الآداب العامّة هي جزء لا يتجزّأ من المبادئ الأخلاقيّة السذامية الّتي تنظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات. ولاتخلو ثقافات الشّعوب منها في تراثها ومعتقداتها مع اختلاف ألسنتها وألوانها. فالقيم الأخلاقيّة لغة مشتركة بين بني الإنسان تتفهّمها القلوب وتستوعبها الأفئدة دونما حاجة إلى ترجمان يشرحها أو يكشف كنهها للآخرين، فكلّ البشر يطلقون سمة الرّحيم على ذلك الّذي يترفّق بالضّعفاء، وسمة العادل على من ينصف المظلوم، وغير ذلك من سمات خيّرة محمودة نجد النّاس قد توافقت نظرتهم في إطلاق هذه السّمات على من تطابقه في الخصائص والمزايا والسّلوك، وكأنّك بهم قد عقدوا عليها إجماعا أو التقت جموعهم من زوايا الأرض يستظلّون تحت خيمة واحدة!!
لقد فكّرت مليّاً..كيف أمكن للبشر الإجماع على أن الرّذائل مذمومة بالرّغم من سقوط البعض فيها؟! فعلمت أنّ مردّ ذلك هو خلق الله النّاس على صورته، بمعنى أنّه أودع في فطرتهم قابليّة واستعداد للانصباغ بصفات الخير والفضيلة والميل إليها فطريّاً، كما استوقفني قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم )خلق الله آدم على صورته) فتأكدت أنّ سرّ توافق البشر في استحسان الفضيلة وذمّ الرّذيلة بالإجماع الفكري هو هذا النّظام الدّاخلي في النّفس الإنسانيّة الّذي أوجد فيه الله تعالى القدرة على الانصباغ بصبغته سبحانه وتعالى والاتّصاف بصفاته التّشبيهيّة الّتي لا يستطيع أحد التّنصّل منها زاعماً أنّه لا مقدرة له أن يتّصف بالرّحمة أو الشّكر أو السّتر إلخ..فكما أنّ الله جلّ جلاله رحمان ورحيم وشكور وستّار.. كذلك بمقدور الإنسان من حيث الفطرة والسّلوك أن يعمل بهذه الفضائل اتّصافاً بها. وهذا مايؤكّده الإسلام دين الفطرة، قال تعالى
لقد شكّك كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الغربيين في إمكانيّة توافق القيم الفضائل مع الفطرة الإنسانيّة زاعمين أنّها قيود يتوجّب نزعها وكسرها، وعلّلوا أفكارهم هذه بسفاسف كلاميّة ونظيرات (فرويد) وغيره وما إلى ذلك من البحوث.
إحياء الفضيلة موتٌ للرّذيلة!!
الّتي أشاعوها، فتارةتحت ستار علم النّفس وأخرى تحت قناع علم الاجتماع! وهذا ليس من الغرابة أو الدذهشة في شيء، فكثير من أساتذة الغرب المسيحي ينحون هذا المنحى ويتبنون هذه اآراء! ولمعرفة الباعث الحقيقي لهذه النّظريّة وجرثومة نموّها يجدر بالقارئ اللّبيب أن يعرف أمنّ المسيحيّة هي أوّل من قال بنظريّة نجاسة الفطرة البشريّة وتوارث الذّنب! وهي ذاتها الّتي أصرّت على مقولة استحالة خلاص الإنسان من المعصية بتعاليم الشّريعة وأعمال البرّ والتّوبة بل وزادت الطّين بلّة حينما اعتبرت شرائع الله المقدّسة لعنة!!؟
إمّ عالم اليوم يعجّ بالآراء والتّيّارات والقوى الّتي ما انفكّت تحارب الفضيلة بالرّذيلة بمختلف الأدوات ساعية تحقيق نظريّاتها الدّاعية إلى تحرّر أخلاقي وجنسي في إطار شعارات إشباع الحاجة، فكلّنا يدري كيف راجت هذه الدّعوات! وكيف تعالت هذه الصّيحات لتبشّر الإنسانيّة بعصرٍ جديد تنمحي فيه القيم والأخلاق الّتي رسّختها منظومة تعاليم السّماء لتحلّ محلّها قيم جديدة وطراز حياة مختلف يسود العالم في نظام أخلاقي عالمي جديد تتربّع على عرشه الرّذيلة فوق أنقاض الفضيلة!!؟
فالمجال مفتوح للجميع، فمتى تسلّحت الشّعوب بهذا السّلاح الأخلاقي الّذي أوجد الله له قابليّة في نفس كلّ إنسان شريطة تزكية القلوب من الشّرور، أمكنها آنذاك النّجاح والإقرار بأنّ رسالة الإسلام قد جاءت صدقاً وحقّاً…
فحيثما ولينا وجوهنا حاصرتنا هذه الثّقافة الجديدة عبر مختلف الوسائط لنجد انعكاساتها وآثارها السّلبيّة قد غزت أجيالاً صاعدة مسخت هويّتها وشخصيّتها الحضاريّة والثّقافيّة والرّوحيّة بما نجم عنها من أسقام على المجتمع، وبفعل انعدام التّوعية والتّوجيه والتّربية الدّينيّة داخل البيت وخارجه في وسائل الإعلام المختلفة الأخرى، فقدت كثير من المجتمعات العربيّة والإسلاميّة خصائصها الذّاتيّة وخسرت جيلاً كاملاً كان حري بها أن تحافظ عليه وتمنحه من سبل الوقاية والمناعة مايقيه ويؤهّله لفهم كيفيّة مواكبة الثّورة المعلوماتيّة والثّقافيّة الهائلة لهذا العصر مع التّمسّك بالقيم الأخلاقيّة والالتزامات الدّينيّة الّتي لاغنى عنها ولا بديل. إنّنا نأسى لهذا الحال المزري الّذي أصاب أخلاق الأمّة وناشئتها، بالرّغم من التّنبيه القرآني العظيم الّذي شدّد على ضرورة اهتمام المسلمين بأخلاقيّاتهم وواجباتهم الرّوحيّة وصيانة مجتمعاتهم وأجيالهم من الانحراف وأنماط حياة وعادات غير إسلاميّة. إنّه لمن دواعي الدّهشة والحيرة أن نجد مجتمعاتنا المسلمة وهي على ماهي عليه من انسلاخ تامّ عن أدبيّات الأخلاق المحمّديّة الغرّاء في حين لايحرّك المشرفين على صحّة أخلاق الأمّة ساكناً ولا يبدون أيّ اهتمام أو إحساس بالغيرة على كرامة سيّد الأطهار سيّدنا محمّد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم الّذي كانت بعثته إتماماً لمكارم الأخلاق!
فهلمّوا يامعشر المسلمين إلى الصّلاح لا إلى الطّلاح واعرضوا أخلاقكم وتصرّفاتكم على كتاب الله وسنّة رسوله الكريم لتروا ما أنتمعليه من سوء منقلب! وأيقنوا حقّ اليقين أنّ صلاحكم فيه صلاح العالم وفسادكم من فساده، فهلّا درستم نهج المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وكيف أحدث صلاحه ثورة في القلوب جعلت الأموات أحياء والعمي يبصرون! فاقتبسوا من ضياء المصطفى وأفيضوه!
فالبشريّة أمام منزلق أخلاقي خطير يهدّدها بفعل انعدام التّناهي عن المنكر ومذاهب الرّذيلة الّتي أخذت صفوفاً متقدّمة في مختلف الجبهات نتيجة سعي العالم ولهوثه وراء الماديّات والمصالح والمكاسب دون أيّ التزام بضوابط القيم والمبادئ أو الحثّ عليها!؟ وقد لايحتاج أحد منكم كثيراً من التّدليل أو سوق الحجج على ما اعتدتم رؤيته وسماعه من أحوال العالم الاجتماعيّة والسّياسيّة وهيئاته الأمميّة الّتي أسقطت أبسط قواعد الأخلاق ومبادئ العدل والنّزاهة من تعاملاتها وأسسها.
إنّ كرامة الإنسان مازالت في خطر مادامت علاقات الأمم والدّول يشوبها الظّلم والشّرك وانتهاك الحرمات بغية إلحاق الضّرر والأذى أو منع الغذاء والدّواء كوسيلة للضّغط والابتزاز، وغير ذلك من مظاهر الظّلم والقهر والعدوان. فالسبيل الأوحد الّذي على الأمم العمل من أجله لدفع الشّرّ هو محاربة الرّذيلة بسلاح الفضيلة، فهي السّلاح الوحيد الّذي إن استخدمته الإنسانيّة بجدّ وإخلاص أمكنها تغيير العالم وهزم كلّ الشّرور المنبعثة من الرّذائل المستحكمة. فالمجال مفتوح للجميع،فمتى تسلّحت الشّعوب بهذا السّلاح الأخلاقي الّذي أوجد الله له قابليّة في نفس كلّ إنسان شريطة تزكية القلوب من الشّرور، أمكنها آنذاك النّجاح والإقرار بأنّ رسالة الإسلام قد حاءت صدقاً وحقّاً حينما جاء رسولها محمّد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بهذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً مفحصاً عن مقاصد رسالته ((إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)).