كيف تناسى الغرب تراثه الإِسلامي؟
  • الدجل على المستوى العالي
  • لماذا يجد البعض أنفسهم مضطرين إلى إنكار الجميل؟!
  • العصامي الحرامي!
  • ولازال هناك منصفون
  • النهضة الأوروبية مطلع القرن الثاني عشر
  • التطورات الأساسية في انتقال الحضارة الإسلاميّة إلى أوروبا

__

الدجل على المستوى العالي

التزوير والدجل ظاهرة قديمة قدم الوجود الإنساني على هذه الأرض، وهو غير مقتصر على الحالات الفردية، كان يطلق شخص تهمة باطلة كذبا وتزويرا على شخص آخر بريء، بل إن للتزوير والدجل مظهرًا أعظم وأخطر، يتمثل في ممارسات الدول والحكومات ضد دول وحكومات وشعوب أخرى، ولا يكون ضحية ذلك التزوير شعوب الدول الأخرى فحسب، بل إن شعوب الأنظمة الدجلية تكون ضحية أيضا، كونه يتغذى غذاء فاسدا.

لماذا يجد البعض أنفسهم مضطرين إلى إنكار الجميل؟!

إنّ انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوربا وإبدال حالها من الظلمات إلى النّور ببركة الإسلام وبَعْث الحياة فيها جعل هذا الفضل ثقيلًا على أوربا، بحيث رأت أنها لو اعترفت به ضاع ماء وجهها، فغرورها يمنعها من الإقدام على الاعتراف به والامتثال لتعاليم ديننا السمحة، فارتأت أنّ الإنكار وتجاهل ذلك الفضل العظيم أنجى لها من مأزق تاريخي قد يذهب بمكانتها ومكانة ديانتها فلا يبقي لها ذِكرًا.. وبالإضافة إلى تزييف أوربا للحقيقة كذلك سعت لنسبة الفضل والتميّز لنفسها. فأنكرت الفضل، وتناست الإرث العظيم الذي ورثته عن الحضارة الإسلامية ومع تعمّد إخفائها لحقيقة جذور علومها ومعارفها المستقاة من تلك الحضارة. تناقلت الأجيال معلومات تاريخية مزيّفة تمّ دسّها في التعليم التقليدي في أوربا لترتشفها الأجيال وتعتاد عليها، فقد حاولوا طمس حقيقة تأثير الثقافة الإسلامية عليهم وأرجعوا الفضل في تبدّل حالهم إلى النصوص اليونانية التي تم العثور عليها بحسب ادّعائهم عام ألف وخمسمائة فكانت الدّافع الذي أطلق العنان لحقبة من التقدم العلمي والحضاري المعروف بنهضة أوربا، ولكنّ هذا الادّعاء جعل أوربا بين مطرقة جحود الفضل وسندان انكشاف تزييفها.

العصامي الحرامي!

الحقيقة التي تبرز أمام المطّلع على التاريخ هي أنّ التّقدّم الحضاري الأوروبي كان قد بدأ في الواقع في القرن الحادي عشر والثاني عشر، بعد أن نُقلت الحضارة الإسلامية إلى أوربا، وبالتالي فإنّ ما ادّعته عن نهضتها التي بدأت في القرن السادس عشر إنّما كان محاولاتها الحثيثة لتشكيل هويّة شخصية مسيحيّة في مجالات الأدب والعلوم ذات ملامح تميّزها عن الموروث الإسلامي فاعتمدت اللغة اللاتينية القديمة لغة مشتركة والمؤلفين اليونانيين القدامى كمؤسسين أوائل.

وهكذا أخذت أوربا تشقّ طريقها لتبني ملامحَ حضاريّة تخصّها، وتبرزها بمظهر الرّجل العصامي الذي لم يعتمد على أحد، بيدَ أنّ فكرة العصاميّة ضربٌ من الخيال ؛ فلا شيء ينمو ويزهر دون أصلٍ وسندٍ يتّكئُ عليه ليمضي قُدمًا، وهذا ما يبرزه الواقع إذ ظهرت الحضارة الأوربيّة بمظهر الابن العاقّ الذي لم يعترف بفضلِ والده عليه، ونسب الفضلَ مرةً لنفسه ومرةً للآخرين. .مبتعدًا عن الحقيقة الصّارخة ألا وهي حقّ والده الثابت المنسيّ.

وقد اندمجت أوربا في مسرحيتها المبتدعة على خشبة التّاريخ حتى وصل الأمر للاحتفال بالثقافة القديمة (اليونانية) وإرجاع الفضل الكامل لها. وتقول أحداث المسرحية المزيّفة أنّ أوروبا العصور الوسطى الغارقة في الجهل والأمية وقعت على حين غرة على عدد من النصوص المكتوبة باليونانية القديمة أدّت إلى استرجاع ذاكرة أوروبا المفقودة ألا وهي ماضيها اليوناني والروماني المجيد فبدأت العلوم والآداب تزدهر وبفضل الفلاسفة اليونان البارعين استطاعت أوروبا النائمة التخلّص من جهل العصور الوسطى وفتح أبواب العلم والحضارة. وسُمي ذلك بالولادة الجديدة للحضارة الكلاسيكية في أوروبا، أي النهضة بينما كان تأثير العرب المسلمين يُلغى عمدا من المصادر العلمية، وظل الاعتقاد السائد يؤكد على موضوع إحياء الأعمال القديمة (الكلاسيكيات) مرارًا وتكرارًا حتى راح التراث الإسلامي في أوروبا طيّ النسيان، لكن ذلك الادعاء ليس إلا محض خرافة تفتقد إلى سند تاريخي.

ولا زال هناك منصفون

قلما تجرأ العلماء بعد ذلك على الاستشهاد بعالم مسلم لدعم تطوراتهم الثورية، ولكن كانت هناك ولا تزال، قلة قليلة ثابتة على الحق، وتُعتبر الكاتبة الألمانيّة زيغريد هونكه إحدى هؤلاء القلّة القليلة من الأوربيين الذين انبَرَوا للدفاع عن فضل حضارتنا الإسلامية وتشجعوا على تدوين استشهادات لعلماء عرب ومسلمين في كتبهم، والاعتراف بالحق الضائع رغم البعد الزمني بين تلك الحقبة وعصر الكاتبة زيغريد حيث تقول في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب:

«هذا الكتاب يرغب في أن يفي للعرب دينًا مستحقًّا منذ زمنٍ بعيد. .إنّ علاقة الغرب بالعرب منذ ظهور الإسلام حتى هذا اليوم لهي مثال تقليدي عن مدى تأثير المشاعر والعواطف في كتابات التاريخ وكان هذا وضعًا له مبرراته في عصر اعتُبر فيه تأثير معتنقي دين آخر أمرًا غير مرغوب فيه لخطره الوهمي. إن نظرة القرون الوسطى هذه ما تمت بعد إذ انّه مازالت حتى يومنا هذا جماعة محدودة الآفاق بعيدة عن التّسامح الدّيني تبني الحواجز في وجه النّور ولو بطريقة لا شعورية نابعة من تصرّف غائص متشعّب الجذور في أنفسهم. ..لم يكن لهذا الخلاف أن يحصل لو أنّ حكمًا عادلًا قد أخذ مجراه». (1)

فلا بد من تصحيح المواد التعليمية المنحازة لتُقدّم لشبابنا الصورة الحقيقية للتاريخ.

النهضة الأوربية مطلع القرن الثاني عشر

ولإماطة اللثام عن وجه الحقيقة كاملًا نؤكّد أنّ بدايات النهضة والتقدم في الحضارة الأوروبية بدأ في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولم يكن له أصل يوناني أو روماني. ففي عام 1060 احتل النورمان صقلية. والنورمان شعوب نشأت من اتصال الفرنجة الأصليين بالرومان والفايكينج، وعُرفوا بنشاطهم وقوتهم العسكرية حيث كانوا يغيرون على شمال فرنسا وغيرها، وفي وقت لاحق من عام 1085، تم استيلاء النورمان كذلك على مدينة توليدو (طليطلة). فأصبحت كل من صقلية وتوليدو مركزين بدأ منهما تدفق الثقافة الإسلامية وعلومها والتعلم تنتشر في أوروبا.. إذ تعتبر العلاقات النورماندية الإسلامية بجزيرة صقلية، أثنـاء حكـم الكونـت روجر، صفحة خاصة في التاريخ الأوربي الوسيط. وتعود خصوصية هذه الـصفحة، إلى كون هذه العلاقة جرت في حقبة كان الحكم الإسلامي بهذه الجزيرة قد ولّى وأدبر وانتقل زمام الملك إلى أسياد جدد وهم النورمان. وتحول المسلمون جراء ذلك، من حكام لأرجاء الجزيرة إلى محكومين خاضعين لهؤلاء الـشماليين فـي ظل نظام جلبوه معهم، اشتهر بقساوته وتعقيداته وهو المعروف بالنظام الإقطاعي. إلاّ أن هذه الوضعية لم تحل دون استمرار الطرف الإسلامي في إدارة شـؤون صـقلية باعتباره، في نظر النورمان، عاملاً حاسما في تثبيـت وتأكيـد الحكـم النورمانـدي بالجزيرة. وشكّل هذا الاعتقاد لدى النورمان مبررا موضوعيا لبناء علاقة قوية مـع مسلمي صقلية وحضارتهم، شُهِدَ لها بالتأثير الفعال والملحوظ على واقع الجزيرة الحضاري بشكل عام.

وتتجلى دائمًا الحكمة الإلهية من تدافع الشعوب وما ينشأ عنها من تلاقح الثقافات وروعة نتاجاتها وتأثّرها بالأقوى والأفضل فيذهبُ الزّبدُ جفاءً ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، وهذا ما كان بالفعل. فقد تلا تقدّم النورمان نحو فرنسا هدوء واستقرار أدّى إلى امتدادهم واتصالهم بإسبانيا لقربها جغرافيًا من فرنسا وبالتالي كان لابد من استقائهم من نور الإسلام الساطع على أرض الأندلس آنذاك، فأرسلوا الشباب للدراسة في جامعاتها ولنقل العلوم إلى أرضهم عبر حركة التّرجمة، وكذلك تعلمهم للغة العربية التي عرفوا حينئذ قيمتها وكونها مدار العلوم ومركز التقدّم العلمي والأدبي مما قدح شرارة التعلم بين المسيحيين الأوروبيين. وحسب ما قاله العالم والمستشرق البريطاني «إريك جون هوليمارد»:

«خلال القرنين الثاني والثالث عشر كانت هناك نهضة علمية في أوروبا، حيث سافر علماء من البلدان المسيحية إلى الجامعات الإسلامية في إسبانيا ومصر وسورية وحتى المغرب من أجل اكتساب المعرفة من خصومهم في الدين وأصدقائهم في التعلم».(2)

وأيضاً يشرح لنا «العالم الأول» في إنجلترا إدلارد باث ما تعلّمه من أساتذته العرب بهذه الكلمات: «لقد تعلمت من الأساتذة العرب شيئًا واحدًا، إدارة العقل بينما يتم الاستيلاء عليك من خلال صورة السلطة والانقياد للجام الآخر» (3)

وهناك علماء آخرون من القرن الثاني عشر «عصر النهضة» مدينون للعرب وهم: «روجر بيكون» و«ويتيلو وألبرتوس ماغنوس» و«آدم مارش» و «أرنولد دي فيلنوف» و «بيتر أوف أبانو» و «دانييل أوف مورلي».

التطورات الأساسية في انتقال الحضارة الإسلاميّة إلى أوربا

وهناك ثلاث تطورات هامّة كانت بمثابة مراحل مرّ بها الانتقال الحضاري الإسلامي إلى أوروبا وهي:

التطور الأول المتمثل في حركة الترجمة العملاقة في إيطاليا وإسبانيا في القرن الثاني عشر، حيث تمت ترجمة مئات الكتب العربية إلى اللاتينية.

التطور الثاني وظهر في تبني قيم الأدب العربية، بالمقام الأول في صقلية والأندلس، والتي عرفت في أوروبا بـ «الإنسانية». لم تكن هذه النزعة الإنسانية فلسفة إلحاديّة بمفهوم اليوم، لكنها تضمنت مجموعة من المجالات مثل القدرة على الكلام والكتابة ومعرفة قواعد اللغة، والشعر وسعة الاطلاع والمنح الدراسية والبحث في النصوص الدينية. لقد أصبحت هذه المجالات الإنسانية القوة الدافعةَ الأساسية للحضارة الأوروبية الناشئة. (4) إن أتباع المذهب الإنساني الأوائل المعروفين هم بترارك (1304-1374)، جيوفاني بوكاتشيو (1313-1375) وكولوتشيو سالوتاتي (1331-1406)، وبنظرةٍ سريعة إلى تواريخ ميلادهم ووفاتهم ندرك أنهم كانوا تلاميذ مباشرين للثقافة الإسلامية التي كانت رائجة في أوروبا وقتئذ. ومن ثم يتضح أن الإسلام كان له تأثير حتى على المنظور الإنساني للبشر من خلال الكتاب الشهير للفيلسوف الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1486) والذي عنوانه «خطاب في كرامة الإنسان» والذي أطلق عليه فيما بعد «بيان النهضة» ويبدأ الكتاب باقتباس من المفكر الإنساني العربي الشهير عبد الله بن قتيبة (الذي توفي في 889):

«أيها الأفاضل المحترمون، لقد قرأت في الكتابات القديمة للعرب أنه عندما سُئل عبد الله «السراسين» المسلم/العربي عن أعجب شيء، في هذه المرحلة أو في هذا العالم، أجاب أنه ليس ثمة أروع من الإنسان»(5)

التطور الثالث: هو تأسيس الجامعات الأوروبية اقتداءً بالجامعات الإسلامية. (6). فالجامعات الأوروبية الأولى كانت جامعة بولونيا (1088)، باريس (1150)، أكسفورد (1167)، كامبريدج (1209)، بادوفا (1222)، ونابولي (1224).

وهكذا تدرّج انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوربا مارًّا بهذه التطورات حتى أخذ شكله النهائي. وختامًا نقول: يبرز بين الفَينة والأخرى عقليات منصفة بشكل يدعو إلى الأمل، فها هي الكاتبة زيغريد هونكه تُناشد العالم قائلة: «أما آن لنا أخيرًا أن نسعى باحثين وراء ما قد يجمعنا متخطّين ما سبق أن فرّقنا؟!إنّ بساط الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدٍ كثيرة وكلّها تهبه طاقتها وكلها تستحق الثناء والتقدير»(7).

«خلال القرنين الثاني والثالث عشر كانت هناك نهضة علمية في أوروبا، حيث سافر علماء من البلدان المسيحية إلى الجامعات الإسلامية في إسبانيا ومصر وسورية وحتى المغرب من أجل اكتساب المعرفة من خصومهم في الدين وأصدقائهم في التعلم».(2)

فهل هناك أروع من تعاليم ديننا الذي يأمر بنسبة الابن لأبيه وإرجاع الحق إلى أهله وتكاتف الشّعوب لبناء إرث إنساني قائم على التسامح والتقدّم مؤمّنًا للأجيال القادمة فُسحةَ محبّةٍ وسكينةٍ يبنون فيها الأرض على أسسٍ صلبة وصادقةٍ بعيدًا عن صراعات الماضي وتمثيلياته الكاذبة؟!

– الهوامش –
1 – زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب
2 – أعمال جابر بن حيان، ترجمة ريتشارد روسل، طبعة جديدة مع مقدمة من هوليمارد، صادرة عن دار دوتون للنشر عام 1928.
3 – نورمان دانيال، العرب وأوروبا في العصور الوسطى 265 – 6، مطبعة جامعة إدنبرة عام
1974.4 – جورج مقدسي. صعود الإنسانية في الإسلام الكلاسيكي والغرب المسيحي. أدنبرة: مطبعة جامعة إدنبرة عام 1991.

5 – بيكو دِلّة ميراندولة، خطاب حول كرامة الإنسان http://web.mnstate.edu/gracyk/courses/web%20publishing/pico_oration.htmاطلع أيضاً على مقدسي، نهضة الإنسانية ص307.
6 – جورج مقدسي، نهضة الكليات: مؤسسات التعليم في الإسلام والغرب. إدنبرة: مطبعة جامعة إدنبرة.
1981.7- زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب.
Share via
تابعونا على الفايس بوك