في عالم التفسير
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة: 43)

 شرح الكلمات:

لا تلبِسوا: لبَس (يلبِس) عليه الأمرَ لَبْسًا: خلَطه وجعَله مشتبهًا بغيره (الأقرب).

(ولا تلبسوا الأمر): أي لا تجعلوا الأمر مشتبهًا على الآخرين بخلط الباطل مع الحق.

الباطل: نقيضُ الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص. (المفردات)

التفسير:

يقال لبِس يلبَس الأمرَ، ولبَس يلبِس اللباس. فقوله تعالى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ يعني: لا تخلطوا الحق بالباطل، فتجعلوه مشتبها على الناس.

وهذا هو دأب أعداء رسل الله دائما، يأخذون من الحق شيئًا ويخلطون به الباطل مثيرين الضجة ضد النبي قائلين: إنه كذاب. كان اليهود في زمن الرسول يعترفون بظهور كل العلامات المتعلقة بالنبي الموعود، ومع ذلك كانوا يحتجون حينًا بأن علامة النبي الموعود الأساسية هي أنه سيظهر من بني إسرائيل، وتارةً يقولون إنه سيظهر في أورشليم، وهكذا كانوا يصدون العامة من قبول الحق؛ مع أن الأساس في قبول الحق هو التحقق مما إذا كان الموعود يحقّق الغرض مِن بعثته أم لا؟ وهل ظهر في زمن هو في أمَسّ الحاجة إلى ظهوره؟ وهل تحققت بعض الأنباء المتعلقة به تحقُّقًا ظاهرًا بلا تأويل، ذلك أن الأنباء يكتنفها بعض الغموض وبعضها تحتاج إلى التأويل لانطوائها على معان مجازية. لا شك أنه ورد في بعض المواضع خبرُ ظهور النبي الموعود من بني إسرائيل، ولكنْ هناك أخبارٌ عن مجيئه من بني إسماعيل في مواضع أخرى، فليس معنى ظهوره في بني إسرائيل إلا أن قومه سيرثون بركات كالتي نالها بنو إسرائيل، وكأنهم يحلّون محلَّهم في المستقبل. وصحيح أن هناك كلمات تنبئ بظهور هذا الموعود من صهيون، ولكن ليس مراده إلا أن مكان ظهور هذا الموعود، أي مكة المكرمة، سيكون من الأماكن المقدسة عند الله تعالى كصهيون.

فمع أن العديد من العلامات الأخرى المتعلقة بهذا النبي الموعود قد تحققت حرفيًّا، ومع أنه ظهر في زمن كان في أمَسّ الحاجة إليه، ومع أنه قام بأعمال كان من المقدّر أن يقوم بها، فاعتراض بني إسرائيل بعد ذلك بأن النبأ الفلاني لم يتحقق بعد، أو لم يتحقق حرفيا، ليس إلا لَبْس الحق بالباطل، ومحاولة ماكرة لصدّ الناس عن قبول الحق. ولكن هذه المحاولات لم تُفلح في الماضي، ولا في زمن الرسول ، ولن تُفلح في المستقبل أبدًا.

أما قوله تعالى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ فأصلُه: ولا تكتموا الحق، لكونه عطفًا على قول الله تعالى وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ .

لقد بين الله تعالى هنا حيلة أخرى يلجأ إليها بنو إسرائيل لخداع الناس، أي سعيهم لكتمان الأنباء الدالة على صدق النبي . وهذا يعني أنهم كانوا يقاومون النبي بطريقتين: إحداهما خلْط الأنباء عند ذكرها للناس، فمثلا كانوا يخلطون ما هو صريح منها بما هو مجاز يتطلب تأويلا، أو كانوا يخلطون بين الأنباء المتعلقة بنبي آخر الزمان وبين أنباء متعلقة بأنبياء آخرين سابقين، ويقولون إنها أيضًا من علامات الموعود. وهذا ما يفعله بعض مشايخ المسلمين اليوم، فهناك في الإسلام أنباء عن مجيء أكثر من مهدي، وقد جاء بعضهم وتحقق فيهم ما ورد عنهم من أنباء، ولكن هؤلاء المشايخ لا يزالون يربطونها بمجيء المهدي المنتظر، ليلبسوا على الناس الأنباء المتعلقة به وحده.

والطريقة الماكرة الأخرى التي لجأ إليها اليهود ضد النبي أنهم كانوا يسعون لإخفاء بعض الأنباء المتعلقة بظهوره عن أعين العوام، ولا يذكرونها في وعظهم الديني، وإذا نبّههم المسلمون إليها أنكروها نهائيا، وإذا اضطرَّهم عالم مطّلع على حقيقة الأمر تملصوا واختلقوا الأعذار.

أما قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، فمعناه أنكم لا تفعلون ما تفعلونه من لبس الحق بالباطل وكتمانِه مصادفةً أو سهوًا، بل تفعلونه متعمدين عالمين به. ومن يرتكب هذا الإثم متعمدًا لم يرث أفضال الله تعالى.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (البقرة: 44)

 شرح الكلمات:

أقيموا الصلاة: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة…).

الزكاة: اسمٌ من التزكية.

وزكا الشيءُ يزكو: نما. زكا الرجُل: صلَح وتنعَّم وكان في خصب، ومنه: زكت الأرض (أي اخضرّتْ). زكّاه الله: أنماه؛ طهّره. زكّى فلان مالَه: أدّى عنه زكاته. زكّى نفسه: مدَحها. وتَزكّى فلان: تَصدَّقَ. والزكاة: صفوةُ الشيء؛ طاعة الله؛ ما أخرجتَه من مالك لتطهره به. وقيل سُميت الصدقة بالزكاة لأنها تزيد في المال الذي تُخرَج منه وتوفِّره وتقِيه من الآفات (الأقرب).

اركعوا: ركع المصلي ركعًا وركوعًا: طأطأَ رأسَه. ركَع إلى الله: اطمأنّ إليه. ركَع الرجلُ: انحطّتْ حاله وافتقرَ. وركع المصلي في الصلاة ركوعًا: خفض رأسه بعد قومة القراءة حتى تنال راحتاه ركبتيه، أو حتى يطمئنّ ظهرُه. والراكع: كلُّ شيء يخفض رأسه (الأقرب).

الركوع: الانحناء، فتارةً يُستعمل للهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي، وتارةً في التواضع والتذلل إما في العبادة وإما في غيرها (المفردات).

كلُّ شيء ينكبّ لوجهه فتمسّ ركبتُه الأرضَ أو لا تمسّها بعد أن يخفض رأسه فهو راكع. قال ثعلب: الركوع الخضوع… وكانت العرب في الجاهلية تسمي الحنيف راكعًا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركَع إلى الله (التاج).

فمعنى اركعوا: تَواضعوا؛ اعبدوا الله خالصًا.

التفسير:

في الآيات السابقة قد أمَر الله تعالى بني إسرائيل بإصلاح إيمانهم، وهنا وجّههم إلى إصلاح أعمالهم قائلا: كما أنه لا مناص لكم من تصديق محمد رسول الله لتكميل إيمانكم، كذلك لا بدّ لكم من إصلاح أعمالكم بتصديقه. لا جرم أنكم تقومون بالعبادة بطريقتكم ولكنها غير مقبولة الآن، وإذا اتبعتم محمدا في أسلوب عبادته لله تعالى قُبلت العبادة منكم. ولا شك أنكم تؤدون التضحيات المالية القومية، ولكن لن تحظوا الآن برضى الله تعالى ما لم تؤدّوا الزكاة بحسب شريعة محمد . قد تكون عبادتكم وأعمالكم منزهة عن الشرك إلى حد ما، ولكن معيار التوحيد قد تغير الآن، فلن ترِثوا الآن أفضال الله تعالى ما لم تبلغوا مستوى التوحيد الذي أقامه الله تعالى بواسطة محمد رسول الله .

أما قوله تعالى وَآتُوا الزَّكَاةَ ، فالزكاة إخراج نسبة محددة من الأموال في سبيل الله تعالى، وسوف نتناول مسألة الزكاة فيما بعد بالتفصيل. وينبغي الرجوع إلى ما ذكرناه من قبل من الواجبات المالية على المسلم، وذلك لدى تفسير قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .

ثم قال الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ . لقد ذكرنا في شرح الكلمات أن من معاني الركوع الخضوع وأيضا عيش المرء عيشة منزهة عن الشرك، إذ ورد: كانت العرب تسمي مَن آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعًا (أساس البلاغة). وكذلك يقولون: ركع إلى الله: اطمأن إليه خالصة. قال النابغة الذبياني في هذا المعنى:

سيبلُغ عذرًا أو نجاحًا مِن امرئإلى ربِّـه ربِّ البريّة راكعُ

(تاج العروس)

أي أن الذي يتوجه بإخلاص إلى ربه الذي هو رب الدنيا كلها، لا بد أن ينال النجاة والنجاح أو يُعَدّ من المعذورين.

فالركوع في قوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ لا يعني ركوع الصلاة، لأنها (أولًا) لا تقتصر على الركوع وحده، بل فيها غير ذلك من الحركات والهيئات، ولا داعي لذكر الركوع خاصة هنا، و(ثانيًا) سبق في قوله تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ بيان موضوع الصلاة عمومًا، بل صلاة الجماعة، التي تتضمن كل هذه الحركات من قيام وركوع وسجود وغيرها، وعليه فلم يكن هناك داعٍ لذكر الركوع منفصلًا، بعد ذكر الصلاة الشاملة. فثبت أن الركوع المقصود هنا غير الركوع الذي هو في الصلاة، وهو نفس ما أشرت إليه آنفًا، أعني أن الله تعالى أمَر بني إسرائيل أولاً بإقامة الصلاة مع المسلمين وأداء الزكاة مثلهم، ثم أمَرهم بأن يُخْلِصوا أعمالهم لله وحده كما يفعل المسلمون، وينتهجوا التوحيد الكامل، وينزّهوا أعمالهم عن شوائب الشرك تمامًا؛ وعندها سيرثون مرة ثانية النعمَ التي وُعدوا بها في الوعد الإبراهيمي.

ولقد مسّت الحاجة إلى هذا الشرح كيلا ينخدع أحد ويظن أن اليهود يكفيهم اليوم أيضا العملُ بأحكام التوراة فقط، ولكي يتّضح للجميع أن العمل الصالح الآن إنما هو ما جاء في الشريعة الإسلامية، ولن يُقبَل إلا إذا قام به الإنسان بحسب الطريقة الإسلامية.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (البقرة: 45)

 شرح الكلمات:

البِرُّ: الصِلةُ (أي الإنعام والعطية والإحسان)؛ الطاعة؛ الصدق (الأقرب).

أصلُ معنى البرّ السعةُ… ثم شاع في الشفقة والإحسان والصلة… قال الإمام أبو منصور اللغوي: البرّ خيرُ الدنيا والآخرةِ. والبرّ أيضًا: الصلاح؛ الخيرُ؛ الاتّساع في الإحسان إلى الناس (التاج).

تنسون: نَسِيَ ينسى الشيءَ نسيًا: ضدُّ حفِظه. قال الراغب: النسيان تركُ الإنسانِ ضبْطَ ما استُودِعَ، إما لضعف قلبهِ، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكرُه. (الأقرب)

“وأكثرُ أهل اللغة فسّروه (أي النسيانَ) بالترك… وإذا نُسب ذلك إلى الله فهو تركُه إياهم استهانةً بهم ومجازاةً لما تركوه. (التاج)

وقوله عز وجل نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، قال ثعلب (النحوي): لا ينسى الله عز وجل، إنما معناه: تركوا الله فتركَهم (لسان العرب).

وقوله تعالى: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ، أي لا تقصدوا الترك والإهمال. (الأقرب)

فمعنى تنسَون أنكم تهملون؛ تغفلون؛ تتركون.

أنفسكم: الأنفس جمعُ نفس، والنفس: الروحُ؛ الجسدُ… ويراد بالنفس الشخص والإنسان بجملته؛ العظمةُ؛ العزة؛ الهمة؛ الإرادة؛ الرأي (الأقرب).

تتلون: تلا الكلام تلاوةً: قرَأه (الأقرب).

تعقلون: عقَل (يعقِل) الدواءُ بطنَه: أمسكَه. عقل الغلامُ: أدرك فهو عاقل. عقل الشيءَ عقلًا: فهِمه وتدبّرَه. عقل البعيرَ: ثَنَى وظِيفَه مع ذراعه فشدّهما معًا بحبل. عقل الوعْلُ عقلاً: صعد وامتنع في الجبل العالي. والعقل نورٌ روحاني به تُدرِك النفس العلومَ الضرورية والنظرية (الأقرب).

فمعنى أَفَلَا تَعْقِلُونَ : ألا تستخدمون العقل؛ ألا تنتهون عن التصرفات الـمَشينة.

التفسير:

لقد بيّنّا في شرح الكلمات أن البِرّ هو أعلى درجات الإحسان والخير. وتُنبِّه هذه الآية بني إسرائيل أنهم بحسب تعاليم كتبهم يأمرون الناس كثيرًا بفعل الخير والإحسان إلى الآخرين، ولكنهم يرفضون الطاعة لهذا النبي العظيم المبعوث من عند الله تعالى خوفًا على مصالحهم الدنيوية، وتقول لهم: إذا كنتم تأمرون الناس بالخير فلا تنسوا أنفسكم؛ فحقُّها عليكم أعظم.

ومن معاني النسيان التركُ، وعليه فالمعنى: أتأمرون الناس بالخيرات وتتركون أنفسكم؟ فلماذا لا تحضّونها على البرّ حتى لا يتعارض فعلكم مع قولكم؟

ثم قال الله تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ . وهذا لا يعني أن كتابهم مُبرَّأٌ من التحريف والتبديل، كما يستنتج بعض قليلي العلم، وإنما قيل هذا في سياق الموضوع السابق، وهو أنكم تقرأون كتابكم الذي لا يأمُركم أبدًا أن تنصحوا الآخرين بالخير وتسلكوا أنتم طريق الشرّ، فما دمتم تؤمنون بكتابكم الذي ينهى عن سلوك هذا الطريق فلماذا سلكتموه؟ فحريٌّ بكم أن تُضحّوا في سبيل الحق كما تأمرون غيركم بالتضحية، ولا تُهلكوا أنفسكم بتصرفكم هذا.

وأما قوله تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ ، فمعناه: أفلا تمتنعون؟ أي لو كانت كتبكم لا تأمركم بالسير في طريق البر لأمكنَ التماس العذر لكم، ولكن انحرافكم عن طريق الخير مع وجود هذا التعليم في كتبكم لأمرٌ مؤسف جدا. فإذا كنتم لا تنصاعون لنصيحة أحد، فعلى الأقل اتّبعوا تعاليم كتابكم واسلكوا سبل البر والتقوى.

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة: 46)

 شرح الكلمات:

استعينوا: استعانَه: طلَب منه العونَ. تقول استعنتُه فأعانني (الأقرب).

للمزيد راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وإياك نستعين).

الصبر: تركُ الشكوى مِن ألم البلوى لغير الله، لا إلى الله، فإذا دعا اللهَ العبدُ في كشف الضرّ عنه لا يُقدَح في صبره. وقال (أبو البقاء) في “الكليات”: الصبر في المصيبة… وصَبَرَ الرجل على الأمر: نقيضُ جزِع، أي جرُؤ وشجُع وتجلَّدَ. وصبَر عن الشيء: أمسكَ عنه. صبَر الدابّةَ: حبَسها بلا علفٍ. صبَرتُ نفسي على كذا: حبستُها، تقول: صبرتُ على ما أكره، وصبرتُ عمّا أحبّ (الأقرب).

فمعنى الصبر، (أولاً): الامتناع عن الآثام والثبات على الحسنات، و(ثانيًا): عدمُ الجزع عند المصيبة في سبيل الله تعالى.

الصلاة: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة…).

الخاشعين: جمعُ خاشع. خَشَعَ: ذَلَّ وتطَأْمَنَ. خشَع ببصره: غضَّه… وفي “النهاية”: الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن. (الأقرب)

الخشوع: الضراعة، وأكثرُ ما يُستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعةُ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب. (المفردات)

التفسير:

هناك مانِعان لقبول الصدق: الأول ضغطُ الحكومات أو القوم والأقارب والأصدقاء الذين لا يقبلون الحق ويصدّون الآخرين عن قبوله لعدم فهمهم للحق، أو لتعصُّبهم، أو خوفًا على مصالحهم الشخصية؛ والثاني: صدأُ العادات المتأصلة ورَينُ المعاصي الماضية الذي يميت القلب ويسلب الهمّة. وتشير هذه الآية إلى السببين كليهما، وتقول: يا بني إسرائيل، ما دام الحق قد حصحص لكم، فلا تتأخروا عن قبوله. لا شك أنكم ستتعرضون لضغوط قومكم وأقربائكم وأصدقائكم، وتواجهون الظلم والاضطهاد والأذى، ولكن لا تبالوا بكل هذا، وقاوِموه بشيمة الصبر المرضية. كما عليكم أن تدْعو الله تعالى لتطهير قلوبكم لكي يزول عنها صدأُها، فتتهيأ لقبول الحق.

وتبين هذه الآية حكمة أخرى من علم النفس، ألا وهي أن صلاح أي شيء  لا بد له مِن أمرين: الأول أن يُصان من التأثيرات الخارجية؛ والثاني: أن تُزاد قوته الداخلية. وباستعمال كلمة الصبر قد أشار الله تعالى إلى ضرورة مقاومة التأثيرات الخارجية، وباستعمال كلمة الصلاة أشار إلى ضرورة اجتذاب فضل الله بالدعاء، فذلك يسدّ أبواب الضعف ويفتح أبواب القوة، ويُفلح الإنسان.

وكما بيَّنا في شرح المفردات، فإن الصبر لا يعني ترك الجزع فقط، بل يعني أيضًا الامتناعَ عن التأثر بالأفكار السيئة ومقاومَتَها. فعندما يرفض المرء التأثيرات السيئة ويستجيب للتأثيرات الطيبة -الأمر الذي لا يتيسر إلا بمعونة الدعاء- تتولد في قلبه الروحانية التي تسهِّل له ما كان يبدو له صعبا من قبل، فيحقق الانتصار في معركة الرقيّ الروحانيّ.

أما قوله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ، فكبيرة تعني: مهمّة صعبة. والخاشع هو الخائف، وحيثما وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم كانت بمعنى الخائف مما يكون الخوف منه مناسبًا ولائقًا، حيث وردت في كل موضع إما بمعنى الخوف من الله تعالى أو من عذابه.

كان من الممكن أن يقول قائل هنا بأن وصف مثل هذا العلاج سهل، ولكن العمل به صعب، فردّ الله تعالى على ذلك وقال: إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ أي: لا شك أن العمل بهذه الوصفة أمرٌ صعبٌ وشاقٌّ، ولكن مَن كان من الخاشعين وَجَدَه سهلا. وكأن العلاج الحقيقي للتقصير والمعاصي هو الإيمان الكامل بالله تعالى، فبدونه لا يُصان المرء من المعاصي مهما اتخذ من الوسائل والتدابير. لقد اختبرتْ الدنيا هذا الأمر مرارًا، ولكنها للأسف تَنسى ذلك في كل مرة. إن الخير الحقيقي الكامل لا يتولد في الإنسان أبدًا إلا باليقين الكامل بالله تعالى. إن الدلائل الفلسفية لا تقدر على خلْق التقوى الصادقة في الإنسان، وخوف المعاصي الذي يتولد في القلب نتيجة الإيمان الكامل بالله تعالى، لا يمكن أن يتولد بأي طريق آخر، ومن أجل ذلك نجد أن نماذج البرّ والتضحية التي قدّمتها جماعات الأنبياء يستحيل أن تقدّمها أيةُ جماعة أخرى في الدنيا.

إن ما وُعظ به بنو إسرائيل في هذه الآية من الحب والبر والنصح دليلٌ بيّن على تلك الروح السامية التي يريد الإسلام غرسها في العالم. فكل لفظ من الآية يقطر نصحًا ويشعّ صدقًا بما يدلّ على صدق ناصحهم لإنقاذهم من الخطأ. يقول بعض الحمقى أن القرآن كلام محمد ( ) وقد أراد به أن يحظى بالقبول والصيت لدى اليهود.

(Muhammad at Medina, by W.Montgomery Watt, vol.2 p.195 ,the jews of Yathrib)

بالله عليكم، تدبّروا كلمات هذه الآية، هل هي لطالب صيت وقبول؟ ثم فكِّروا في عدم إيمان بني إسرائيل به رغم نصحه هذا. ثم مَن المتضرّر؟ هل الإسلام؟ كلا، فعندما قدّم محمد رسول الله هذه النصيحة لبني إسرائيل لم يكن عدد المؤمنين به إلا بضعة آلاف، أما اليوم فينطق بشهادة صدقه أكثر من أربعمائة مليون من البشر، وقد حكم المسلمون العالم لألف عام، واليوم أيضًا يهيئ الله الوسائل والأسباب لازدهارهم ثانية. ولو آمن بنو إسرائيل ما زادوا على ذلك شيئًا يذكر، بل انتفعوا هم. لقد تنصّرَ منهم مئات الآلاف، فماذا كانت النتيجة؟ لقد أُخرجوا من بلادهم، ونُهبت ممتلكاتهم، فكانوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولو أنهم دخلوا في الإسلام لدخلوا في زمرة مئات الملايين من المسلمين، وكانوا شركاء معهم في كل البركات على قدم المساواة، ولم يصبهم أحد من المسلمين بأذى باعتبارهم غرباء. فزعْم الكتّاب النصارى، رغم كل هذه الحقائق، بأن محمدا كان يغري بذلك بني إسرائيل لضمهم إلى صفه لافتراءٌ يخالف العقل والواقع. كلُّ ما في الأمر أن القرآن الكريم قدَّم لبني إسرائيل النصح لمحض منفعتهم، ولكنهم لم يقبلوه، فلا يزالون يتحملون تبعات ذلك.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 47)

شرح الكلمات:

يظنون: ظنَّ الشيءَ: عَلِمَه واستيقنَه. والظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويُستعمل في اليقين والشك (الأقرب).

وقد استُعمل الظنّ هنا بمعنى اليقين.

التفسير:

من أسلوب القرآن الكريم أنه إذا استخدم كلمة ما لمعنى خاص، أي كاصطلاح، أتبعها بشرح هذا المعنى الاصطلاحي. فهنا أيضا قام القرآن بتوضيح المعنى الاصطلاحي لكلمة “خاشعين” الواردة في الآية السابقة، فبيّن أنها لا تعني مجرد الخائفين، وإنما تعني الذين تتولّد في قلوبهم خشية الله تعالى نتيجة يقينهم الكامل بوجوده ولقائه، ولا يتأسس شعورهم هذا على مخافة الأذى، وإنما هي الخشية من فوات الترقيات الروحية العليا. وهذا الخوف ليس من قبيل خوف الجبان، وإنما هو قلق العارف بالله، وتجده في أشجع الشجعان، بل يجب أن يوجد فيه. ومن أجل ذلك قيل هذا لليهود لمنعهم من خوف مصائب الدنيا، حيث قال الله لهم: لا شك أن طرد هذا الخوف من القلوب عمليةٌ صعبة، ولكنها سهلةٌ على الخاشعين. فلو أخذنا كلمة “الخاشعين” هنا بمعنى الخوف العادي فلا يستقيم معنى الآية، بل يصير عجيبا على النحو: لا تخافوا الناس، ولا شك أن تجنُّب هذا الخوف صعبٌ، إلا أنه سهل على الخائفين! فثبت من ذلك أن الخشوع هنا يعني خوف الإنسان من حرمانه من قرب ذلك الوجود الكامل الذي يؤمن به سبحانه تعالى، ولا غرابة في هذا المعنى، إذ المراد: لا تخافوا المصاعب والمشاكل الدنيوية، ولا شك أن هذا أمرٌ صعب، ولكن الذين يضعون لأنفسهم هدفًا ساميًا بحيث يشق عليهم تركه، فلا يصعب عليهم مكابدة المشاق. والحق أن الخوف من فوات المرام شجاعةٌ وحذرٌ وليس جبنًا.

ثم قال الله تعالى وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يؤكد الحياة بعد الموت حقَّ التأكيد، وليس هناك دينٌ سوى الإسلام يتخذ الحياة الأخروية أساسًا لبناء التقوى في الدنيا. إنه يعتبر الحياة الدنيا حلقةً من حلقات حياة طويلة يكتمل خلالها رقيُّ الروح الإنسانية، ولا يعتبر الموتَ نهايةً لصراع الروح، بل يرى أنها ستمضي بعده في كفاح مستمر. والفرق بين الحياتين أن الإنسان يكافح في هذه الحياة وهو في ظلام نسبي، ولكن في الحياة الآخرة سينال كل من الصالحين والأشرار بصيرةً يسعون بها للرقي، فأما الأشرار فسوف يكافحون للتخلص مما هم فيه من شدة وبلاء قدمته أيديهم، وأما الأبرار فيسعون للمزيد من الرقي. هذا هو اليقين الذي جعل المسلمين الصادقين لا يخافون الموت أبدًا، وكلما يهبّ المسلمون بهذا الإيمان واليقين يُكتب لهم النصر على العالم. أما الذين يعدّون هذه الحياة الدنيا نهايةَ رُقيّهم، فلا يمكن أن يجتهدوا للبر كاجتهاد المؤمنين بالحياة بعد الموت، وإنما يميلون دائما نحو ملذات الدنيا، ولا يصرفون أنظارهم عن المتع المادية، ولا يمكن أن يضحّوا براحة أبدانهم أبدًا.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: 48)

 شرح الكلمات:

بني إسرائيل: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم).

نعمتي وأنعمت: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم).

فضَّلتُكم: فضَّله على غيره: جعَل له مزيّةً عليه وحكَم له بالفضل. وفضّلَه: صيّرَه أفضلَ منه (الأقرب).

العالمين: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الحمد لله ربّ العالمين).

التفسير:

في هذه الآية اختار الله تعالى أسلوبا آخر لترغيب بني إسرائيل في الإيمان بالشريعة الأخيرة. ففي الآيات السابقة نبّههم الله بأني كنت قد عاهدتكم عهدًا وقد وفّيت بما عليّ من العهد، ولكنكم لم تؤدّوا ما في ذمتكم من العهد، فحُرمتم من فضله، وها قد نزل وحي جديد بحسب أنباء كتبكم، فآمِنوا به، ليستأنف الله إنزال نِعَمه عليكم. وأما في هذه الآية فنبههم إلى أن حُبَّ المحسن دأْبُ الشرفاء، وقد أحسن الله إليكم كثيرًا، إذ رفعكم من الحضيض إلى الدرجات العلى، حتى جعلكم من أفضل الأمم، فلماذا لا تقدِّرون صنيعه حقَّ قدره، وترفضون رسالته؟ فاشكروا هذا الصنيع، ولا تعرضوا عن محسنكم.

وقوله تعالى: أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ لا يعني أن الله تعالى فضَّلَهم على الأولين والآخرين من الأمم كلها، وإنما المراد أنه فضّلهم على من كان في زمنهم من الأمم. فالقرآن يصف أمة الإسلام التي أسَّسها محمد رسول الله بأنها خير الأمم بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 111). وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (البقرة: 144).

يتعيّن معنى العالمين هنا من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (آل عمران:34)، فمعناها المعاصرون لكل واحد من هؤلاء، لأن الأنبياء والأمم المذكورين في هذه الآية عاشوا في أزمنة مختلفة، ولا يصحّ القول أن كل واحد منهم كان أفضل من أهل الأزمنة كلها.

وهناك آية أخرى تلقي مزيدًا من الضوء على معنى كلمة “العالمين”، فعندما استضاف لوط بعض الناس في بيته جاءه قومه قائلين: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (الحجر:71)، أي ألم نمنعك من إحضار الأجانب من الجيران إلى القرية؟ فمعنى العالمين هنا: الغرباء أو الأجانب من حولها.

إذن، فكلمة العَالَمِين في القرآن الكريم لا تعني بالضرورة معناها الواسع دائمًا؛ بل يمكن أن تعني الجيران أو المعاصرين، وهو المراد في آيتنا هذه.

والملاحظ أن الله تعالى قال هنا: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ولم يقل “فضلتكم على الناس”، ذلك ليشير إلى أن فضل بني إسرائيل كان على أنواع. وقد سبق أن ذكرتُ لدى شرح العالَمين في سورة الفاتحة أن من معانيها طائفةً أو نوعًا من الناس يشكّلون دليلاً على وجود الله تعالى. إذًا، فكلمة العالَمين تشير إلى طوائف ذات خواص مميزة ومتنوعة، ومعنى الآية: أننا فضّلناكم على البارعين في كل العلوم الروحانية، وبيان هذا المعنى كان محالاً لو قيل: “فضلتكم على الناس”. فكلمة (العالمين) إشارة إلى أن الله تعالى فضّلهم في جميع المجالات الروحانية، سواء ما يتعلق منها بالشرع وبالأخلاق وبالقرب الإلهي وغيرها. فقد وُجد فيهم أصحاب كمال في كل مجال، فاقوا نظائرهم في عصرهم، أو فيمن حولهم من الأمم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك