليس علمًا ذاتيًا، إنما هو موهبة وعطاء من الله تعالى، وإن شجاعتنا أيضا ليست هي الشجاعة الذاتية بل هي موهبة وعطاء من الله تعالى، وإن تضحياتنا ليست تضحيات ذاتية بل هي نتيجة توفيق الله تعالى لنا؛ فإن لم تكن تلك الشجاعة من الله تعالى وإن لم يكن ذلك العلم موهبة من الله تعالى، وإن لم يكن ذلك الاندفاع والإقدام عطاء من الله تعالى لما كانت لها علاقة بالإخلاص أبدًا بل كانت تتعلق في هذه الحالة بالعادات والتقاليد وبذل الجهد والسعي للاكتساب، في حين أننا نرى أن هؤلاء المذكورين يكونون جهلاء بهذه الأمور من ناحية الدنيا ولكنهم يتعلمون كل ذلك بسبب الإخلاص الذي يكنّونه في قلوبهم.”

ثم ذكر حضرته مثالا آخر وأذكر فيما يلي ملخصه:

كان للمسيح الموعود خادم يدعى “بيرا”، وكان ساذجًا جدا، وكان لا يعرف كثيرا ما هي الأحمدية، ولكنه كان يحب المسيح الموعود جدا. كان هذا قد أصيبَ بمرض، فجاء به أهله إلى المسيح الموعود للعلاج، فقام بعلاجه، فشفي، ثم لما جاءوا بعد فترة ليأخذوه معهم، أجابهم لن أذهب معكم بل سأبقى الآن مع هذا الذي عالجني. وكان يقيم في غرفة عند باب المسيح الموعود ، حيث كان يستخدمه في إيصال الرسائل إلى الناس وجلبها منهم، وإيصال الطعام إلى الضيوف. كان “بيرا” لا يصلي مطلقا، ففكّر الخليفة الأول أنه يظل جالسًا أمام بيت المسيح الموعود ولا يحضر الصلاة، وقد يسبب هذا العثارَ لبعض الناس، فنصحه كثيرا وربما أغراه بإعطاء جائزة له لكي يصلي. فذهب يومًا للصلاة في المسجد، وبينما كان يصلي مع الجماعة، جاءت خادمة من داخل بيت المسيح الموعود بطعام الضيوف وجعلت تناديه عند الباب ليأخذه منها. فلما تأخر عليها قالت بصوت عال: خُذْ مني الطعام وإلا سوف أشكوك. وكان “بيرا” في قعدة التشهد مع المصلين الآخرين في المسجد، فوصل صوتها إلى المسجد، فأجابها بصوت عال: انتظري حتى أنهي الصلاة، فإننا في قعدة التشهد!فكان ساذجًا لهذه الدرجة، ولكن سيدنا المصلح الموعود يحكي لنا قصة مثيرة قائلا: في تلك الأيام لم يكن في قاديان مكتب بريد، ولا محطة قطار، ولا مكتب إرسال برقيات، وكان “بيرا” يذهب إلى محطة القطار بمدينة “بطاله” لاستلام البرقيات. وكلّ مَن كان ينزل بمحطة القطار ببطالة قاصدًا قاديان كان المولوي محمد حسين البطالوي يقوم بإغوائه قائلا: لا تذهب إلى قاديان وإلا سوف تُفسد إيمانك. وذات مرة لم يجد الشيخ البطالوي في المحطة أي مسافر ذاهب إلى قاديان طول النهار، ووجد “بيرا” هذا الذي كان قد ذهب هناك لاستلام رسالة برقية أو لإرسالها، فتوجه إليه الشيخ وقال: يا “بيرا”، لقد أفسدتَ إيمانك، فإن المرزا كافر ودجال -والعياذ بالله- فلماذا تخرّب عاقبتك باتّباعه. فظل “بيرا” يسمع لكلام البطالوي دون أن يرد عليه بشيء، ولما انتهى من كلامه قال لبيرا: ما رأيك فيما قلتُ لك؟ قال: حضرة الشيخ، إني أمّيٌّ وجاهل، ليس عندي علم، ولا أستطيع فهم هذه المسائل، غير أني أفهم شيئًا واحدا وهو أني آتي هنا لاستلام الرسائل وإرسال البرقيات منذ سنوات كثيرة، وأراك تأتي إلى محطة القطار دومًا لتمنع الناس من الذهاب إلى قاديان، ولعلك قد استهلكتَ عدة أزواج من الأحذية في هذه المحاولات، ومع ذلك لا أحد يستجيب لك، أما حضرة المرزا فهو جالس في قاديان، ومع ذلك ينجذب إليه الناس انجذابا، فلا شك أن هناك سببًا وراء ذلك.

فانظروا إلى روعة جواب “بيرا” وصحّته. لم يكن عنده دليل ولا علم، إلا أن الله تعالى علّمه هذا الجواب، مع أنه بلغ من السذاجة أنه كان يتكلم في الصلاة كما ذكرتُ. فأحيانًا يعلّم الله تعالى عباده المقربين مثل هذه الأمور المذهلة، ذلك أن الله تعالى عنده خزائن كل شيء، وما يفتقر إليه الإنسان هو متوفر عند الله تعالى، فإذا كان عنده نقصان في العقل، فهو متوفر عند الله، وإذا كانت تعوزه الشجاعة، فهي موجودة عند الله، وإذا كان تنقصه العزة، فهي متوفرة عند الله تعالى، وإذا كان يفتقر إلى المال، فهو موجود عند الله تعالى. فإن من شيء إلا عنده خزائنه، وإنه يهب لعباده منها بطرق مدهشة.

ثم يقول المصلح الموعود : ذات مرة جاء قاديان قسيسٌ أميركي شهير اسمه زويمر، وكان من أبرز القسيسين في العالم أجمع، وكان يحرر جريدة تبشيرية كبيرة هناك، وكان قد سمع عن قاديان، فلما جاء لزيارة الهند وفرغ من زيارة شتى مدنها وأماكنها أتى قاديان بصحبة قسيس آخر اسمه غاردن (Garden). وكان المرحوم الدكتور خليفة رشيد الدين حيًّا عندها، فأراه جميع الأماكن الهامة في قاديان. ولم يكن في قاديان في تلك الأيام أي بلدية تهتمّ بنظافة القرية، فكانت القمامة مرمية هنا وهناك في الشوارع، والقسيس قسيسٌ في كل حال إذ لا يترك فرصة للطعن تنفلت من يده، فقال القسيس زويمر لخليفة رشيد الدين خلال الكلام ساخرًا: لقد رأينا قاديان ورأينا نظافة قرية المسيح الجديد أيضًا! فأجابه ضاحكًا: جنابَ القسيس المحترم، لا تنس أن الهند لم تخضع لحكم المسيح الجديد بعدُ، بل لا تزال خاضعة لحكم المسيح الأول. فتعرَّضَ القسيس لندم وخزي شديدين.ثم يقول المصلح الموعود :

ثم بعث إليّ هذا القسيس بأنه يريد مقابلتي. وكنت معتلاً بعض الشيء، ومع ذلك دعوته للمقابلة، فقال لي: أريد أن أسألك بعض الأسئلة؟ قلت: تفضّل. قال: ما هو رأي الإسلام في عقيدة التناسخ؟ هل يُقرّه أم يرفضه؟ وما إنْ وجّه إلي السؤال حتى ألقى الله في روعي أنه يقصد أننا نؤمن أن المسيح الموعود هو بروز ومثيل للمسيح الناصري، فهل نعني أن روح المسيح الناصري قد حلّت بالمسيح الموعود؟ وإذا كان هذا هو المراد من البروز فهذا هو التناسخ بعينه، والتناسخ يتنافى مع القرآن الكريم. فقلت له متبسمًا: جناب القسيس، لقد فهمتَ الأمر خطأً، فإننا لا نقول بأن روح المسيح الناصري قد حلّت في مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، وإنما نسمّيه مثيلاً للمسيح الناصري من حيث إنه قد جاء متخلقًا بأخلاق المسيح ومنصبغًا بمثل روحانيته. فلما أجبته بهذا الجواب قال: مَن أخبرك أنني كنت أريد توجيه هذا السؤال إليك؟ (كان قد وجه السؤال بطريق غير مباشر)، فقال: هذا ما كنتُ أقصد فعلاً.

ثم قلتُ له: تفضّلْ بسؤالك الثاني. قال: سؤالي الثاني هو: أين يجب أن يُبعث النبي؟ أي أين يجب بعثتُه حتى يقوم بمهمته على ما يرام؟ وبمجرد أن تفوّه بسؤاله هذا حتى ألقى الله في روعي ثانية أنه يقصد: إن قاديان قرية صغيرة، فكيف يمكن أن تكون مركزًا للعالم كله، وكيف يمكن دعوة الدنيا كلها من هذه القرية الصغيرة النائية؟ إذا كان هدف بعثة مؤسس الأحمدية نشر دعوة الإسلام في العالم كله، فكان ينبغي أن يُبعث في مكان يصل منه صوته إلى أنحاء المعمورة كلها، لا أن يُبعث في قاديان التي هي قرية صغيرة. فقلت له متبسمًا: حضرة القسيس، النبي يمكن أن يُبعث في أي قرية مثل الناصرة أو أكبر منها. لقد بُعث المسيح الناصري – عليه السلام – في قرية اسمها الناصرة التي لم يكن بها وقتئذ أكثر من عَشْر عائلات أو اثنتي عشرة عائلة. فامتُقع القسيس بجوابي مرة أخرى حيث أجبته على السؤال الحقيقي الذي كان يخفيه وراء كلماته.

ثم سألني سؤالاً ثالثًا لا أحفظه الآن. على كل حال، لقد وجه إلي ثلاثة أسئلة، وقد أخبرني الله تعالى في كل مرة عن قصده الحقيقي من وراء السؤال الذي كان يوجهه بأسلوب ملتوٍ، ووفقني الله لإجابة مفحمة.

فالعـرب لم يكـونوا يرضـون بالرضـوخ والخضوع لأحد، لكننا نرى كيف بدَّل الله قلوب أولئك العرب أنفسهم في زمن محمد رسول الله

فثبت أن الله تعالى يتصرف بقلوب عباده بشكل غريب لينصرهم، وهذا التصرف إنما هو في قدرة الله تعالى وليس في قدرة البشر. فذات مرة قابلني شيخ مجادل في المسجد وقال: ائتِني بدليل واحد على صدق مؤسس الجماعة؟ فقلت له: إن القرآن الكريم كله يدل على صدقه عليه السلام. قال: أية آية تدل على صدقه؟ قلت: كل آية قرآنية. ولا شك أن كل آية قرآنية يمكن أن تشكّل بطريق أو بآخر برهانًا على صدق نبي، ولكن بعض الآيات القرآنية يصعب شرحها للآخرين حتى يعرفوا كيف أنها تشكل دليلاً على صدق نبي. لنفترض أن هناك آية تتحدث عن القتال، فمع إمكانية الاستدلال بها على صدق نبي، إلا أن ذلك الدليل أسمى من أن يستوعبه عامة الناس؛ غير أنني كنت على يقين بأن الله تعالى سيتصرف على لسان هذا الشيخ بحيث لن يشير إلا إلى آية تدل حتمًا على صدق المسيح الموعود دلالة واضحة. على أية حال، قرأ ذلك الشيخ قول الله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة: 9).

فأيقنت أن الله تعالى هو الذي قد تصرف على لسانه فجعله يقرأ هذه الآية، لأنه كان قد سألني من قبل: ما دام المسلمون يصلّون ويصومون ويحجّون، ويؤمنون بالله ورسوله، فأي حاجة بهم إلى نبي؟ فلما قرأ هذه الآية قلت له: عمن تتحدث هذه الآية، عن المسلمين أم غيرهم؟ قال: عن المسلمين. قلت: إذًا فإنها تعلن أن بعض المسلمين أيضًا يفسدون حيث يقولون بأفواهم إنهم مؤمنون، ولكنهم ليسوا بمؤمنين في الحقيقة؛ والقرآن يبين أنه لا يكفي المرء قوله بلسانه إنه مؤمن ما لم يؤكد إيمانَه بعمله. فأخبِرني الآن أنه إذا كان يمكن للمسلمين أن يفسدوا أفلا يبعث الله تعالى لإصلاحهم نبيًا؟

لا شك أن الاقتناع والاطمئنان شيء يهبه الله تعالى، إلا أن قولي هذا أفحم الشيخ، فلم يستطع الجواب.

(ثم يقول حضرته: وأترك هنا أيضا جزءاً من كلامه) كل شيء يأتي من الله تعالى ولا يقدر الإنسان على فعل شيء. لذلك يجب أن تتذكروا أنه لن يستجاب لكم ما لم تدعوا الله تعالى دعاء المضطر أي بهذا اليقين التام أن الذي يقدر على تحقيق كل حاجة وضرورة هو الذات الإلهية فحسب. لا شك أن في الدنيا مَن يَعطون مما أعطاهم الله تعالى ولكن يقتصر عطاؤهم على الثوب مثلاً، ولا شك أن في الدنيا من يعطون من عطاء الله تعالى ولكن عطاءهم يقتصر على توفير البيت، ولا شك أن في الدنيا من يفيدون الناس مما أعطاهم الله تعالى من علم، ولكن علمهم لا يتجاوز معالجتهم للمرضى، وهناك أناس في الدنيا مَن يفيدون الآخرين بعلمهم فيتولون قضاياهم في المحاكم ويدافعون عنهم مجّانا؛ ولكن لا نرى شخصًا يقدر على القيام بكل هذه الأعمال، وليس أحدًا يقدر على إحداث التغييرات في القلوب، وليس بيد أحد منهم إحداث التغيير في العواطف، بل هو ذات الله تعالى المسيطر والمتصرف على كل شيء فهو مَن يقدر على تغيير العواطف المكنونة في أعماق القلوب أيضا. فلا يُقبل الدعاء ما لم يدعو به صاحبه كالمضطر وما لم يرفعه يائسًا من جميع النواحي ومؤمنا إيمانًا كاملا بالله تعالى وقدراته، وإذا دعا بهذا الطريق فإن دعاءه سيصل إلى العرش ويستجاب حتمًا.”

كان العرب يَعُدّون أهل المدينة ضعفاءَ وكانوا يقولون عنهم بازدراء بأنهم مزارعون، لكن انظروا إلى ما ظهر فيهم من ثورة عظيمة بعد إنشائهم العلاقة بالنبي

كانت هذه بعض النماذج – للأسلوب الخطابي لحضرته – التي قدمتها من خلال مقتبسات من إحدى خطبه.

ومن هذا المنطلق نفسه أوجهكم وأقول بأننا إذا أردنا أن تتغير أوضاع العالم وظروفه الراهنة فلا بد لنا من الخرور أمام الله تعالى مالكِ جميع القوى، وبالطريقة نفسها التي سمعناها في هذه الخطبة وهي أن نوقن أن الله تعالى منبع لجميع القوى ومنه تُكتسب كل قوة وقدرة، هو مقلّب القلوب والمسيطر عليها والمتصرف بها، كما أنه يتحكّم في جميع القوى البشرية أيضا.

وفقنا الله تعالى للدعاء على هذا النحو. آمين

Share via
تابعونا على الفايس بوك