في عالم التفسير
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ (البقرة:64)

 شرح الكلمات:

الميثاق: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ (المفردات).

رَفَعنا: رفَعه رفعًا: ضدُ وضَعه. رُفع له الشيءُ: أبصرَه من بعيد (الأقرب).

الطور: الجبلُ؛ جبلٌ قربَ أَيلةَ يضاف إلى سيناء (الأقرب).

اذكروا: ذكَر الشيءَ: حَفِظه في ذهنه (الأقرب).

وقوله تعالى )وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ(: ادرسوا ما فيه (اللسان).

للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم).

تتقون: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (هدًى للمتقين).

التفسير:

المراد من قوله تعالى: أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ تلك الوصايا العشر والأحكام الأخرى التي نزلت على موسى على جبل سيناء. لقد نبه الله تعالى هنا بني إسرائيل إلى تلك الأحكام وقال تَذكّروا تلك الوصايا التي أوتيتموها وأنتم واقفون على سفح جبل سيناء، والتي أعرضتم عن سماعها قائلين: لا نريد سماعها حتى لا نهلك.

وسبب إضافة الميثاق إلى بني إسرائيل في قوله تعالى مِيثَاقَكُمْ هو أنه كان ميثاقًا شهيرا وذا أهمية كبيرة عندهم. لقد وُضع فيه الأساس للأواصر التي كانت ستنشأ بين الله تعالى وبينهم، وقد قرَّر الله تعالى بسبب معاصيهم المتكررة وقت ذلك الميثاق أن النبي الموعودَ صاحبَ الشرع الجديد لن يظهر من بني إسحاق، بل سيظهر من بني إسماعيل. فبسبب أهميته القصوى لبني إسرائيل سُمّي “ميثاق بني إسرائيل” تذكيرًا لهم بأهميته. وهذا الأسلوب شائع في كل لغة، فمثلاً يكون في البيت عدة أولاد ولكن أحدهم يحظى بدلال زائد من قبل أمه، فلو رآه والده يبالغ في شطارته، لَأتى به إلى الأم وقال لها: انظري ماذا فعل ابنك هذا. وقوله هذا لا يعني أنه ليس ابنًا له أو أن أولاده الآخرين ليسوا أبناء لها، وإنما المراد أن هذا الولد تربطه بأمه أواصر محبة متزايدة. وعلى هذا المنوال نفسه قال الله تعالى هنا مِيثَاقَكُمْ ، ولا يعني هذا أنه لم يكن لبني إسرائيل مع الله تعالى عهد سواه.

ثم قال الله تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ . والطور في العبرية هو الجبل أيًا كان (قاموس العهد القديم: عبري – إنجليزي). ومن معاني الطور في العربية أيضًا الجبل، ولكن لما سمع العرب من اليهود أن الله تعالى تكلم مع موسى على الطور، ظنوا أن الطور ربما يعني بالعبرية ذلك الجبل الخاص في سيناء، فسموه “جبل الطور”، مع أن المعنى أن الله تعالى تكلم مع موسى على جبل ما.

وقد استخدم القرآن الكريم كلمة الطور بمعنى الجبل فقط كما في العبرية، وكان حريًّا به أن يفعل هكذا، غير أن في الاستعمال القرآني إشارةً إلى أن الطور يعني الجبل وليس جبلاً معينا، حيث قال الله تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ (المؤمنون:21)، وقال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ (التين:2-3)، أي أن المراد من طور موسى جبل في برية سيناء.

لقد أخطأ بعض المفسرين في فهم قول الله تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، وظنوا أن الله تعالى رفع الجبل وجعله كالمظلة فوق رؤوس بني إسرائيل، وقد استغلّ المستشرق رُدْوِل Rodwell خطأهم للطعن في الإسلام وقال: لقد وقع اليهود في هذا الخطأ لعدم فهمهم ما ورد في الكتاب المقدس، وقد نقل القرآن الخطأ نفسه بعد سماعه من اليهود.

والكلمات الواردة في سِفر الخروج 19: 17 هي: {وَأَخْرَجَ مُوسَى الشَّعْبَ مِنَ الْمَحَلَّةِ لِمُلاَقَاةِ اللهِ، فَوَقَفُوا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ}. والحق أن اليهود كما أخطأوا في فهم هذه الفقرة كما يشير إليه المستشرق رُدْوِل، كذلك فإن بعض المفسرين فسروا هذه الآية القرآنية بالمعنى الخاطئ بناءً على هذه الروايات اليهودية حول رفع الطور عليهم. مع أن هذه الآية القرآنية لا تعني إلا أن هذا الميثاق قد أُخذ منهم حين كانوا عند سفح الجبل. وهذا المعنى يتفق مع الأسلوب العربي تماما.

لقد انخدع المفسرون بكلمتي (رفع) و(فوْق)، مع أنهما أيضًا تعنيان الرفعة فقط. فقد ورد في حديث الهجرة النبوية عن البراء ابن عازب أن الخليفة الأول سيدنا أبا بكر قال وهو يقصّ قصة الهجرة إلى المدينة أنه لما اشتد بنا الحر وقت الظهيرة: “رُفعتْ لنا صخرةٌ لها ظلٌّ لم تأتِ عليه الشمسُ” (البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام). فلا يعني ذلك أن صخرة رُفعتْ لهما فعلاً، بل المراد أنهما رأيا بالقرب منهما صخرة مرتفعة لها ظل. كذلك ورد في القرآن الكريم: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (الأحزاب: 11-12). فمعنى قوله جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أنهم جاءوكم من الجهتين، المرتفعة والمنخفضة من الأرض.

فالمفهوم الصحيح للآية أن اليهود كانوا واقفين بالقرب من الطور عندما أعطاهم الله تعالى بعض الوصايا وأخذ منهم العهد للعمل بها كما هو ثابت من الكتاب المقدس حيث ورد:

{وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ أَنَّهُ صَارَتْ رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَلِ، وَصَوْتُ بُوق شَدِيدٌ جِدًّا. فَارْتَعَدَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ. وَأَخْرَجَ مُوسَى الشَّعْبَ مِنَ الْمَحَلَّةِ لِمُلاَقَاةِ اللهِ، فَوَقَفُوا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ. وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا. فَكَانَ صَوْتُ الْبُوقِ يَزْدَادُ اشْتِدَادًا جِدًّا، وَمُوسَى يَتَكَلَّمُ وَاللهُ يُجِيبُهُ بِصَوْتٍ. وَنَزَلَ الرَّبُّ عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، وَدَعَا اللهُ مُوسَى إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ. فَصَعِدَ مُوسَى. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «انْحَدِرْ حَذِّرِ الشَّعْبَ لِئَلاَّ يَقْتَحِمُوا إِلَى الرَّبِّ لِيَنْظُرُوا، فَيَسْقُطَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ. وَلْيَتَقَدَّسْ أَيْضًا الْكَهَنَةُ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَى الرَّبِّ لِئَلاَّ يَبْطِشَ بِهِمِ الرَّبُّ». فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «لا يَقْدِرُ الشَّعْبُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى جَبَلِ سِينَاءَ، لأَنَّكَ أَنْتَ حَذَّرْتَنَا قَائِلاً: أَقِمْ حُدُودًا لِلْجَبَلِ وَقَدِّسْهُ». فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «اذْهَبِ انْحَدِرْ ثُمَّ اصْعَدْ أَنْتَ وَهَارُونُ مَعَكَ. وَأَمَّا الْكَهَنَةُ وَالشَّعْبُ فَلاَ يَقْتَحِمُوا لِيَصْعَدُوا إِلَى الرَّبِّ لِئَلاَّ يَبْطِشَ بِهِمْ». فَانْحَدَرَ مُوسَى إِلَى الشَّعْبِ وَقَالَ لَهُمْ.}(الخروج 19: 16-25).

وقد نُسب رفعُ الطور إلى الله تعالى في قوله )وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ(، لأنه هو الذي أوصاهم بالانتظار أسفلَ الجبل كما يذكر الكتاب المقدس: {فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْحَدِرْ حَذِّرِ الشَّعْبَ لِئَلاَّ يَقْتَحِمُوا إِلَى الرَّبِّ لِيَنْظُرُوا، فَيَسْقُطَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ.}

وجدير بالذكر أيضا أن في كلمة (رَفَعْنَا) و(فَوْقَ) إشارة إلى أن ميثاق الطور هذا له صفةُ الدوام، وكأن الله تعالى لم يذكر هنا أن هذا العهد قد أُخذ عند سفح الطور فحسب، بل أشار أيضًا بطريق المجاز اللطيف إلى أن الطور سيبقى دائمًا محلقًا فوق رؤوسهم ليُذكِّرهم بهذا العهد، فليس هذا العهد ليوم أو يومين، بل هو ذو صلة دائمة بالحياة القومية لبني إسرائيل.

ثم قال الله تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ . وضع الله تعالى اللبنة الأولى للشريعة الموسوية في برية سيناء على جبل يذكره الناس الآن باسم “الطور” ، وسوف نذكره نحن أيضا بهذا الاسم. وقد ورد كل هذا الحدث والزلزال في سِفر الخروج 19 و20. ويبدو من الفقرة {اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْدًا فِي حُورِيبَ} (التثنية 5: 2) أن موسى تلقى الوصايا العشر على صخرة بجبل حوريب، وفي تلك المناسبة أُخذ من بني إسرائيل الميثاق بالعمل بهذه الوصايا. وقد أُوتوا أحكامًا أخرى بالإضافة إلى الوصايا العشر كما أثبتنا ذلك على ضوء ما ورد في سفر الخروج في الإصحاحات من 20 إلى 31، وذلك لدى شرح كلمة “الكتاب” عند تفسير قول الله تعالى وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ (البقرة 54). وكان هذا أساسًا لنعمة عظيمة الشأن، ولكن اليهود كفروا بهذه المناسبة أيضًا كما تبين الآية التي تلتها.

وتؤكد آيتنا هذه بأن على بني إسرائيل أن يذكروا دائمًا ذلك العهد الذي أُخذ منهم عندئذ، وأن يتمسكوا به بقوة، ويعملوا به دائما، لكي ينجوا من المصائب كلها. وقد ورد هذا التأكيد في الكتاب المقدس كالآتي:

{وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُمْ: «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَتَكَلَّمُ بِهَا فِي مَسَامِعِكُمُ الْيَوْمَ، وَتَعَلَّمُوهَا وَاحْتَرِزُوا لِتَعْمَلُوهَا.} (التثنية 5: 1)

كما أن مفهوم قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أيضا موجود في الكتاب المقدس، أي أنكم إن تمسكتم بميثاقكم هذا وعملتم بهذه الوصايا التي أوتيتموها فستنجون من عذاب الله والمصائب، حيث ورد: {فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ:

«لا تَخَافُوا. لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَاءَ لِكَيْ يَمْتَحِنَكُمْ، وَلِكَيْ تَكُونَ مَخَافَتُهُ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ حَتَّى لاَ تُخْطِئُوا»} (الخروج 20: 20).
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (البقرة: 65)

 شرح الكلمات:

توليتم: تولّى: أدبرَ. تولّى عنه: أعرضَ عنه وتركَه (الأقرب).

فمعنى توليتم: رجعتم مدبرين؛ أعرضتم عنه وتركتموه.

فضل: الفضل: الإحسان والابتداء به بلا علّةٍ (الأقرب).

الخاسرين: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ… أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

التفسير:

ورد في الكتاب المقدس:

{وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَرَوْنَ الرُّعُودَ وَالْبُرُوقَ وَصَوْتَ الْبُوقِ، وَالْجَبَلَ يُدَخِّنُ. وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ ارْتَعَدُوا وَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى: «تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ».}(الخروج20: 18-19).

 وورد أيضًا:

{وَجْهًا لِوَجْهٍ تَكَلَّمَ الرَّبُّ مَعَنَا فِي الْجَبَلِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. أَنَا كُنْتُ وَاقِفًا بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ لِكَيْ أُخْبِرَكُمْ بِكَلاَمِ الرَّبِّ، لأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مِنْ أَجْلِ النَّارِ، وَلَمْ تَصْعَدُوا إِلَى الْجَبَلِ.} (التثنية 5: 4-5)

يتضح من هذه الفقرات أن بني إسرائيل خافوا بسبب الزلزال حين دعاهم الله تعالى ليشرفهم بكلامه مشافهة. فقوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ يعني أنهم فرّوا من هناك مدبرين، ولم يريدوا سماع كلام الله تعالى. ويقول الله تعالى لهم: لولا شملكم الله بفضله ورحمته لمحا اسمكم من أمة رسوله وأصبحتم من الخاسرين، ولكنه لم يعاقبكم. غير أن الثابت من التثنية 18: 18 أن الله تعالى قرر بسبب رفضهم سماعَ كلامه أن النبي الموعود المثيل لموسى لن يظهر من بني إسرائيل، بل يظهر من إخوتهم بني إسماعيل.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: 66-67)

 شرح الكلمات:

اعتدَوا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (… ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).

السبت: سبَت الرجلُ يسبُت ويسبِت سَبْتًا: استراح. سبَت الشيءَ: قطَعه. سبَت الرأسَ: حلَقه. سبَت: قام بأمرِ السبت. والسبتُ: الدهرُ؛ يومٌ من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد (الأقرب).

ويسمى السبت سبتًا لأنه يوم عطلة عند اليهود من أجل الراحة.

خاسئين: جمعُ خاسئ. خسَأْتُ الكلبَ فخَسَأَ؛ زجرتُه مستهينا به فانزجر (التاج).

خسأ الرجل الكلبَ: طرَده: الخاسئ من الكلاب المبعَد المطرود ولا يُترَك أن يدنو من الناس. (الأقرب)

نَكالاً: نكَل بفلان: صنَع به صنيعًا يحذَر غيرُه إذا رآه. والنكال اسمُ ما يُجعَل عبرةً للغير. (الأقرب)

موعظة: وَعَظَه: نصَحه وذكّره ما يليّن قلبه من الثواب والعقاب؛ وفي المصباح: “وما يسوقه إلى التوبة إلى الله وإصلاح السيرة، وأمَره بالطاعة.” والموعظةُ: كلامُ الواعظ من النصح والحث والإنذار (الأقرب).

وقال الخليل: الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب (المفردات).

المتقين: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (هُدًى للمتقين).

التفسير:

كل ما ذكرناه من معانٍ للسبت في شرح الكلمات يمكن أن ينطبق هنا. فلو قُرئتْ هذه الآية منفصلةً عن الآيات السابقة فالمعنى: أننا حين أنعمنا عليكم بالمال والثروة والراحة والرخاء انغمستم في الشر، فأنزلنا عليكم الذل والمهانة. أما لو قُرئتْ مقرونةً بالآيات السابقة فمفهومها: كان احترامُ السبت من الوصايا التي فرضناها عليكم عند الطور، ولكنكم خالفتم هذه الوصية أيضا.

لقد ذُكر السبت في الكتاب المقدس كالآتي:

{اِحْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَشْتَغِلُ وَتَعْمَلُ جَمِيعَ أَعْمَالِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَسَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، لا تَعْمَلْ فِيهِ عَمَلاً مَّا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَثَوْرُكَ وَحِمَارُكَ وَكُلُّ بَهَائِمِكَ، وَنَزِيلُكَ الَّذِي فِي أَبْوَابِكَ لِكَيْ يَسْتَرِيحَ، عَبْدُكَ وَأَمَتُكَ مِثْلَكَ. وَاذْكُرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْدًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَأَخْرَجَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ هُنَاكَ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ. لأَجْلِ ذلِكَ أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ أَنْ تَحْفَظَ يَوْمَ السَّبْتِ.}(التثنية 5: 12-15).

 وقد ورد مثل هذا المعنى أيضا في سِفر الخروج 20: 8-11.

هذه الفقرة من الكتاب المقدس تبدو أنها بالفعل من وحي الله تعالى الذي أوحى به إلى موسى والذي لا يزال محفوظًا إلى وقتنا هذا. ففيه بيان لحكمة أعمال الإنسان وتعليمٌ سامٍ للعناية بالضعفاء والفقراء.

وكلمة (السَّبْتِ) العربية تشبه كلمة (ثبات) في العبرية التي تعني الراحة كما تعني السبت في العربية. ومن معاني كلمة (ثبات) العبرية القطعُ والختمُ (موسوعة الكتاب المقدس، والقاموس العبري للعهد القديم). وكلمة السبت العربية أيضًا تعني القطع والختم، فيقال: سبَت الشيءَ: قطعه، وسبَت رأسه: حلَقه.

ويرى علماء العبرية عموما أن السبت لم يسمَّ بهذا الاسم لكونه يوم راحة، بل لأن الناس يُنهُون فيه عمل الأسبوع.

وكلمة (سَبَة) باللغة البابلية القديمة تعني دعاء التوبة. ويرى بعض العلماء، ومنهم “جيسن”، أن كلمة السبت بابلية الأصل، ومعناها يوم التوبة والدعاء (موسوعة الكتاب المقدس).

ويتضح من عبارة الكتاب المقدس المذكورة أعلاه أن يوم السبت قد خُصّص لينال الخدم والعمّال والعبيد وأهلُ القبيلة قسطًا من الراحة وليعبدوا الله تعالى. وهذان الهدفان من الأهمية بمكان، ولابد من أخذهما في الاعتبار. كان اليهود يسبتون في هذا اليوم (السَّبْت)، ويؤكد الكتاب المقدس أن يوم السبت خُصّص لهذا الغرض (وهذا سبب تسمية هذا اليوم بالسبت، وإلا فإن المعنى الأصلي للسبت هو يوم ترك الأعمال اليومية؛ وعليه يمكننا القول إن سبت بني إسرائيل هو يوم السبت، وأن سبت المسلمين هو يوم الجمعة) إذ قد ورد أن الله تعالى أنهى عمل خلق السماوات والأرض يوم الجمعة واتخذ يوم السبت يومَ استراحة، وتذكارًا لهذا أَمَرَ اليهودَ بالاحتفال بالسبت. فقد ورد في الكتاب المقدس:

{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ. لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ.} (الخروج 20: 11)

لقد اعترف النصارى أيضا بأهمية تقديس السبت، ولكنهم حدّدوا لذلك يوم الأحد، ذلك أن بعض الأمم والملوك الأوروبيين عندما أعربوا عن رغبتهم في المسيحية اشترطوا لدخولهم فيها أن يكون الأحد يوم الإجازة، فقبِل القساوسة هذا الشرط من أجل تنصيرهم، وهكذا سبقوا اليهودَ في انتهاك حرمة السبت؛ إذ كان اليهود في بعض الأحيان يقومون يوم السبت بأعمال تجلب بعض المنافع، أما النصارى فقرروا أن يكون يوم السبت يومَ العمل الدنيوي للأبد واتخذوا يوم الأحد عطلة. ولو كان هذا بأمر من الله تعالى لما كان مثارَ اعتراض، ولكنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم وبعد المسيح الناصري بقرون. وكان المسيح يقدّس يوم السبت، وإن لم يبالغ في ذلك كما فعل اليهود؛ حيث قال :

{السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لا الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ} (مرقس 2: 27).

وليس معنى ذلك إلا أنه عند الضرورات الملحّة لا داعي للتطرف في التمسك بأحكام السبت بحذافيرها، وأن السبت ليس مانعًا من أداء أمور الدين. ذلك لأنَّ اليهود اعتقدوا خطأً أنه لا يجوز في يوم السبت حتى التبليغ والوعظ وغير ذلك من أعمال الخير، مع أن السبت فُرض لمنع الناس من الشؤون الدنيوية لا الدينية.

ظلّت الشعوب المسيحية تسبت في أيامها الأولى (الموسوعة اليهودية، وموسوعة الكتاب المقدس)، غير أن الشعوب غير اليهودية ظلت تقدس منذ زمن الحواريين يومَ الأحد الذي كان يومًا مقدسًا عند الشعوب الآرية. فقد كتب بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس:

{فِي كُلِّ أَوَّلِ أُسْبُوعٍ، لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عِنْدَهُ، خَازِنًا مَا تَيَسَّرَ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ لا يَكُونُ جَمْعٌ حِينَئِذٍ.}(رسالة بُولُسَ الأولى 16: 2). يتبين من هذا أن أهل كورنثوس كانوا يتخذون يومأَوَّلِ الأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزًا، خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ، وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ}(أعمال الرسل 20: 7).

لقد اتضح من هذا أن الأمم غير الإسرائيلية كانت تقيم احتفالات عامة يوم الأحد ربما لأنه كان يوم عطلتهم القومية. وفي أيامنا هذه أيضًا يضطر المسلمون -الذين يعيشون تحت حكم الإنجليز في مختلف أقطار العالم- لعقد اجتماعاتهم يوم الأحد، لأن هذا هو يوم العطلة في تلك البلاد.

ويرى بعض الكتّاب أن النصارى شرعوا في تقديس الأحد مخافة معارضة الأمم غير اليهودية، ولكن بَرنابا يقول في رسالته إن سبب تقديسهم للأحد هو قيام المسيح من الموت فيه (الموسوعة اليهودية).

وأيًّا كان السبب، فإن تقديسهم ليوم الأحد كان مخالفًا لتعليم موسى .

لقد حدّد الإسلام أيضا يومًا للسبت، وهو يوم الجمعة. ولم يتحدد يوم الجمعة من أجل السبت بقياس من قبل المسلمين، بل قد حدّده الله تعالى بنفسه، فلا يمكن أن يثار ضد المسلمين الاعتراض الذي يثار ضد النصارى.

لقد خصَّ الإسلام يوم الجمعة بالمزايا التالية: أن يكون يومَ عطلة، وأن تزيد فيه العبادةُ، وأن يكون يومَ اجتماع قومي، ويومَ غُسل ونظافة، وعيادةِ المرضى وغيرِ ذلك من أعمال البر النافعة للمجتمع والأمة. ومسموح للناس بعد الفراغ من صلاة الجمعة أن يذهبوا إلى شؤونهم الدنيوية، وإن كان الأولى والأفضل أن يشتغلوا بعدها أيضًا بذكر الله تعالى.

من المؤسف أن المسلمين أيضا لم يقدروا سبتهم، حتى كانت صلاة الجمعة قد اختفت تمامًا لمدة من الزمن في الهند، اللهم إلا في مدنها الكبيرة. وقد بدأوا يهتمون بها الآن، ولكن حتى الآن، ليس حتى واحد بالمائة من المسلمين مستعد لأداء صلاة الجمعة. إنا لله وإنا إليه راجعون! وبعد مذكّرات قدّمها مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية للحكومة، وجهودٍ من أبناء الجماعة، قد سمحت الدولة بصعوبة بعطلة ساعة لأداء صلاة الجمعة، ولكن المسلمين مع ذلك لا ينتهزونها، بل يقول بعضهم علنًا للمسؤولين الحكوميين لن نشترك في عطلة يوم الجمعة لأن طلب هذه العطلة إنما قدّمه الأحمديون بِنِيَّة فتنة وفساد.1

لقد بدأت الآن حركة بين النصارى تسمى (جماعة اليوم السابع) وهي تحتفل بالسبت يوم السبت بدلاً من يوم الأحد.

وأمّا اعتداءات اليهود بشأن السبت المشار إليها في هذه الآية فقد ذكرها القرآن الكريم في آية أخرى حيث قال الله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (الأعراف: 164).

يتضح من هنا أن اليهود كانوا يصيدون السمك يوم السبت من أجل المنافع التجارية.

أما ما ذُكر هنا بأن الحيتان كانت تأتيهم بكثرة يوم السبت، فلم يكن هذا معجزة كما ظن بعض المفسرين، بل الحق أن من عادة بعض أهل الخير إلقاء الطعام إلى الحيوانات في أيامهم المقدسة، وتعرف الحيوانات هذا التوقيت جيدا، فتأتي طلبًا للطعام. ويبدو أن بعض أهل الخير من اليهود كانوا يوم السبت يلقون الطعام على الشاطئ صدقةً منهم، فكانت الحيتان تجتمع هناك للأكل في ذلك اليوم بوجه خاص. وعندما لاحظ بعض الأشرار ذلك بدأوا صيدها يوم السبت. يلقي الهندوس عندنا الحبوب والدقيق وغيرهما على شواطئ الأنهار في أماكنهم المقدسة، فتجتمع الأسماك بكثرة تثير العجب، مشهدٌ لا تراه في وقت آخر أو في موضع آخر من النهر.

لقد ذكر الكتاب المقدس بعض اعتدءات اليهود في السبت حيث ورد: {فِي تِلْكَ الأَيَّامِ رَأَيْتُ فِي يَهُوذَا قَوْمًا يَدُوسُونَ مَعَاصِرَ فِي السَّبْتِ، وَيَأْتُونَ بِحُزَمٍ وَيُحَمِّلُونَ حَمِيرًا، وَأَيْضًا يَدْخُلُونَ أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِخَمْرٍ وَعِنَبٍ وَتِينٍ وَكُلِّ مَا يُحْمَلُ، فَأَشْهَدْتُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَيْعِهِمِ الطَّعَامَ. وَالصُّورِيُّونَ السَّاكِنُونَ بِهَا كَانُوا يَأْتُونَ بِسَمَكٍ وَكُلِّ بِضَاعَةٍ، وَيَبِيعُونَ فِي السَّبْتِ لِبَنِي يَهُوذَا فِي أُورُشَلِيمَ}(نَحَمْيَا 13 : 15-16).

وذُكر انتهاك اليهود حرمةَ السبت في مواضع أخرى منها: إرمياء 17: 19- 27، وحزقيال 22: 8.

ثم یقول الله تعالى كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ . لقد أخطأ بعض المفسرين في فهم هذه الآية، فظنوا أن المعتدين في السبت مُسخوا قردةً في الواقع. وهذا غير صحيح، لأن القرآن الكريم قد ذكر هذا الأمر في موضعين آخرين أيضا، ويتضح منهما أنهم لم يمسخوا قردةً بالفعل، بل صاروا قردةً على سبيل الاستعارة والمجاز.

فقد قال الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (المائدة:61-62). يتضح من هنا أن الجماعة التي لُعنت ومُسخت قردةً وخنازير َكانت تأتي الرسولَ وتقول له نفاقًا لقد آمنّا بينما كانت قلوبهم مليئة بالكفر. والثابت من القرآن الكريم والحديث والتاريخ أن هذه الجماعة كانت من البشر لا من القردة والخنازير. فثبت أن المراد من هذه الآية أن أخلاقهم فسدت حتى صارت كعادات القردة والخنازير؛ وليس أنهم صاروا قردة وخنازير شكلاً وخَلْقًا.

والآية الأخرى هي قول الله تعالى في القرآن الكريم: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأَعراف:167-169). وكل من تدبر في هذه الآية أدرك بمنتهى السهولة أن هؤلاء القردة لم يكونوا قردة في الحقيقة، وإنما شُبّهَ هؤلاء العصاة بالقردة، وأنهم سيبقون إلى يوم القيامة، وأنه سيكون فيهم الصالحون والطالحون، وسوف يتعرضون لأنواع الابتلاءات ليعودوا إلى الله تعالى.

فما دام القرآن الكريم نفسه يشرح معنى كون بعض بني إسرائيل قردةً وخنازير، فلا مجال لقبول رواية تخالفه.

بعد سماع هذا الشرح يقول البعض: أي غرابة في أن يكون القادمون إلى الرسول هم نفس اليهود الذين مُسخوا قردةً وخنازير بالفعل؟

والجواب: (أولاً) إن الصفات التي ذكرها القرآن المجيد لهؤلاء لا تسمح بالأخذ بهذا التأويل السخيف، و(ثانيًا) إن المفسرين القدامى الذين ذهبوا إلى المعنى الظاهري هم أنفسهم لم يقبلوا بأن هؤلاء الممسوخين بقوا إلى زمن الرسول . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: “جُعلوا قردةً فواقًا ثم هلكوا. ما كان للمسخ نسلٌ” (الدر المنثور). وقال الضحاك عن ابن عباس: “فمسَخهم الله قردةً بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام. قال: ولم يَعِشْ مسخٌ قط فوقَ ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل” (تفسير ابن كثير). فالقائلون بالمسخ المادي أنفسهم يرون أن الممسوخين لا يحيون فوق ثلاثة أيام، بينما يقول القرآن الكريم إن هؤلاء الممسوخين سيبقون إلى يوم القيامة مغلوبين بأيدي الآخرين، وأنهم كانوا يأتون الرسول من حين لآخر، ويحاورونه، فكيف يصح المسخ بالمعنى المادي؟

وحتى لو سلّمنا جدلاً بالمسخ المادي عمومًا، إلا أنه نظرًا إلى الآيات المذكورة آنفًا، لا بد من القول إن هؤلاء القوم الذين يخبر القرآن الكريم عن مسخهم هنا خاصة، لم ينقلبوا قردةً وخنازيرَ حقيقةً، وإنما مُسخوا مسخًا روحانيا.

وبالإضافة إلى الشرح القرآني المذكور آنفًا هناك دليل آخر يبين بجلاء أن القردة هنا لا تعني قردةً في الحقيقة، وهو دليل من قواعد العربية؛ فمن قواعدها أن صيغة الجمع السالم المقرون بالواو والنون أو الياء والنون تخص جمع المذكر العاقل. لكن القردة المذكورين في الآية وُصفوا بكونهم خَاسِئِينَ ، وهي صيغة لذوى العقول، وإلا لقال (قردة خاسئة). فثبت أن القردة هنا ليست قردة مادية.

والمعنى الذي ذهبتُ إليه قد رواه بعض علماء السلف أيضًا. يقول التابعي والمفسر الكبير مجاهد: “مُسخت قلوبهم ولم يُمسَخوا قردةً، وإنما هو مثلٌ ضرَبه الله لهم. وقال أبو العالية: معنى قِرَدَةً خَاسِئِينَ أذلّةً صاغرين. وقال بنفس المعنى قتادةُ وربيع وأبو مالك” (ابن كثير، والدر المنثور).

ويقال في اللغة: قَرَد فلان أي ذَلَّ.

كذلك قال علماء آخرون: جُعلت أخلاقهم كأخلاقها أي القردةِ. (المفردات)

ما هو المراد الحقيقيّ مِن جعلِهم قردةً، فإن القرآن المجيد نفسه قد بيّنه، وهو:

أوّلاً: أنهم صاروا مهانين صاغرين. فكما أن القرد يؤخذ ويرقُص ويقفز كما يشير له القرَّاد ولا يمكنه مخالفة أوامره، كذلك تسلطت على اليهود حكومات، ولن تزال تتسلَّط، وتعاملهم كما تشاء، ولا يكون لهم دخل في الحكم.

ثانيًا: القرد حيوانٌ مقلِّدٌ. قد مُسخت قلوب جماعة من بني إسرائيل بحيث خلت من خشية الله، وصارت جُلّ أعمالهم تقليدا أعمى، وقشورًا بلا لب، حتى إن بعضهم إذا أتوا إلى المسلمين تظاهروا بالإسلام، وإذا رجعوا إلى قومهم تبعوا دينهم.

ثالثًا: القرد شبِقٌ إلى الشهوة الجنسية، يقال “فلان أزنى من قرد” (لسان العرب، وتاج العروس). وقد تفشت الدعارة في اليهود كثيرًا أيضًا، وتوجد المومسات اليهوديات في كثير من البلاد.

1 كان هذا قبل انقسام الهند بسنوات حين كان الإنجليز يحكمونها (الناشر).
Share via
تابعونا على الفايس بوك