قرأتُ لك:
وفاة عيسى عليه السلام
وفتاوى العلماء والمشائخ
“… بُنِيَ الرأي القديم على فهم غير دقيق للآيات والأحاديث التالية:
قوله تعالى:
وقوله:
ما ورد في البخاري ومسلم: “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ…} (صحيح البخاري، كتاب البيوع)
ما ورد في مسلم من أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال.
مناقشة هذه الأدلة وردُّها
ويناقش جمهور المفكرين المسلمين هذه الأدلة فيقولون إن عيسى بعد أن نجا من اليهود عاش زمنًا حتى استوفى أجله، ثم مات ميتة عادية ورفعت روحه إلى السماء مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء. وقد ورد النص برفع عيسى، مع أن روحه سترفع بطبيعة الحال لأنه نبي، تكريما لمكانته بعد التحدي الذي واجهه من اليهود، فذكر الله نجاته، ثم مكانته التي استلزمت رفع روحه.
ويقولون عن الآية الأولى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ .. إنها تحقيق الوعد الذي تضمنته الآية الثانية:
فإذا كان قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ خلا من ذكر الوفاة والتطهير واقتصر على ذكر الرفع فإنه يجب أن يلاحَظَ فيه ما ذكر في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ..)) جمعًا بين الآيتين.
ويرى هؤلاء العلماء أن الرفع معناه رفع المكانة، وقد جاء الرفع في القرآن بهذا المعنى كثيرا، قال تعالى:
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ (الأَنعام: 84)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (مريم: 58)
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة: 12)
وإذن فالتعبير بقوله: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وقوله بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كالتعبير في قولهم: لحق فلان بالرفيق الأعلى، وفي إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (التوبة: 40)، وفي عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (القمر: 56). وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. (الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت: الفتاوى ص 56)
وهناك آية كريمة أقوى دلالة من آيات الرفع، ولكنها مع هذا لا تعني سوى خلود الروح لا الجسم، وهي قوله تعالى:
فمع أن الآية قررت أنهم أحياء فليس معنى هذا حياة الجسم، فجسم الشهيد قد وُوري التراب، ومع أنها قررت أنهم عند ربهم وأنهم يُرْزَقُونَ … فليس المقصود هو العندية المكانية ولا الرزق المادي، وإنما المقصود تكريم الروح بقربها من الله قرب مكانة والاستمتاع باللذائذ استمتاعا روحيا لا جسمانيا.
وعن الحديثين يجيب الباحثون بإجابتين:
أولا: هما من أحاديث الآحاد وهي لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية كما سبق.
ثانيا: الحديثان ليس فيهما كلمة واحدة عن رفع عيسى بجسمه، وقد فُهِم الرفع من نزول عيسى، فاعتقد بعض الناس أن نزول عيسى معناه أنه رُفع وسينزل، وهكذا قرر هؤلاء أن عيسى رُفِعَ لمجرد أن في الحديثين كلمة ينزل، مع أن اللغة العربية لا تجعل الرفع ضرورة للنزول، فإذا قلت: نزلتُ ضيفا على فلان، فليس معنى هذا أنك كنت مرتفعا ونزلت. وإذا رجعنا إلى مدلول هذه الكلمة (نزل، وأنزل) في القرآن الكريم وجدنا أنه لا يتحتم أن يكون معناها النزول من ارتفاع، بل قد يكون معناها: جعل، أو قدَّر، أو منح، قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (الحديد: 26).. أي جعلنا في الحديد قوة وبأسا.
وقال:
وقال:
وقال:
وهكذا يتبين لنا أن كلمة ينزل في الحديثين، لو صح هذان الحديثان، ليست بمعنى يجيء. ومن الممكن أن يُحيي الله عيسى ويُرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة وليس ذلك بمستبعد قط عن الله (1)، والاستنتاج الذي قال به هؤلاء خروج بالكلمات عن مدلولها، فالرفع ليس من كلمات الحديث الشريف، بل من تفكير بعض قارئي الحديث، وليس من حقهم أن يضيفوا إلى الحديث ما ليس منه وما لا تستدعيه ألفاظه.
وهناك آيتان اختلف المفسرون في تفسيرهما، وجاء في بعض ما قيل عنهما أنهما تدلان على نزول عيسى آخر الزمان، وهاتان الآيتان هما:
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا (الزخرف: 62)
فعن الآية الأولى يرى بعض المفسرين أن الضمير في (به) وفي (موته) عائدٌ على عيسى، ويكون المعنى على ذلك عندهم: أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى، أي سيؤمنون به عند عودته آخر الزمان. ولكن هذا مردود بما ذكره مفسرون آخرون من أن الضمير في (به) لعيسى وفي (موته) لأهل الكتاب، والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب يُدركه الموت حتى تنكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح، فيرى أن عيسى رسول ورسالته حق، فيؤمن بذلك، ولكن حث لا ينفعه إيمان. (الشهيد سيد قطب، في ظلال القرآن ج6 ص14)
وأما عن الآية الثانية: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ … فيرى بعض المفسرين أن الضمير في (إنه) راجع إلى محمد أو إلى القرآن، على أنه من الممكن أن يكون راجعًا كما يقول مفسرون آخرون إلى عيسى لأن الحديث في الآيات السابقة كان عنه. فالمعنى: وإن عيسى لعلم للساعة، ولكن ليس معنى هذا أن عيسى سيعود للنزول، بل المعنى أن وجود عيسى في آخر الزمان (نسبيا) دليل على قرب الساعة وشرط من أشراطها، أو أنه بخلقه بدون أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث.
وعلى كل حال فنزول عيسى في آخر الزمان، على فرض حدوثه، ليس معناه رفعه حيا بجسمه كما سبق القول. ثم إن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال، كما يقول علماء الأصول، وفي هذه الأدلة أكثر من الاحتمال، بل فيه اليقين عند الأكثرين…
رفع روح عيسى لا جسمه
ونجيء الآن لإيراد بعض التفاصيل والأدلة التي ترى أن عيسى مات كما مات كل الأنبياء والصالحين وغيرهم، وأن جسمه قد دُفن كما دفنت أجسام الأنبياء وغيرهم، وأن الذي رُفع هو روحه.
وبادئ ذي بدء أذكر أن ندوةً كبيرة أقامتها مجلة (لواء الإسلام) في أبريل/نسيان سنة 1963م عن هذا الموضوع، وقد اشترك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، واتفق الجميع على مبدأين مهمين هما:
- ليس في القرآن نص يُلزم باعتقاد أن المسيح قد رُفع بجسمه إلى السماء.
- عودة عيسى جاءت بها أحاديث صحاح ولكنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا تُوجب الاعتقاد، والمسألة .. صعود روحه إلى بارئها مع روح الأنبياء والصدّيقين والشهداء.
وعلى كل حال فالعلماء الذي يرون أن الذي رُفع هو روح عيسى لا جسمه، يعتمدون أساسا على الآيات القرآنية التالية…
* إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (آل عمران: 56). فهذه الآية تذكر بوضوح ما سبق أن ذكرناه، أي وفاة عيسى وتطهيره وحمايته من أعدائه، وتجعل عيسى ضمن أتباعه إلى الله مرجعهم.
* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة: 118). وواضح من الآية وفاة عيسى ونهاية رقابته على أتباعه بعد موته وترك الرقابة لله.
* وقوله تعالى حكاية عن عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (مريم: 34). والآية واضحة الدلالة على أن عيسى ككل البشر يُولد ويموت ويُبعث، فكل ما يخالف ذلك تحميل للفظ فوق ما يحتمل.
وقد اشترك في هذا الرأي كثير من العلماء في العصور الماضية وفي العصر الحديث، وفيما يلي نسوق بعض تفاصيل لهذه الآيات الكريمة كما نسوق آراء العلماء الأجلاء.
(1) يقول الإمام الرازي في تفسير الآية الأولى: “إني متوفيك: أي إني مُنهٍ أجلك، ورافعُك أي رافع مرتبتك ورافع روحك إليَّ، ومطهرك أي مُخرجك من بينهم ومفرقٌ بينك وبينهم. وكما عظَّم شأنه بلفظ الرفع إليه خبَّر عن معنى التخليص بلفظ التطهير. وكل هذا يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته”
وقال في معنى قوله تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا … المراد بالفوقية بالحجة والبرهان”
ثم يقول: “واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله وَرَافِعُكَ إِلَيَّ هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة. (تفسير الفخر الرازي)
(2) ويرى ابن حزم وهو فقهاء الظاهر.. إن الوفاة في الآيات تعني الموت الحقيقي، وإن صرف الظاهر عن حقيقته لا معنى له وإن عيسى بناء على هذا قد مات. (الفصل في الأهواء والملل والنحل (عند الكلام عن المسيحية))
(3) وقد تعرض الأستاذ الإمام محمد عبده إلى آيات الرفع وأحاديث النزول، فقرر الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعد ذلك وهو رفع الروح. (تفسير المنار عند شرح الأيات السابقة)
(4) ويقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت: “إن كلمة (توفي) قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تُستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يحرفها عن هذا المعنى المتبادر. ثم يسوق عددا كبيرا من الآيات التي استُعملت فيها هذه الكلمة بمعنى الموت الحقيقي، ويرى أن المفسرين الذين يلجأون إلى القول بأن الوفاة هي النوم وأن في قوله تعالى: مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ تقديمًا وتأخيرا.. يرى أن هؤلاء المفسرين يُحمّلون السياق ما لا يحتمل تأثرا بالآية بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وبالأحاديث التي تفيد نزول عيسى. ويرد على ذلك بأنه لا داعي لهذا التفكير، فالرفع مكانة والأحاديث لا تقرر الرفع على الإطلاق.
ويقول فضيلته: إنه إذا استدل البعض بقوله تعالى: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ على أن عيسى رُفع إلى محل الملائكة المقربين.. أجبناه بأن كلمة (المقربين) وردت في غير موضع من القرآن الكريم دون أن تفيد معنى رفع الجسم. قال تعالى:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (الواقعة: 89-90)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (المطففين: 29)
(5) أما السيد محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده صاحب تفسير المنار فقد أضاف إلى هذه الدراسة نقطة جديدة هي أن مسألة الرفع بالجسم والروح هي في الحقيقة عقيدة النصارى، وقد استطاعوا بحيلة أو بأخرى دفعها تجاه الفكر الإسلامي كما استطاعوا إدخال كثير من الإسرائيليات والخرافات. وفيما يلي نص كلام هذا الباحث الكبير.
“ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رُفع بروحه وجسده للسماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين” (تفسير المنار، ج10)
ويضيف هذا الباحث قوله: “وإذا أراد الله أن يصلح العالم فمن السهل أن يُصلحه على يد أي مصلح ولا ضرورة إطلاقًا لنزول عيسى أو أي واحد من الأنبياء” (تفسير المنار الجزء الثالث)
(6) ويتفق الأستاذ أمين عز العرب مع اتجاهات الإمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا، فيقول: أستطيع أن أحكم أن كتاب الله من أوله إلى آخره ليس فيه ما يفيد نزول عيسى. (لواء الإسلام عدد ذي الحجة 1380 هج (إبريل/نيسان 1963) ص 263)
(7) ويثير الأستاذ محمد أبو زهرة نقطة دقيقة حول الأحاديث السابقة فيقرر أنها، بالإضافة إلى أنها أحاديث آحاد وليست متواترة، لم تشتهر قط إلا بعد القرون الثلاثة الأولى. (المرجع السابق ص 261)
ويمكن ربط هذا بما ذكره السيد محمد رشيد رضا عن محاولات النصارى، فإنهم في خلال هذه القرون كانوا يحاولون إدخال بعض عقائدهم في الفكر الإسلامي بطريق أو بآخر بدليل أن هذه الأحاديث لم تشتهر في القرون الثلاثة الأولى مع ما وصلت له العقيدة الإسلامية من دقة وعمق في هذه القرون(2)
ويختم الأستاذ محمد أبو زهرة كلامه بقوله: إن نصوص القرآن لا تلزمنا بالاعتقاد بأن المسيح رُفع إلى السماء بجسده، وإذا اعتقد أحد أن النصوص تفيد هذه وترجحه فله أن يعتقد في ذات نفسه، ولكن له أن يلتزم ولا يُلزم. (المرجع السابق ص 262 و263)
(8) ويقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي: ليس في القرآن نص قاطع على أن عيسى رُفع بجسمه وروحه وعلى أنه حيٌ الآن بجسمه وروحه. والظاهر من الرفع أنه رفع درجات عند الله كما قال تعالى في إدريس وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا . فحياة عيسى حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيرهم من الأنبياء. (نقلا عن كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت ص 74)
(9) ويقول الأستاذ عبد الوهاب النجار: “إنه لا حجة لمن يقول بأن عيسى رُفع إلى السماء، لأنه لا يُوجد ذكر للسماء بإزاء قوله تعالى وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ، وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله مبعده عنهم إلى مكان لا سلطة لهم فيه، وإنما السلطان فيه ظاهرا وباطنًا لله تعالى. فقوله تعالى: إِلَيَّ هو كقوله تعالى عن لوط: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ، فليس معناه أني مهاجر إلى السماء، بل هو على حد قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (قصص الأنبياء ص 511)
(10) ويقول الأستاذ سيد قطب عند تفسير الآية الأولى من الآيات الثلاث السابقة: “لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه وأراد الله أن يتوفاه وفاة عادية ففعل ورفع روحه كما رفع أرواح الصالحين من عباده، وطهره من مخالطة الذين كفروا ومن البقاء بينهم وهم رجس دنس.” (في ظلال القرآن الجزء الثالث ص 87)
(11) ونجيء الآن إلى الباحث الأستاذ محمد الغزالي وله في هذا الموضوع دراسة مستفيضة نقتبس منها فقرات بنصوصها: “أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر الأنبياء مات ورُفع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها، وتنطبق عليه الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، والآية وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ … وبهذا يتحقق أن عيسى مات. (لواء الإسلام العدد السابق ص 254).
ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين، وكتابنا القرآن الكريم لم يقل قولاً حاسمًا أبدًا أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعا للاشتباه من أنه ولد من غير أب وأنه باقٍ على الدوام مما يروج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة.
وانتهى من هذا الكلام إلى أنه ثابت من الآيات التي أقرأها في الكتاب أن عيسى مات وأن موته حق وأنه كموت سائر الأنبياء (المرجع السابق ص 255)
(13) ويثير الأستاذ صلاح أبو إسماعيل نقاطا دقيقة تتصل بالرفع فيقول: “إن الله ليس له مكان حسي محدود حتى يكون الرفع حسيا، وعلى هذا ينبغي تفسير الرفع على أنه رفع القدر وإعلاء المكانة. ثم إن رفع الجسد قد يستلزم أن هذا الجسد يمكن أن يُرى الآن وأنه يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأجسام من طعام وشراب ومن خواص الأجسام على العموم، وهو ما لا يتناسب في هذا المجال. (المرجع السابق ص 258)
وأحب أن أجيب على من قال: إن في مقدور الله أن يُوقف خواص الجسم في عيسى، لأن إيقاف خواص الجسم بحيث لا يُرى ولا يأكل ولا يشرب ولا يهرم.. معناه العودة إلى الروحانية أو شيء قريب منها، ولك قريب أو متفق مع الرأي الذي يعارض رفع عيسى بجسمه.
وبعض الناس يقولون إن عيسى رُفع بجسمه وروحه، فإذا سئلوا إلى أين؟ وما العمل في خواص الجسم؟ قالوا: لا نتعرض لهذا. وهو رد ليس فيما نرى شافيا.
(14) ونعود إلى الأستاذ صلاح أبو إسماعيل الذي يتساءل قائلا: إذا كان رفع عيسى رفعًا حسيا معجزة فما فائدة وقوعها غير واضحة أمام معاندي المسيح وجاحدي رسالته؟ وأنا أعتقد (الأستاذ صلاح أبو إسماعيل) أن كلمة “متوفيك” تعني وعدًا من الله بنجاة عيسى من الصلب ومن القتل كما وعد محمدا بأن الله يعصمه من الناس. (المرجع السابق ص 259)
وبعد.. لقد أُثيرت هذه المسألة منذ سنتين في فتوى أجاب عنها الأستاذ المراغي والأستاذ شلتوت كما رأينا، وقد قامت ضجة على إثر إذاعة هذه الفتوى، شأن كل جديد يخرج للناس، ومر الزمن ورجحت هذه الفكرة وأصبحت شيئا عاديا يدين بها الغالبية العظمى من المثقفين. وطالما وقف كاتب هذه السطور يرفع صوته بها في قاعات المحاضرات بأعرق جامعة إسلامية في العالم وهي جامعة الأزهر وبغيرها من الجامعات وقاعات المحاضرات، وكان الناس يتقبلون هذه الآراء قبولاً حسنًا. والذي أرجوه أن يرفق المعارضون في تلقي الآراء الجديدة ويفحصونها بروح هادئة. والله يهدينا سواء السبيل.
ونختم بهذا البحث بأن نقرر أن الاعتقاد بأن عيسى رُفع بجسمه وروحه اعتقاد متأثر بالفكر المسيحي الذي يرى أن عيسى هو الإله الابن نزل من السماء ثم رُفع ليعود للجلوس بجوار أبيه الإله الأب. وأما المسلمون الذين يعتقدون أن الله واحد، وأنه في كل مكان، وليس جسمًا، فكيف يوفّقون بين هذا وبين رفع عيسى ليكون بجوار الله. فالله تعالى، مرة أخرى، في كل مكان، ولو بقي عيسى على الأرض لكان مع الله أيضا. وكيف يوفقون بين هذا وبين قوله تعالى:
(مقتبس من كتاب مقارنة الأديان 2.. المسيحية، للدكتور أحمد شلبي، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، الطبعة الثامنة 1984 مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ص 57 إلى 70)
الهوامش
(1) هذا غير صحيح ومخالف تماما لسنة الله المستمرة المذكورة في القرآن صراحة من أن الموتى لن يرجعوا إلى الدنيا أبدا، وأن هناك سدًا بينهم وبين عودتهم إلى الدنيا حتى يوم البعث.. حيث قال الله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (الأنبياء: 96) وقال: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 101) هذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
(2) فيما يتعلق بقولهم أن هذه الأحاديث آحاد وأن هذه الأفكار دُست في التراث الإسلامي، فسوف ننشر بإذن الله تعالى بحثا مفصلا في هذا الصدد في المستقبل القريب. ولكن ليكن معلوما أن عقيدة حياة عيسى ابن مريم ورفعه إلى السماء بجسده المادي ونزوله منها بجسده المادي شيء وعقيدة نزوله في آخر الزمان بمعنى أن يبعث الله تعالى لإصلاح أمة المصطفى أحدًا يشبه سيدنا عيسى صفاتٍ وأحوالا فشيء آخر مختلف تماما. لذا يجب عدم الخلط بينهما. وبيان ذلك أنه مما لا شك فيه أن عقيدة حياة عيسى ابن مريم ورفعه بجسده المادي إلى السماء ونزوله منها بجسده مادي عقيدة نصرانية خاطئة ولكن نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان عقيدة إسلامية صحيحة لا يمكن إنكارها بمجرد القول أن الأحاديث الواردة في هذا الموضوع آحاد، فلا نقبلها ولا نقبل ظهور أحد بأمر من الله تعالى لإصلاح المسلمين. ألا يدري هؤلاء المشائخ أنه أيضا من أصول الدراية لمعرفة صحة الحديث أنه إذا كان هناك حديث ولو ضعيف السند وصدَّقته الأحداث فشهادة الله الفعلية هذه تؤكد صحته وصدقه. مثلا هناك حديث كسوف الشمس والقمر الذي يقول فيه الرسول “إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السماوات والأرض، ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان (أي في أول ليلة من ليالي خسوف القمر)، وينكسف الشمس في النصف منه (أي في اليوم الأوسط من أيام كسوف الشمس)، ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض”. (سنن الدارقطني، باب صفة صلاة الخسوف والكسوف وهيئتهما).
واعترض بعض هؤلاء أيضا على هذا الحديث أنه ضعيف السند. ولكن ما دام الله تعالى قد جعل الشمس والقمر ينكسفان في كل أرجاء الكرة الأرضية في وقت ادعى فيه سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني بأنه الإمام المهدي والمسيح الموعود على لسان المصطفى فقد شهد الله تعالى على صحة هذا الحديث بفعله وعمله وجعله أقوى من أي حديث صحيح قوي.
إن نزول المسيح ليس بمعنى عودة المسيح ابن مريم من الموتى أو من السماء حيًا وإنما يعني بأن الله تعالى يبعث لإصلاح أمة المصطفى أحدًا يشبه عيسى ابن مريم في الصفات والأحوال. وهذا ليس ببدع بل هكذا جرت سنة الله في الذين خلوا من قبل. فقد وُعد بنو إسرائيل على لسان أنبيائهم بنزول وعودة إيليا (إلياس) قبل بعث المسيح ابن مريم عليهم السلام. فظن اليهود خطأ أن هذا يعني بعث إلياس من الموتى أو نزوله من السماء. فلم يزالوا في الانتظار، وعندما جاءهم عيسى ابن مريم سألوه أين إيليا الذي وُعدنا بنزوله قبل المسيح. فقال عيسى ابن مريم إن سيدنا يحيى هو الذي أُرسل لكم كإلياس لأنه يُشبه في الصفات والأحوال. فرفضوا تأوليه وأصروا على إنكاره فحرموا من الإيمان بعيسى ثم بنبينا المصطفى أيضا، ولا يزالون ينتظرون نزول إيليا من السماء. فيجب أن لا نرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه اليهود ونتهاون بشأن وعد المصطفى بهذه الصورة الخطيرة.
ثم هناك أمر آخر يليق بالتفكير وهو أن هذه الأحاديث إلى جانب ذكر نزول المسيح في آخر الزمان تذكر أن أمة المصطفى سوف تصاب بأمراض ومفاسد كثيرة وخطيرة. الآن إذا رفضنا هذه الأحاديث لكونها من الآحاد فكيف ننكر تحقق الأنباء الأخرى والواردة في شأن مفاسد المسلمين وانحطاطهم. فما دامت هذه الأنباء قد تحققت واشتد وتفاقم فساد المسلمين فلا بد أن يكون الجزء الثاني من الأحاديث أيضا صحيحا أي أن المسيح الموعود والمنتظر هو الذي سوف يبعث لإصلاح أمة المصطفى حكمًا عدلاً ليزيل اختلافاتهم ويجمع شملهم، وليس المشائخ والعلماء والحكام هم الذين يصلحونهم، خاصة لأنهم هم الذين تسببوا إلى حد كبير في فساد الأمة وتوسيع هوة الانشقاق والاختلاف بينهم بآرائهم المتضاربة المبنية على مآرب شخصية ونيات صالحة وفاسدة. (التقوى)