التنجيم بين الإِقرارِ والإِنكار
  • ألا نتفق على أن من العلوم في هذا العصر ما كان يعد خرافة فيما مضى؟!
  • بم نفسر تعدد واختلاف مفاهيم مصطلح التنجيم باختلاف العصور؟
  • كيف اتسعت نظرتنا إلى محيطنا البيئي بمرور الوقت؟
  • هل تؤثر فينا الأجرام السماوية حقا؟!
  • ما حقيقة التأثير المتبادل بين المادة والروح؟
  • ما السر الدفين وراء إنكار البعض لحقيقة التأثيرات النجمية على الواقع الإنساني بشكل عام؟!

__

العلوم التجريبية على الرغم من أنها مثلت نقلة نوعية في تقدم الإنسانية، إلا أنها لم تكن وحدها وسيلة تلك النقلة، وإنما هي مجرد حلقة في سلسلة طويلة متصلة عبر الزمان من العلوم والمعارف المتراكمة والتي حصلها الإنسان خلال مسيرته منذ نشأته الأولى.
والبحث العلمي لم يتخذ صفة الموضوعية والتجريب إلا مؤخرا على يد رينيه ديكارت في القرن السابع عشر الميلادي، بينما لا يمكن لأي مثقف إنكار أن سلسلة البحوث العلمية ظلت جارية منذ نشأة الإنسان الأول، وإن كانت لم تتخذ بعد الصفة البحثية التي بينها ديكارت، إذ اتخذ بحث الإنسان عن الحقيقة وقتذاك طابعا فلسفيا متلبسا في كثير من الأحيان بوجهة النظر الدينية، والتي كانت مدار حياة المجتمعات الإنسانية القديمة جميعها. وقد ظل ذلك الطابع الفلسفي والذي لا يمكن فصله عن الدين هو المهيمن منذ البدء على جميع فروع المعرفة.
وينشأ لدى كثيرين اعتراض مفاده أن كثيرا من معارف الأقدمين لا ينبغي عدها علوما، وذلك لمجرد عدم خضوعها لمبدأ التجريب، ومن تلك المعارف «التنجيم»..
وعلى فرض سلامة هذا الاعتراض من الزيغ، فإن علوما كثيرة معتبرة في هذا العصر لم يكن أحد ليعترف بها علوما قبل قرنين أو ثلاثة خلت، كعلم النفس مثلا، إذ لم يكن يخضع لأسس منهجية واضحة، كما لم يوضع على محك التجريب العملي، فكان أكثر التصاقا بالفلسفة. الأمر مشابه إذا نظرنا إلى موضوع «علم التنجيم» من نفس الزاوية، وإن كان موضوع التنجيم يبدو مختلفا أيضا بعض الشيء…… فكثير من الممارسات لم تكن فيما مضى معدودة ضمن العلوم، ثم اكتسبت صفة العلمية فيما بعد حين أمكن إخضاعها للملاحظة والقياس، بينما نادرا ما نجد علما ما يفقد صفة «العلمية» فيمسي ضربا من ضروب الخرافة والممارسة الجوفاء عند شريحة كبيرة من المنتسبين لثقافة هذا العصر.. وذلك ينطبق تماما على «التنجيم» في الوقت الحالي، لا سيما في مجتمعات تشيع فيها الخرافة ويعم الجهل.

أسماء عديدة والمسمى واحد
لو أننا جُزنا حواجز الزمن إلى الوراء رجوعا إلى العصور الغابرة، لرأينا أن لفظة «تنجيم» لا تعدو كونها وصفا لجانب من جوانب تلك الممارسات المتعلقة بملاحظة ودراسة الأجرام السماوية وحركتها ومواقعها بالنسبة إلى بعضها البعض، وتأثير تلك المواقع على البيئة والإنسان. وغني عن الذكر أن هذه الممارسات اكتسبت عديدا من الأسماء، كالتنجيم، وعلم الهيئة، وعلم الأجرام السماوية، وعلم الفلك astronomy، ومؤخرا علم الكونيات cosmology. غاية ما يقال أن كل هذه الأسماء تشير إلى المسمى ذاته، والذي سنصطلح على اختيار اسم «علم التنجيم» منها عبر هذا المقال.

المحيط الفيزيائي وثنائية التأثير والتأثر
النظرة إلى المحيط الذي يعيش فيه المرء ويؤثر فيه ويتأثر به تتسع باستمرار، وتتناسب طرديا مع التقدم المعرفي للإنسانية ككل. ففي حين من الأحيان ما كان للإنسان أن يدرك وجود أقوام تعيش على الضفة الغربية للمحيط الأطلنتي، حتى أن ذلك المحيط عرف في الأدبيات الجغرافية القديمة باسم «بحر الظلمات» وقد شكل حدا ونهاية جغرافية للعالم في الخرائط القديمة، ثم لم تلبث زاوية النظر الضيقة أن اتسعت ليرى الإنسان حدودا أبعد، وتجاوزت تلك الحدود الكرة الأرضية بأسرها، حتى بلغ بصر ذلك المخلوق الضعيف إلى أعمق أعماق الكون السحيقة، واتسع مفهوم البيئة باتساع حدود البصر، وصار تعريف البيئة الآتي هو الأشمل: هي مجموعة الظروف والعوامل المحيطة بالكائن الحي والمؤثرة في جميع مظاهره الحيوية وفي تركيبه الداخلي وشكله الخارجي وفي سلوكه.

ولم يدع تعريفنا هذا للبيئة مجالا لإنكار التأثير والتأثر المتبادل بيننا وبين جميع ما يحيط بنا من مظاهر حية وغير حية، ومن جملة تلك المظاهر الأجرام السماوية، بعدت عنا أم قربت، كبرت حجما وكتلة أم صغرت. والقول بعكس هذا يجعل من دراسات علوم الفلك في الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الفضائية كلها محض عبث، الأمر الذي لا يمكن أن يتفوه به عاقل.

تأثير الأجرام الفلكية بين الإقرار والإنكار
في المجتمعات ذات المستوى العلمي والثقافي المتدني كثيرا ما يتخذ التنجيم مظهرا دجليا، ويتمثل في ادعاء من يدعونه قراءة الطالع واستشراف المستقبل رجما بالغيب. بينما الأمر على النقيض من ذلك في المجتمعات المتحضرة والبالغة مستويات عليا في العلم والثقافة، فالتنجيم في تلك المجتمعات يتخذ مظهرا تجريبيا له تطبيقاته في مختلف جوانب الحياة على مستوى كل من الفرد والمجتمع، حتى أن نماذج استفادة الإنسانية من علم التنجيم يضيق عنها الحصر.
تشهد ملاحظتنا الموضوعية للتاريخ الإنساني أن هناك اتفاقا وتشابها أخلاقيا عاما بين جميع الشعوب الإنسانية في الحقبة الزمنية الواحدة، هذا الاتفاق الأخلاقي على الرغم من عدم توافر سبل اتصال أو تواصل لا سيما في العصور الغابرة، لا يمكن تفسيره إلا بأن مؤثرا خارجيا يؤثر في تلك المجتمعات ويحيط بها بحيث يتحكم في أمزجة أفرادها والعقل الجمعي لها. فلنعتبر هذا القول فرضية نحاول إثباتها عبر هذا المقال.
ولإثبات تلك الفرضية نطرح أولا جزئية نتفق عليها جميعا، وهي أن هناك اتفاقا في الطبائع بين الأفراد في رقعة جغرافية معينة تبعا لدرجات الحرارة أو البرودة، وتبعا لمستوى رطوبة الهواء، وتبعا للقرب أو البعد من خط الاستواء، بل إن التأثير يتعدى الطبائع ليطال أيضا الصفة التشريحية للأجساد من حيث الطول والحجم وشكل الجمجمة وملامح الوجه وغير ذلك، فقاطنو المناطق الحارة يتميزون بالأنف الأفطس بخلاف قاطني المناطق الباردة ذوي الأنف الأقنى الضيق، كذلك أهل المناطق المشمسة تبدو بشرتهم أقتم من بشرة أهل المناطق التي يحول فيها تلبد السماء بالغيوم دون انتشار ضوء الشمس. وكما نعلم، فالحرارة والرطوبة ومستوى الاستضاءة وغير تلك المؤثرات الفيزيائية منشؤها حركة وموقع جرم فلكي بالنسبة إلى الأرض، إنه نجم الشمس، كما لا يخفى على أحد.
فإذا ثبت وقوع البشر في بقعة ما تحت تأثير واحد عام لنجم ما، فكم بالحري أن نأخذ في الحسبان التأثيرات النجمية وتأثيرات مواقع الأجرام الفلكية -بعدت عنا أم قربت- في جميع مظاهر الحياة على الأرض وما عليها من أحياء!
والقرآن المجيد مترع بالإشارات إلى التأثيرات من هذا القبيل نحو قوله تعالى:

لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (1)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (3)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (4)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (5)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (6)
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ (7)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (8)

ولم تخل كتابات المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) التي هي بتأييد إلهي خاص من تلك الإشارات الدقيقة، إذ يقول حضرته:

«إن زمن النبي ….. هو الألف الخامس وهو يتبع تأثير المريخ، وهذا هو السر الذي يكمن في كون النبي قد أُمر بقتل المفسدين الذين قتلوا المسلمين وأرادوا القضاء عليهم وعزموا على إبادتهم. وهذا هو تأثير المريخ بأمر الله وإذنه….. إن التجلي الأعظم والأكمل والأتم في البعثة الثانية للنبي هو تجلي اسم أحمد فقط، لأن البعثة الثانية مقدرة في أواخر الألفية السادسة. وإنّ علاقة الألفية السادسة هي بكوكب المشتري، وهو السادس من جملة الخنّس الكنّس. وإن تأثير هذا الكوكب يمنع المبعوثين من سفك الدم، وينمّي العقل والذكاء وموهبة الاستدلال» (9)

ولم يدع تعريفنا هذا للبيئة مجالا لإنكار التأثير والتأثر المتبادل بيننا وبين جميع ما يحيط بنا من مظاهر حية وغير حية، ومن جملة تلك المظاهر الأجرام السماوية، بعدت عنا أم قربت، كبرت حجما وكتلة أم صغرت. والقول بعكس هذا يجعل من دراسات علوم الفلك في الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الفضائية كلها محض عبث…

هذا المقتبس من كتابات المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) يجمل حزمة من المعارف داخله، حتى وإن كانت هذه المعارف تعد الآن من جملة الأساطير التي لا تعدو في نظر كثير من المعاصرين كونها خرافة، بيد أن حتى الأساطير تكون مبنية على أساس أصل صحيح، وهذا الأصل الصحيح هو ما ضمن لها البقاء حتى وصلت إلينا، وإن كانت وصلت وبها قدر كبير من التشوه. على أية حال، فإن الحقيقة التاريخية تشير إلى أن لكوكب المريخ تأثيرا جلاليا لاحظه الإنسان القديم بالتكرار، وإليه عزا الحرب ودوافعها وتأثيراتها، فكان اسم مارس March علما على إله الحرب في المثيولوجيا الرومانية.
كذلك المشتري Jupiter، ذلك الكوكب الأضخم ضمن كواكب النظام الشمسي، قد عُدَّ في المثيولوجيا الرومانية بوصفه إله السماء والبرق، ويعد مناظرًا لزيوس في الميثولوجيا الإغريقية. كان جوبيتر راعي روما، وكان يقر القوانين ويضمن العدالة والنظام الاجتماعي. ويعد جوبيتر أبًا لإله الحرب مارس وبالتالي يعد جدًا لكل من رومولوس ورموس المؤسسين الأسطوريين لروما.
قد يثير احدهم اعتراضا مفاده أن القول بذلك لا يعدو ترديدا لأساطير الأولين. فنقول أن حتى أساطير الأولين تكون مبنية على شيء من الأصل الصحيح، بدليل أن الأسطورة قد تولد في شعوب مختلفة بنفس التفاصيل مع اختلاف الأسماء، وذلك على الرغم من التباعد المكاني أو الزماني بين تلك الشعوب، فمثلا، كوكب الزهرة، هو رمز للحب والجمال لدى مختلف الشعوب، ورمز إليه في كثير من المثيولوجيات القديمة بآلهة، فهو عشتار عند البابليين، وإنانا لدى السومريين، وعشتاروت عند الفينيقيين، وأفروديت عند الإغريق، وفينوس عند الرومان، بل وحتى في الكتاب المقدس رمز الزهرة (كوكب الصبح) إلى المجيء الثاني للمسيح في الزمن الأخير، ففي رؤيا يوحنا اللاهوتي:

«أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ. أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ» (10)

نعود إلى مقتبس حضرة المسيح الموعود، ولنرَ، ماذا عنى أصلا بتأثير الكوكب؟!
يحدث أن تكون الأرض واقعة تحت تأثير جرم فلكي ما بشكل دوري، فأحيانا يتكرر ذلك التأثير بشكل سنوي كما هو الحال مع الشمس والقمر، وتارة يتكرر بعد عقود كتأثير المذنب هالي والذي يقترب من الأرض في مدار بيضاوي شديد الاستطالة مرة كل 72 عاما محدثا مجموعة تغيرات فيزيائية وجوية ونفسية لدى مظاهر الحياة على هذا الكوكب، وهكذا الحال بالنسبة لجميع عناصر النظام الشمسي المتحركة جميعها والمؤثرة بعضها في بعض. فلا يمكن لعاقل أن ينفي ذلك التأثير المتبادل، فقول المسيح الموعود بوقوع الأرض تحت تأثير المريخ في زمن النبي الخاتم، ثم وقوعها تحت تأثير المشتري في زمنه، أمر لا غضاضة فيه، ويتفق والقانون السائد في الطبيعة.
ولحركة الأجرام السماوية ومواقعها بالنسبة إلى بعضها البعض تأثيرات في جميع مظاهر الحياة على كوكب الأرض بحيث لا تملك المخلوقات من تلك التأثيرات فكاكا، ومن أبرز تلك التأثيرات تأثير الجاذبية الحافظ لوضع كوكب الأرض ككل وكذلك الحافظ لوضع الأجسام عليه من شجر وبشر وماء وهواء….إلخ، يقول تعالى:

وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (11)

فإن لم نقر بتلك الحقيقة، فماذا نقول عن ظاهرة المد والجزر الحادثة بتأثير جاذبية القمر على الأرض، بحيث إن السوائل كمياه البحار والأنهار بل وحتى الدماء في العروق منسوبها يرتفع تحت تأثير تلك الجاذبية، أفلا يؤثر هذا على الأمزجة والحالات النفسية كذلك، بحيث تختلف تلك الأمزجة ليلا عنها نهارا؟!
كذلك ماذا عن حركة الرياح الموسمية التي لولاها لانعدمت وسيلة التلقيح العظمى من على وجه الكوكب؟! أوليست الرياح كما يقول تعالى عنها:

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (12)؟!

أوليست حركة الرياح جميعها منشؤها الشمس؟!
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة بحيث يضيق عنها نطاق الحصر.
وكل تأثير خفي يحدث في هذا الوجود المادي قد أشار الله تعالى إليه بالملائكة، حيث إن لفظة «ملائكة» مشتقة من المادة اللغوية «م-ل-ك» والتي من معانيها المستفادة مِلاك الأمر ومقاليده. والملائكة في التصور الإسلامي يعزى إليها إجراء إرادة الله تعالى في الخليقة، فإليهم يشير التنزيل الحكيم:

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (13)

فتأثيرات الأجرام السماوية، تعزى إلى تلك الملائكة، التي لا تحيد عن أمر الله تعالى قيد شعرة. والملائكة في التصور الإسلامي اسم وصفي يطلق على عدة مظاهر، وجميع تلك المظاهر مبينة في القرآن المجيد و نلمح إضاءات عليها في قول خاتم النبيين و كذلك كلام المسيح الموعود (عليه الصلاة و السلام). والأمر برمته حقائق غابت عمن يتعامى عنها، وحينما عبر المسيح الموعود عن مثل تلك الحقائق الدقيقة قال:

«ذُكرت النفوس النورانية، المرتبطة بالأجرام السماوية ارتباط الروح بالجسم، باسم الملائكة أو الجِنة. ولم تعتبر الملائكة النورانيين – الذين لهم مكانة خاصة في الكواكب والنجوم – واسطة بينه وبين رسله إلى درجة اعتبار الملائكة قادرين ومخوَّلين، بل بيّن قدراتهم مقابله كالميت في يد الحيّ؛ يستخدمه الحي كما يشاء. لذا فقد أُطلق في بعض الأماكن من القرآن الكريم على كل ذرة من الأجسام أيضا اسم الملائكة؛ لأن كل تلك الذرات تسمع لربها الكريم وتفعل ما تؤمَر. فمثلا إن المواد التي تُحدث التغييرات في جسم الإنسان باتجاه الصحة أو العِلَّة، فإن كل ذرة من تلك المواد تتقدم أو تتأخر بحسب مشيئة الله» (14)

لن نخوض في بحث وتفصيل في موضوع الملائكة، ولكن ينبغي أن نؤكد على فكرة أنها وسائط لإنفاذ إرادة الله تعالى في خليقته، وإنكار تلك الوسائط (أي الملائكة) هو بالضرورة إنكار لإرادة الله تعالى، ومن هنا كان إنكار التأثير النجمي يحمل في طياته بذرة الكفر، حيث إن الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، يقول تعالى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (15)

كذلك أجاب حضرة خاتم النبيين حين سُئل عنْ الْإِيمَانِ فقَالَ:

«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» (16)

فعد الإيمان بالملائكة ثاني أركان الإيمان الستة.

فإن لم نقر بتلك الحقيقة، فماذا نقول عن ظاهرة المد والجزر الحادثة بتأثير جاذبية القمر على الأرض، بحيث إن السوائل كمياه البحار والأنهار بل وحتى الدماء في العروق منسوبها يرتفع تحت تأثير تلك الجاذبية، أفلا يؤثر هذا على الأمزجة والحالات النفسية كذلك، بحيث تختلف تلك الأمزجة ليلا عنها نهارا؟!

التأثير المتبادل بين المادة والروح
ما دمنا قد توصلنا في العصر الراهن إلى حتمية وقوعنا تحت تأثير فيزيائي لأجسام أخرى ربما بعدت عنا ملايين السنين الضوئية، فإن بمجرد تسليمنا بالتأثير الفيزيائي نكون مضطرين إلى الإقرار بالتأثير الروحاني بالتبعية، حيث إن كل تأثر مادي يتبعه تأثر روحاني، والعكس صحيح، وهذه الحقيقة أماط عنها اللثام حضرة المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) في مؤتمر الأديان المنعقد في لاهور عام 1896، حين أُلقي خطابه الجليل المعنون فيما بعد بـ «فلسفة تعاليم الإسلام»، والذي ذكر فيه حضرته ما تعريبه:

«وإذا أمعنا النظر تبين لنا أن الفلسفة الصحيحة الصائبة للغاية هي أن للأوضاع الجسمانية تأثيرًا قويًا على الروح.. فإننا نرى أن أفعالنا الطبْعية، وإن كانت جسمانية، إلا أن لها أثرًا محسوسًا في حالاتنا النفسية والروحانية يقينا. فالعين مثلا إذا أخذتْ في البكاء ولو تصنعًا.. فلا بد أن تنبعث من الدموع لوعة تسري إلى القلب، يَخضع لها ويكتئب. وكذلك لو ضحِكنا – وإن يكن تكلّفًا – اكتسب الفؤاد فرحًا وانبساطًا. وكذلك نرى أن السجود الجسماني يولد في نفس الساجد حالة من التضرع والخشوع. كما نشاهد بالعكس أنه لو مشى الإنسان رافعا رأسه مبرزا صدره، فمشيته هذه تولد فيه كبرا وغطرسة. ومن هذه الأمثلة يتبين تماما أن للأوضاع الجسمانية أثرا في الحالات الروحانية من دون ريب.» (17)

فثبت أن أجسامنا لا يمكن بحال أن تتأثر بمعزل عن أرواحنا، كذلك أرواحنا لا يمكن بحال أن تتأثر دون أن يلحق أجسامنا تأثير مناظر، وبهذا تؤكد لنا الملاحظة الدقيقة مسايرة التأثر والتأثير الروحاني لنظيره الفيزيائي خطوة بخطوة، و كما يتعذر على المرء السير مستويا بقدم واحدة، كذلك لا يمكن فصل أحد النظيرين عن الآخر.

ماذا وراء الإنكار؟!
كما أن الفرد يتأثر روحانيا ومزاجيا تبعا لتأثره الفيزيائي، كذلك الحال نفسه بالنسبة إلى المجتمع ككل، بل والإنسانية بأسرها في كل حقبة زمنية. وهذا أمر بات من المسلمات، وإن لم تستوعبه بعد أفهام كثير منا، لذا نرى البعض ينكرون حقيقة التأثر الروحاني بمؤثر فيزيائي أو العكس، أي التأثر الفيزيائي بمؤثر روحاني، وليس حجتهم التي يقدمونها على نفي تلك الحقيقة إلا أنهم افتقروا إلى حاسة إدراك أحد التأثيرين. فلو فقد المرء مثلا حاسة إدراك الطعم من حلو ومر وحامض، فمن الطبيعي أن يفقد بالضرورة تلك الحاسة الروحانية المقابلة لحاسة إدراك الحلاوة والمرارة والحموضة. أضف إلى ذلك أن هناك تأثرًا نفسيًّا يحدث لدى من يعانون من العشى الليلي، ويتمثل ذلك التأثر النفسي (الروحي) في مظاهر عدة كفوبيا الظلام. لهذا لم نعد نستغرب الآن حقيقة أن الليالي المقمرة تكون أكثر إبهاجا من تلك التي يكون القمر فيها غير مكتمل ناهيك عن تلك التي يغيب فيها القمر كلية، حتى أن هذا الأمر ارتبط بالأدب الرومانسي منذ نشأته، فتوصف ليالي البدر بالبهجة والمسرة، بعكس ليالي السلخ (18) التي هي رمز شائع للكآبة والحزن والكرب.

فثبت أن أجسامنا لا يمكن بحال أن تتأثر بمعزل عن أرواحنا، كذلك أرواحنا لا يمكن بحال أن تتأثر دون أن يلحق أجسامنا تأثير مناظر، وبهذا تؤكد لنا الملاحظة الدقيقة مسايرة التأثر والتأثير الروحاني لنظيره الفيزيائي خطوة بخطوة، و كما يتعذر على المرء السير مستويا بقدم واحدة، كذلك لا يمكن فصل أحد النظيرين عن الآخر.

وهنا سؤال يلح في طرح نفسه، ومفاده: ما السر الدفين وراء إنكار البعض لحقيقة التأثيرات النجمية على الواقع الإنساني بشكل عام؟!
كعادة المنكرين لأية حقيقة، فإنهم لا ينكرون شيئا إلا لأنهم لم يشهدوه نظرا إلى بعده عنهم مكانا أو زمانا.. فقد ينكر شخص تمثل صحراء الربع الخالي حدود عالمه وجود شيء ما أو وقوع حدث ما في قلب لندن، لمجرد أنه لم يشهده بأم عينه.. وبالقياس على هذا نرى البعض ينكرون تأثيرات الأجرام السماوية فينا وعلينا نظرا إلى بعدها عنا، وإن بدا هذا البعد ليس بالشاسع في أيامنا هذه.
كذلك الحال فيما يتعلق بالتباعد الزماني، فأغلب المكذبين لمبعوثي السماء نشأ تكذيب الناس لهم من اليأس من تحقق النبوءات عن أولئك المبعوثين بسبب طول الفترة.
زبدة الكلام أن طائفة منكري تأثيرات الأجرام السماوية، والساخرين من حقائق «علم التنجيم» ليسوا سوى أحد مظاهر منكري الرسل والرسالات، فكلتا الطائفتين تعتمد في تكذيبها على بعد المؤثر (زمانا أو مكانا).

الهوامش:
1. (الواقعة 76-77) 2. (النجم 2-3)
3. (الطارق 2) 4. (الذاريات 8)
5. (البروج 2) 6. (الصافات 7-8)
7. (الأَعراف 55) 8. (الصافات 89-90)
9. التحفة الغولروية – ص209- حاشية رقم2.
10. (رُؤْيَا يُوحَنَّا اللاَّهُوتِيِّ 22 : 16)
11. (فصلت: 13) 12. (الحجر: 23)
13. (النحل: 51)
14. الخزائن الروحانية، المجلد الثاني، كتاب «فتح الإسلام».
15. (البقرة: 286)
16. (صحيح مسلم, كتاب الإيمان – حديث رقم9)
17. فلسفة تعاليم الإسلام، فصل تفاعل الروح والجسد.
18. الأخيرة من الشهر القمري والتي يميل فيها القمر إلى الاحتجاب كلية، وهي أكثر ليالي الشهر القمري حلكة.
Share via
تابعونا على الفايس بوك