أيها الناس.. لكم لونان: لون في القلب، ولون في اللسان. الإيمان على الأَلْسُن والكفر في الجنان. جعلتم الأقوال للرحمن، والأعمال للشيطان، فأين أنتم من هداية القرآن؟ أنتم تقرؤون في كتاب الله أن عيسى ذاق كأس الممات، ثم ترفعونه مع جسمه العنصريّ إلى السماوات، فلا أدري حقيقة إيمانكم بالآيات. تتلون في صلواتكم أن عيسى مات، ولا رفْع الجسم ولا حياة[AAS]، ثم بعد الصلاة تتربّعون في ركن المحراب، وتُقْبِلون بوجوهكم على الأصحاب، فتقولون: من اعتقد بموته فهو كافر وجزاؤه السعير، ووجب له التكفير. تلك صلواتكم، وهذه كلماتكم! تقرؤون في الفرقان: فلما توفّيتني وبه تؤمنون، ثم تتركون معناه وراء ظهوركم وأنتم تعلمون. أتجدون في كتاب الله نـزول عيسى بعد موته؟ فما معنى فلما توفّيتَني يا ذوي الحَصاة؟
أتكفرون بكتاب الله بعد إيمانكم، ولا تتّقون الله وتبغون مرضاة إخوانكم؟ أتعادون من أُرسل على رأس المائة، وهو منكم ومن هذه الأُمّة، وجاء في وقت الضرورة، وعند فتن النصرانية، ووافى دروب صحف الله بالحقّ والحكمة، وشهد الله على صدقه بالآيات المنيرة. ما لكم تردّون رحمة الله بعد نزولها، ولا تكونون من الشاكرين؟ غشي الإسلامَ ليلُكم، وانهمر إليه سيلُكم، وتَحْسَبون أنكم تحسنون؟ ما لكم لا تنظرون إلى الزمان وآفاته، وإلى طوفان الكفر وسطواته؟ أليس فيكم رجل من المتفرّسين؟ فعجِبْنا والله، كلّ العجب، وحَيَّرَنا ما تقولون وما تفعلون، وما تصنعون بحذاء الكافرين، وما أعددتم في جواب المتنصّرين؟ إنكم تقطعون أصلكم بأيديكم، وتنصرون بأقوالكم أعداء الدين. إن الله أرسل عبدًا عند هذا الطوفان، وأنتم تُكفّرونه وتخرجونه من دائرة الإيمان، وقد جاء بنورٍ تجلَّى، وبالمعارف تحلَّى، ليكون حجّة الله على صدق الإسلام، ولتخرج شمس الدين من الظلام، وليدافع الله عنه الضرَّ، والزمنَ المُرَّ، وليمدّ ظلّه ويكثر ثماره، ويُري الخلْقَ أنواره، وليشاهد الناس أنه أزيد من كلّ دينٍ، في كيفٍ وكمٍّ وثَمٍّ ورَمٍّ، ثم أنتم تكفرون به، بل أنتم أوّل المعادين. وظنَنَّا أنكم صَفْو الزمان، وعينٌ جارية للظمْآن، فظهر أنكم ماء كدر لا يوجد في الكدورة مثلكم في البلدان. وجادلتم، فأكثرتم جدالكم حتى سبقتم السابقين، وجاوزتم الحدود، ونقضتم العهود، وكفّرتم المسلمين.
أَلا ترون أني كنت عبدًا مستورًا في زاوية الخمول، بعيدا من الإعزاز والقبول، لا يُومَى إليّ ولا يشار، ولا يرجى مني النفع ولا الضرار، وما كنت من المعروفين. فأوحى إليّ ربّي وقال: إني اخترتك وآثرتك، فقُلْ إنّي أُمرت وأنا أوّل المؤمنين. وقال: أنت مني بمنـزلة توحيدي وتفريدي، فحان أن تعان وتُعرَف بين الناس. يأتون من كلّ فجٍّ عميق. ينصرك رجال نوحي إليهم من السماء. يأتيك من كلّ فجٍّ عميق. هذا ما قال ربي، فأنتم ترون كيف أرى العون. إن الناس أتتْني أفواجًا، وانثالتْ عليّ الهدايا كأنّها بحر تهيَّجَ في كل آن أمواجًا.
هذه آيات الله لا تنظرون إلى نورها، وتنكرون بعد ظهورها. ألا تفكّرون في أمري؟ أسمعتم اسمي قبل ما أنبأ به ربّي؟ فإنّي كنت مستورًا كأحدٍ من الأنام، غير مذكور في الخواصّ ولا العوامّ. ومضى عليّ دهرٌ ما كنت شيئا مذكورًا، وكنت أعيش كرجل اتّخذه الناس مهجورًا؛ وكانت قريتي أبْعَدَ من قصدِ السيّارة، وأحقَرَ في عيون النظّارة، درستْ طلولها وكُرِهَ حلولها، وقلّت بركاتها وكثرت مضرّاتها ومعرّاتها؛ والذين يسكنون فيها كانوا كبهائم، وبذِلَّتِهم الظاهرة يدعون اللائم؛ لا يعلمون ما الإسلام، وما القرآن وما الأحكام. فهذا من عجائب قضاء الله وغرائب القدرة، أنه بعثني من مثل هذه الخربة، لأكون على أعداء الدين كالحَرْبة. وبشّرني في زمن خمولي وأيّام قبولي بأني سَأكُون مرجع الخلائق، ولِصَولِ الكفرة كالسدّ العائق، وأُجلَسُ على الصدر، وأُجعل للقلوب كالصدر. يأتونني من كلّ فجّ عميق، بالهدايا وبكلّ ما يليق. هذا وحي من السماء، من حضرة الكبرياء، ما كان حديثًا يُفترى، ولا كلامًا ينسج من الهوى، بل وعد من ربّي الأعلى. وكُتب وطُبع وأُشيع قبل ظهوره في الورى، وأُرسل في المدائن والقُرى، ثم ظهر كشمس الضحى. وترون الناس يجيئونني فوجًا بعد فوج مع الهدايا التي لا تعدّ ولا تحصى. أليس في ذلك آيةٌ لأولي النهى؟ وإن كنتَ تحسبني كاذبا فأَرِ الخلْق سرّي، واكشِفْ ستري، واسئلْ من أهل هذه القرية، لعلك تُنصَر من العدا.