أَحقا تتصارع الحضارات؟!
  • خطأ الخلط بين مفهومي الحضارة والثقافة
  • السبب الحقيقي وراء خوف الغرب من الإسلام
  • إيماننا الذي منه تتوجسون خيفة!
  • غيض من فيض تعاليم الإسلام الجوهرية
  • مفهوم الحقيقي للجهاد، ضائع بين إساءتَي فهم
  • في الإسلام، مرحبًا بالتعددية الثقافية
  • ذُلُّ العبودية بين الأمس واليوم، ومحرر العبيد الأول
  • دين صون مشاعر الآخر
  • الجمال في التنوع

__

الخطاب الذي ألقاه إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية، حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) في فندق أدلون كمبنسكي في برلين في ألمانيا في 22/10/2019

بعد مضي ثلاثة عقود على هدم رمز الانقسام الشهير، جدار برلين، حث حضرة الخليفة قادة وحكومات اليوم على هدم جدران الكراهية التي ابتليت بها مجتمعات العصر الحديث.

متحدثًا إلى جمهور من أكثر من 80 من كبار الشخصيات والضيوف، بما في ذلك أعضاء في البوندستاغ (البرلمان الألماني) وعدد من الدبلوماسيين والأكاديميين وزعماء الأديان وممثلي وسائل الإعلام، وواقفًا على بعد بضع مئات من الأمتار من بوابة «براندنبورغ» في فندق «أدلون كمبنسكي»، ناقش حضرته عددًا من الاعتراضات الشائعة حول الزعم بأن وجود الإسلام والمسلمين يشكل تهديدا للحضارة والثقافة الغربية.

هذا وقبل الخطاب الرئيس، أعرب عدد من الضيوف من خلال ما ألقوه من كلمات، عن إعجابهم بالجماعة الإسلامية الأحمدية وجهودها في نشر رسالة الإسلام السلمية في جميع أنحاء العالم، والتزامها بخدمة الإنسانية، وهم: عبد الله فاغيسهاوزر، أمير الجماعة الإسلامية الأحمدية في ألمانيا الذي رحَّب بالضيوف، وعضو البرلمان «فرانك هاينريش» (عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي)، وعضو البرلمان «أوميد نوريبور» (عن حزب الخضر)، وعضو البرلمان ووزير الدولة في وزارة الخارجية الاتحادية نيلز أنين (عن حزب SPD).

وفيما يلي الترجمة العربية لخطاب أمير المؤمنين حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) والذي ألقاه في هذه المناسبة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الضيوف الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهبداية، أود أن أغتنم هذه الفرصة لأشكر جميع ضيوفنا الذين لبَّوا دعوتنا وانضموا إلينا هذا المساء.

خطأ الخلط بين مفهومي الحضارة والثقافة

ثَمَّةَ قدر هائل من الجدل المحتدم في عالم اليوم، خاصة في المجتمع الغربي عموما والدول المتقدمة خصوصا، حول قضية الهجرة وتأثيرها على تلك المجتمعات، ويدور هذا الجدل غالبًا حول المسلمين، لا سيما بعد أن طفت على السطح وجهة النظر القائلة بوجود فجوة لا يمكن ردمها بين المسلمين وغيرهم من أبناء تلك المجتمعات، ما جعل بعض الأفراد بل والحكومات يُعربون عن قلقهم مما أسموه «صراع الحضارات»، زاعمين أن المسلمين يهددون مجتمعاتهم، وأنهم لا يمكنهم الاندماج في المجتمع الغربي.وقبل أن أحسم هذا الجدل، أرى من الضرورة بمكان أن أُقدِّم تعريفًا لمصطلح «الحضارة» قدمه الخليفة الثاني للجماعة الإسلامية الأحمدية وأتفق معه عليه تمام الاتفاق. يُعرِّف حضرته «الحضارة» على أنها المظاهر المادية لتقدم وتطور المجتمع. والمظاهر الدالة على ازدهار الحضارة تشمل التقدم الاقتصادي، ومستوى الابتكار التقني، وتطور وسائل النقل والاتصالات، والتقدم الفكري للمجتمع. على سبيل المثال، تعد وسائل الاتصال والنقل الحديثة مظهرا من مظاهر الحضارة، وكذلك النظام المالي لذلك المجتمع واقتصاده وقانونه وتنظيمه وتجارته وصناعته ومعايير البحث العلمي والأكاديمي فيه ومعاييره التعليمية الشاملة.

علاوة على ذلك، فإن جهود أمة ما في رعاية السلام والاستقرار، سواء عن طريق تطبيق القانون والكفاءة العسكرية أو من خلال الوسائل الأخرى هي أيضًا مقياس لارتفاع المستوى الحضاري.

كما أرى أيضًا أن التراجع الديني في الغرب هو السبب الرئيس وراء خوف الناس من الإسلام لأنهم يعرفون، أن المسلمين، بشكل عام، متمسكون بدينهم.

أما مصطلح الثقافة فله مفهوم آخر مختلف عن مفهوم الحضارة، فالثقافة مظهر لآراء الناس وعاداتهم ومواقفهم من القضايا الاجتماعية، وبينما تُعتبر الحضارة كافة المظاهر المادية لتقدم الأمة، فإن الثقافة تكون متجذرة في أخلاقها وفي قيمها الدينية وعاداتها. لذا، فإن الحضارة تشمل التطور المادي والتكنولوجي والفكري للمجتمع، بينما ترتكز الثقافة على الدين والأخلاق وعلى التركيبة الفلسفية لذلك المجتمع. يمكن فهم الفرق بين الحضارة والثقافة بسهولة إذا رجعنا بالنظر إلى الوراء، وتحديدا إلى الحقبة المبكرة من المسيحية. في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الرومانية في أوج قوتها وهي حتى الآن تعتبر واحدة من أعرق الحضارات في تاريخ العالم. وبسبب تقدمها المادي وطريقة حكم أقاليمها، فقد اعتُبر الرومان متحضرين جدًّا. إلا أن تقدمهم لم يكن مضاهيا لأعلى المعايير الأخلاقية، إلى أن دخلت الحقبة الأولى من المسيحية فأخذ التقدم الحضاري للإمبراطورية الرومانية ينصهر مع الرقي الثقافي للمسيحية، فأعطت المسيحية المبادئ التوجيهية المبنية على الدين والأخلاق بينما سن الرومان القوانين والحدود المادية. لذلك فإن تقدم الرومان وتطورهم قد ظهر في هيئة حضارتهم العظيمة بينما قدمت المسيحية إلى الناس ثقافة جديرة بالثناء. ومع مرور الزمن، أصبحت المسيحية الدين الرئيس في الإمبراطورية الرومانية، وهكذا فقد تبنت الثقافة التي أسستها «المسيحية» حضارةٌ عظيمة. وباتحادهما معًا فإن تأثيرهما القوي قد وضع حجر الأساس للقيم والتقاليد التي ما تزال قائمة حتى اليوم في الغرب. وبينما يبتعد الناس في الغرب عن الدين، تبقى القيم الأخلاقية الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الغربي هي تلك التي قدمتها المسيحية. وفيما يخص النقاش حول الهجرة في العقود الأخيرة، فقد تغيرت التركيبة السكانية لعدة دول غربية وطأتها أقدام المهاجرين من عدة دول، غير أن تدفق المهاجرين المسلمين هو ما قضَّ المضاجع وسبب الذعر الأكبر. فقطاع عريض من السكان الأصليين أعربوا عن خشيتهم من تهديد الهجرة الجماعية من الدول الإسلامية حضارتهم وثقافتهم وقيمهم القائمة منذ عدة قرون. وكما ذكرتُ آنفًا، فإننا نُعرِّف الحضارة على أنها المظهر المادي لتقدم المجتمع وتطوره، وشهادة الواقع تقول بأن الدول النامية لا تسعى أبدا لرفض أو معارضة أو إنكار النمو والتقدم الغربي بقدر ما تسعى لمحاكاته، وبدلا من نبذ الحضارة الغربية فإن شهادة الواقع تقول بعكس ذلك. لقد أسهمت وسائل الاتصال الحديثة، ولاسيما الإنترنت في تعارف الشعوب، فلم يعد هناك اليوم شيء يمكن إخفاؤه، بحيث يرى أهل البلدان الفقيرة كيف يعيش مواطنو الدول الغنية. لقد بات تأثر الدول النامية بالحضارة الغربية ويرغبون في بلوغ نفس المستوى المادي من التقدم والابتكار أمرا مؤكدًا. ولهذا فإن الجزم بأن الحضارة الغربية أو الأوربية مهددة بسبب وجود المسلمين أمرٌ غير منطقي بتاتًا. بل إن الثقافة الغربية تؤثر في بقاع أخرى من العالم، بما فيها العالم الإسلامي.

السبب الحقيقي وراء خوف الغرب من الإسلام

إن عمر القيم الغربية قرون وهي مستقاة من التقاليد الدينية وبالأخص إرثها المسيحي واليهودي. ولكن هذه القيم الدينية والقواعد الثقافية باتت محل هجوم أولئك الذين يعارضون أي شكل من أشكال الدين أو المعتقد. وعلى صعيد آخر يبدو القلق من تأثُّر الدين والثقافة الأخلاقية للغرب فيما لو انتشر الإسلام في أوروبا قلقًا أكثر منطقية، وسأتطرق إلى هذه النقطة الآن.

بداية لا يسع أحدًا إنكارُ واقع ابتعاد الناس عن الدين، ويبدو هذا الابتعاد في أوضح صوره في الغرب، وطالما أثبتته الإحصائيات الرسمية، حيث تُظهر النتائج أن الناس قد صاروا أقل ميلاً إلى الدين أو إلى الإيمان بالله. وبالنظر إلى هذا الواقع أعتقد أن التزايد المتسارع للإلحاد هو أخطر بكثير على الثقافة الغربية من الإسلام. إن جذور القيم الغربية ضاربة في القِدَم، وهي قِيَمٌ مستقاة من التقاليد الدينية وبالأخص إرثها المسيحي واليهودي. ولكن هذه القيم الدينية والقواعد الثقافية باتت محل هجوم أولئك الذين يعارضون أي شكل من أشكال الدين أو المعتقد. لذا، فإنني كإمام مسلم أعتقد أن عليكم حماية إرثكم وثقافتكم بتركيز طاقاتكم على إيقاف التراجع الديني وإعادة الناس إلى الدين والإيمان، سواء أكان ذلك الدين هو المسيحية أو اليهودية أو أي دينٍ آخر. ويجب ألا تُهجَر فجأة، باسم التقدم، تلك القيمُ والأخلاق التي شكلت جزءًا من المجتمع على مدى عدة قرون خلت. كما أرى أيضًا أن التراجع الديني في الغرب هو السبب الرئيس وراء خوف الناس من الإسلام لأنهم يعرفون، أن المسلمين، بشكل عام، متمسكون بدينهم.

وفي ضوء هذا، أود أن أوضح أنه على الرغم مما سمعتم أو قرأتم في وسائل الإعلام، فليس هناك أي داعٍ للخوف من الإسلام.

أن أحد الطرق الرئيسية لمساعدة الفقراء هو التعليم. فإذا حصل أبناء المجتمع القادمين من عائلات مفككة أو منكوبة بالفقر على التعليم، فإن ذلك سيمكنهم من تحطيم أغلال العوز، وستتاح لهم الفرص، مما سيحررهم من الإحباط والاستياء وسيكبر هؤلاء الصغار ليصبحوا أفرادًا منتجين في المجتمع بدلاً من أن يقعوا في هُوَّة الجريمة أو ثقافة العصابات.

إيماننا الذي منه تتوجسون خيفة!

يؤمن المسلمون بأن القرآن الكريم هو آخر وأكمل تعليم ديني وبسبب محبتنا وطاعتنا للقرآن الكريم فإننا نؤمن يقينًا بأن الدين مسألة قلبية وشخصية لكل إنسان، والقرآن الكريم ينص بشكل قاطع:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 257)

لذلك، لا داعي لخوف غير المسلمين من أن يحاول المسلمون نشر معتقداتهم بالقوة أو أن يفرضوا أفكارهم في هذا الجزء من العالم. إن الأيديولوجية البغيضة لشرذمة قليلة متطرفة تزعم أنها من المسلمين، ليس لها أية علاقة بتعاليم القرآن الكريم. في الواقع، لقد قلت مرارًا أن على الحكومات والسلطات المعنية أن تتعامل بحزمٍ كبير مع المتطرفين سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

وفيما يخص الجماعة الإسلامية الأحمدية، فنحن نؤمن بأنه لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف أن يسمح الإسلام باستعمال القوة للقيام بأي نوع من الإكراه في سبيل نشر الدين. فما الداعي للخوف من الإسلام إذن؟! لماذا يظن الناس أن حضارتهم أو ثقافتهم عرضة للخطر من قِبَل المسلمين؟!

غيض من فيض تعاليم الإسلام الجوهرية

الآن، بعد أن بينت الفرق بين الحضارة والثقافة من وجهة النظر الإسلامية، أود أن أقدم لكم بعض التعاليم الجوهرية للإسلام.

قد راجت شتى الشائعات وسوء الفهم حول الإسلام ومؤسسه ، وحيث لا يمكنني أن أغطي جميع جوانب التعاليم الإسلامية في هذا الوقت القصير المتاح، فأود أن أذكر بعضًا من حقوق الإنسان التي أرساها الإسلام.

هناك آية في القرآن الكريم ذات أهمية كبرى تنادي بحقوق الإنسان، وهي الآية 37 من سورة النساء والتي تقول:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (النساء: 37)،

في هذه الآية، قد أمر الله تعالى المسلمين أن يعبدوه من ناحية، وأمرهم أيضًا أن يعاملوا آباءهم بالمحبة والرحمة. فكيف يمكن لهذا التعليم الذي يأمر المسلمين بمحبة وإكرام الوالدين أن يتعارض مع أي دين أو دولة؟! كيف يمكن لمثل هذا التعليم أن يقوض دعائم المجتمع الغربي؟! كما تأمر هذه الآية المسلمين بمعاملة أقاربهم وأحبائهم بمحبة واحترام، كما تأمرهم أيضًا بدعم ومواساة أفراد المجتمع الأكثر ضعفًا وحرمانًا كالأيتام.نرى في هذا الصدد أن أحد الطرق الرئيسية لمساعدة الفقراء هو التعليم. فإذا حصل أبناء المجتمع القادمين من عائلات مفككة أو منكوبة بالفقر على التعليم، فإن ذلك سيمكنهم من تحطيم أغلال العوز، وستتاح لهم الفرص، مما سيحررهم من الإحباط والاستياء وسيكبر هؤلاء الصغار ليصبحوا أفرادًا منتجين في المجتمع بدلاً من أن يقعوا في هُوَّة الجريمة أو ثقافة العصابات. ولهذا تولي الجماعة الإسلامية الأحمدية اهتمامًا كبيرًا للتعليم، وقد شيدنا بمواردنا المحدودة، مدراسَ في شتى الأنحاء من الدول الإفريقية وقدمنا المنح الدراسية للطلاب غير القادرين على تحمل تكاليف التعليم العالي. كما نؤمن أيضًا بأن على الدول الغنية مساعدة الدول الأضعف في العالم على إنشاء بنيتها التحتية المتينة. فإذا تمكنت الدول الأفقر من بناء اقتصاداتها وبنيتها التحتية، فستتاح لشعوبها الفرص في بلدانهم، وقلّما ينشأ لديهم الدافع إلى الهجرة نحو الخارج. فإذا كانت بلدانهم مستقرة ومزدهرة، فإن هذا سيعود تلقائيًا بالنفع على المنطقة والعالم الأوسع. في الآية القرآنية الآنفة الذكر، ذُكر على وجه الخصوص واجب أداء حقوق الجيران، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وقد بينتْ هذه الآية أن نطاق الجيران واسع جدًا. ولقد قال نبي الإسلام : «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (صحيح البخاري، كتاب الأدب).

علاوة على ذلك، فإن مفهوم الجيران في الإسلام لا يقتصر على أولئك الذين يعيشون في مكان قريب منك، وإنما يشمل أيضًا أولئك الذين يعيشون في أماكن أبعد، إضافة إلى رفاق السفر، وزملاء العمل، والمرؤوسين وغيرهم. في الواقع، لقد جعل الله سبحانه وتعالى أمر الوفاء بحقوق جميع أفراد المجتمع، واجبًا أخلاقيًا على المسلمين. كذلك، علمنا مؤسس الإسلام أن «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، فيا لَه من مبدأ جميل! لذا من الضرورة بمكان أن يقوم المسلم، إضافة إلى عبادة الله تعالى، بأداء حقوق البشر. ومرة أخرى أتساءل كيف يمكن لهذه التعاليم أن تشكل خطرًا على الحضارة الغربية؟!

المفهوم الحقيقي للجهاد، ضائع بين إساءتَي فهم

إن هذه التعاليم الإسلامية الآنفة الذكر وسيلةٌ لتحقيق السلام والاستقرار في المجتمع ومن شأنها أن تسهم في دفع الناتج الاقتصادي والتنمية الاجتماعية. لذلك ففي رأيي أن قول الناس في الغرب: «إن الإسلام أو المسلمين ليس لهم مكان في هذه البقعة من العالم» قولٌ مُتَهافِت. فإذا ثبت أن المسلمين قد أتوا إلى هنا ساعين إلى الاندماج وإلى أداء حقوق جيرانهم، وساعين إلى السلام وإلى خير المجتمع، فهذا بكل تأكيد أمرٌ يستوجب الثناء لا الإدانة والانتقاد.

في عالم اليوم لم تعد العبودية التقليدية موجودة، ولكن قد حلَّت محلها العبوديةُ والإخضاعُ الاقتصاديان، حيث أصبحت العلاقة بين الدول القوية والدول الضعيفة كعلاقة السيد والعبد. على سبيل المثال، يتم تمويه القروض وتقديمها في صورة عمليات مساعدة تقدمها الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، وبالمحصلة لا يكون أمام الدولة التي تتخلف عن سداد ديونها من خيار سوى الرضوخ لإرادة البلاد المسيطرة. إن مثل هذه العبودية أمرٌ غير أخلاقي بتاتًا.

يجادل بعض الناس أو يعتقدون أن المسلمين مأمورون بالجهاد، لذا يُخشَى من أنهم سيأتون إلى الغرب مؤدين فريضة جهادهم ، بالمفهوم التقليدي الخاطئ، سعيًا منهم لفرض الحضارة والثقافة الإسلامية وتقويض سلام المجتمع واستقراره. وهذه الفكرة منشؤها سوء الفهم الواضح لماهية الجهاد وأسباب شن الحروب الدينية في الفترة الإسلامية الأولى، فالإسلام ليس دين عنف أو تعطش للدماء.

خلال بواكير الإسلام الأولى، وُضِعَ المسلمون في موقف الاضطرار إلى الدفاع عن أنفسهم بعدما لوحقوا في مجتمعهم الجديد بهدف إبادتهم، ويُروى أن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير). فلو كان الجهاد بدعوى الغزو وسفك الدماء وسلب غنائم الحرب، لقبل النبي طلبه بكل تأكيد، ولسعى إلى تعزيز الجيش الإسلامي. ويجب أن أوضح أنه على الرغم من أن الجيش الإسلامي قد خاض بعض الحروب الدينية في الفترة الأولى من الإسلام، إلا أن الهدف لم يكن السيطرة، أو ظلم الناس أو إكراههم على قبول الإسلام. لقد قامت تلك الحروب لحماية مؤسسة الدين ودعم مبدأ الحرية الدينية. فبحسب النص القرآني:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج 40-41)،

يُفهمُ منه بشكل قاطع أنه لو لم يتم إيقاف المعتدين، لباتت كافة دور العبادة من الكنائس والكنس والمعابد والمساجد وسائر دور العبادة الأخرى عرضة لخطر محدق، لأن نوايا كفار مكة الخفية كانت القضاء على كل أثر للدين من على وجه البسيطة. وهذا يثبت أن الإسلام يحمي جميع الأديان. ثم فيما يتعلق بتربية أولادنا، ينص القرآن الكريم:

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ (الأَنعام: 152)،

هذا التعليم يدعو المسلمين إلى تربية أولادهم في جو مفعم بالحب والعطف، وأن يقوموا بتوجيههم أخلاقيًا، وتعليمهم بحيث يكبروا ليصبحوا أفرادًا ذوي كفاءات وأخلاق عالية ومصدر خير لمجتمعهم ووطنهم. وبالمثل، أمر الإسلام المسلمين بحماية حقوق الضعفاء من أبناء المجتمع، فعلى سبيل المثال أفرد القرآن الكريم آية تُعنى بصيانة حقوق وأموال اليتامى حتى يبلغوا سن الرشد بحيث تكون لهم القوامة على أموالهم تلك، فيقول تعالى:

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا (النساء: 7).

علاوة على ذلك، ثمة تهمة أخرى شائعة في العالم الغربي، وهي أن المسلمين لا يحترمون المرأة ولا يقيمون لحقوقها وزنًا. بدايةً يجب الانتباه إلى أن الإسلام هو أول دين يمنح المرأة الحق في الميراث، والحق في الطلاق، وحقوقًا أخرى متنوعة. إضافة إلى ذلك يؤكد الإسلام على الأهمية القصوى لتعليم البنات وإعطائهن الفرصة للازدهار والتقدم الشخصي.

ينبغي ألا تُحْرَمَ أبدًا أيَّةُ فتاة أو امرأة من التعليم أو يُفضَّل عليها الذَكر في أي مجال من مجالات الرقي الإنساني. فيما خلا من الزمان كان من المعتاد اجتماعيا تجاهل حقوق النساء والفتيات، بل وهضم تلك الحقوق، وكان ينظر إليهن على أنهن أدنى درجة من الذكور، حتى أحدث نبي الإسلام انقلابا في مجال حقوق المرأة، وأمر المسلمين بأن يولوا لبناتهم الرعاية والتقدير اللائقين، فلا ينظروا إليهن أبدًا على أنهن أقل شأنًا من أبنائهم الذكور.

كذلك، هنالك قول شهير للنبي الكريم :

«الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات»…

تُظهر هذه الكلمات الدور الأبرز الذي تلعبه النساء في المجتمع ومكانتهن الفريدة والمميزة فيه. وفي المقام الأول، يتمثل دور الأمهات في رعاية أطفالهن خلال سنوات نموهم، وبالتالي فهن يلعبن دورًا رائدًا في توفير ضمان أن يصبح أبناء الأجيال القادمة مواطنين متميزين أخلاقيًا وممن يسهمون في بناء مجتمعاتهم. فالأمهات يمتلكن القوة والقدرة على تحويل حالة بلدانهن إلى جنة على الأرض، وبإمكانهن فتح أبواب الجنة الأبدية لأولادهن.وعلاوة على ما تقدم، يقول القرآن الكريم:

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 20)،

أي أن على المسلمين معاملة زوجاتهم بالمحبة والاحترام المتبادل. في المجتمعات الغربية، لا يمر يوم دون أن يكون هناك تقرير عن اضطرار الشرطة أو المحكمة إلى التدخل لمعالجة حالات مريعة من العنف الأسري.هناك دراسات وتقارير كثيرة – كتقرير عام 2018 الصادر عن «الهيئة الوطنية للإحصاء في المملكة المتحدة – تبرهن على أنه لا علاقة لمثل هذه الجرائم بأي دين.ويظهر تقرير حديث آخر أن هذا الوضع شائع في ألمانيا أيضًا. لذا فمن الإجحاف تمامًا اتهام الإسلام بأنه دين يكره النساء.كما أوضحتُ آنفًا، إن الإسلام دين يمنح المرأة الشرف والكرامة، وأي رجل يعامل المرأة بقسوة يكون مذنبًا لانتهاك تعاليم الإسلام.

الإسلام يرحب بالتعددية الثقافية

كذلك يأمر الإسلام أتباعه باحترام مشاعر الآخرين ومعتقداتهم الدينية، لقد كان ميثاق المدينة مثالًا عمليًا على هذه التعاليم حيث تم احترام التوراة والاعتراف بها ككتاب شريعة لليهود.

كما أرسى الإسلام حقوق حتى الأعداء والخصوم، فتقول الآية 191 من سورة البقرة من القرآن الكريم:

وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

أي لا يجوز الاعتداء أو الظلم بالعدو حتى في خضم القتال.بكل أسف، في عالم اليوم الذي يفتخر بكونه أكثر تحضرًا وتقدمًا من أية حقبة مضت. يتجاهل الأفراد والدول حقوق أعدائهم كمسألة طبيعية ويرتكبون مظالم فظيعة منتهزين أية فرصة للانتقام.وفي الآية 9 من سورة المائدة:

وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ،

قد أعلن الله أنه يجب ألا تدفع عداوة أمة أو شعب المرء أبدًا إلى التضحية بمبدأ العدالة والمساواة، بل يعلمنا الإسلام أن علينا، في كافة الظروف ومهما كانت التحديات، الثبات دومًا على مبادئ العدل والنزاهة وألا ننجرّ أبدًا وراء الرغبة في الانتقام.

ونتيجة لهذا التعليم العظيم، نرى نموذجا منقطع النظير في الإحسان والمواساة والرحمة قدمه النبي الأكرم محمد يوم دخل مكة فاتحا منتصرا. فالتاريخ يشهد بأن المسلمين قد نُهبوا ، وعُذبوا وقُتِّلوا في مكة، ثم طُردوا من ديارهم وهُجّروا، إلا أنهم عندما عادوا منتصرين إلى مكة التي دانت بكاملها له ، كان أول بيان أصدره أنه لا ينبغي الثأر من أولئك الذين اضطهدوا المسلمين بوحشية. في تلك اللحظة من الانتصار، أظهر النبي محمد أعلى درجات التواضع والصبر، وأعلن أنه بموجب تعاليم الإسلام، لا تثريب على أحد من الذين عذبوا المسلمين ولن يُتعرَّض لأحد منهم دون وجه حق، بغض النظر عما إذا كان قد قَبِلَ الإسلام أم لا.

ذُلُّ العبودية بين الأمس واليوم، ومحرر العبيد الأول

ثمة مثال آخر على التغيير الأخلاقي الذي أتى به الإسلام لصالح أضعف أفراد المجتمع فقضى على العبودية التي كانت متفشية جدًا وتعتبر جزءًا طبيعيًا من المجتمع، فبأمرٍ من الله تعالى، سعى نبي الإسلام لوضع تدابير تكفل تدريجيا القضاء على هذا الأمر فجاء في القرآن الكريم:

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (النور: 34)،

أي أنه إذا سعى عبدٌ لنيل الحرية فيجب تحريره، وإذا فرضت عليه بعض الرسوم المالية فيجب أن تكون معقولة وأن تُدفع على أقساط صغيرة في حدود استطاعته، أو أن يتم التنازل عنها كلية. وكما قلت، كانت العبودية في ذلك الوقت جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، وهكذا عن طريق الدعوة إلى تحرير العبيد، أحدث نبي الإسلام تغييرًا جذريًّا في السلوكيات.

في عالم اليوم لم تعد العبودية التقليدية موجودة، ولكن قد حلَّت محلها العبوديةُ والإخضاعُ الاقتصاديان، حيث أصبحت العلاقة بين الدول القوية والدول الضعيفة كعلاقة السيد والعبد. على سبيل المثال، يتم تمويه القروض وتقديمها في صورة عمليات مساعدة تقدمها الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، وبالمحصلة لا يكون أمام الدولة التي تتخلف عن سداد ديونها من خيار سوى الرضوخ لإرادة البلاد المسيطرة. إن مثل هذه العبودية أمرٌ غير أخلاقي بتاتًا.

الإسلام يصون مشاعر الآخر

منذ البداية، أرسى الإسلام حقوق غير المسلمين في المجتمع، وأمر المسلمين بضبط النفس من أجل الحفاظ على سلام ووحدة المجتمع، على سبيل المثال في الآية 109 من سورة الأنعام:

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (الأَنعام: 109)

أعلن القرآن الكريم أن على المسلمين ألا يذكروا بسوء حتى أوثان المشركين لأن هذا قد يستفزهم للإساءة لله عزَّ وجل.وبالتالي، لضمان عدم نشوب التوترات ولحماية المجتمع من الدوران في حلقة مفرغة من الكراهية والعداء، تم توجيه المسلمين إلى التحلي بالصبر في جميع الأوقات.في الوقت القليل المتاح، ذكرتُ بعض النقاط فقط التي توضح حقوق الإنسان التي أرساها الإسلام. آمل أن يكون ما قلته قد طمأنكم إلى أن الإسلام ليس تهديدًا للحضارة الغربية أو ثقافتها. وإذا كان هناك أي مسلم يهضم حقوق غير المسلمين فهذا فقط بسبب نبذهِ تعاليم الإسلام أو لجهله التام بها، وأمثاله يهينون الإسلام ولا يقومون إلا بتشويه اسمه النقي.

أخيرًا، من الواضح أننا نعيش في عالم عصيب، وأخشى أن يتصاعد في أي وقت عدم الاستقرار الذي نواجهه.

الجمال في التنوع

على الناس أن يدركوا أن الكلمات قد تكون لها عواقب بعيدة المدى، لذا بدلًا من التحدث عن صدام الحضارات أو تصعيد التوتر بين مختلف الفئات دون داعٍ، عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن مهاجمة التعاليم الدينية لبعضهم بعضًا. وبدلا من السعي لفرض القيود على حرية التعبير الديني يجب أن ندرك أننا جميعًا بنو جنس واحد متصل الأعراق الآن أكثر من أي وقت مضى، يجب أن نعتز بتنوعنا ونركز على توثيق عُرَى الوحدة بحيث نتمكن من إحداث سلام طويل الأمد في العالم، إلا أننا في الوقت الراهن نرى العكس تمامًا. فالدول الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء تضع مصالحها الخاصة فوق مصلحة العالم الأوسع ويتجاوزون كل حدود العدل والأخلاق في سبيل تحقيق أهدافهم مما يذكرنا بأيام سوداء خلت، حيث تشكلت التكتلات المتعارضة والتحالفات، ويبدو كما لو أن العالم قد عقد العزم على جلب الدمار على نفسه!

اليوم هنالك مجموعة من الدول التي تمتلك القنابل النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل التي بإمكانها تدمير الحضارة التي نعرفها. من يستطيع القول بإن هذه الأسلحة لن يتم استخدامها أبدًا أو لن ينتهي بها المطاف في الأيدي الخاطئة؟! كل ما يتطلبه الأمر هو تقدير خاطئ واحد أو زلة عدائية واحدة لإثارة ما لا يمكن تصوره، فعواقب مثل هذه الحرب لا يمكن تخيلها، لكن يمكننا أن نقول جازمين إن العالم لن يكون هو نفسه مرة أخرى.

لو تم استعمال الأسلحة النووية فلن نتحمل وحدنا العواقب، بل سيتحمل أولادنا والأجيال المستقبلية وبال خطايانا وستولد أجيال من الأطفال بعاهاتٍ جسدية وذهنية، وستتحطم أحلامهم وآمالهم دون أي ذنب اقترفوه. أهذا هو الإرث الذي نريد تركه للذين سيأتون بعدنا؟! كلا!

لذا وبدلا من تأجيج لهيب الكراهية، سواءً أكان ذلك على أساس الاختلافات الدينية أم العرقية أو لأهداف سياسية، يجب أن نعي الأخطار المنذرة، وأن نغير من توجهاتنا قبل فوات الأوان.دعونا جميعًا، بغض النظر عن اختلافاتنا، نتحد معًا ونعمل بروح الاحترام والتسامح والمواساة المتبادلة من أجل سلام العالم ولنقم بتعزيز حرية المعتقد. أدعو الله تعالى أن يهب العقل والحكمة لأولئك الذين يثيرون النزاع باسم الدين، وأدعو الله أن يعم السلام والعدل، آمين.

بهذه الكلمات أود أن أشكركم مرة أخرى على انضمامكم إلينا هذا المساء، شكرا جزيلا لكم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك