الأُوميغا 3 على قائمة الطعامِ الروحاني
  • الملحدون والمتدينون التقليديون يعيشون واقعا مؤسفا من الحرفية البغيضة.
  • النظرية الجامعة في تفسير المراد من ذكر الأطعمة بين ثنايا الوحي الإلهي.
  • كبد الحوت وتأثيراته الروحانية.
  • جوانب من عظمة الوحي الإلهي.

__

على سبيل التمهيد

غني عن القول أن الغالبية المتأخرة من أتباع كل دين هم أكثر عرضة من أسلافهم المتقدمين للوقوع في شَرَك الحرفية*، فالفهم الحرفي للأمور الدقيقة فخ بغيض، ولا يكاد يسلم منه كلية المؤمنون في كل عصر، بصرف النظر عن ماهية الدين الذي يعتنقونه، بل حتى الملحدون يقعون ضحية هذا الفخ الشيطاني المنصوب، وبوقوعهم فيه ينبذون فكرة الدين كلية، على الرغم من أن الدين والفهم الحرفي على طرفي نقيض.

ولأن الأمور الدقيقة واللطائف العالية أمور معقدة كل التعقيد، لزم تقديمها إلى من يجهلها بألفاظ معقدة، وإلا زاد الموقف سوءًا، ولنفر منها الجميع، فلأن الخالق الحكيم يعلم أن هذه الأمور تفوق إدراكنا المحدود! لذا رأى عز وجل بعين ربوبيته أن يقدم لنا تلك المفاهيم بلغة نفهمها، تمامًا كما نعبر لأطفالنا الصغار عن مدى حبنا لهم، ولأن الحب قيمة مجردة لا يمكن قياسها بالأرقام، فإننا دون تردد نعبر عنها بأن نفتح ذراعينا مشيرين إلى أننا نحبهم بهذا القدر. إننا نقرب إلى عقلهم الطفولي فكرة روحانية مجردة في قالب مادي حرفي يألفونه، ولو قدمنا إليهم الحقائق المجردة تلك كما هي لكان هذا التصرف هو العته بعينه.

وعلى هذا المنوال، نرى من المفيد، بل السبيل الصائب الوحيد، أن نفهم مدلولات كافة المطعومات الواردة في سياق الحديث عن النعيم الأخروي بنفس الأسلوب، حينها، وحينها فقط، تنحل أحجية طالما فشل الحرفيون من متدينين وملحدين في حلها. وفيما يلي من سطور، سنعرض إلى ذكر بعض تلك المطعومات ..

حكاية واقع مؤسف

من يلج أحد المنتديات أو الصفحات الإلحادية المهتمة بانتقاد الأديان، التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي، يصيبه عظيم الاندهاش إزاء ذلك القدر الكبير من السخرية – تعريضًا وتصريحًا – من نصوص مقدسة لدى أتباع شتى الأديان، حتى ليستحيل النقاش في تلك المنتديات إلى تراشق بالكلمات، ولو أمكن لتراشقوا بالحجارة والرصاص! وهنا يتساءل المرء بطبيعة الحال أمام ما يراه ويسمعه، من حوار الطرشان ذاك، عن سر عجز كلا الطرفين المتشاكسين عن إيصال وجهة نظره إلى الآخر بشيء من الرفق والاعتدال! لأن المعارف الروحانية تخرج عن حدود العقل حقا كما يقول المتدينون التقليديون؟! أم أن الملحدين محقون في انتقاصهم من كلام الأديان ووحيها؟! أم ترى هناك مكرمة خفية بين هاتين المنقصتين؟! فلنرَ!

قائمة طعام فاخر في العالم الآخر

ما نحاول تقديمه هاهنا هو نظرية جامعة لتفسير المراد من ذكر كثير من المطعومات والمشروبات بين ثنايا الوحي الإلهي أينما وجد، وهذا المبدأ يتلخص في أن الوحي الإلهي لا يذكر الأشياء بشكل عام لذواتها، وإنما لصفاتها. وفي مقالات سابقة سعينا إلى إرساء هذا المبدأ، حاذين حذو المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) حين أجمل في كتابه الفريد “فلسفة تعاليم الإسلام” سر ورود ذكر شرابي الكافور والزنجبيل الممزوجين بشراب الأبرار، في آيتين اثنتين: في قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (1) ، ثم في قوله تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (2). لقد شرح المسيح الموعود هذه القضية بأسلوب جذاب يأخذ بالألباب، نقدمه ملخصًا بأن المقصود من ذكر الكافور والزنجبيل هو بالضبط ذكر تأثيراتهما الروحانية، حتى لو لم يكن لهما وجود مادي في الأساس في عالم روحاني بكل المقاييس، أو على الأقل عالم ينشأ فيما لا علم لنا به أصلا. فيذكر حضرته في معرض تفسيره لمعنى الكافور والزنجبيل ما تعريبه: “وقد أراد الله من ذكر هاتين الآيتين المتقابلتين في المعنى، إذ ذكر في الأُولى الكافورَ وفي الثانية الزنجبيل، أن يبيّن لعباده أن الإنسان إذا تحرك نحو الصلاح مُقلِعًا عن شهوات النفس.. بدت فيه أولا حالةٌ تُخمد مواده السامة، وتأخذ شهواتُ نفسه في النقصان.. كما يُسَكِّن الكافور حدةَ السموم، فهو لذلك ينفع في الكوليرا والحمَّى التيفيَّة. ومتى زالت عن المريض شدة السموم تمامًا، واستعاد الصحة مع ضعف شديد.. بدأت مرحلةٌ ثانية يتقوى فيها المريض الناقِهُ من شراب الزنجبيل. وشراب الزنجبيل في الروحانية هو تجلي الله بجماله وجلاله على عبده، ذلك التجلي الذي هو بمنـزلة الغذاء للروح. فإذا تقوى الإنسان بالتجلي الرباني استطاع أن يصعد الجبالَ العالية الشاهقة، وينجز الأعمال الشاقة المحيرة التي لا يقدر أحد على إنجازها أبدًا ما لم يكن قلبه مفعَمًا بحرارةِ حب كهذه. ولبيان هاتين الحالتين استخدم الله كلمتين عربيتين: إحداهما “الكافور” ومعناها المُسَكن المغطي، والثانية “الزنجبيل” ومعناها صاعد الجبل. وهكذا يجتاز السالكون هاتين المرحلتين في سلوكهم الروحاني”(3).. وعلى هذا المنوال، نرى من المفيد، بل السبيل الصائب الوحيد، أن نفهم مدلولات كافة المطعومات الواردة في سياق الحديث عن النعيم الأخروي بنفس الأسلوب، حينها، وحينها فقط، تنحل أحجية طالما فشل الحرفيون من متدينين وملحدين في حلها. وفيما يلي من سطور، سنعرض إلى ذكر بعض تلك المطعومات ..

طعام الترحيب.. وكبد الحوت

لما بَلَغَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وكان يومئذ أحد أكابر أحبار اليهود، خبر مَقْدَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ سائلاً إياه عَنْ ثَلَاث أشياء لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، وكان من ضمن هذه الأسئلة سؤال عن أَوَّل طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فكان جواب النبي : “وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ”(4).. بالنظر أولاً في تفاصيل الرواية، يبدو لنا أن أسئلة عبد الله بن سلام وأجوبتها التي أثبتت له صدق النبي كان قد كونها من خلفيته الدينية السابقة قبل أن يُسلم على يد النبي على إثر هذا الموقف مباشرة، ويكفي لنأخذ هذه الأسئلة وأجوبتها على محمل الجد أن نعلم أن الأجوبة النبوية لم تلق أية معارضة أو تسفيه من أحبار اليهود المتقدمين المتواجدين آنئذ في المدينة، ولا من المتأخرين المنتشرين في أصقاع الأرض، فسكوتهم موافقة ضمنية تدعونا إلى النظر مليًّا في الحكمة الكامنة في كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى.

كبد الحوت لا شك أنه مصدر للعديد من الفوائد الغذائية والصحية، ولكنه ليس طعامًا شائعًا، لا سيما في هذا العصر الذي باتت فيه الحيتان من الأحياء المهددة بالانقراض، فيخضع ما تبقى منها للمراقبة وقوانين حظر الصيد على المستوى الدولي. فالملاحظة المطروحة هاهنا هي أن من بين كل الأطعمة الفاخرة يُتحف أهل الجنة بالحوت، وليس سائره، وإنما كبده، بل الزائدة المتدلية من كبده، فأي دقة في التحديد هذه! وماذا تخبئ لنا هذه الدقة من حكمة؟! دعونا ننهج نهج سيدنا المسيح الموعود حين ترجم حقيقة شرابي الكافور والزنجبيل الروحانية بتأثيراتهما المادية، وهنا نتساءل: ترى ما التأثير المادي لزائدة كبد الحوت، الذي يعكس تأثيرا روحانيا مناظرا؟!

وبالعودة إلى نص رواية الحديث النبوي، التي وردت فيها الإشارة إلى التأثير المزاجي الذي تحدثه الدهون المشبعة (الأوميغا 3) والمتمثل في السعادة والبهجة، الأمر المرتبط بمناسبة دخول الأبرار الجنة بما يحمله الموقف من مسرات لا يكاد يصفها قاموس لغاتنا الحية، فأشارت إليه كلمات الوحي والتأييد الإلهي للنبيين بألفاظ تستسيغها عقولنا الطفولية.

بديهيات طبية عصرية.. ما يقول الخبراء؟!

تحمل الفيتامينات والمكمّلات الغذائية منافع عديدة لا تتوقّف عند الصحّة الجسدية فقط بل تطال أيضا الصحة النفسية والحالة المزاجية، وحين يُطرح على مائدة الحديث مناقشة موضوع الفيتامينات، لا يمكن غضّ الطرف عن فيتامين “د”، الذي يُعتبر زيت كبد الحوت أو السمك ومكمّلاته من أغنى مصادره. وبات من المتعارف عليه طبيًا أن تناول الأسماك وخاصة الأسماك الدهنية الغنية بالدهون المشبّعة، بشكل منتظم له دور فعَّال في تحسين الحالة المزاجية والتخلّص من القلق والتوتّر بفضل فعالية الدهون المشبّعة التي على رأس قائمتها الأوميجا 3، والتي ثبتت فاعليتها في زيادة نسبة إفراز السيروتونين، وهو الهرمون المسؤول عن السعادة والمزاج الجيّد.

وتفصيلاً للقول في مدى وكيفية تأثير السيروتونين في الجسم، لا نجد بدًا من قصد المختصين وسؤالهم عن هذا الأمر، وبهذا الصدد ننقل سطورًا من صفحة الشبكة الطبية المتخصصة جاء فيها عن “السيروتونين” ما نصه: “في الواقع لا يقتصر تأثير السيروتونين على جسمك فقط، بل يؤثر أيضًا على عواطفك وعلى مهاراتك الحركية، حيث يؤثر على: الاكتئاب، القلق، شفاء الجروح، تحفيز الغثيان، صحة العظام وغيرها… يعتقد أن السيروتونين كناقل عصبي ينظم القلق والسعادة والحالة المزاجية العامة، بينما يرتبط انخفاضه بالاكتئاب، وأما ارتفاعه فيبدو أنه يساهم في زيادة الشعور بالإثارة والحماس”(5)، الفكرة التي تُـحيلنا إلى نص رواية الحديث النبوي، والتي وردت فيها الإشارة إلى التأثير المزاجي الذي تحدثه الدهون المشبعة (الأوميغا 3) المتمثل في السعادة والبهجة، الأمر المرتبط بمناسبة دخول الأبرار الجنة بما يحمله الموقف من مسرات لا يكاد يصفها قاموس لغاتنا الحية، فأشارت إليه كلمات الوحي والتأييد الإلهي للنبيين بألفاظ تستسيغها عقولنا الطفولية.

وختامًا.. كلام عام عن الوحي

الكلام الموحى من الله تعالى بشكل عام، والقرآن الكريم على نحو خاص من مكامن عظمته اشتماله على دقائق المعارف الروحانية، بل والمادية أيضًا بما قد يفوق التصور، وإن لم تبرز المعارف المادية منها للعيان إلا بعد ظهورها فعليًا على أيدي مستكشفين أو مخترعين قد لا يكونون ذوي صلة بالدين من الأساس، فالكون بجميع عناصره من فعل الله تعالى، أما الوحي، والوحي القرآني خصوصًا، فقول الله تعالى، ومن الطبيعي تطابق فعل الله تعالى وقوله معًا، ذلك لأن تطابقهما فيه دلالة قوية على وحدة مصدرهما.

الهوامش:
1. (الإِنْسان: 6)
2. (الإِنْسان: 18)
3. (فلسفة تعاليم الإسلام ص72-74)
4. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)
5. المرجع الخامس – اضعط هنا
Share via
تابعونا على الفايس بوك