- المستشرق ميلو يطعن في تفاسير القرآن الحنيف.
- إن الإسلام يدعو الناس جميعًا إلى الإيمان بالله.
- لا إكراه في الدين.
__
يقـول المستـشـرق الهولنـدي “تومـاس ميلو” (1)، في جـدال دائر في الصحافة الهولندية حول الإسلام، ردا على الادعاء بأن الإسلام لم ينتشر بقوة السيف؛ وإنما يتيح الحرية الدينية للجميع، وفق المبدأ العام الذي تطرحه الآية القرآنية الكريمة:
يقول ما معناه: إن هذه الآية، لا يمكن الأخذ بها كإثبات على أن الإسلام منح الحرية الدينية للآخرين؛ وذلك لأن حرف الجر “في” الوارد في هذه الآية، لا يفيد المعنى المطلوب، في منح الحرية الدينية لغير المسلمين لاختيار أي دين يريدونه، بل إن النص العربي الذي يفيد هذا المعنى، لا بد أن يُستبدل فيه حرف الجر “في” بحرف الجر “على”؛ ليكون النص “لا إكراه على الدين”؛ وعليه فإن النص الموجود في القرآن الكريم، لا يفيد منح الحرية في اختيار الدين. ومن ثم يضيف ميلو ويقول: إن الآية القرآنية المعنية لا تعطي معنى واضحا، بل من الممكن تفسيرها بـ “لا إكراه في داخل الدين، أو في إطار الدين نفسه”، وهذا التفسير ينحو منحى مغايرا تماما على حد قوله، لم يخض في تفصيله أكثر.
ردا على هذا الاعتراض أقول:
– لا عجب في أن توماس ميلو، يقفو أثر غيره من المستشرقين المغرضين، الذين لا يدّخرون جهدا للطعن في الدين الإسلامي الحنيف. وفي هذا الصدد، كغيره في مواضع أخرى، لا يعير “ميلو” مجمل الآية وسياقها أي اعتبار خلال تفسيره، وهنا يكمن خطأه.
– إن الناظر في مجمل الآية الكريمة وسياقها، لا بد أن يتيقن حتما، من أن القصد الأساسي فيها، لهو في منح الحرية لاختيار الدين، وليس فقط في داخل الدين نفسه، كما يدّعي ميلو، – رغم أن هذا المعنى الأخير معنيٌّ أيضا من خلال الآية الكريمة – ؛ وذلك لأن التفضيل أو المقارنة الواردة في الآية “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله …”، جاءت على نحو مفاضلة بين المؤمن بالله والمؤمن بالطاغوت، وهي في الحقيقة مفاضلة أو مقارنة على مجمل الإيمان بالله، أو مجمل الإطار الديني، أي بكلمات أخرى على اختيار الدين، فإما الإيمان بالله أو عدم الإيمان به، إما الإيمان وإما الإلحاد؛ وإذا كان حق الإلحاد “مشروعا”، بحيث لا تترتب عليه أية عقوبة “إنسانية” في الحياة الدنيوية، فالإيمان بالله، باتباع أي دين سماوي، لهو حق مشروع أيضا.
لا شك أن الإسلام يدعو الناس جميعا، إلى الإيمان بالله وفق التعاليم الإسلامية، وهذا هو الإيمان الحق بالله ولا ريب في ذلك؛ وإذا كان الإلحاد، الذي هو أسفل درجة يصلها المرء في مسألة الإيمان بالله – حقًا لكل شخص، فإن المنطق يحتم، أن يكون الإيمان بالله، من خلال أطر دينية مغايرة للإسلام، حقًا مشروعًا كذلك؛ رغم أن الله لا يقبله في هذا الوقت بعد نزول الإسلام، وإنما أقصد بالحق المشروع، أي ما لا يترتب عليه عقوبة دنيوية من قبل المسلمين، قبل إعلان الحرب أو القتل وغير ذلك.
وبناء على ما تقدم، نرى بأن مجمل الآية، يعطي التفسير الصحيح والأدقّ للحرف “في” الوارد فيها، وهو بالأخص الحرية الدينية على اختيار الدين .
– عند مجيء الإسلام ونزول القرآن الكريم، أصبح تعريف الإيمان الحقيقي بالله ملازما للإيمان بالإسلام واعتناقه كدين؛ وذلك لأن الجحود بنبي واحد من أنبياء الله هو الجحود بالله والكفر به، وفق قول الله :
وكذلك قوله تعالى:
وعليه فإن قول الله تعالى “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله…”، يعني بكلمات أخرى: من يؤمن بالله متبعا دين الإسلام، ويترك غيره من الطرق، هو الذي يستمسك بالعروة الوثقى. وبهذا تكون المفاضلة الواردة هنا، بين من يتبع الإسلام ويختاره كدين ومن لا يتبعه؛ وهذا بدوره يؤكد مرة أخرى، أن عدم الإكراه والحرية المقصودة في الآية، متعلقة باختيار الدين بمجمله وليس فقط التأطر والتصرف في داخل الدين.
– إن مضمون الآية نفسها، يؤكد أن الله يحث الناس على الإيمان به، ليكون هذا الإيمان عماد حياتهم، كأنهم يستمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، أي يقبضون على صخرة صلبة قوية، تكون عمادا لهم وملاذا يلوذون به عند الشدائد. فكيف يمكن أن يتأتّى هذا الأمر إذا كان مبنيا على الجبر والإكراه؟! إذ لا يمكن للدين، أيا كان هذا الدين، ولا يمكن للإيمان بالله أن يؤدي هذه المهمة، إذا كان أتباعه مجبورين عليه؛ فعلاقة هؤلاء بدينهم لن تكون أبدا كمستمسك بالعروة الوثقى، وإنما لا تتعدى أن تكون مقاربة الظفر لذرة رمل يذروها النسيم العليل.
– إن زمن نزول هذا التعليم وهذا المبدأ، من عدم الإكراه في الدين، يومئ هو الآخر إلى المعنى الصحيح لهذه الآية. فقد نزلت هذه الآية مباشرة بعد انتصار المسلمين في معركة بدر لتقول لهم ما معناه : الآن وقد نصركم الله بمعجزة واضحة، وحصحص الحق وبان، وأصبح الأمرجليا، بأنكم يا أيها المسلمون، أنتم على الحق وغيركم على الباطل؛ فمن شاء أن يتبعكم فليتبع، ومن لا فلا، إذ لا إكراه في الدين . ثم إنه لمن الجليّ الواضح، أن انقسام المجتمع العربي في ذلك الوقت بما يتعلق بالدين والإيمان، كان على مسألة أساسية لا يزاحمها شيء، ألا وهي الإيمان بمحمد أو لا، اعتناق الاسلام أو لا؛ ونزول هذه الآية حينها، لم يكن إلا ليفصل في أمر الإكراه في هذه المسألة، وهو ما يدل على أن الحرية الممنوحة في هذه الآية، تتعلق بالأساس باعتناق الدين واختياره وخاصة اعتناق الدين الإسلامي.
– من حيث اللغة (2)، فإن حرف الجر “في” يفيد معاني عديدة، منها “الاستعلاء” أي بمعنى “على” – كقوله تعالى:
أي عليها. وكذلك من معاني حرف الجر “في” أيضـا، معنى “إلى” كما في قوله تعالى:
وبذلك فإن في استعمال الحرف “في” لفتة بلاغية لحكمة إلهية، ليكون المقصود بـ “في” مجمل هذه المعاني كلها ويكون معنى الآية: ” لا إكراه في الدين – بالمعنى الضيق للحرف “في”-، أي في داخل الدين وفي إطار الدين نفسه، ولا إكراه على الدين – كما لا يريده ميلو-، ولا إكراه إلى الدين أي إلى اعتناق والدخول في الدين”.
وبذلك تكون “في ” قد أدّت معنًى واسعا شاملا، يضمن الحرية الدينية في إطار الدين نفسه، وعلى إطار الدين بمجمله، باختيار واعتناق أي إطار كان، وهي الحرية الدينية العامة التي لا تقيّد بقيد؛ ولو أن الآية ضمّت الحرف “على” بدلا من “في”، لما أدّت الآية هذا المفهوم الواسع.
– إن آية لا إكراه في الدين تعطي المبدأ العام للحرية الدينية، ولا يمكن التغاضي عن كثرة الآيات القرآنية الأخرى التي تصب في هذا المعنى وتدعمه؛ ولكون القرآن الكريم وحدة كاملة متكاملة، تفسر بعضها بعضا ولا تناقض فيها، فإن نفس هذا المعنى من الحرية الدينية المضمونة، تؤديه آيات أخرى يُستنبط منها نفس المبدأ، بحيث لا يمكن أن تكون آية “لا إكراه في الدين” خارجة عن هذا الهدف؛ وأذكر لذلك على سبيل المثال لا الحصر، الآية التالية:
فهي تؤدي نفس المعنى الشامل الذي أكدناه.
فبناء على ما تقدم، من النظر في مجمل الآية وسياقها، والنظر في المعنى اللغوي للحرف ” في”، لا يسعنا إلا الاستنتاج، بأن الآية الكريمة لا إكراه في الدين.. ، وعلى عكس ما يقوله “ميلو”، تعني عدم الإكراه على الإيمان بالله بشكل عام، واتباع واختيار أي دين كان، وبالأخص الدين الإسلامي، كما أنها تعني عدم الإكراه في مسألة التأطر خلال الدين نفسه. أي أن الحرية الدينية الممنوحة في القرآن الكريم، هي لِمسألة وأمر الدين ككل، وهو ما يمكن إجماله بـ “لا إكراه في وعلى وإلى الدين”.
—–