تأملات وخواطر حاج بيت الله الحرام
  • الصلاة في المقام الإبراهيمي تشحذ الهمم ليصلي المؤمن بنفس المكانة الروحانية لسيدنا إبراهيم.
  • تكريم الإنسان والوفاء بحقه هو لب التقوى
  • جاهد الرسول عليه السلام جهادًا دفاعيًّا لا تعدّيًا على أحد.
  • امتحانات الله تعالى للمؤمنين تقوي إيمانهم وتثبته.. والأنبياء قدوتنا.

__

منذ أن وطأت قدماي أرض الحبيب المصطفى بدأ شعور حرمة وكرامة الإنسان يتسلل لقلبي ويغزوه بقوة وجلال. فلم أشعر بحاجة للمزاحمة خلال الطواف وكرهت دفع المسلمين في رمي الجمار، ورأيت أنني لو تحتم عليَّ دفعُ مسلمٍ بعنف فالله ليس في حاجة لرمي هذه الجمار، ورأيت عبرة في غاية الأهمية في خطبة نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع، في عرفات التي هي خارج الحرم حيث وقف مذكرا بحرمات ثلاث: دماءكم وأموالكم وأعراضكم. وتوكيد الحرمات تم إرساؤها بقوة خارج الحرم، فهي بالتالي هي الحرم، والحرم هو دمُنا ومالنا وعرضنا، محرم تحريما مكعبا. أي حرام في حرام في حرام، حرمة اليوم في حرمة الشهر في حرمة البلد. ووجدت في قلبي من المعاني العميقة ما أكتب به مجلدا، بحيث عدت وقد ملأني اقتناع أن الطواف كان حول كرامتنا، والبيت هو جو الكرامة المحيط بابن آدم، لقوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وأننا في الصلاة نتوجه نحو وجه الله أي رضاه، ورضاه هو احترام كل منا لأخيه، والإحسان إليه والأخذ بيده لترقيته، وصبره عليه حتى يهتدي، وهذه هي كعبة صلاتنا الرمزية، وأن الإنسان كامل الحرمة والعصمة بما هو إنسان مسالم، مهما كان دينه. وأن أم القرى هي أم الإسلام وأم بَثَّ السلام حولها، ولا ترضى بقتل ابن لها من أجل رأيه، وأن حرية الدين هي التي ستجلب الخير للإسلام والشرف لدعاة السلام.

وعظمت في عيني حرمة الدم البشري وعرفت أنه لا إكراه في الدين فعلا، وتسلل لقلبي علم أن المرتد لا يجوز قتله، بل لا بد من مواجهة الحجة بالحجة، فهذا يقوي المجتمع ولا يضره، وفي قلبي استيقنت أن المعترضين على قتل المرتد هم على صواب، وتيقنت أن جهاد الرسول كله كان دفاعيا. وفكرت أنه عندما نقرأ نداء الله لبيت من البيوت الآدمية:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ

إنه ينادي : يا من سجنتم أنفسكم في فكرة بيتكم وعنصركم قد جاء النبي الموعود بتوحيد البيوت .. يا من انزلقتم لمسلسل القتل وهدم البيت، وهو بنيان الرب، الإنسان، يا بيت إسرائيل، كفوا واذكروا من وهبكم الحياة وأتاح لكم فرصة العمر لتحملوا الرسالة، رسالة البيت العام وتراحمه.خطاب قوي اللهجة لمن كان له قلب يحس قوة اللهجة، لإنعاش قسم الذاكرة في المخ وجلاء الصدأ عنه، وغسله من آثار إدمان المنسيات الملهيات، ليذكر النعم والفضل، وينفخ في صور الجمع واللقاء في نص الآية، لعلهم من ذكر لقاء الله يستحون، لو كان في بعضهم بقية حياء وحياة. وبعد فشل بيت يعقوب تم النهوض ببيت آخر من بيوت إبراهيم:

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

وهو بيت عام، وكان في الظاهر بيتا للعرب إلا أنه كان مدخرا للبشر، كبيت مميز بني لذكر الله وإقامة حدوده، أمر الله بتطهيره ليعبده فيه ويعتكف من يختار الله، يتلو حوله ذكر رحمة الله وحمده، ويوصي من معه بتراحم البيوت الإنسية. بيت مركزي هو أم البيوت.

ويفهم من يتعلم أن الله يكرم من يكرم الإنسان، وتكريم الإنسان والوفاء بحقه هو لب التقوى وهو محط رضا الله، والتكريم لايتم إلا بالتخلي عن الثوائر النفسية، والتخلي عن هيجان الغرائز للانتقام من الإنسان، فطريق الحق هو التخلي التام عن النفس والعكوف على عبادة الله….

البيت مثل مضروب، وأمر الله إبراهيم ببناء البيت أي بناء الأسرة والذرية وقيم السلام والرعاية، تحت ظل عرش الله تعالى، والبيت هو لبنة القرية، وعند الانقسام الخلوي يتناسل البيت لتوجد منه آلاف البيوت من جديد. ولا شك أن القتل بسبب الفكر فرع من شجرة الجهل، والعلم قوة، والله يكافح القتل بالكلام والتعليم. ويوقف جريان الدم الحرام بأن يتلو آياته مصرحا بأسرار التاريخ، معلما للضالين، خاصة في أمر القتل والقتال، كي يتعلموا سر الحج الذي يحضرونه مجرد مقلدين، ويرفع لهم مصباحا منْ سر الكعبة والبناة وعبرة البناء. فيزكيهم العلم لو أخذوه بقوة، وتفاعلوا معه بكل نبل وفتوة.

هناك علاقة عميقة بين البيت وإبراهيم والقبلة وبين فكرة السلام ونبذ قتل المسالم. تبدأ بأمر الله لنبيه أن يُسكن ابنه في واد غير ذي زرع. لقد امتحن الله إبراهيم بأوامر قوية، ليجعل إيمانه متينا، ويثق بالله ويسلم له يقينا. إذ قال له ربه أسلم: ما عسى أن تكون روائح الكلمات غير عطر: أسلم لي مطيعا مطلقا وسلم لي بوصلة وجهتك وأنا أوجهك وثق بي، تنازل عن كل ميول نفسية واجعل العفو والانتقام لي وحَسَبَ الحكمة التي أرضى بها؛ أهدك لأحكم التصرفات، وألهمك التصرف الصائب كأنك ملاك مطيع.

توجه نحوي حيثما تحركت، وجِّهْ وجهك نحو وجهي (أي خططي) في صلاتك ونسكك ومحياك وموتك، واجعلني نصب عينيك أيّا كان نشاطك. عندما تزرع أو تصنع أو تأكل أو تنام، أو تكون في شئون بيتك أو أصدقائك، فانس رغبات النفس وتذكر ما يرضيني، وابحث عن رضاي في (إكرام الإنسان، وفهم خططي للعمل على ازدهار حياته، ودعوة الإنسان إلى منفعته ومصلحته وبركته) أيها الأواه المنيب العطوف. وقال له الله لما فعل ما معناه: سأهبك لمنفعة الناس، سأجعلك للناس نموذجا لجمال الإنسانية. فما من نفيس عندي إلا ووهبته للناس، فصفتي أنني الرب الرحمن، وأنا حنان منان، أعطي أطيب ما عندي، وقد أنارت صفاتي صفاتك، وقد جعلتك إماما نورا شمسا لنوع البشر، إمام يراه الناس فيعلمون كم أنا وهاب عظيم، وجعلتك آية على فائدة حضوري وفائدة اليقظة لمن يستيقظ في حضرتي، ودليلا للضالين يقودهم لنبع الفهم والتعلم الصحيح، ليفرحوا بالإسلام لي لا ليعتبروا الإسلام منة منهم عليّ، بل هو غنم لهم ونعمة عليهم. وحين طلب لذريته وعده الله أن الصالحين منهم وحدهم سيكونون أئمة.

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

أصل البيت أنه مثابة وأمن، وبيت الأسرة مثابة وأمن، فيه سلام للخائف وطعام للجائع واحترام للساكن. والله جعل مكة مثلا للبيت، وشرع دستور حرمة الصيد فيها وحرمة صيد المحرم الذي يقصدها، علامة وإعلانا لحرمة الحياة، وأن الآدمي الذي هو بنيان الرب والأعظم من بنيان الصيد، وهو الأعظم حرمة بالبداهة.

لا يعني أن يصلي البشر في مكان مادي قام فيه إبراهيم على قدمه، ووجهه نحو وجهة جغرافية، بل أن يصلي البشر في نفس المكانة الروحية التي قام بها إبراهيم أمام الله، واعيا في صلاته لكل الحكم والعبر التي من أجلها بني هذا البيت…

وجه الله تعالى أو خطة الله تعالى: أن تكون هناك قرية آمنة طاهرة يحترم فيها الإنسان ويتلقى الاحترام، وتسمى البلد الحرام، لها مساحة تسمى الحرم، ويسمى نزيل القرية ضيف الرحمن، يأتي زائرا سائحا يتعلم من القرية أرقى آداب العمران، وأن بناء القرى يجب أن يكون على هذا المثال كنسخة، والقرية لا يبيت رجل فيها جوعان. وفيها مسجد لعبادته يسمى المسجد الحرام، يتعلم الناس فيه أن من أكرمهم هو الله ربهم، وهو الذي يدفع أجور (ثواب) العمال والخدم الذين يعملون على راحتهم، وأنه هو الذي يجعل خادمهم هنا سيدا عظيما عنده. ثم تكون القرية أما للقرى، تؤخذ منها عينة وتزرع في كل مكان حولها. ويفهم من يتعلم أن الله يكرم من يكرم الإنسان، وتكريم الإنسان والوفاء بحقه هو لب التقوى وهو محط رضا الله، والتكريم لا يتم إلا بالتخلي عن الثوائر النفسية، والتخلي عن هيجان الغرائز للانتقام من الإنسان، فطريق الحق هو التخلي التام عن النفس والعكوف على عبادة الله، والالتفات لحمد الله ونشر محامده، والتحري عن معاني ما يقول الله، وما به ينال المرء رضاه، ويتم التعليم بأن يذبح الإنسان باسم الله لحما طيبا، ويهرق دمه ليأكل الإنسان، وليجري دم الإنسان سائلا في بدنه لا أن يهرق دم الإنسان.

وقول الله تعالى:

وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ،

لا يعني أن يصلي البشر في مكان مادي قام فيه إبراهيم على قدمه، ووجهه نحو وجهة جغرافية، بل أن يصلي البشر في نفس المكانة الروحية التي قام بها إبراهيم أمام الله، واعيا في صلاته لكل الحكم والعبر التي من أجلها بني هذا البيت، مفكرا في الرمز العظيم الذي ترمز إليه هيئة استقبال هذا البيت المحرم، عازما على تنفيذ ما عليه من خطة الله تجاه الإنسان، وفي حالة رضا مطلق بأحكامه وكلامه.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بالله وَالْيَوْمِ الآخر قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم

طلب إبراهيم من الله أن يجعل البلدة آمنة للمؤمن فقط، فأجاب الله أنها تظل آمنة من غضب الله لساكنها من جنس الإنسان، حتى ولو كان ساكنها كافرا، بشرط أن يلتزم بأصل فكرة البيت وهي مسالمة الإنسان وإكرامه. ومما سبق نعلم أن للبيت كيانا روحيا، وأنه مفتوح لكل قاصد من العالم، يعمره القاصدون مدة زمنية، وجعل الله لفترة القصد أو الحج ذهابا وإيابًا حرمةً قدسية، وسماها الأشهر الحرم، يحرم فيها القتال بين البشر، وجعل للقاصدين زيا خاصا وعلامة تسمى ثياب الإحرام، من لبسها يسمى المحرم، فيتحول المجال المحيط به إلى حرم، وينال الصيد البري أمانا من خطر صيد الرجل المحرم. والقاصدون يأتون كي يتعلموا هذه المعاني، وأن ملة إبراهيم تعني أيضا أن القرية بيت إنساني، وأنه كما أن البيت للأمن والطعام والكرامة، فالقرى كذلك لأمن مواطنيها وطعامهم وكرامتهم.وليتعلموا من علماء ملة إبراهيم معنى الاستسلام لله بثقة، وكيف يطيع المرء الله وهو واثق، ووكيف يهزم خواطره وثوائره ويترك ولده في الصحراء حين يأمره الله وهو مستيقن أنه لا يضيع، كما دخل من قبلُ نارَ النَّاس حبًّا في الله، واثقا أن الله سيجعلها بردا وسلاما، وليجربوا كيف تسير أحوال بلدة التواضع وإكرام كل الألوان.

إن لَبِنات البيت لم تكن من الحجارة، بل كانت من الفهم والعلم والمعرفة، كانت القرية والبيت رمزا هائلا واستعارة بليغة وجملة رائعة، تطوي في باطنها آلاف الجمل والفقرات بل كتبا كاملة من التأملات، كلها تشير لصفات الله ذي الكمال والجمال، واقتلاع حجارة البيت ليس هدم البناء بل هدم المعنى وحقيقة الخطة الربانية وما أودع الله في البيت من المثابة والأمن لبني الإنسان.

عبرة البيت ترمز للدين وللإسلام، وللحضارة والوفاء والدولة الآمنة العادلة، والحكم الرشيد والمواطنة الصالحة، والنهج العلمي في البحث، وضبط المشاعر بوحي الله، وكل معاني الدين الصحيح فقد جاءت في وصية هؤلاء الرسل لبنيهم. وهي العبرة التي تم هدمها حجرا حجرا بعد ذلك، ومن ثم بعث الله محمدا ليعيد للبيت طهارته ومعناه، وأرسل أيضا أخيرا من يعيد للبيت طهارته ومعناه.

وإبراهيم هو واضع القواعد للبيت ليحيي عبرته ويضرب الله به المثل العظيم. دينه الإسلام بشموله: أن يبذل نفسه نسكا لله، وقبلته ووجهته السلام للناس كما هو الحال في البيـت، ووصيته لذريته ومهـما تناسلـت من بعده: “لاتموتن إلا وأنتم في حالة الإسلام الشامل.”

Share via
تابعونا على الفايس بوك