الحضارة الإنسانية كتاب واحد
  • كيف أن الابتهاج بدخول العام الجديد ينبغي ألا ينسينا تقصيرات الماضي!
  • ماذا عن مصطلح “صدام الحضارات”؟! أله حقيقة قائمة كما يظن البعض؟!
  • كيف كان الإسلام الداعي الأول إلى فكرة تلاقح الحضارات؟!

___

ولا زال العالم في تغير، وسيظل، إلى أن تنقضي صفحته من الوجود. ويحل العامُ 2020 وفي جعبته شتى وعود السعادة، ولكن ينبغي ألا تُنسينا بهجة المناسبة ما قد كان منا في عام فات، من تقصير أو إساءات.

علينا مراجعة الكثير من ملفاتنا التي ما زالت مفتوحة، وما زالت مثار قلق واسع لدى شتى الأطراف، على رأسها ملف الحضارة الإنسانية، والذي يميل بعض الأكاديميين إلى تسميته «صراع الحضارات»، فإزاء هذه التسمية نتساءل: أحقا تتصارع الحضارات؟! يبدو أن هذا الموضوع بحاجة إلى إعادة النظر مليًّا في هذه الفكرة تحديدا، ولننظر إلى العلاقة بين الحضارات الإنسانية منذ بواكير الحضارة الأولى، أهي علاقة صراع حقا كما يدعي البعض؟! أم تراها علاقة حوار كما يدعي البعض الآخر؟! أم لا هذا ولا ذاك، وهي علاقة تعاقب حتمي كما سنرى؟! بالنظر إلى النتاج الحضاري منذ ظهور الإنسان العاقل على هذا الكوكب نجده لخير الناس وتيسير حياتهم وتوفير قوتهم وحياة رفاهيتهم، كل هذا ليتفرغ الناس للهدف الأسمى، وهو توطيد علاقتهم بخالقهم في المقام الأول. وكل أمة استخلفها الله عز وجل إنما صنعت ما صنعت وأنجزت ما أنجزت، وفي عقلها الجمعي أن ما تصنعه هو لفائدة أجيالها. ولأن الأمم بين يدي خالقها كأناسي، ولأن لكل أجل كتابا، فللأمم آجالها المحتومة كما للأفراد، وكل أمة تندثر تخلِّف وراءها ثروة حضارية ضخمة ترثها أمة جديدة تتسلم مشعل الحضارة وتعدو به إلى أن يوافيها الأجل المحتوم بدورها، فتسلم شعلة الحضارة إلى أمة تالية، فتبدأ هذه من حيث انتهت تلك، وهكذا دواليك حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهو الباقي سبحانه، والخلق بحضاراتهم إلى فناء. من هذا المبدأ يتضح جليا أن لا صراع يذكر بين الحضارات، بل إن العلاقة علاقة تسليم وتسلم للشعلة نفسها بمضي الوقت، أو يمكن تشبيه أمر الحضارة الإنسانية بكتاب واحد تكتب كل أمة فيه صفحة واحدة، وعندما تبلغ كل أمة نهاية صفحتها تأتي أمة تالية لتخط صفحة جديدة. فلو كانت العلاقة بين الحضارات علاقة صراع كما يدعون، لبدأت كل حضارة من نقطة البداية نفسها، ولكن الواقع يقول بأن كلا يستفيد مما خلفه سابقه، وحضارة اليوم تنطلق من حيث توقفت حضارة الأمس، وحضارة الغد ستنطلق من حيث تتوقف حضارة اليوم، تلك سنة ثابتة ليس إلى تبديلها سبيل،

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (1).

فبعدما اتضحت الفكرة ينبغي علينا التعامل مع المسألة بالشكل اللائق، وأن يدرك حَملةُ شعلة الحضارة الحديثة اليوم أن حضارتهم ما كانت لتقوم لها قائمة لولا الحضارة التي خلفها لهم المسلمون طوال فترة العصور الوسطى، ومن قبلهم شتى الأمم والحضارات الشرقية كالصينية والهندية والفارسية والمصرية وغيرها، كذلك يحق لأولئك المنتمين ثقافيا إلى حضارات خلت أن يعتزوا بما تتمتع به حضارة عصر الحداثة من رفاهية، فلولا صفر الهنود لما قدر لبورصة «وول ستريت» بملياراتها أن تولد أصلا! فليس من قبيل الخُلُق القويم تحقير إنجازات الغير، لأن هذا يعني تحقيرنا لأنفسنا بالتبعية. ألا يذكرنا هذا بقول النبي الخاتم :

«بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ»!(2)

أوليس هذا هو عين ما دعا إليه المبدأ القرآني القائل:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (3)،

فلنقضِ مدة وجودنا في هذا العالم متلمسين سبل تعارف بعضنا لبعض، فهذا هو الطريق الأمثل لخَلْق السلام المنشود والمفتقد اليوم. أما عن مصطلح «حوار الحضارات» كمصطلح بديل لـ «صراع الحضارات» فإننا نميل أكثر إلى أن يكون حوارا، وإن كان أي حوار يقتضي حضور المتحاورَين، فكيف يتأتى هذا وقد خلا أحد الطرفين ولم يخلف إلا منظومة ثقافية وأخلاقية استوعبتها الحضارة الوارثة؟! فأدق من مصطلح الحوار أيضا هناك مصطلح التلاقح، نعم، فالحضارات تتلاقح، وتترك كل حضارة خالية أثرا وبصمة في الحضارة التالية..

فمع بداية عام جديد، يرجو فريق تحرير مجلة «التقوى» أن يحالفه التوفيق من الله تعالى في مواصلة تناوُل ملفات أكثر عصرية وإلحاحا وطرحا على الساحة في هذه الآونة، أبرزها ملف السلام العالمي، وكذلك فتح ملفات جديدة لم يعهدها قراء التقوى من قبل في شتى المواضيع، كملف الحضارة الإنسانية، تاريخها ونتاجها الثقافي، ساعين من وراء ذلك إلى وضع كافة الأمور محل الطرح والنقاش في نصابها الصحيح بحول الله تعالى وقوته وتوفيقه وعونه. ومواكبة لمناسبة بداية عام جديد، تقدم «التقوى» إلى قرائها باقة من المواضيع متفاوتة الصلة، بدءا من كلمة حضرة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره العزيز التاريخية التي ألقاها حضرته في جمع من النخبة الألمانية على مقربة مما تبقَّى من سور «برلين» الشهير الذي طالما استدعته الذاكرة رمزا للفرقة، ليحدثنا حضرة خليفة المسيح الموعود من هناك عن مصطلح صدام الحضارات الذي طالما يتردد كلما ذُكر الإسلام والغرب معا؟! وكفريق تحرير «التقوى»، ارتأينا فائدة نشر هذا الخطاب التاريخي في هذا التوقيت من العام الجديد، ثم نعرض مادة مقالية معنية بمراجعة الأولويات وتحديد الاتجاهات كأمر معتاد ومتبع لدى كثيرين كلما دار الزمان دورته الصغرى مع بداية كل عام. هذا إضافة إلى الأبواب الثابتة الأخرى. فنسأل الله تعالى خَيْرَ هَذَا العام، فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، وَنعُوذُ بِه عز وجل مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ، اللهم آمين.

1. فاطر: 44 – 2. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة – 3. الحجرات: 14

Share via
تابعونا على الفايس بوك