حالة النقاهة وحالة الشفاء الكامل

ثم قال تعالى:

وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا (الإنسان:18)

ولنعلم أن كلمة “الزنجبيل” مركبة من كلمتين: “زنأ” و”جبل”، ومعنى “زنأ” في اللغة العربية صعد، فكأن الجملة المركبة “زنأ جبل” تعني: صَعَد الجَبَل.

ولنعلمْ أن الإنسان يمرّ ما بينَ انحسار الداء السامّ عنه وقبل استرداد صحته كاملةً بحالتين: أولاهما أنه تزول عنه شدة السموم كليةً، وتهدأ وطأة الموادّ المهلكة، وتنتهي هجمة التأثيرات السامّة بسلام وعافية، ويسكن الطوفان المدمّر الذي طغى، إلا أن الوهن والضعف لا يزال في أعضائه، فلا يستطيع القيام بعمل يتطلب منه القوة، وإنما يكون أشبهَ بميت ويتعثر في المشي مرة بعد أخرى. وأما الحالة الثانية فهي حالة الشفاء الكامل.. إذ تعود إليه صحته الطبيعية، ويمتلئ البدن قوة ونشاطا يشجعه على أن يتسلق قمم الجبال دون مشقة، وأن يرتقي فوق التلال الشاهقة في نشاط وانبساط. وكذلك، فمثل هذه القوة إنما تتيسر للإنسان في الدرجة الثالثة من الارتقاء الروحاني، وإليه أشار الله في الآية المذكورة إذ يقول:

وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ..

أي أن أولياء الله الكُمل يستوفون نصيبا كاملا من القوة الروحانية، فيجتازون كُبْرَيات العقبات، وتتم على أيديهم صعاب الأمور، ويقدمون في سبيل الله تضحياتٍ تحير العقول.

تأثير الزنجبيل

وليكن واضحا أن من خصائص الزنجبيل في علم الطب – واسمه في الهندية (سونـٹھ) – أنه يزيد طاقةَ الجسم كثيرا، ويمسك الإسهال. وقد سُمّي “زنجبيلا” لأنه يقوّي الضعيف، ويبعث فيه حرارة وطاقة بحيث يمكّنه من تسلُّق الجبال.

وقد أراد الله من سرد هذه الآيات -المتقابلة في المعنى إذ ذكر في الأُولى الكافورَ وفي الثانية الزنجبيل- أن يبيّن لعباده أن الإنسان إذا تحرك نحو الصلاح مُقلِعا عن شهوات النفس.. بدت فيه أولا حالةٌ تُخمد مواده السامة، وتأخذ شهواتُ نفسه في النقصان.. كما يُسَكِّن الكافور حدةَ السموم، فهو لذلك ينفع في الكوليرا والحمَّى التيفيَّة.

ومتى زالت عن المريض شدة السموم تماما، واستعاد الصحة مع ضعف شديد.. بدأت مرحلةٌ ثانية يتقوى فيها المريض الناقِهُ من شراب الزنجبيل. وشراب الزنجبيل في الروحانية هو تجلي الله بجماله وجلاله على عبده، ذلك التجلي الذي هو بمنـزلة الغذاء للروح. فإذا تقوى الإنسان بالتجلي الرباني استطاع أن يصعد الجبالَ العالية الشاهقة، وينجز الأعمال الشاقة المحيرة التي لا يقدر أحد على إنجازها أبدا ما لم يكن قلبه مفعَمًا بحرارةِ حب كهذه. ولبيان هاتين الحالتين استخدم الله كلمتين عربيتين: إحداهما “الكافور” ومعناها المُسَكن المغطي، والثانية “الزنجبيل” ومعناها الصاعد. وهكذا يجتاز السالكون هاتين المرحلتين في سلوكهم الروحاني.

أما قوله تعالى:

إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (الإنسان:5)..

فمعناه أن الذين لا يبتغون الله من صميم أفئدتهم.. يردهم الله إلى الأسفل، فيُبتلون بالإخلاد إلى الدنيا باستمرار، فيصبحون كأنهم مقيدون بالسلاسل، ويبقون دائما مائلين إلى الشواغل الأرضية.. كأنما أعناقهم قد شُدت بالأغلال التي لا تَدَعُهم يرفعون رؤوسهم نحو السماء، وتحترق قلوبهم بنيران الحرص والهوى.. يودّون أن يحصلوا على هذا المال ويقتنوا ذلك العقار، ويملكوا كذا من البلاد، ويقهروا فلانا من الأعداء، وأن يكون لديهم مقدار كذا من الثروة والغنى. وبما أن الله يرى أنهم لا خير فيهم، بل يجدهم منغمسين في المعاصي، لذلك يبتليهم بهذه البلايا الثلاث.

سُنة الفعل ورد الفعل

وفي الآية إشارة أيضا إلى أن الإنسان إذا فعل فعلا قابَلَه الله بفعل من عنده. فمثلا.. إذا أوصد الإنسانُ كل أبواب حجرته، أتْبَع الله فعلَه هذا بفعل منه.. بأن يُطبق عليه الحجرة بالظلام. ذلك لأن كل ما يترتب على أفعالنا من نتائج بمقتضى القوانين الطبيعية إنما هو في الحقيقة أفعاله سبحانه وتعالى.. فهو العلةُ النهائية لجميع العلل.

كذلك لو أن أحدا ابتلع سما زعافا.. كان فعلُ الله بعد فِعله هذا أن يُهلكه. وكذلك إذا اقترف أحد فعلا مشينا من شأنه أن يعرضه للعدوى فإن الله يُعقب فعلَه هذا بفعلٍ منه فيصيبه الداء الخبيث. إذن، فكما نشاهد بكل وضوح في حياتنا الدنيوية أن لكل عمل من أعمالنا نتيجة محتومة.. هي مِن فِعل الله تعالى.. كذلك تماما يسري نفسُ القانون في أمور الدين، كما يصرح الله بذلك في هاتين الآيتين:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت: 70)،

فَلَما زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (الصف: 6)..

أي أن الذين بذلوا الجهد كله في ابتغاء مرضاة الله، سنجزيهم مقابل ذلك هداية إلى سبيلنا حتمًا، وأما من اعوج ولم يُردِ السيرَ على الطريق المستقيم قابل الله فعلَه هذا باعوجاج قلبه.

وقد وصف الله هذه السُنةَ الربانية بأوضح بيان في قوله:

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (الإسراء:73).

وفي ذلك إشارة إلى أن الصالحين يتشرفون في هذه الدار برؤية الله، وأنهم في هذا العالم يحظون بلقاء محبوبهم الذي ضحوا لوجهه الكريم بكل شيء.

نشأة الحياة الفردوسية

فالمراد من الآية أن الحياة الفردوسية إنما يوضع أساسُها في هذا العالم نفسه، كما أن أصل العماية الجهنمية إنما هو العيشة النجسة العمياء في نفس هذا العالم.

ثم يقول الله :

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ (البقرة:26).

إن الله تعالى قد شبه هنا الإيمانَ بالجنة التي تجري فيها الأنهار. وليكن واضحا أنه قد ضمن هذا التشبيهَ فلسفة عُليا، ونبهنا به إلى أن العلاقة التي توجد بين البستان والأنهار هي نفسها بين الإيمان والأعمال. فكما أن أي بستان لا يمكن أن يبقى مخضرا نضِرا بدون الماء، كذلك الإيمان لا يسمى إيمانا حيا بدون الأعمال الصالحة. فإذا وُجد الإيمان ولم توجد الأعمال فلا قيمة لهذا الإيمان، وإذا كانت الأعمال ولم يكن الإيمان كانت رياءً.

 

حقيقة الجنة والجحيم

إن الجنة الإسلامية حقيقتها أنها ظِل لإيمان الإنسان وأعماله في الحياة الدنيا.. وما هي بشيء جديد يتلقاه الإنسان من الخارج، بل إن جنة الإنسان تنشأ من باطن الإنسان نفسه، وأن جنة المرء إنما هي إيمانُه وأعماله الصالحة التي يبدأ في التلذذ بها في هذا العالم نفسه. فيتراءى له في باطنه الإيمانُ حدائقَ والأعمالُ أنهارًا.. ثم في الآخرة سيشاهدهما عيانا. إن كتاب الله الكريم يعلّمنا أن الإيمان الصادق الخالص الراسخ الكامل بالله وصفاته وإراداته جَنّةٌ نضرة وشجرة مثمرة، وأن الأعمال الصالحة أنهار هذه الجنة.. كما يقول سبحانه وتعالى:

ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ (إبراهيم:25-26)

.. أي أن الكلمة الإيمانية الخالية من كل إفراط وتفريط، ونقص وخلل، وكذب وهزل، والكاملةُ من جميع الوجوه.. تماثل الشجرة الطيبة السليمة من كل العيوب، التي جذورها متأصلة في الأرض وفروعها عالية في السماء، والتي تؤتي ثمارها دائما، ولا يأتي عليها وقت تخلو فيه أغصانها من الثمر.

وبتشبيه الكلمة الإيمانية بشجرة دائمة الثمر.. ذكر الله هنا ثلاث علامات للإيمان:

الأولى: أن يكون أصل الإيمان، أي معناه الحقيقي، ثابتا في أرض القلب. وذلك يعني أن تكون الفطرة الإنسانية والضمير قد سلما بحقانيته وأصالته.

والعلامة الثانية: أن تكون فروعها في السماء.. بمعنى أن يكون الإيمان مقرونا بالبراهين العقلية بحيث توافقه السننُ السماوية التي هي من أفعال الله تعالى. والمراد أن يكون بإمكاننا التدليل على صحته وأصالته بأدلة مستنبَطة من النواميس الطبيعية، وأن تكون تلك الأدلة من السمو وكأنها في السماء.. ولا يمكن أن تصل إليها يد الشبهات.

والعلامة الثالثة: أن تكون ثمارها الصالحة للأكل دائمة غير منقطعة. والمراد أن تكون للإيمان -بعد العمل به- تأثيراتٌ محسوسة وبركات مشهودة دائما أبدا، وفي كل زمن، وليس أن تظهر هذه البركات في زمن معين ثم تنقطع.

ثم قال تعالى:

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (إبراهيم:27)..

أي أنها كلمة لا تقبلها الفطرة البشرية، ولا تستقيم هي بحال من الأحوال أبدا، أمام البراهين العقلية أو القوانين الطبيعية، أو أمام صوت الضمير.. بل إن هي إلا روايات أو أقاصيص.

وكما شبّه القرآن المجيد أشجارَ الإيمان الطيِّبة بالعنب والرُمّان وغيرهما من الفواكه الطيبة، وذكر أنها ستتمثل في عالم الآخرة وتتراءى في صور هذه الثمرات.. كذلك شبه كلمةَ الكفر الخبيثة بشجرة الزقوم في الآخرة، كما قال الله تعالى:

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ * إنهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ (الصافات: 63-66).

وكذلك قال:

إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * … * ذُقْ إنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (الدخان:44-50)

.. بمعنى: أي الضيافتين خيرٌ مقاما.. أرياضُ الجنة أم شجرة الزقوم التي هي بلاء للظالمين؟ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم.. أي أنها تنشأ من الكِبر والزهو لأنهما جذور جهنم. نُوارها كأنه رؤوس الشياطين. والشيطان يعني الهالك، وهو مشتق من الشيْط، والمقصود من الآية أن أكله سوف يسبب الهلاك.

ثم قال إن شجرة الزقوم طعام الذين يرتكبون السيئات عمدا، وأنه كالمُهل.. أي النحاس الذائب، يغلي في البطون كغليان الماء.

ثم خاطب نـزيلَ جهنم قائلا: ذُقْ من هذه الشجرة يا صاحب العزة والكرامة! وهذا الخطاب تعبير عن الغضب الشديد، والمراد: لو لم تتكبر ولم تُعرض عن الحق بسبب عزتك وكرامتك الدنيوية لم تذق اليوم كل هذه المرارات.

وقوله تعالى: ذُقْ إنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يشير أيضا إلى أن كلمة “الزقوم” مركبة في الأصل من “ذُقْ” و “أَمْ”. و “أم” مختصر من قوله إنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ حيث أُخذ الحرفان الأول والأخير من الجملة، وبُدل “ذ” إلى “ز” لكثرة الاستعمال.

وخلاصة القول إن الله تعالى مثل كلمة الكفر التي هي من هذه الدنيا بالزقوم واعتبرها شجرة الجحيم، كما مثل كلمة الإيمان التي هي من هذه الدنيا بالجنة المثمرة، وهكذا وضح أن الفردوس والجحيم إنما ينجم أصلهما في الحياة الدنيا، كما وصفَ سبحانه جهنم في موضع آخر قائلا:

نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (الْهُمَزَة:7-8)..

أي أن جهنم هي نار منبعها غضب الله وتشتعل بالمعصية، وتتغلب أولا على القلب. وهذا إشارة إلى أن أصل هذه النار إنما هي تلك الهموم والحسرات والآلام التي تأخذ بالقلوب، ذلك لأن كل أنواع العذاب الروحاني تبدأ من القلب أولا ثم تستولي على الجسد كله.

وقال الله في موضع آخر: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (البقرة: 25).. أي أن الوقود الذي يُبقي نارَ الجحيم مضطرمةً على الدوام عبارةٌ عن شيئين: أولهما الناس الذين نسوا الإله الحقيقي وأخذوا يعبدون ما سواه من المخلوقات، أو الذين يدعون الآخرين أن يعبدوهم.. كما يقول الله عنهم:

إنكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنمَ (الأنبياء: 99)..

أي سوف تُلقَون في جهنم أنتم وآلهتكم الباطلة الذين نصَّبوا أنفسهم آلهة مع كونهم من البشر. والثاني: الأصنام والأنصاب، إذ لولاها لما وُجِدت جهنم أيضا. لقد تبين من جميع هذه الآيات أن الجنة والجحيم – بحسب كلام الله القدسي – ليستا ماديتين كهذا العالم المادي، وإنما منشؤهما أمور روحانية سوف تُشاهَد بأشكال متجسمة في عالم الآخرة، ومع ذلك لن تكون من هذا العالم المادي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك