- مقاصد شعائر الحج
- فائدة الموسمية المحدد للحج
يتزامن صدور هذا العدد من “التقوى” مع موسم الحج الأكبر وجموع الزّحف الأخضر من المسلمين من مختلف القوميات والأعراق والأمصار مهللين لأداء هذا الركن الخامس من أركان الإسلام وألسنتهم تلهج خاشعة:
تلك التلبية المقدسة والمباركة استجابة لذلك النداء الإلهي الأغرّ الذي رفعه سيدنا إبراهيم بأمر الله تعالى:
إنه نداء ليؤمّ الناس البيت الحرام الذي جعله الله مثابة وأمنا لتعظيم شعائره التي تحقق جملة من المقاصد العقدية والتربوية والروحية، وقد خصص الله تعالى هذه الشعيرة بزمن مخصوص توقيفي ومكان مخصوص محدد، لما في ذلك من المعاني والمقاصد والحكم العظيمة التي لا يرقى إليها أي حج آخر في الأديان والملل الأخرى.. فكل الحجاج يطوفون حول مكان واحد، ويلبسون لباسا غير مخيط، ويسعون بين مكانين، ويبيتون في المزدلفة، ويقفون بالمشعر الحرام، ويرمون الجمرات، ويتمتعون بالتحلل من الإحرام، ثم يذبحون الهدي.. ولا شك أن مفردات شعائر الحج لها من الرمزية والرسالة السامية التي ترتبط بسيدنا إبراهيم وزوجه وإسماعيل عليهم السلام- والنبي الأكرم محمد ، وليست مجرد طقوس شكلية حرفية لا وجه اعتبار فيها..
فالطواف يحقق مقصد الانقطاع عن الدنيا والتعلق بالله وتوحيده وتفريده، وفيه من معاني الوصال به والسجود على عتبته سبحانه في كل آن وحين، وإدراك أن غاية الوجود البشري تحقيق تلك العبودية التي لا تنحرف عن المعبود الأجلّ تبارك وتعالى.. كما أن لباس الإحرام الذي يرتديه الحجيج والذي يشبه الكفن، فيه من دلالة البساطة والتجرد من التكلف، كما أنه تذكير بالمصير المحتّم على كل نفس وهو الموت الذي يجب الاستعداد له بإعداد زاد التقوى قبل الرحيل ومغادرة هذا العالم.. وفيه أيضا من الرسالة الاعتبارية الأخرى كالولادة الروحية الجديدة للذي رجع من حجه بتقوى وبرّ كيوم ولدته أمه..
ومن عجائب ألطاف الله أننا نجد الأماكن الموجودة بتلك الديار المقدسة المرتبطة بشعائر الله قد اصطلح عليها بأسماء تحمل بين طياتها دلالة ومقصدا مثل “مِنًى” المشتق من الأمنية أي ذلك المقصد الذي تتمناه النفس وتتشوق إليه، ولا غرو أن ذروة أماني الحاج السالك الذي يزور هذا المكان هو لقاء الله. أما “عرفات” فهو اشتقاق من المعرفة أي أننا قد عرفنا الله تعالى وظفرنا بمعرفته. و “مُزدلفة” فهي مشتقة من الزُّلفى ومعنى القُرب، وفيه إشارة لقرب تحقيق الغاية المنشودة، أما “المشعر الحرام” فيُلهم الحاج بعواطف جياشة نحو سيدنا إبراهيم ويذكّر بأهمية الإكثار من الدعاء لفعل رسول الله في هذا المقام. كما أن “رمي الجمرات” فيه إبداء براءة من الشيطان، وتذكيرٌ بوجوب التخلّص من تأثيراته. ثم في “نحر الهدي” إشارة إلى التضحية وتزكية النّفس ونحر أرجاسها وسفك دماء أرجاسها وأهوائها، والخضوع والاستعداد للتضحية في سبيل الله والاستسلام لإرادته.
وهناك فائدة أخرى وهي أن الكعبة المشرفة بأم القرى التي هي مدار طواف الحجيج، لها من عمق التاريخ والقدم ما يجعلها مثابة للبشرية جمعاء، وإلهام تمدنه وتحضّره منذ زمن سحيق، إذ كانت الكعبة محط أنظار الإنسان القديم، وهذا قبل أن يرفع إبراهيم قواعدها تجديدا وهو بمعية ابنه إسماعيل بآلاف السنين. والنكتة الأخرى في هذا الإطار أن الطواف حولها لم ينقطع رغم أزمنة الانحراف عن التوحيد وابتداع الشرك والوثنية، إذ ظلّت الكعبة محافظة على قدسيتها ومكانتها عبر كل العصور قبل الإسلام ونظر إليها العرب قبل البعثة نظرة تقدير وتقديس من أن لهذا البيت ربا يحميه، وأنّ له وصلاً بإبراهيم ، ومن المأثور في كتب السير أن أبرهة لما أرسل رسوله مبشرا قريشا بعزمه على هدم البيت قال له عبد المطلب: “والله ما نريد حربَهُ، وما لنا بذلك من طاقةٍ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنَعْهُ منهُ فهو بيتُه وحَرَمُه.
وإن يُخَلِّ بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفعٌ عنه.. وإن للبيت ربّاً سيمنعُه” (سيرة ابن هشام) وعند طلوع فجر الإسلام أعاد لها سليل الدوحة الإبراهيمية سيدنا محمد اعتبارها بتطهيرها من رموز الوثنية المبتدعة لتحقق مقاصدها التوحيدية فأشرقت وتألقت بوهج نور التوحيد الخالص.
والحاج إنما يستحضر كل هذه المشاهد أمامه بألم وحرقة قلبية مدركا حقيقة كيف أن الله تعالى ينجي من الهلاك من يخلص في عزمه للتضحية ويعزّه ويمجد ذكره كما مجّد تلك البذرة الإبراهيمية الطاهرة التي انحدرت منها دوحة الرسول الأعظم محمد المصطفى .
ويُستفاد من نداء الناس إلى الحج وتوجههم في هذا الموسم المحدد، ضرورة اجتماع المسلمين على كلمة واحدة وقيادة روحية واحدة على رجل منهم، هو خليفة الله في الأرض، إذ لا بد للأمة الواحدة أن تكون جماعة واحدة ليتحقق الهدف المنشود في بناء صرح الإسلام وإقامة عمائده وإعلاء كلمته وتحقيق سيادته المجيدة، وهذا لا يتأتى إلا وعلى رأس المسلمين خليفة راشد يزكيهم ويبين لهم شعائرهم ويوطـد عظمـة المصطفى في أفئـدتهم..
إن الحج عبادة عظيمة له من المقاصد الجليلة ما يصعب حصرها، وهو ذكرى لتلك التضحية العظيمة التي قدّمها سيدنا إبراهيم بترك إسماعيل وأمه هاجر عند بيت الله الحرام في واد غير ذي زرع وهما في حالة افتقار إلى الأسباب… والحاج إنما يستحضر كل هذه المشاهد أمامه بألم وحرقة قلبية مدركا حقيقة كيف ينجي الله تعالى من الهلاك من يخلص في عزمه للتضحية ويعزّه ويمجد ذكره كما مجّد تلك البذرة الإبراهيمية الطاهرة التي انحدرت منها دوحة الرسول الأعظم محمد المصطفى . لقد حذّر المسيح الموعود من خطورة الحج الظاهري المجرّد عن مقاصده وأكّد أن ليس المقصود أن يردّد الإنسان بلسانه ما يردّد الناس ثم يرجع ويفتخر بأنه الحاج. وبيّن حضرته أن هذه الشعيرة هي من آخر مراحل العبادة والسلوك التي تقتضي أن يكون الإنسان منقطعا عن نفسه، ويعشق ربّه، ويغرق في حبّه، ويكون طوافه ببيت الله الحرام رمزا لهذه التضحية وهذا الفداء وأن لا ينسى الحاج أنه كما يوجد بيت لله تعالى على الأرض فكذلك يوجد بيت لله في سماء عليائه وعظمته، إذْ ما لم يطُف به الإنسان لا يصحُّ طوافه.
نسأل الله أن يُدرك الحجيج فهم وإدراك مقاصد الحج حتى تتجلّى لهم عظمة الله وجلاله، فمن أحاط بهذه الفوائد وحقّقها في حجّه بلغ المقصود فاللهم حقق مقاصد الحج لكل زائر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وكل عام وأنتم بخير.